دسترة النوع الإجتماعي

تمهيد

منذ إعلان المغرب عن الإصلاحات الدستورية بمناسبة خطاب الملك في 9 من مارس 2011 انخرطت كل الفعاليات السياسية والمجتمع المدني في الإسهام بآرائها ومقترحاتها من اجل بلورة دستور ديمقراطي تقدمي يعكس الحراك الذي تعرفه المنطقة العربية ، والذي ألقى بظلاله على الساحة المغربية.
ولعل موضوع النوع الاجتماعي ما يزال لم يحظ بالاهتمام اللازم من قبل الهيئات السياسية وأغلب منظمات المجتمع المدني، التي ركزت في الغالب على الاهتمام بالصلاحيات المخولة للملك وطبيعة النظام السياسي المنشود
لكن في المقابل فان بعض الحركات النسائية قدمت مقترحاتها حول هذا الموضوع إلى اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، مطالبة بدسترة النوع الاجتماعي، بل ذهب بعضها إلى ضرورة التنصيص على النوع الاجتماعي في ديباجة الدستور وبدسترة التدابير الإيجابية، ودسترة المناصفة والمساواة بين الجنسين في جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية ، وكذا في كافة مراكز القرار،مع التأكيد على تقليص الفوارق الطبقية، والاهتمام بكل الفئات الاجتماعية، و استحضار حقوق النساء في كل السياسات الجهوية.

وقد جاءت هذه المطالب كنتيجة لنضالات الحركة النسائية، التي طالبت بدسترة المكاسب التي حققتها المرأة المغربية، حتى لا يقع الالتفاف عليها،على اعتبار انه لا يمكن حماية الحقوق الأساسية للنساء وترسيخها وتوسيعها، إلا من خلال تأصيلها الدستوري، وإدراجها ضمن المبادئ الدستورية الأساسية.

ورغبة في المساهمة في هذا النقاش المجتمعي لا بد من تسليط الضوء على أهم المطالب المندرجة في إطار دسترة النوع الاجتماعي، والتي تتعدد بتعدد مطالب الحركة النسائية، وسأركز في هذا المقال على بعض منها

1- دسترة المساواة
لقد نصت كل الدساتير المغربية المتتالية، على مبدأ المساواة بين الجنسين، اذ جاء في الفصل الثامن من الدستور الحالي” أن الرجل والمرأة متساويان في التمتع بالحقوق السياسية”
وكذلك نص الفصل الثاني عشر انه ” يمكن جميع المواطنين أن يتقلدوا الوظائف والمناصب العمومية وهم سواء فيما يرجع للشروط المطلوبة لنيلها”

وهو ما يعني أن النص الدستوري لا تخلو بنوده وفقراته من إقرار المساواة بين المغاربة رجالا ونساء أمام القانون في الحقوق والواجبات.
إلا أن مع طرح موضوع التعديل الدستوري المرتقب أعيد النقاش حول قضية المساواة بين الجنسين كخيار يعزز البعد الديمقراطي والحداثي، على اعتبار أن أي إصلاح دستوري لا يمكن أن يتم من دون مشاركة حقيقية للنساء، ومن دون استحضار مطالبهن، التي تبقى مطالب مجتمعية، وتعبر عن تطلع المجتمع لحياة ديمقراطية حقيقية.

وفي هذا الإطار عملت الحركات النسائية على بلورة مطالبها الداعية للمساواة من خلال مقترحاتها المرفوعة إلى اللجنة الدستورية المكلفة بإعادة صياغة الدستور،مطالبة بدسترة المساواة ،معتبرة أن دسترة المساواة وحقوق النساء وحماية آليات النهوض بها هو من الأولويات التي ينبغي أن تشملها الإصلاحات الدستورية المرتقبة للحد من الميز والإقصاء، مؤكدة على ضرورة مراجعة اللغة الذكورية للدستور،واستعمال صيغ وعبارات تتوجه إلى المواطنات والمواطنين والنساء والرجال على حد سواء.

إن المطالبة بدسترة المساواة بين الجنسين في المرحلة الراهنة يعكس مدى الرغبة في القطع مع مرحلة ظلت فيها المساواة بين الجنسين مجرد كلمات في الدستور لا تعكس الواقع الحقيقي الذي تعيشه النساء، ولعل الصيغة التي ورد يها الفصل 8 لم تكن واضحة بشكل يؤكد إلزامية اعتمادها في كل المجالات المدنية والسياسية وأيضا في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ ظل هذا الفصل ينص على المساواة السياسية فقط وهو الفصل الذي شكل دائما عرقلة أمام مجموعة من المطالب النسائية في العديد من المجالات المختلفة.

لذا فان المطالبة بحماية مختلف حقوق النساء وضمان مساواتهن مع الرجال من خلال التنصيص على ذلك في أسمى قانون في البلاد، يعد مكسبا للمرأة المغربية وللقوى الديمقراطية، كما انه سيمكن من القيام بالإجراءات والسياسات الضامنة لملاءمة باقي النصوص مع المقتضى الدستوري، وكذا لتكريس المساواة فعليا، ووضع الهياكل والمؤسسات اللازمة لذلك، بالإضافة إلى تحفيز باقي الفاعلين للانخراط الجدي في هذه الدينامية.

ومن جهة أخرى فان دسترة المساواة هي فرصة لتثبيت المكاسب التي حققها المغرب في السنوات الأخيرة على صعيد الارتقاء بحقوق النساء، كما أنها مؤشر على تقييم الديمقراطية، وفرصة لتحقيق العدل والإنصاف، وإعطاء المرأة ضمانات فعلية لضمان حقوقها دون تمييز بسبب الجنس أو الانتماء السياسي أو المظهر أو اللباس.
وتشمل دسترة المساواة بين الجنسين كل المجالات بما في ذلك المجال السياسي، كما أنها تشمل أيضا الاعتراف بالتمييز الايجابي لصالح النساء الذي اعتبرته الحركة النسائية آلية من آليات تثبيت المساواة لا سيما في مجال التمثيلية السياسية ، ولم تر فيه على الإطلاق خرقا لمبدأ المساواة بل اعتبرته تدبيرا ايجابيا ضامنا للإنصاف.

2- دسترة التدابير الإيجابية

لقد انطلقت دعوة الحركات النسائية للمطالبة باعتماد تدابير ايجابية لفائدة المرأة في المؤسسات المنتخبة بالنظر إلى ضعف تمثيليتها في البرلمان، وكذا في المجالس الجماعية إلى جانب ضعف تواجدها في الحكومة.
واعتبرت أن حل إشكالية ضعف تواجد المرأة في هذه المؤسسات لن يتأتى إلا من خلال الإقرار الدستوري بالتمييز الايجابي لصالحها، الذي يهدف إلى خلق توازن بين الرجل والمرأة في التمثيل السياسي وتبوأ مراكز صنع القرار، والذي يضفي الشرعية على نظام الكوتا الذي تبناه المغرب في الانتخابات الأخيرة، رغم ما أثاره من نقاشات حول مدى دستوريته.
إن مطالبة الحركات النسائية بدسترة التدابير الايجابية لصالح المرأة هو تجاوز لنقاشات لا يمكن غض الطرف عنها من قبيل ألا يتعارض هذا المطلب مع مطلب المساواة في حذ ذاته؟

ألا يعتبر ذلك خرقا للمبادئ الدستورية الضامنة للمساواة بين الأفراد والمنصوص عليها في الدستور؟ الا يتعارض هذا المطلب مع منطق الحركات النسائية التي اعتبرت أن الاجراءات التمييزية لصالح النساء هي فقط إجراءات مؤقتة في انتظار قبول المجتمع بوجود المرأة في الهيئات المنتخبة؟ وهل يمكن المطالبة بإدراج مقتضيات مؤقتة من هذا القبيل في الدستور؟

ان هذه التساؤلات تفرض نفسها، لكن هذا لا يعني ان مطلب اعتماد إجراءات مرحلية تستهدف تهيئ المجتمع للقبول بتواجد النساء في مواقع القرار، وتشجيعهن على دخول العمل السياسي، قد يكون مطلبا مشروعا في ظل الواقع الذي تعيشه المرأة المغربية، والذي ما يزال يعكس استمرار تحكم العقلية الذكورية في المشهد السياسي، والذي كان دافعا للمطالبة بتخصيص ثلث مقاعد المؤسسات المنتخبة للنساء، ليتحول هذا المطلب إلى حد المطالبة بتخصيص نصف المقاعد للنساء.
واعتبرت التحولات الأخيرة وخطاب الملك في 9 مارس 2011 محفزا للحركات النسائية من اجل المطالبة ليس فقط باعتماد هذه الإجراءات، ولكن أيضا بدسترتها، أي التنصيص عليها ضمن بنود الدستور، .

ذلك أن الخطاب – من وجهة نظر الحركات النسائية- قد أعطى الضوء الأخضر لشرعنة التمييز الإيجابي، ولحماية المكتسبات التي جاءت في إطار توافقي بين الأحزاب، وتضمن توجيها يدعو إلى “تعزيز مشاركة المرأة في تدبير الشأن الجهوي خاصة، وفي الحقوق السياسية عامة ، وذلك بالتنصيص القانوني على تيسير ولوج المرأة للمهام الانتخابية، وهو ما سيؤدي إلى شرعنة آليات التمييز الإيجابي، التي اعتمدها المغرب من أجل وصول نسب مهمة إلى المؤسسات المنتخبة.
وبذلك يكون الخطاب الملكي- من وجهة نظر الحركات النسائية- قد وضع حدا أمام كل ادعاءات الأحزاب السياسية التي كانت تعتبر أن كل تنصيص قانوني على “الكوطا” و”اللائحة الإضافية”، سيكون مآله الرفض من قبل المجلس الدستوري، على اعتبار أن ذلك سيعد خرقا للدستور.

فالإقرار الدستوري باعتماد التدابير الايجابية لفائدة النساء سيضفي الشرعية على هذه الإجراءات، وستصبح متناغمة مع القانون الاسمى للبلاد، بل سيفرض على الأحزاب السياسية ترشيح نسبة من النساء ، ذلك أن الأحزاب يلزمها إرادة سياسية من (الفوق)تفرض عليها ترشيح النساء عوض الاستفادة منهن ككتلة ناخبة فقط، ولعل دسترة اعتماد إجراءات تمييزية لصالح النساء قد يكون حافزا للأحزاب من اجل اتخاذ الخطوات اللازمة في هذا الإطار.

3- دسترة سمو القوانين

إذا كانت الحركات النسائية قد اتفقت حول أهمية دسترة المساواة، واتخاذ تدابير ايجابية لفائدة النساء، فإنها قد اختلفت في شان مطلبها المتعلق بدسترة سمو القوانين الدولية، وبرز تياران اثنان في هذا الشأن الأول يدعو إلى ضرورة الاعتراف بسمو هذه القوانين على القوانين الوطنية، في حين يرى التيار الثاني أن القوانين الدولية ينبغي ان تتلاءم مع القوانين الوطنية، ولا تتعارض مع الشرع الإسلامي.

وانسجاما مع مواقف التيار الأول قدمت بعض الجمعيات في اجتماعها مع لجنة تعديل الدستور عددا من المقترحات، رأت أن من شأنها تغيير الوضع النسائي بالمغرب،وطالبت بدسترة سمو القوانين لحقوق الإنسان وللحقوق الإنسانية للنساء، واعتبارها مصدرا للتشريع، موضحة أن تلك القوانين تتضمن الحقوق الفردية والجماعية للنساء والرجال بلا تمييز.

وشددت على ضرورة ملاءمة التشريع الوطني مع الصكوك الدولية لحقوق الإنسان والحقوق الإنسانية للنساء، معتبرة أن ذلك سيمكن من القضاء على التمييز بين النساء والرجال وعلى العنف ضد النساء، وعلى إقصائهن من المشاركة في الحياة العامة.

في حين طالبت الجمعيات النسائية التابعة للحركات الإسلامية باحترام المرجعية الإسلامية، وهي بذلك لا ترفض الأخذ بالتوصيات الدولية الصادرة عن المنظمات الحقوقية المهتمة بالقضايا النسائية، ولكن ترهن ذلك بعدم مخالفة أحكام الدين الإسلامي وبما لا يمس بالدستور على أن يبقى حق التحفظ مكفولا للدولة،
كما تدعوا هاته الجمعيات أن تصبح المعاهدات والاتفاقيات الدولية جزءا من القانون الوطني مباشرة بعد نشرها في الجريدة الرسمية بعد موافقة البرلمان عليها.
وفي هذا الإطار اعتبرت فاطمة النجار أن دسترة سمو المعاهدات الدولية على القوانين الوطنية ”هو نوع من فتح باب جهنم”، مشددة على أن تلك المعاهدات ماهي إلا حصيلة اختلال موازين القوى العالمية لصالح قوى الاستبداد العالمي الذي يتعامل في ظل ازدواجية القوانين،نفس الٍرأي تبنته النائبة البرلمانية عن حزب العدالة والتنمية جميلة مصلي حينما اعتبرت ”أنه من غير المقبول أن تصبح المعاهدات الدولية أسمى من الأديان” ، وهي إشارة إلى ضرورة احترام المرجعية الإسلامية عوض تقديس المقررات الدولية، وجعلها في مرتبة أعلى
ان اختلاف الحركات النسائية بشان مطلب سمو القوانين الدولية لا ينفي اتفاقها على إقرار كل التوصيات والقوانين التي تخدم المرأة المغربية، وتضمن حقوقها ومساواتها مع الرجل بما في ذلك تأسيس مجالس للمساواة ودسترة هذه المجالس.

4- دسترة مجالس المساواة

طالبت الجمعيات النسائية بتأسيس مجالس للمساواة بين الجنسين على الصعيد الوطني والجهوي، ووزارة للمساواة وحقوق النساء والمناصفة في ولوج مراكز القرار وتجريم العنف ضد النساء، بالإضافة إلى تأسيس المجلس الأعلى لحقوق النساء على غرار المجالس العليا التي تهتم بالقضايا المختلفة،معتبرة أن ذلك هو السبيل لإيجاد هيئة رسمية تخاطب الحركة النسائية، وتحقق مطالبها الرامية إلى تحسين وضعية النساء.
وجعلت الحركة النسائية من مهام هذا المجلس الأعلى وضع إستراتيجيات العمل في ما يخص النهوض بحقوق النساء وتوحيد وجهات نظر الدولة والحكومة في هذه القضية، إضافة إلى كونه جهاز يعنى بمراقبة تفعيل المساواة بين النساء والرجال، في التشريعات والسياسات والبرامج العمومية
والخاصة، وطنيا وجهويا.

ختم

إن المطالب النسائية حول المساواة متعددة ومختلفة، ويعتبر تحقيقها أساسيا من اجل تطوير الديمقراطية الناشئة في المغرب، ذلك أن هذه الأخيرة لا تستقيم من دون الاعتراف بالحقوق الإنسانية للنساء،فهن يمثلن أكثر من 50 في المائة من الشعب المغربي وعدد منهن عنصر فاعل في الحركة النضالية المجتمعية. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يوجدن «في قلب الدينامية الفاعلة من أجل إصلاح دستوري شامل وعميق يصب في ملكية برلمانية، تتأسس على احترام المبادئ الكونية لحقوق الإنسان في شموليتها، ومن ضمنها مبدأ المساواة بين النساء والرجال في الحقوق كافة.