دراسة وبحث قانوني عن طبيعة الاختصاص القضائي الجنائي الداخلي والدولي عند إعمال المسئولية الجنائية الفردية.

إذا كانت القواعد العامة في الاختصاص القضائي الجنائي تتمثل في المبادئ الأربعة للاختصاص الاقليمى والعيني والشخصي والعالمي فان تطبيقها عند إعمال قاعدة المسئولية الفردية الدولية ينقسم إلى نوعين رئيسيين هما الاختصاص القضائي الجنائي أما المحاكم الوطنية عند إعمالها لهذا النوع من المسئولية اى نوع هذا الاختصاص والاختصاص القضائي الجنائي أمام المحاكم الدولية وهى الأكثر التصاقا بهذا النوع.

المبحث الأول: اختصاص المحاكم الدولية بإعمال المسئولية الجنائية الفردية الدولية.

تحدد كل محكمة دولية اختصاصها من حيث الأشخاص ومن حيث الزمان والمكان وتختلف كل محكمة من حيث قواعد الاختصاص التي تقررها بحسب ما يرد بميثاقها من أحكام في هذا الشأن.
إلا أن هذا الميثاق لا يحدد غالبا مرجعيته القانونية اى لا يحدد إلى اى من أنواع الاختصاص الجنائي تستند هذه المحكمة عند تحديد نطاق اختصاصها وما القاعدة القانونية العامة التي تستند إليها عند تناولها لهذا الاختصاص.

ومما لاشك فيه أن المحكمة_اى محكمة لا تملك أن تعطى نفسها حقوقا أو اختصاصات بإرادتها المنفردة دون أن ترتكز هذه الحدود على أصل عام من قواعد الاختصاص الجنائي وبذلك يكون الانتفاء بدراسة قواعد اختصاص المحكمة التي وردت في ميثاقها ليس إلا شرحا أو ترديدا لما ورد بهذا الميثاق دون بيان حقيقي لطبيعة هذا الاختصاص.

وعلى هذا سنعرض هنا لطبيعة اختصاص كل محكمة من المحاكم الدولية الرئيسية التي تختص بإعمال المسئولية الجنائية الفردية وسند اختصاصها من قواعد الاختصاص الجنائي دون تعدى ذلك إلى دراسة كلفة جوانب اختصاص عمل كل محكمة وما يتبعه من دراسة نظامها الاساسى بل سنكتفي ببيان طبيعة اختصاص كل منها مما يناسب هذا الموضع من الدراسة.

المطلب الأول:طبيعة اختصاص محكمتي نورمبرج و طوكيو.

وفقا لاتفاقية لندن عام 1945 تختص المحكمة العسكرية الدولية بنورمبرج بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب الذين امتدت جرائمهم إلى مناطق جغرافية غير محدودة ويؤكد ذلك مبدأ الإقليمية في الاختصاص الجنائي إذ انه قد نصت المادة الرابعة من اتفاقية لندن على إن الاتفاقية لا تمس المبادئ التي جاءت بإعلان موسكو فيما يتعلق بتسليم مجرمي الحرب إلى الأقاليم التي ارتكبوا فيها جرائمهم وهو مايعنى أن محاكمة مجرمي الحرب أمام محكمة نورمبرج لا يتعارض مع مبدأ الإقليمية بل يجعل نطاق المحاكمة في الحالات التي لا تمس هذا المبدأ.

وقد نصت المادة الثانية من ميثاق المحكمة العسكرية الدولية بنورمبرج على أن المحكمة ذاتها مشكلة بغرض إجراء محاكمات عن جرائم الحرب بغض النظر عن الموقع الجغرافي لارتكاب الجرائم وهو ما يوحى بان اختصاص المحكمة يستند إلى مبدأ العالمية أو الاختصاص العالمي، إلا أن هذا الأمر محل نظر؛ فقد نصت المادة السادسة من ميثاق نورمبرج على اختصاص المحكمة بنظر الجرائم ضد السلم وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي ينبئ بان أساس ولاية محكمة نورمبرج كان طبيعة الجريمة وليس مكان القبض على المتهم وهو أساس الاختصاص العالمي ،وما يصدق على محكمة نورمبرج يصدق على محكمة طوكيو.

وفضلا عن ذلك فان من الصعب تصور استناد محكمتي نورمبرج وطوكيو إلى مبدأ العالمية، ذلك أنها لم يقدم إليها اى من العسكريين الحلفاء أو قادة الحلفاء لمسائلته عن جرائم ثابتة مثل قذف المدنيين في مدينة درسدن الألمانية بالقنابل أو هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية، لأمر الذي لا تكاد محاكمات الحرب العالمية الثانية تشكل سابقة في تطبيق معيار الاختصاص العالمي، بل الحق إنها لا تعدو في نظرنا أن تكون عدالة المنتصر التي تختلط بدافع الانتقام والتأديب، دون أن نجدها تستند لمعيار حقيقي من معايير الاختصاص الأربعة المعروفة.

المطلب الثاني: طبيعة اختصاص المحاكم الجنائية الخاصة(يوغوسلافيا ورواندا).

لم يستند اختصاص هاتين المحكمتين إلى معايير الاختصاص المعروفة بل استند إلى كون كل منهما محكمة خاصة قد أنشئت لغرض معين هو المعاقبة على انتهاكات القانون الدولي الانسانى يوغوسلافيا ورواندا، وهو ما يحمل ذات العيب الذي اتهمت به محكمتا نورمبرج وطوكيو اى إنها لا تؤسس على الاختصاص العالمي المتعلق بمكان القبض على المتهم أو قواعد الاختصاص الأخرى المعروفة، ومن ثم تحمل المحكمة طابع القضاء الاستثنائي إلا أن هذا الانتقاد اقل مما يخص محكمتي نورمبرج وطوكيو في كون محكمتي يوغوسلافيا ورواندا كل منهما محكمة دولية حقيقية تحاكم المجرمين من أطراف النزاع وليست عدالة المنتصر أو انتقامه كمحكمتي الحرب العالمية الثانية ،وهو ما يعد خطوة للأمام وتخفيفا من حدة انتقاد المحكمة في شان شرعية اختصاصها بنظر هذه الجرائم والعقاب عليها.

ولما كان إنشاء محكمتي يوغوسلافيا ورواندا بقرارين من مجلس الأمن بالأمم المتحدة وفقا للفصل السابع من الميثاق، وهو حق مخول لمجلس الأمن الدولي في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين والإخلال به ووقوع العدوان، فاختصاص المحكمة بالتالي نر انه اختصاص استثائى قائم على استعمال المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة لسلطة الشرعية الدولية لمجابهة حالة معينة من تهديد السلام العالمي ومن ثم إنشاء هاتين المحكمتين الاستثنائيتين لعلاج هذه الحالة دون الاستناد إلى معيار اختصاص قضائي معين من المعايير المعروفة في القواعد الجنائية التقليدية.

المطلب الثالث: طبيعة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

وفقا لنص المادة 12من ميثاق المحكمة الجنائية الدولية فانه قبل أن تمارس المحكمة اختصاصها بشأن جريمة ما يجب أن تكون الجريمة محل الاتهام قد ارتكبت في إقليم دولة طرف أو بمعرفة احد رعاياها ، وبالإضافة إلى ذلك فللمحكمة الجنائية الدولية إن تمارس اختصاصها عندما تقبل دولة ليست طرفا على اختصاص المحكمة وتكون الجريمة قد ارتكبت في إقليم هذه الدولة أو يكون المتهم احد رعاياها.

ومن هذا يبين أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يقوم على مبدأ الاختصاص الجنائي الاقليمى، وليس على أساس الاختصاص العالمي أو غيره من معايير الاختصاص، وبيان هذا انه من المستقر في القانون الدولي انه عندما ترتكب جريمة في إقليم دولة ما فانه يمكن محاكمة الجاني حتى لو كان ذلك الشخص ليس احد رعايا هذه الدولة وبسبب ذلك المبدأ يجوز لدولة ما أن تقوم بتسليم شخص ليس من رعاياها إلى دولة أخرى لمحاكمته وبناء على ذلك لكل دولة الحق طبقا لمعاييرها الدستورية أن تنقل الاختصاص إلى دولة أخرى والتي يكون لها الاختصاص على شخص المتهم بارتكاب جريمة أو إلى هيئة دولية للمحاكمة، ويكون نقل الاختصاص هذا ممارسة صحيحة تماما للسيادة الوطنية، وبصفة عامة فان هذا النقل يجب إن يتم طبقا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان وهكذا فان المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بمحاكمة احد رعايا دولة ليست طرفا والذي يرتكب جريمة في إقليم دولة طرف لا تشترط شيئا أكثر مما هو قائم بالفعل في الممارسة المعتادة للدول(*).

وحيث أن المحكمة الجنائية الدولية مكملة للاختصاص الجنائي الوطني فان تسليم الدول الأطراف شخصا إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية نفاذا للمعاهدة(أ)لا يقلل من سيادتها الوطنية.(ب)لا ينتهك السيادة الوطنية لدولة أخرى(مثل دولة جنسية المتهم أو المجني عليه).(ج)لاينتهك حقوق الشخص الذي تنقل محاكمته إلى الاختصاص الجنائي المختص.(*)

وبناء على ما سبق فقد تفادت المحكمة الجنائية الدولية كافة عيوب المحاكمات الدولية السابقة عليها من حيث استناد شرعيتها ليس فقط لأحد مبادئ الاختصاص المعروفة بل للمبدأ الاساسى فيها وهو الاختصاص الاقليمى وهو ما وفر لهل الشرعية الأكيدة من حيث التزامها بقواعد الاختصاص الجنائي الأصلية والتي لايمكن معها الجدال حول شرعية المحكمة وأحقيتها في ممارسة اختصاصها.