يقصد بالتفسير، توضيح المبهم من ألفاظ التشريع وتكميل ما أقتصب من نصوصه وتخريج ما نقص من أحكامه والتوفيق بين أجزائه المتناقضة (1). فالتفسير يشمل جميع العمليات التي تلزم لجعل القوانين صالحة للتطبيق على الحالات الخاصة (2). ويعد تفسيرا كل جهد يبذل في هذا المجال وضمن القواعد الاصولية واللغوية والمنطقية والغاية الاجتماعية للقاعدة القانونية (3). وترى مدرسة الشرح على المتون، ان التفسير يجب ان يتجه الى الكشف عن نية المشرع فيما يتعلق بهذه الحالة وقت وضع التشريع، وهذه المدرسة تكفل استقرار معنى التشريع وثباته (4). وتنتقد هذه المدرسة، لان طابعها العبودية للنصوص. والتي تؤدي الى جمود القانون وعرقلة تطوره ولحصره في ارادة مفترضة للمشرع وقت وضع التشريع مهما بعد العهد وتغيرت ظروف الحياة (5).

في حين ترى مدرسة التطور التاريخي او الاجتماعي، ان القانون وليد حاجة المجتمع، فالتفسير اذا اتجه الى البحث عن نية المشرع وقت وضع التشريع فانه يؤدي الى حكم وضع في ظروف قد تكون مغايرة كل المغايرة لظروف المجتمع في الوقت الذي يتم فيه التفسير ويراد التطبيق، وترى هذه المدرسة ان القانون ينفصل عن ارادة واضعه بمجرد صدوره ويصبح له كيان مستقل يتطور تبعا للظروف، وان التفسير يجب ان يتوخى البحث عن النية التي كان يتجه إليها المشرع لو انه وضع النص في الظروف المحيطة بالفقيه او القاضي الذي يتولى التفسير والتطبيق، وهذه النية اذا لم تكن هي النية الحقيقية لواضع النص فيمكن اعتبارها نيته المتحملة، وتهدف هذه المدرسة الى اكساب النصوص القانونية مرونة تجعلها قابلة للتطور وصالحة لمواجهة الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتجددة (6) وتنتقد هذه المدرسة لأنها تفسر النص القانوني وتصل الى غير ما أراده واضعوه، وبذلك يتجرد التشريع من كل قيمة ذاتية، فلا يكون له الا المعنى الذي يعطيه له المفسر ليوائم بينه وبين حاجات العصر، ويكون التفسير أقرب شيء الى خلق القانون، فهذه المدرسة تهدر الثقة والاستقرار في القانون وتسلم الحياة القانونية لتقلبات الآراء وللخيال والأهواء وفي هذا ما فيه من خطر تحكم القضاء في المواطنين (7).

اما المدرسة العلمية (مذهب البحث العلمي الحر) فترى ان التشريع عمل ارادي يشبه التصرف القانوني الذي تحمل عباراته كل مضمون الارادة التي صدر عنها، لذلك ينبغي ان يقتصر التفسير على محاولة التعرف على ارادة المشرع وقصده من النصوص وقت وضعها وليس اصلاحها او التطور بها او اخضاعها لأية ظروف اجتماعية او اية افكار مسبقة، فاذا لم يؤد تفسير النص تفسيرا حقيقيا يقوم على احترام ارادة المشرع الى انطباقه على النزاع المعروض، فيجب التسليم حينئذ بعدم انطباق هذا النص (8). واللجوء الى البحث العلمي، اي ينبغي ان تتلمس الحكم بالرجوع الى جوهر القانون ومصادره الحقيقية وما تشمل عليه من عوامل مختلفة يؤدي تفاعلها الى ظهور القاعدة القانونية اللازمة لتلك الحالة، وهذه العوامل هي التي يتكون منها جوهر القانون، والتي يجمعها (صاحب المذهب فرانسوا جيني) في حقائق اربع هي حقائق واقعية او طبيعية وتاريخية وعقلية ومثالية (9). وتنتقد هذه المدرسة لانها تقضي على ثبات القانون وتعطي مجالا واسعا لحرية القاضي واختلاف الاحكام، كما ان نهج هذه المدرسة ليس أصيلا وانما هو المنهج الذي يمارسه القضاة (10).

واخيرا فان البعض يرى وجوب استعمال منهج الهدف الاجتماعي في التفسير، وهو ان تفسير القانون يحدد بعنصرين هما : التكوين الحرفي للنص والهدف الاجتماعي الذي أدى الى تشريعه، فالتكوين الحرفي للنص هو العنصر الثابت اما العنصر الثاني وهو الهدف الاجتماعي فهو عنصر متحرك لان الهدف ذاته يمكن ان يتحقق بوسائل مختلفة حتى بشكل لم يكن المشرع ليفكر فيه، وللمفسر الحق في ان يتعامل مع القانون حسب الحاجة الاجتماعية في عصره، اذ عليه ان يفكر ما هو النص القانوني الذي سيضعه المشرع لو عهد إليه بالتشريع في هذا اليوم، فالنص القانوني ذاته يمكن أن يكون لهم معاني مختلفة طبقا لزمن تطبيقه (11) والمشرع الجيد هو الذي يجعل عباراته مرنة يتغير تفسيرها بتغير الظروف دون ان يذهب في ذلك الى حد الغموض وعدم الدقة، أما موقف القانون المدني العراقي من التفسير، فقد نصت المادة الأولى منه على ان :

1. تسري النصوص الشرعية على جميع المسائل التي تنتاولها هذه النصوص في لفظها او فير فحواها.

2. فاذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فاذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة للنصوص هذا المذهب دون التقيد بمذهب معين فاذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة.

3- وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالاحكام التي أقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الاخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية.

وبذلك لم ينص صراحة على الاجتهاد، وان اخفى دعوته القضاء الى الاجتهاد تحت ستار الرجوع الى قواعد العدالة، ويستنتج من مفهوم المخالفة لنص المادة الثانية من القانون المدني (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص) ان المشرع اقر الاجتهاد، ويرى اتجاه ان في موقف القانون المدني العراقي من التفسير ارتباكا حيال منهج التفسير ومن ثم يدعو الى اعتماد النية الحقيقة للمشرع المستخلصة من النصوص في ضوء دلالاتها المختلفة وحكمها عن طريق الاستعانة بمنهج اصول الفقه الاسلامي في ضبط تلك الدلالات وفي حالة غموض النص يلجأ القضاء الى حكمة التشريع والاسس الدستورية والفلسفية للدولة ويستعين بالأعمال التحضيرية والمصادر التاريخية لبيانها (12).

اما قانون الاثبات رقم (107) لسنة 1979 فقد نصت المادة (3) منه على (الزام القاضي باتباع التفسير المتطور للقانون ومراعاة الحكمة من التشريع عند تطبيقه) ويقصد بالتفسير المتطور، ان تفسر النصوص بحيث يوائم مضمونها ما طرأ من تغيرات على ظروف الحياة التي وضعت من اجلها تلك النصوص، وحيث يكون النص قائما يتعين على المحاكم ان توائم بينه وبين ظروف الحياة الجديدة (13). وبذلك يمكن ان يكون للنص القانوني عند تطبيقه مضمون اوسع مما هو في ذهن المشرع عند وضع القانون، اذ كلما ظهرت تجربة انسانية جديدة، او معارف علمية حديثة تسمح باستخدام طرق افضل للكشف عن الحقيقة، فإنه يمكن للقاضي اللجوء إليها اتباعا للتفسير المتطور للقانون، لان القانون كائن حي ينمو ويتطور في البيئة التي نشأ فيها وهو أكثر مرونة من ان يعيش في نصوص جامدة ما دامت الحياة في تطور مستمر (14).

والحكمة التشريعية تتغير مع الزمن.. فالمفسر الذي يبحث قاعدة وضعت منذ زمن بعيد لا يتعين عليه ان يبحث عن السبب الذي دفع المشرع وقتئذ الى وضع القاعدة بل يجب ان يبحث عن أساسها العقلي في الوقت الذي يفسرها فيه، فقد يحدث ان قاعدة وضعت من اجل غاية معينة تستهدف بعد ذلك تحقيق غاية اخرى، فالمحكمة التشريعية هي القوة الحية المتحركة التي تبعث في النص الحياة ما دام النص قائماً، وبذلك يستطيع النص ان يكسب مع الزمن معنى جديداً او ينطبق على حالات جديدة، هذا المبدأ هو اساس (التفسير المتطور) (15). ويعد ما ورد في المادة (3) من قانون الاثبات من المبادئ الحديثة التي جاء بها القانون، فالتفسير المتطور للقانون هو الذي يحقق العدالة ويلائم الظروف الجديدة في المجتمع، ويقصد بالحكمة من التشريع، ان يعرف القاضي الغاية او الهدف الذي من أجله وضع النص القانوني عند تطبيقه على واقعة الدعوى، فللقاضي دور ايجابي في تعيين النص القانوني وتفسيره وتوضيح ما أبهم من ألفاظه وتكميل ما نقص من أحكامه (16).

_____________________

1-الدكتور عبدالرزاق السنهوري والدكتور حشمت او استيت. اصول القانون (او المدخل لدراسة القانون) القاهرة، مطبعة التأليف والترجمة فقرة 157 ص160.

2-الدكتور عبدالحي حجازي. المدخل لدراسة العلوم القانونية، ج1 الكويت 1972 فقرة 395 – 510.

3-الدكتور محمد شريف احمد، نظرية تفسير النصوص المدنية. رسالة دكتوراه، كلية القانون، جامعة بغداد. 1979 ص17.

4-الدكتور سليمان مرقس. المدخل للعلوم القانونية. القاهرة 1967 فقرة 182 ص406 وما بعدها. الدكتور توفيق حسن فرج. المدخل للعلوم القانونية. الاسكندرية 1976 فقرة 233 ص 293 وما بعدها. الدكتور سمير عبد السيد تناغو. النظرية العامة للقانون، الاسكندرية 1974 فقرة 253 ص 750 – 751.

5-الدكتور حسن كيرة. المدخل الى القانون. الاسكندرية 1974 فقرة 214 ص 409.

6-مرقس. المدخل، فقرة 124 ص245 وفقرة 187 ص411 وما بعدها. توفيق حسن فرج. المدخل، فقرة 234 ص295 وما بعدها. وأنظر حسن كيرة، المدخل فقرة 215 ص409.

7-حجازي، ج1 فقرة 445 ص 567 – 568. وانظر الدكتور مالك دوهان الحسن. المدخل لدراسة القانون، بغداد، مطبعة الجامعة 1972 ص483. حسن كيرة، فقرة 216 ص410.

8-تناغو. النظرية العامة للقانون. فقرة 257 ص756. حسن كيرة فقرة 217 ص411.

9-توفيق حسن فرج. المدخل، فقرة 235 ص296.

10-محمد شريف أحمد، ص205.

11-الدكتور حسن الخطيب. مقالة في المسائل المتعلقة بالتفسير القضائي، مجلة القضاء، السنة (36) 1981 ص244 ويشير الى كاربونية في شرح القانون المدني ج1 ص126 باريس 1955.

12-محمد شريف أحمد ص226.

13-المصدر السابق ص223.

14-الاستاذ ضياء شيت خطاب. فن القضاء، معهد البحوث والدراسات العربية، 1984 ص65.

15-حجازي. ج1 فقرة 406 ص522 – 523.

16-الاستاذ ضياء شيت خطاب. حول قانون الاثبات (طاولة مستديرة) مجلة العدالة. العدد الثاني السنة السادسة ص 340 وللتوسع انظر مؤلفنا (اصول تفسير القانون) بغداد (2004).

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .