إن للعقد قوة ملزمة أسبغها عليه القانون والشريعة على حدٍ سواء وأن هذا الإلزام الذي أرادته التشريعات المختلفة أن يترتب للعقد إنما تقتضيه الضرورات الاجتماعية إذ انه من أولى مستلزمات الحياة الإنسانية في الجماعة، وأن العقد ليعتمد في رغبة نفاذه أولاً وقبل كل شيء على ضمير المتعاقدين كما يستمد قوته من إرادتهما، وكان دور التشريعات في هذا الصدد تنظيم أحكام هذه القوة الملزمة، التي أراد أصلاً المتعاقدان الخضوع لها، وتعيين مداها وحدودها(1).

فإذا ما تحدد موضوع العقد بين طرفيه، وأقترن الإيجاب بالقبول على الوجه المشروع وتم الاتفاق على العناصر الجوهرية أصبح لهذا العقد قوة ملزمة وهي كقوة القانون بالنسبة لطرفيه وقد نصت على هذا المبدأ صراحة المادة (147) من القانون المدني المصري بقولها (العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون) وسبقه في ذلك لقانون المدني الفرنسي الذي نص في المادة (1134) على (الاتفاقات المعقودة على وجه شرعي تعتبر مقام القانون لمن عقدوها)(2). أما في القانون المدني العراقي فأن نص المادة (46)مدني وأن لم تكن مطابقة للمادة اعلاه إلا انها مماثلة وتحقق الغرض ذاته إذ جاء فيها (إذا نفذ العقد كان لازماً ولايجوز لأحد العاقدين الرجوع عنه ولاتعديله الا بمقتضى نص في القانون أو بالتراضي) والأمر كذلك في الفقه الإسلامي، فقاعدة الإلزام للعقود تستند إلى أساس أخلاقي والفقه الإسلامي يستند في أحكامه إلى شريعة دينية آمرة بالحفاظ على العهد واحترام الكلمة المعطاة(3).

وبناءً على ذلك فأن العقد يكون شريعة المتعاقدين، أي أن الأطراف لابد أن يخضعا لحكم العقد الذي اشترعاه، كخضوعهما لما شرعه القانون كما يتعين على القاضي رعاية تلك الاتفاقات وحمايتها كرعايته للنصوص القانونية وحمايته إياها، بمعنى أنه إذا طرح عليه نزاع بشأنها فأنه يجب عليه تطبيق ذلك القانون الخاص الذي وضعه المتعاقدان فيما بينهما والذي فرض له القانون تلك الصفة وذلك الإلزام(4). لذا فأن إلزام أحد المتعاقدين أو كليهما، ببعض من العقد اللذين ارتضاه ككل، هو مخالفة لتلك الإرادة التعاقدية التي أنصبت على العقد ككل بمضمونه وشروطه والتزاماته وحقوقه، فلا يجوز مخالفة تلك الإرادة الملزمة لأطرافها التي لم ترتضِ جزءاً من العقد دون الجزء الآخر. والأمر ذاته ينطبق على التصرف الانفرادي الصادر من جانب واحد حيث أن كون التصرف يقبل ولا يقبل التجزئة إنما يرجع إلى تلك الإرادة التي عبر عنها صاحب التصرف القانوني، وإذا ورد بنود أو شروط في التصرف الانفرادي ينبغي التساؤل عن أهميتها في نية وإرادة المتصرف نفسه(5). ويرى جانبا” من الفقه أن عدم القابلية للتجزئة إنما هي مادية بحتة ترجع إلى محل العقد ذاته، في حين يوجد اتجاه آخر يرى أن عدم القابلية للتجزئة إنما ترتكز على القانون الذي يعتبر بعض أنواع العقد لا تقبل التجزئة لذا سنعمل على عرض ومناقشة مثل هذه الأفكار، لنؤكد بعد ذلك أن أساس عدم القابلية للتجزئة إنما يرجع إلى نية الأطراف وإرادتها التي جعلت من التصرف القانوني صفقة واحدة لا تقبل التجزئة.

أولاً: عدم قابلية التصرف للتجزئة المادية البحتة.

يقول الدكتور أبو الليل أن المقصود بعدم القابلية للانقسام المادي البحت للتصرف هي (تلك الحالات التي يكون فيها أحد الالتزامات التي يرتبها التصرف القانوني غير قابل للانقسام بسبب طبيعة المحل الذي يرد عليه هذا الالتزام وهي الحالة التي أشارت إليها الفقرة (أ) من المادة (300) مدني مصري بقولها أن الالتزام يكون غير قابل للانقسام إذا ورد على محل لا يقبل بطبيعته أن ينقسم فعدم القابلية للانقسام بالنسبة للتصرف القانوني إنما ترجع إلى طبيعة الأشياء دون أي تدخل من الإنسان أو القانون)(6). إن هذا الأمر يتعلق بعدم قابلية الالتزام للانقسام أكثر من تعلقه بعدم قابلية التصرف للتجزئة، فكون الشيء محل التصرف والذي ورد عليه الالتزام لا يقبل التجزئة بطبيعته يمكن أن يكون سبباً لجعل التصرف بالنتيجة غير قابل للتجزئة، لكنه ليس القاعدة العامة، وأن عدم قابلية الالتزام للانقسام بسبب طبيعة المحل التي لا تقبل التجزئة تختلف تماماً عن عدم قابلية التصرف القانوني للتجزئة . إن الإرادة هي الأساس الحقيقي لعدم قابلية التصرف للتجزئة، حيث أن الأمر يتعلق بالقاعدة العامة للتجزئة وليس مجالات استثنائية خاصة مرتبطة بالالتزام الذي لا يقبل الانقسام. ثم أن الدكتور أبو الليل يسوق أمثلة لعدم قابلية التصرف للانقسام المادي البحت فيقول (ومن أمثلة عدم القابلية للانقسام المادي البحث ما يحدث في عقد البيع، بصفة خاصة، عندما يرد على عدة أشياء مقابل ثمن واحد قُدّر إجمالاً لهذه الأشياء ثم تبين أن البيع باطل بالنسبة لأحد هذه الأشياء فقط وصحيح بالنسبة للأشياء الأخرى، فالبيع يبطل في مجموعه بسبب عدم قابلية التصرف للانقسام مادياً)(7). إن المثال في أعلاه ليس صورة لعدم القابلية للانقسام المادي بل أن ذلك يرجع إلى إرادة المتعاقدين فهما اللذان ارتضيا ثمن الأشياء في عقد البيع إجمالياً وهذا دلالة على أنهما أرادا جعل العقد وحدة واحدة لا تقبل التجزئة، فالأمر لا يرتبط بطبيعة المحل ووحدته المادية البحتة بل يرجع لما أراده المتعاقدان من وحدة الصفقة.

وقد يكون الشيء محل الالتزام لا يقبل القسمة فيكون سبباً لعدم قابلية الالتزام للانقسام وعدم قابلية التصرف للتجزئة، فإذا ورد عقد بيع على سيارة أو حصان مثلاً فهما لا يقبلان التجزئة المادية بطبيعتهما، مما يجعل من التزام البائع بالتسليم مثلاً لا يقبل التجزئة، والعقد بمجمله وما يحتويه من الالتزام بالتسليم أو بدفع الثمن لا يقبل الانقسام والتجزئة لتعلقها بشي واحد لا يقبل القسمة المادية، لكن هذا ليس هو الأصل أو القاعدة العامة إذ أن التصرف إنما يعتمد على إرادة أصحابه وتلك الإرادة هي التي تحدد إذا كان التصرف يقبل أو لا يقبل التجزئة.

ثانياً: عدم القابلية للانقسام من الوجهة القانونية

يرى بعض الفقه(8) أن عدم قابلية التصرف للتجزئة قد ترجع إلى الوجهة القانونية، أي تلك التصرفات تحول طبيعتها القانونية دون تجزئتها فالقانون هو الذي أعطى لمثل تلك العقود هذه الصفة ومن أمثلتها عقد الصلح والمقايضة والقسمة. فقد يتم التصالح بالنسبة لعدة منازعات أو بين عدة أشخاص متنازعين فأن شاب هذا الصلح البطلان في شق منه فقط فأن طبيعة هذا العقد تفرض بالضرورة بطلاناً كاملاً وليس للشق المعيب فقط فالصلح لا يقبل التجزئة، وكذلك بالنسبة لعقد المقايضة فهو حسب أحكام القضاء الفرنسي وما استقر عليه هذا القضاء كلاً غير قابل للتجزئة فلا يمكن اعتباره صحيحاً بالنسبة لأحد طرفيه وباطلاً بالنسبة للطرف الآخر(9).

إن عدم قابلية العقود أعلاه للتجزئة إنما يرجع إلى إرادة المتعاقدين وليس القانون، ففي عقد القرض نجد أن القضاء قد أستقر على ما جرى عليه التعامل بين الناس في مثل تلك العقود من أنها لا تقبل التجزئة إضافة إلى عدم وجود نص قانوني يصرح بعدم قابلية المقايضة للتجزئة مطلقاً في القانون المدني وأن أغلب أحكام عقد البيع تسري على المقايضة إلا ما ورد بشأنه نص خاص، فكيف توصف عدم التجزئة بأنها قانونية ما دام لا يوجد نص يصرح بذلك؟ أما بالنسبة لعقد الصلح، وأن كان الأصل العام بالنسبة له هو عدم قابليته للتجزئة، كما نص على ذلك القانون المدني العراقي في المادة (720ف1) بقولها (الصلح لا يتجزأ فبطلان جزء منه يقتضي بطلان العقد) إلا أن هذا النص مفسر لإرادة المتعاقدين وليس نصاً آمراً، فالأمر يعود في ذلك لما أراده المتعاقدين، سواء كان الاتفاق هو مجاراة ما نص عليه القانون بعدم قابلية الصلح للتجزئة، أو بمخالفة ذلك بالنص على إن الصلح يتجزأ حيث نصت الفقرة الثانية من المادة أعلاه على (على إن هذا الحكم لا يسري إذا تبين من عبارات العقد أو من الظروف أن المتعاقدين قد توافقا على أن أجزاء العقد مستقلة بعضها عن بعض). إن إرادة المتعاقدين وما اتفقا عليه هو الأساس في معرفة ما إذا كان الصلح قابل أو غير قابل للتجزئة، وأن لم يتم الاتفاق على ذلك صراحة، إنما هو إرادة ضمنية بالإبقاء على ما قرره القانون من عدم قابلية الصلح للتجزئة.

لذا نجد أن مبدأ عدم تجزئة التصرف يتجاوب دائماً مع حماية مصلحة مشروعة لأحد العاقدين في الارتباط بالصفقة ككل، أي في الارتباط على نحو لا يتجزأ بعملية قانونية معينة، بحيث لا يكون العقد ملزماً بإثبات مصلحة معينة من هذا القبيل بل حسبه أن يعتد بما عول عليه في رضاه من كون التصرف كلاً لا يتجزأ على نحو يحقق مصالحه. فمبدأ عدم تجزئة التصرف في العقود هو مبدأ يستند على القوة الملزمة للعقد الذي يقضي بأن العقد شريعة المتعاقدين، بحيث أن هذه القوة الملزمة التي للعقد تؤدي إلى ثقة كلا المتعاقدين المشروعة في أن تنصرف آثاره إلى كل المدى الذي أراداه في حدود ما اتفقا عليه من عقد واحد بسيط أو عقود مترابطة مركبة في وحدة لا تقبل التجزئة، وكذلك فأن الحرية التعاقدية تقضي بأنه ما دام لا يجوز إلزام العاقد بعقد إلا بإرادته فكذلك لا يجوز إلزام العاقد بالعقد إلا كما هو وكما ارتضاه بتفاصيله المختلفة، ففكرة عدم التجزئة إنما تقوم على القوة الملزمة للإرادة التي تتجه إلى إحداث أثر قانوني معين سواء أكانت منفردة، في الحدود التي يعترف بها مصدراً خاصاً للالتزامات أم كانت إرادة متفق عليها في عقد بين شخصين أو أكثر(10).

والاعتماد على الإرادة كأساس للقول بعدم التجزئة يمكن أن نلاحظه بوضوح عند بحثنا لتطبيقات فكرة عدم التجزئة، فلماذا لا يجوز تجزئة الشفعة؟ ذلك لأن المتعاقدين قد ارتضيا صفقتهما كلاً لا تتجزأ فلا يحق لصاحب حق الشفعة أن يجزأ الصفقة بين البائع والمشتري ويطلب الشفعة في بعض المبيع دون البعض الآخر، وفي البطلان الجزئي لا يمكن القول بإنقاص التصرف القانوني وتجزئة التصرف إلا إذا كان التصرف قابلاً للتجزئة في قصد المتعاقدين، بأن تنصرف نيتهما إلى إمكان قيام التصرف في شقه الصحيح دون شقه الباطل، إما إذا كانت شروط العقد جوهرية بالنسبة لأطرافه وأن الشق أو الشرط الذي ظهر باطلاً ليس له قيمة ثانوية لدى طرفيه بل قيمة أساسية ضرورية فأن العقد يعتبر كلاً لا يتجزأ ويبطل بذلك التصرف بأكمله، وهذا إنما يرجع لإرادة المتعاقدين. وهكذا نرى أن عدم قابلية التصرف للتجزئة يعد نتيجة منطقية لاعتبار الشق أو الشرط دافعاً للتصرف، فاعتبار شق ما من التصرف دافعاً له يجعل من الضرورة من التصرف بما يحويه وحدة غير قابلة للتجزئة فعدم القابلية للتجزئة وفكرة الشق الدافع للتعاقد يرجعان إلى أصل واحد هو نية وإرادة المتصرف(11). لكن هل يشترط أن يكون الشرط أو الشق في التصرف دافعاً لطرفيه، أو يكفي أن يكون دافعاً لطرف واحد فقط؟ أي هل يكفي للقول بعدم قابلية التصرف للتجزئة أن يكون أحد الطرفين اتجهت نيته إلى النظر إلى التصرف كونه وحدة واحدة لا تقبل التجزئة، أو أن الأمر يستلزم إرادة كلا الطرفين للقول بعدم التجزئة لشروط العقد؟ في الواقع يكفي أن يكون ذلك الجزء من العقد دافعاً لأحد المتعاقدين للقول بأنه جزء لا يتجزأ من العقد وأن بطلان ذلك الجزء يؤدي إلى بطلان العقد بأكمله، فالذي يحدث عملياً، أن الشق الباطل ، والغالب أن يكون شرطاً قد اشترط في العقد لصالح أحد المتعاقدين يكون دافعاً له فقط وليس للمتعاقد الآخر، الذي يكون الشرط بالنسبة له عبئاً إضافياً يكفيه التخلص منه وليس من كل العقد ،لذلك نجد عملاً أن مصلحة طرفي العقد تتناقض بخصوص بطلان الشرط، فبينما يكون من مصلحة أحد الطرفين طلب الإنقاص والتمسك بتجزئة العقد أي بطلان الشرط فقط، نرى العكس من ذلك بالنسبة للطرف الآخر الذي تكون مصلحته في التمسك بعدم تجزئة العقد وبالتالي أبطال العقد بأكمله، لذلك فالمنطق يفرض الاكتفاء بإثبات أحد العاقدين فقط أن الشق الباطل كان دافعاً له إلى التعاقد، أي أن العقد كان في نيته عند الإبرام كلاً لا يتجزأ للقول بالتالي بإبطال العقد برمته(12).

والكلام السابق عن نية أحد أطراف العقد يرتبط أكثر في البطلان الجزئي وموضوع انتقاص العقد أكثر منه في حالات أخرى لعدم التجزئة حيث يتم الكلام هنا عن فكرة الدافع إلى التعاقد ومدى دخول الشرط الباطل ضمن هذا الدافع، أما في الأحوال الأخرى فأن الإراديتين تكون لهما دوراً واحداً في القول بوحدة التصرف أو قابليته للتجزئة. لقد قررت المادة (720/2) مدني عراقي بشأن عقد الصلح أن الأصل في عدم التجزئة هو توافق الإرادتين بقولها (أن المتعاقدين قد توافقا على أن أجزاء العقد مستقلة بعضها عن بعض). أي ان المعيار في التجزئة من عدمها هو توافق الإرادتين وليس إرادة واحدة، وإنما الإرادتين قد يتوافقان على قابلية الصلح للتجزئة أو عدم قابلية للتجزئة. وفي العيب الخفي إذا ورد العقد على عدة أشياء رئيسة في نظر وقصد المتعاقدين، وظهر أحد تلك الأشياء معيباً فأن ذلك يستوجب فسخ العقد بالنسبة للكل بالنظر لوحدة الصفقة في نظر كلاً المتعاقدين وليس متعاقد واحد(13). وكذلك في العقد المركب التي (تشكل تجمعاً غير قابل للتجزئة في النية المشتركة لجميع الأطراف المعنية)(14) فوحدة العملية التعاقدية في مقصد المتعاقدين تؤدي إلى أن يؤثر كل عقد في الآخر في إطار تلك المجموعة المركبة من العقود. ولو انتقلنا إلى بحث الموضوع في الفقه الإسلامي، لا نجد هناك فرقاً عن القانون، فقد اتفقت الاجتهادات الفقهية الإسلامية على أن الرضا أساس العقود لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)(15) وعليه فأن مجرد التراضي هو الذي يولد العقد والتزاماته دون حاجة لممارسة شكلية معينة باستثناء بعض العقود كعقد الزواج، لكن التراضي هو الأصل العام في العقود في الفقه الإسلامي(16).

إن فكرة عدم تفرق الصفقة في الفقه الإسلامي ترجع أساساً إلى رضا المتعاقد وإلى ما اتجهت إليه إرادته من جعل ذلك التصرف كلاً لا يتجزأ، وأن في تجزئة ذلك التصرف مخالفة لرضا المتعاقد. إن مناط العقد وما يرتبه من التزامات إنما يقوم على التراضي ففي قوله تعالى (عن تراض منكم) أي أن يرضى كل واحد منكما بذلك(17) فلا يكون الإنسان من ذوي الطمع الذين يأكلون أموال الناس يغير مقابل لها من عين أو منفعة ولكن يكون ذلك بالتجارة التي قوام الحل فيها هو التراضي(18) فالأخذ بالباطل إنما هو جحد الحق وهو الأخذ بلا عوض(19) والمتعاقدان لم يرتضيا ببعض الصفقة دون بعض، وإنما تراضيا بجميعها فمن ألزمهما ببعضها دون بعض فقد ألزمهما ما لم يرتضيا به حين العقد فخالف أمر الله تعالى وحكم بأكل المال بالباطل(20) والعقد لازم وواجب الوفاء بالتزاماته لقوله تعالى في سورة المائدة (الآية 1) (أوفوا بالعقود) أي العهود التي عاهدتموها والعقود التي عقدتموها وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقاً(21). إن الأمر بمجمله يرتبط في عدم تفريق الصفقة بقصد المتعاقدين وما ارتضياه في العقد، جاء مثلاً في شرح العناية على الهداية للبابرتي (فالصرف إلى الأقل هو صرف للعقد إلى بعض ما دل عليه اللفظ من المبيع وقصد العاقدان وليس تفريق الصفقة إلا ذلك)(22). وورد هذا الكلام عند الحديث عن بطلان العقد بجملته عند بطلان جزء منه فالشرط الفاسد إذا اقترن بقصد هو مبادلة مال بمال، تغلغل في صلبه فأفسده معه والسبب في ذلك أن الشرط لما كان فاسداً فقد سقط ولما كان العاقد قد رضي بمبادلة مال بمال المتعاقد الآخر على هذا الشرط وقد فات عليه فيكون غير راض بالمبادلة فيفسد العقد وفي هذا يقول صاحب المبسوط (لأن الشرط فاسد في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه)(23).

وعلى نفس النسق يقول صاحب البدائع في بيان حكمة عدم تفريق الصفقة التي وقعت متحدة (والصفقة إذا وقعت مجتمعة من البائع لا يملك المشتري تفريقها قبل التمام لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد ترويجاً للرديء بواسطة الجيد فلو ثبت للمشتري ولاية التفريق لقبل في الجيد فيتضرر به البائع والضرر منفي ولأن غرض الترويج لا يحصل إلا بالقبول فيها جميعاً فلا يكون راضياً بالقبول في أحدهما)(24). أما في العيوب الخفية فأن الحكمة من إعطاء المشتري حق طلب فسخ العقد بأكمله عند وجود العيب، هو أن رضاه إنما أنصب على المعقود عليه بأكمله وكونه سالماً من أي خلل فأن ظهر عيب في المبيع جاز له فسخ العقد ورد المبيع، لأن في إجبار المشتري قبول المبيع المعيب مخالفة لرضا المشتري وهو أكل لأمواله بالباطل وتفريق للصفقة عليه، فكان إعطاء الخيار للمشتري عند وجود العيب إنما هو احترام لرضاه الذي ورد على العقد كاملاً. إذا فوحدة الصفقة تبنى أصلاً على التراضي وأن ما خالف التراضي هو أكل للمال بالباطل فيقول الوحيد البهبهاني في شأن تجزئة عقد الإجارة (والمؤجر إنما أخذ الأجرة بازاء جميع المنفعة فكيف يأخذ بازاء البعض، وهل هو إلا أكل المال بالباطل وبغير ما وقع عليه التراضي والعقد والعهد والشرط)(25). فأن قصد أحد المتعاقدين أمراً معيناً من العقد فلابد من الاعتداد بقصده، وأن انصب العقد على الصفقة بجملتها لا يجوز إغفال ذلك وتبعيض الصفقة. يقول السيد الحكيم في المستمسك (لأن القصد إنما كان إلى المشروط لا إلى الخالي من الشرط من دون قصد بل يتوجه أيضاً في باب تبعيض الصفقة، فمن اشترى داراً وتبين أن بعضها لغير البائع ولم يجز أو بعضها وقف لا يصح بيعه، إذ لم يكن يقصد شراء البعض أبداً إنما كان يقصد شراء المجموع)(26). لما كان التراضي هو أساس وحدة الصفقة فأن ذلك التراضي هو المعول عليه في تفرقها، فيمكن للمتعاقد أن يجزأ العقد ويفرق الصفقة على المتعاقد الآخر إن رضي ذلك المتعاقد بالتفرق فيقول النووي في المجموع (ويمكن أن يؤخذ من كلام المصنف ما يدل له لأنه علل المنع بما يحصل من الضرر بتبعيض الصفقة فلم يجيز من غير رضاه وهذا الكلام يشعر بجواز تفريق الصفقة إذا رضي)(27).

ثم أن الوفاء الذي قضى به الله تعالى في قوله (أوفوا بالعقود) (المائدة1) هو الإتيان بالشيء وافياً تاماً لا نقص فيه بكل ما يرتبه من التزامات وواجبات والتي ارتضاها عند العقد(28)، فيجب صون حق العاقد في استيفاء كل ما هو حق له مما تضمنه العقد وإلا انتقلت علة إلزامه هو بالوفاء بما هو واجب عليه بالعقد، وفي تفريق الصفقة على المتعاقد إخلال بالتراضي الذي يعد مناط مشروعية التجارة وذلك مصداقاً لقوله تعالى ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء: من الآية29)، فلا يجوز إذن الإخلال برضا العاقد فيما عوّل عليه من أن العقد كلاً لا يتجزأ. ويصور الحنابلة والشافعية اتصال الرضا للمتعاقد بالعلم، فأن كان عالماً بتفرق الصفقة فذلك يعني رضاه بذلك فلا خيار له وإن كان لا يعلم لتفرق الصفقة وأسبابها ذلك يعني انه رضي بالصفقة متحدة لا تتفرق لذا يعطى خيار تفريق الصفقة، أي الحق في الخيار بين فسخ الصفقة أو الإمساك (فمتى صح البيع في بعض الصفقة، فأن كان المشتري عالماً أن المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء، فلا خيار له، فهو رضي بالصفقة مجزئة ابتداءً على الأجزاء، وهو اشترى على بصيرة، وإن لم يعلم بالمال مثل أن يشتري رجل متاعاً ظاناً أن كله ملك للبائع وعلى هذا الأساس أعطى رضاه، فبان ان البائع لا يملك إلا نصف المال المبيع أو متاعين فتبين أن البائع لا يملك إلا أحدهما، فله الخيار بين الفسخ والإمساك لأن الصفقة تبعضت عليه(29). نخلص من كل ما تقدم أن الفقه الإسلامي لا يختلف في حكمه عن القانون المدني، فالعبرة في كلاهما هو برضا المتعاقدين وما توجهت إليه إرادتهما عند إبرام التصرف، وما دخل في نيتهما المشتركة من إن الصفقة واحدة لا تتجزأ وإنه لابد من احترام هذه النية المشتركة.

____________________

– أنظر القاضي حسين عامر، القوة الملزمة للعقد، ط1، مطبعة مصر، 1949، ص10. ود. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، جـ4، مرجع سابق، ص3051.

2- النص باللغة الفرنسية للمادة (1143):

– ((Les Conventions Légalment formées tiennent lieu de Loi ă ceax qui Les ont faites)).

3- د. محمد وحيد الدين سوار، التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي، مكتبة دار الثقافة، الأردن، 1998، ص597.

4- القاضي حسين عامر، مرجع سابق، ص14-15.

5- د. إبراهيم الدسوقي أبو الليل، مجال وشروط إنقاص التصرف القانوني، مرجع سابق، ص109.

6- د. إبراهيم أبو الليل، مجال وشروط إنقاص التصرفات القانونية، المرجع السابق، ص93، وقد نصت المادة (336) مدني عراقي والتي تقابل المادة (300) مدني مصري على ((يكون الالتزام غير قابل للانقسام:

1- إذا ورد على محل لا يقبل بطبيعته أن ينقسم.

2- إذا تبين من الغرض الذي رمى إليه المتعاقدان أن الالتزام لا يجوز تنفيذه منقسماً أو إذا انصرفت نية المتعاقدين إلى ذلك)).

7- د. إبراهيم الدسوقي أبو الليل، مجال وشروط إنقاص التصرفات القانونية، مرجع سابق، ص94.

8- أنظر د. إبراهيم الدسوقي أبو الليل، مجال وشروط إنقاص التصرفات القانونية، المرجع السابق، ص95؛ د. عادل حسن علي السيد، أحكام إنقاص العقد الباطل، دار نهر النيل، بلا، ص115؛ د. صالح ناصر العتيبي، فكرة الجوهرية في العلاقة العقدية، مرجع سابق، ص122.

9- أنظر: إبراهيم أبو الليل، مجال وشروط إنقاص التصرفات القانونية، مرجع سابق، ص96.

0-أنظر: د. عصام أنور سليم، مرجع سابق، ص11؛ د. صالح ناصر العتيبي، مرجع سابق، ص132.

11- F. Derrida: Rep. Civ. Voindivis liblitite. No. 2.

– نقلاً عن د. إبراهيم أبو الليل، مجال شروط إنقاص التصرفات القانونية، مرجع سابق، ص112، وأنظر كذلك في نفس المعنى د. صالح ناصر العتيبي، مرجع سابق، ص113؛ د. عادل حسن علي السيد، مرجع سابق، ص118.

2- أنظر: د. إبراهيم الدسوقي أبو الليل، مجال وشروط إنقاص التصرفات القانونية، مرجع سابق، ص116.

3- د. أسعد دياب، ضمان عيوب المبيع الخفية، دار أقرأ، ط3، بيروت، 1981، ص188.

4- Marmayou، Remarques sur La nation d’indivisiblité des contrat، op. cit، P292.

5- سورة النساء: من الآية (29)

6- د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، جـ4، مرجع سابق، ص2067، وأنظر ما يعرضه الزحيلي حول اختلاف الاجتهادات الفقهية بشأن مبدأ حرية التعاقد في الفقه الإسلامي.

7- الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، جـ3، دار الفكر، بيروت، 1994، ص66. وأنظر كذلك ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، جـ5، دار الفكر، بيروت، 1995، ص50.

8- محمد رضا رشيد، تفسير المنار، دار الكتب العلمية، لبنان، 1999، ص34.

9- فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، المجلد 5، جـ10، ط1، دار الكتب العلمية، لبنان، 2000، ص57.

20- ابن جزم الظاهري، المحلى، جـ9، دار الفكر، بيروت، ص16-17.

21- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ2، عيسى البابي الحلبي، ص3.

22- أكمل الدين بن محمود البابرتي، شرح العناية على الهداية، جـ5، مطبوع بهامش فتح القدير للكمال بن الهمام، ص89.

23- نقلاً عن الدكتور عبد الرزاق السنهوري، مصدر الحق، جـ3، مرجع سابق، ص129-130.

24- الكاساني، بدائع الصنائع، جـ6، ط1، المكتبة الحبيبية، باكستان، 1989، ص299.

25- محمد باقر الوحيد البهبهاني، حاشية مجمع الفائدة والبرهان، مؤسسة الوحيد البهبهاني، ط1، 1414، ص310.

26- السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، جـ13، مكتبة السيد المرعشي النجفي، 1391، ص310.

27- محي الدين النووي، المجموع شرح المهذب، جـ12، مرجع سابق، ص174.

28- محمد رشيد رضا، تفسير المنار، جـ6، مرجع سابق، ص98.

29- أنظر ابن قدامة، المغني، جـ4، مرجع سابق، ص293، وفي نفس المعنى انظر د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، جـ5، مرجع سابق، ص3336.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .