سلطات المدعي العام في التحقيق الأولي

اختلفت الآراء حول دور المدعي العام بحيث أثيرت إشكالية أساسية تتعلق بدور المدعي العام وسلطاته ، وكان الخلاف بشأن إعطاء دور للمدعي العام من عدمه ، بل أن بعض الدول رفضت وجود مدعي عام أساسا. ولكن غالبية الدول كانت تتجه إلى ضرورة وجود دور للمدعي العام رغم أنها انقسمت إلى ثلاث اتجاهات حول مركزه القانوني . فقد ذهب الرأي الأول وتتزعمه الدول الغربية ، إلى أن المدعي العام يباشر التحقيق من تلقاء نفسه ، وبحكم منصبه على أساس المعلومات المقدمة له والتي يستقيها من أي مصدر كان ، الحكومات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والضحايا . في حين ذهب الرأي الثاني ، وتتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بالإضافة إلى إسرائيل إلى إلغاء دور المدعي العام لأنهم يخشون تعرضه لتأثيرات سياسية . وذهب الرأي الثالث الذي تتزعمه الدول العربية إلى انه لا يمكن استبعاد دور المدعي العام ولكن يجب الحد من سلطاته فلا يجوز أن يباشر التحقيق من تلقاء نفسه ، أو بحكم منصبه ، إنما بناء على شكوى مقدمه من دولة أو إذن من الدائرة التمهيدية . وموافقة الدول التي سيباشر فيها التحقيق، وأن يقتصر مصدر معلوماته على الدول أو أجهزة الأمم المتحدة . وبالعودة إلى النظام الأساسي، نجد أن المادة 15 منحت المدعي العام الحق بحكم منصبه أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس معلومات متعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة،ولم يكتفي النظام الأساسي بذلك بل ذهب إلى أوسع من ذلك إذ أعطاه في الفقرة الثانية من المادة 15 سلطات واختصاصات واسعة في مخاطبة الدول وأجهزة الأمم المتحدة والمنظمات الحكومية الدولية وغير الحكومية للحصول على المعلومات والإيضاحات التي يطلبها . للمدعي العام صلاحيات مباشرة الدعوى الجزائية من تلقاء نفسه أذا ما وصل الى علمه من مصادر موثوقة . تعتبر المتابعة الجزائية كقاعدة ، إجراءا مستقلا عن التحقيق ، إلا أن هذه القاعدة مستثناة أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة ، لأن المسائل المتعلقة بفتح التحقيق ، واليات الإخطار ، وشروط قبول الدعوى ، جاءت في النظام الأساسي مرتبطة ببعضها البعض ، بحيث نجد أن الجهة المكلفة بالمتابعة ” المدعي العام ” والجهة التي تعطي الأذن بالمتابعة ” الدائرة التمهيدية ” ، لهما صلاحيات التحقيق أيضا . قبل بدء المدعي العام في التحقيق فأنه يشرع قبل ذلك بتقدير مدى ملائمة قيام التحقيق من عدمه وهو ما نصت عليه المادة { 53 } والتي تقتضي بشروع المدعي العام عند تلقيه الدعوى في التحقيق بعد تقييم المعلومات المتاحة له ، ما لم يقرر بعد القيام بهذا الإجراء عدم وجود أساس معقول لمباشرة الدعوى . جاء نص المادة 15 على إعطاء دور مستقل للمدعي العام بمباشرته التحقيق من تلقاء نفسه، و على أساس المعلومات التي يحصل عليها عن الجرائم في إطار السلطة القضائية للمحكمة، أو ألتماس معلومات إضافية من أي مصدر كان، في إطار السلطة القضائية و للحد من السلطة المطلقة لدور المدعي العام، جاء و نص المادة 15 ف على إنشاء دائرة تمهيدية تمنح الإذن للمدعي العام بإجراء التحقيق بناء على طلبه.

وعند اتخاذ المدعي العام القرار في الشروع في التحقيق يتوجب عليه التحقق من توفر الدواعي المثيرة لوجود جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ، والتأكد من مقبولية الدعوى إعمالا لأحكام المادة { 17 } من النظام الأساسي وتحيد ما إذا كان التحقيق من شأنه أن يخدم مصالح العدالة أم لا ، آخذا في اعتباره خطورة الجريمة ومصلحة المجني عليه ، بالإضافة إلى وجود أسباب جوهرية تدعو للاعتقاد بأن إجراء التحقيق لن يكون في صالح العدالة. وإذا تبين له عدم وجود أسباب مبررة للتحقيق أو أن هذا التحقيق لا يخدم مصالح العدالة وجب عليه أن يعلم الدائرة التمهيدية بذلك وهو ما نصت عليه المادة { 53/1} ، لذلك جاءت الفقرة الفرعية “3” من الفقرة ” 1 ” من المادة {53 } لتمنح المدعي العام سلطة تقديرية ما إذا كان التحقيق لا يخدم مصالح العدالة ، حيث يتوجب عليه الترجيح بين تحقيق مصالح العدالة وتحقيق السلم . وقد يتبين للمدعي العام بناءا على التحقيق الذي أجراه عدم وجود أساس كاف للمقاضاة ، كأن تكون الجرائم الواردة في قرار الإحالة غير تلك التي تختص المحكمة بالنظر فيها ، أو أن تكون الدعوى المرفوعة غير مقبولة لأي من الأسباب التي أوردتها المادة ” 17 ” ، أو أذا رأى المدعي العام ، أخدا في اعتباره خطورة الجريمة ، مصالح المجني عليهم وسن وصحة الشخص المنسوب إليه الجريمة ، أو دوره في الجريمة المطروحة ، أن هناك أسباب جوهرية تدعو للاعتقاد بأن إجراء تحقيق لا يخدم مصالح العدالة . ولما يتخذ المدعي العام قراره بعدم وجود أساس كاف للمؤاخذة وأن المحاكمة لا تحقق الغاية المنشودة ، وجب عليه إبلاغ الدائرة التمهيدية والدولة المقدمة للحالة أو مجلس الأمن بالنتيجة التي انتهى إليها والأسباب التي بنيت عليها النتيجة ، ومن ثم يجوز لهذه الدائرة وبمبادرة منها أو بناءا على طلب مقدم من الدولة التي قامت بالإحالة أو بطلب من مجلس الأمن إذا كان هو من أحال القضية ، أن ترجع القرار الذي اتخذه المدعي العام بعدم بدء التحقيق ، ولها أن تطلب منه إعادة النظر في ذلك القرار ، المادة { 53/2،3 } من النظام الأساسي . كما يجوز للدائرة التمهيدية بالإضافة إلى ما سبق وبمبادرة منها ، مراجعة قرار المدعي العام بعدم إجراء التحقيق إذا استند في ذلك القرار إلى سلطته التقديرية في تقدير مدى خطورة الجريمة ومصالح المجني عليهم ووجود أسباب جوهرية تحول دون تحقيق مصالح العدالة ، ففي هذه الحالة لا يكون قرار المدعي العام نافذا إلا إذا تم اعتماده من طرف هذه الدائرة . أن المتمعن في هاتين الحالتين ، يتبين له أن هذه المعايير غير كافيه ليسمح للمدعي العام بتغليب اعتبارات العدالة على اعتبارات السلم والمصالحة ، لأنه في هذه الحالة ألقيت على عاتقه مسئولية سياسية أكثر منها قضائية ، ولذلك يخضع قراره في هاتين الحالتين للرقابة القضائية التي تمارسها عليه الدائرة التمهيدية. ويمكن للمدعي العام في أي وقت العدول عن قراره بأن يعيد النظر فيه ويباشر التحقيق أو المتابعة إذا توصل إلى معلومات أو وقائع جديدة المادة { 53/4 } من النظام الأساسي ، وبهذا يكون النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد أخذ في هذه الفقرة بما هو معمول به في التشريعات الوطنية التي تجيز استئناف الدعوى العمومية بعد أن يصدر قاضي التحقيق قرار حفظ مادي والذي يسمح بإعادة فتح التحقيق لظهور أدلة جديدة . بحيث يسمح له بذلك من ممارسة سلطاته في التحقيق .

ب ـ سلطات المدعي العام في التحقيق الإبتدائي :

يتميز نظام روما الأساسي بخاصية الجمع بين النظام الإتهامي وضماناته التي تتلخص بالعلنية والشفوية والمواجه، والنظام ألتحقيقي وميزته الأساسية نظام الأدلة القانونية، فالمحكمة الجنائية الدولية، ورغم اعتمادها على النظام الإتهامي، تتمتع بصلاحية واسعة للتدخل في الإجراءات والتحكم بها، وبما أن النظام التحقيق المعتمد من طرفها ينتقد على الصعيد الدولي بعدم منحه الحماية الكاملة للدفاع من حيث قدرة هذا الأخير على مقابلة الشهود والحصول على الأدلة، أحكم النظام الأساسي لهذه المحكمة إشرافها وسيطرتها على مرحلة التحقيق وبعد التمعن في مواد النظام الأساسي نجد أنه لا يوجد بموجب هذا النظام لقاضي تحقيق أو غرفة تحقيق. حيث أن التحقيق والمقاضاة من مهمة المدعي العام الذي أوكلت له مهمة البحث وجمع الأدلة، والقيام بالمقاضاة أمام المحكمة. ولذا، فإنه بموجب النظام الأساسي لا يعتبر المدعي العام مجرد أداة تنفيذية للعدالة وكطرف في الإجراءات مصلحته الوحيدة تكمن في تقديم وقائع أو أدلة تسهم في إدانة المتهم، وإنما يعتبر كطرف في الإجراءات، وفي نفس الوقت يعد جهازا حياديا يبحث على إقامة الحقيقة ، حيث جاء في هذا الصدد بأن يقوم المدعي العام إثباتا للحقيقة بتوسيع نطاق التحقيق ليشمل جمع الوقائع والأدلة المتصلة بتقديرها إذا كانت هناك مسؤولية جنائية بموجب هذا النظام الأساسي، وعليه أن يحقق في ظروف التجريم والتبرئة على حد سواء. إذا قرر المدعي العام بعد القيام بالتحقيقات الأولية وجود أساس معقول لبدء التحقيق ، فأنه يتوجب عليه إشعار جميع الدول الأطراف والدولة التي من حقها أن تمارس ولايتها القضائية على الجرائم محل النظر وفق المادة {18/1} من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية ، وعلى الدولة المعنية بالجرائم وفي خلال شهر واحد من تلقي الأشعار أن تعلم المحكمة بأنها تجري أو بأنها أجرت تحقيقا مع رعاياها ومع غيرهم في خصوص هذه الجرائم ، وبناء على طلب الدولة يتنازل المدعي العام لها عن التحقيق مع هؤلاء الأشخاص ، ما لم تقرر الدائرة التمهيدية الأذن بالتحقيق ، بناء على طلب المدعي العام. المادة { 18/2} من النظام الأساسي . وللمدعي العام عند تنازله عن التحقيق وفقا للفقرة ـ 2 ـ من المادة ـ 18 ـ أن يطلب إلى الدولة المعنية أن تبلغه بصفة دورية بالتقدم المحرز في التحقيق أي تجريه ، وعلى الدولة المعنية بالتحقيق أن ترد على تلك الطلبات دون تأخير لاموجب له . المادة {18/5} من النظام الأساسي . وللمدعي العام أن يعيد النظر في تنازله عن التحقيق للدولة بعد ستة أشهر من تاريخ التنازل أو في أي وقت يطرأ فيه تغير ملموس في الظروف يستدل منها أن الدولة أصبحت غير راغبة في القيام بالتحقيق أو غير قادرة على ذلك المادة { 18/3} من النظام الأساسي . كما يعترف النظام الأساسي للمدعي العام بسلطات واسعة أخرى، كسلطة إجراء تحقيقات في إقليم دولة طرف وهذا طبقا لأحكام الباب التاسع الخاص بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية، كما تؤكد المادة 42 من النظام الأساسي على إستقلالية المدعي العام بوصفه جهازا منفصلا عن أجهزة المحكمة الجنائية الدولية . لقد نصت المادة { 54 } من النظام الأساسي للمحكمة على سلطات المدعي العام في التحقيق ، فمن اجل إثبات الحقيقة وسعيا لتحقيق العدالة ، يقوم المدعي العام بأجراء التحقيقات اللازمة بما في ذلك التنقل إلى إقليم الأطراف وعلى النحو الذي تأذن به الدائرة التمهيدية لجمع الأدلة ، والقيام بفحصها وتقيمها وان يطلب حضور الأشخاص المشتبه فيهم أو المجني عليهم أو المدعين والشهود ، وأن يقوم باستجوابهم وأن يطلب تعاون أي دولة أو منظمة دولية حكومية لإظهار الحقيقة ، وأن يبرم اتفاقيات وترتيبات مع تلك الجهات لهذا الغرض وفي حدود ما يسمح به النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية . وألزمه النظام الأساسي الالتزام بسرية المعلومات التي يحصل عليها ، وأن يتخذ التدابير اللازمة لكفالة سرية المعلومات أو لحماية الشهود والمتهمين أو المجني عليهم ، أو للحفاظ على الأدلة التي يحصل عليها المادة { 54/3 ، و } . كما اوجب عليه النظام الأساسي بموجب المادة { 55 } مراعاة حقوق المشتبه به أثناء التحقيق حيث جاءت هذه المادة تحت عنوان ” حقوق الأشخاص أثناء التحقيق ” ، وقد تضمن النص على مجموعة من الضمانات ينبغي على المدعي العام أن يراعيها عند إجرائه أي تحقيق ، >وتتمثل هذه الضمانات في عدم جواز إجبار المشتبه به على الاعتراف ، وعدم جواز إخضاعه للتعذيب أو الإكراه أو لأي شكل من أشكال المعاملة العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة ، بالإضافة إلى حق المشتبه به الأستعانه مجانا بمترجم إذا كانت اللغة التي يجري بها الاستجواب غير التي يفهمها ويتحدث بها . وبموجب المادة 56 من النظام الأساسي فأنه يجوز للمدعي العام عند ما يرى أن التحقيق الذي يجريه يتيح فرصه فريدة قد لا تتوفر فيما بعد لأغراض المحاكمة ، لأخذ شهادة وأقوال من شاهد أو لفحص أو جمع أو اختبار الأدلة يخطر الدائرة التمهيدية بذلك ، والتي يجوز لها أن تتخذ ما يلزم من تدابير لنزاهة هذا التحقيق وحماية حقوق الدفاع ، ويقوم المدعي العام في هذه الحالة بتقديم الأدلة التي يجوز إلى بحوزته إلى الشخص محل القبض أو محل القبض أو محل التحقيق لكي يمكن سماع أقواله في ذلك تحت أشراف الدائرة التمهيدية ، لتأمر باتخاذ التدابير اللازمة في هذا الشأن . ومنها تعين خبير لتقديم المساعدة ، والاستعانة بمحامي انتداب قاضي من الشعبة التمهيدية أو الابتدائية للاشتراك في التحقيق . ويجوز للدائرة التمهيدية في الحالات التي يطلب فيها المدعي العام الإذن بالتحقيق ، أن تتشاور معه في ذلك فأن لم تقتنع بالأسباب التي قدمها يحق لها وبمبادرة منها إجراء تحقيق بدلا عنه ، ويحق للمدعي العام استئناف القرار الذي اتخذته هذه الأخيرة بمبادرة منها ، وينظر في الاستئناف بصفة استعجاليه . ويتضح من ذلك أن النظام الأساسي قد قيد من سلطات المدعي العام بحيث أقر نظام رقابي أوكله للدائرة التمهيدية ، لذلك كان من الصعب تحويل سلطة إجراء التحقيقات والمتابعات لجهة واحدة دون رقيب ، حيث يمكن للمدعي العام أن يسئ استعمال سلطته التقديرية أو أن يتعسف في التحقيق أو المتابعة ، لذلك لزم عليه الرجوع في كل مرة إلى هذه الدائرة لطلب الأذن منها. ويبدو من الإجراءات التي يتخذها المدعي العام أنها من إجراءات التحقيق الإبتدائي التي يتولاها في القانون الداخلي قاضي التحقيق في بعض الدول، والنيابة العامة في البعض الآخر، ولكن اختصاص المدعي العام بهذه الإجراءات يتوقف على موافقة الدائرة التمهيدية، أي أن قرار تلك الدائرة بالموافقة هو الذي يفتتح به التحقيق ويكون بمثابة الإدعاء أو الأتهام الذي تقوم به عادة النيابة العامة في القوانين الداخلية . بالوقوف على مضمون المواد 57 وما وبعدها من النظام الأساسي للمحكمة يتضح أن المدعي العام لا يتولى كل إجراءات التحقيق الأبتدائي ، بل أنها جاءت موزعة بينه وبين الدائرة التمهيدية .