التكييف القانوني لمجلس العقد الإلكتروني

بقلم/أ
:زحزاح محمد

جامعة الجزائر 1 كلية الحقوق

رقم الهاتف :0551082099

الرتبة :أستاذ باحث

البريد الالكتروني :[email protected]

ا/ بولمعـــــالي زكيـــــــة

جامعة الجزائر 1كلية الحقــــــوق

الرتبة :استاذة باحثة

رقم الهاتــــــــف:0557200626

البريد الإلكتروني:[email protected]

الملخص:

يعتبر مجلس العقد الإطار القانوني لانعقاد العديد من العقود، خاصة و أن أطراف التعاقد قد تميل عادة إلى هذا الإطار من أجل تحقيق فكرة التحاور و التفاوض بغية الوصول إلى العناصر المعتمد عليها لإنشاء العقد المراد إنشاؤه. وأمام ظهور وسائل المعلوماتية و مختلف الوسائل الالكترونية و التي ساهمت تكنولوجيا الحاسوب في تطويرها فقد ظهرت صعوبة تحديد الطبيعة القانونية للمجلس الذي يتجسد من خلال وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت و الهاتف و الفاكس و غيرها من الوسائل أمام هذا الإشكال ظهرت العديد من الآراء و الأفكار لمحاولة احتواء الموقف و منه تحديد الطبيعة القانونية لمجلس العقد الإلكتروني إذا كان مجلس عقد حقيقي فهو تعاقد ما بين حاضرين، أم أنه مجلس عقد حكمي فهو تعاقد بين غائبين.

مقدمة:

باعتبار أن فكرة مجلس العقد هي إسلامية المنبع و عليه فقد حاول العديد من الفقهاء و الشراح إعطاء تعريف واضح المعالم لمجلس العقد و تضاربت آراؤهم في هذا الشأن .ونظرا للخصوصية المتضمنة في العقد الالكتروني فقد مست هذه الخصوصية كل جانب من جوانب هذا النوع من العقود بما فيها مجلس العقد الذي أصبح بدوره مجلس عقد الكتروني،و نظرا لطبيعة الوسائل المتاح استعمالها في هذا النوع من العقود في ظل التباعد المكاني لطرفي التعاقد ، فقد حاول الفقهاء أيضا في هذا الشأن بيان الطبيعة القانونية لمجلس العقد الالكتروني إذا كان تعاقدا بين حاضرين أم بين غائبين ؟ أم أنه تعاقد ذو طبيعة خاصة بخصوصية وسائله؟ و عليه فسوف نحاول في هذا المقال التطرق إلى تعريف مجلس العقد الحقيقي و مجلس العقد الحكمي ،كما سنعمد إلى تحديد الطبيعة القانونية لمجلس العقد الالكتروني. توزع البحث في مبحثين المبحث الأول تضمن مفهوم مجلس العقد الإلكتروني عرجنا المطلب الأول إلى تعريف مجلس العقد الحقيقي والحكمي ، و في المطلب الثاني تحديد الطبيعة القانونية لمجلس العقد الإلكتروني إن كان تعاقد بين حاضرين أم أنه تعاقد بين غائبين أم أنه ذو طبيعة مختلطة.

المبحث الأول

تعريف مجلس العقد

سوف نتعرض لتعريف مجلس العقد الحقيقي لغة و اصطلاحا و ذلك بعرض مختلف الآراء الفقهية في هذا الصدد و الانتقادات الموجهة لكل منها ، مع بيان آراء الفقهاء المعاصرين في تعريف مجلس العقد ، كما سنتطرق إلى مجلس العقد الحكمي و ذلك حتى يتسنى لنا إيجاد تعريف واضح المعالم يمكن أن يستند عليه في وضع أحكام تطبق على مجلس العقد الإلكتروني.

المطلب الأول

مجلس العقد الحقيقي

المجلس في اللغة هو موضع الجلوس ، و جمع “المجالس قد يطلق المجلس مجازا على طائفة من الناس تخصص للنظر فيما يناط إليها من أعمال، تسمية للحال باسم المحل، و يقال اتفق المجلس و منه مجلس الشعب و مجلس العموم ، و المجلس الحسبي (1).

مجلس على وزن “مفعل” اسم مكان ، و اسم المكان مشتق يدل على وقوع الفعل.(2)

أما مجلس العقد في الاصطلاح فقد اختلفت التعاريف بشأنه ، و ظهرت عدة اتجاهات في تعريف مجلس العقد عند المفكرين القدامى ، فمنهم من اعتبره وحده مكانية باعتبار المكان في مجلس العقد ، و منهم من اعتبره وحده زمانية باعتبار الزمان في مجلس العقد، أما البعض الآخر فقد اعتبره هيئة معينة ، كما ظهر اتجاه رابع اعتد بالوحدة المعنوية في تعريف مجلس العقد ، و البعض الأخر جعل مجلس العقد ذا طبيعة ممتدة بموجب الشرط أو الاتفاق. كما تعرض الفقهاء المعاصرون لتعريف مجلس العقد ، و عليه فسوف نحاول سرد مختلف التعاريف الواردة في هذا الشأن.

الـــفـــرع الأول

مجلس العقد عند فقهاء الشريعة

اختلف فقهاء الشريعة الإسلامية في تكييفهم لمجلس العقد فمنهم من اعتبره وحدة مكانية قياسا على عنصر مكان انعقاد المجلس والبعض الآخر اعتبره وحدة زمانية اعتمادا على عنصر الزمن والبعض اعتبر مجلس العقد وحدة معينة وبعض وحدة معنوية كما قال البــــعض بأنه ذو طبيعة مختلطة بموجب الشرط والاتفاق.

أولا: مجلس العقد وحدة مكانية

يعتبر أصحاب هذا الاتجاه مجلس العقد وحدة مكانية (3)بغض النظر عن الزمان أو الهيئة أو غيرهما من الاعتبارات و قد اعتنق هذا الاتجاه معظم الفقهاء القدامى كفقهاء الأحناف و المالكية و الشافعية و الحنابلة و الإباضية …… الخ، فاعتبروا مجلس العقد وحدة مكانية شريطة صدور الإرادتين من إيجاب و قبول في مكان واحد .(4)حيث يكون كل من الموجب و الموجب له على اتصال مباشر بحيث يسمع كلاهما الآخر ماداما منصرفين إلى التعاقد لا يشغلهما عنه شاغل(5).من ثم فإن أصحاب هذا الاتجاه يشترطون وحدة المكان لانعقاد العقد، أما إذا اختلف مكان تواجدهما فلا ينعقد العقد.(6)

لكن أصحاب هذا الاتجاه لم يأخذوا بضابط المكان على إطلاقه ،بل ربطوه بوجوب عدم انشغال المتعاقدين بموضوع أو بعمل يوجب اختلال المجلس ، فلو أن المتعاقدين جمعهما مكان واحد و بذلك تحققت وحدة المجلس أخذا بضابط المكان، لكنهما انشغلا بعدها بموضوع آخر مستقل عن موضوع التعاقد ، أو أنهما انصرفا إلى عمل آخر في نفس المكان فإن المجلس لا ينعقد حتى لو تحققت وحدة المكان في حال تخلل العرض محل العقد سكوت حتى وإن قل.(7)

نجد أن هذا الرأي قد لاقى نقدا، و لم يسلم من هذا الأخير على أساس إهمال عنصر الزمان في مجلس العقد ، بحيث أن مجلس العقد الحقيقي لابد فيه بالإضافة إلى عنصر المكان عنصر الزمان الذي يبدأ بصدور الإيجاب.(8)

نحن نرى في هذا الصدد أن الأخذ بضابط المكان في تحقيق وحدة المجلس هو ظلم للموجب، بحيث يبقى الموجب ملزما بما صدر عنه من رغبة في التعاقد ، طالما يجمعه بالموجب له المكان ذاته.

ثانيا: مجلس العقد وحدة زمانية:

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن مجلس العقد الحقيقي و إن أنبني على شيء، فإنه ينبني على عنصر الزمان، حيث ذهبوا إلى تعريف مجلس العقد بأنه الوحدة الزمنية التي تبدأ من وقت صدور الإيجاب وتستمر طوال المدة التي يظل فيها العاقدان منصرفين إلى التعاقد دون إعراض من أحدهما عن التعاقد وتنتهي بالتفرق وهو مغادرة أحد العاقدين للمكان الذي حصل فيه العقد وفي حكم التفرق حصول التخاير،وهو أن يخير أحدهما الآخر في إمضاء العقد أو رده.(9) وهذا أيضا ما قال به البعض من الأوائل ممن أسسوا لفكرة مجلس العقد باعتبار أن مجلس العقد ينطلق من اعتبار الالتقاء الزمني ، فينشغل الأطراف بموضوع التعاقد دون إعراض من أحدهما.(10)

ما يعاب على هذا التعريف كونه تعريفا قاصرا ، اقتصر على عنصر الزمان و أهمل عنصر المكان و عجز في الوقت ذاته عن إعطاء مفهوم واضح شامل وكامل لمجلس العقد .

ثالثا:مجلس العقد هيئة معينة:

ذهب البعض من الفقهاء إلى تعريف مجلس العقد على أساس الحال أو الهيئة التي يكون عليها المتعاقدين و هما مقبلان على التفاوض بشأن موضوع العقد بأن كانا واقفين أو جالسين ، فيجب أن يستمرا على هذه الهيئة و بمفهوم المخالفة و متى انتفت هذه الهيئة و منه متى عبر أحد الأطراف عن إرادته بعد اختلال هذه الهيئة ، فإن مجلس العقد لا ينعقد، و ينعدم أي اثر لهذا التعبير.(11)

هذا الاتجاه اعتنقه بعض الأحناف و الحنابلة ، فارتكز رأيهم على ضابط الحالة أو الهيئة التي يظهر عليه المتعاقدان، و ربما خير مثال استدل به هؤلاء و يصلح في هذا المقال هو أن يكون حال أطراف التعاقد جالسين ، فإذا عبر صاحب العرض عن عرضه و تناقش الطرفان في موضوع التعاقد و بقيا على هذه الهيئة و أصدر الموجب له قبوله المطابق تحققت فكرة المجلس وانعقد العقد ،أما إذا غير القابل الهيئة أو الحال بأن قام تاركا المجلس فإن في هذا تفكيك لمجلس العقد ، دون إحداث أثر يتضمن انعقاد المجلس.(12)

اعترض على هذا التعريف و قيل بأنه خلط بين فترة التعاقد و فترة التفاوض حول المسائل المتعلقة بالعقد و التي تسبق المرحلة الأولى، فضلا عن إهمال عنصري الزمان و المكان فلا اعتبار لهذين العنصرين اللذان يعدان الأساس في مجلس العقد.(13)

رابعا: مجلس العقد وحدة معنوية:

ظهر اتجاه آخر مقتضاه أن مجلس العقد ليس بوحدة زمنية و لا مكانية و لا حتى هيئة معينة، بل هو وحدة معنوية تتمثل في اجتماع الطرفين لأجل التعاقد وانشغالهما به دون أن يكون ثمة ما يدل على الإعراض عرفا من أي منهما و اعتبروا أن مجلس العقد يظل قائما بالرغم من تفرق طرفي التعاقد.(14)

لكن ما يعاب على ما جاء به أصحاب هذا الاتجاه أنهم بالغوا بهذا التصوير ، حتى أنهم جعلوا المجلس قائما على الرغم من تفرق طرفي العقد ، ضف إلى هذا فإنهم أهملوا كل اعتبار للزمان و المكان فيما يخص مجلس العقد ، و هنا يكمن موطن الخلل.

خامسا:مجلس العقد ذو طبيعة ممتدة بموجب الشرط أو الاتفاق:

تبنى هذا الاتجاه بعض المالكية ، حيث ذهبوا إلى القول بأن المجلس العقد ذو طبيعة ممتدة و مستمرة لا ترتبط بالمكان و لا بالزمان المحيط بالمجلس ، و دون أن ترتبط بتفرق العاقدين عن مكان التعاقد ، فيبقى الإيجاب الصادر من أحد العاقدين صحيحا ، و يسمى بالإيجاب الملزم ، و يبقى الموجب على إيجابه حتى يصدر القبول ، ثم ينفض ذلك المجلس و يتأتى القبول في مجلس آخر خلال مدة زمنية يحكمها الاتفاق.(15) ولكن ما يعاب على هذا الاتجاه أنه قد وسع في إطار مجلس العقد إلى حد المبالغة حيث ألـــغى كل اعتبـــار لعنصـــري الزمــــان و المكان فـــي مجــلس العــقد.

الــفرع الثــــــــــاني

مجلس العقد في الفقه المعاصر

ذهب الفقهاء المعاصرون إلى تعريف مجلس العقد بأنه مكان و زمان التعاقد و الذي يبدأ بالانشغال البات بالصيغة وينفض بانتهاء الانشغال بالتعاقد. (16)

ما يفهم من هذا التعريف أن مجلس العقد يمنح المهلة الكافية للمتعاقدين من أجل التمعن و التفكير قبل الإقبال على قبول التعاقد، و هنا تتجلى الفائدة التي يوفرها مجلس العقد، فيمنح للطرفين الحق في العدول عن إبداء الرغبة في التعاقد طالما لم يترتب عليها أثر قانوني يتمخض عنه نشوء التزام في ذمة صاحبه ، فللموجب حق العدول عن الإيجاب طالما لم يقترن بقبول مطابق، و للقابل خيار القبول طالما أنه في خيرة من أمره ، و لم ينفض المجلس بعد و هو ما يصطلح عليه بخيار المجلس.

ما يستنتج من هذا التعريف أنه أقام مجلس العقد على ثلاثة أركان أولها المكان و هو الحيز المادي الذي يضم طرفي التعاقد ، مما يمكنهما من الالتقاء و المباشر و التفاعل عن قرب ،أما الركن الثاني فهو الزمان، وهو الإطار المعنوي الذي يحوي إبداء أطراف التعاقد للرغبة في إتمام العقد، أما الركن الثالث فهو انشغال الطرفين بأمر التعاقد دون غيرها من الأمور.

تناول المشرع الجزائري مجلس العقد من خلال نص المادة 64 من القانون المدني الجزائري التي تنص على : “إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد لشخص حاضر دون تحديد أجل القبول ، فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورا وكذلك إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق الهاتف أو بأي طريق مماثل،غير أن العقد يتم و لو لم يصدر القبول فورا ، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب و القبول و كان القبول قد صدر قبل أن ينفض مجلس العقد”.

بالتمعن في نص المادة المذكورة أعلاه ، نجد أن المشرع الجزائري لم يتطرق إلى تعريف مجلس العقد ولكنه تحدث عن أحكام القبول ، حيث أوجب الفورية و عدم التراخي و أورد استثناءا على هذه القاعدة من خلال ما ورد في الفقرة الثانية و هو جواز التراخي في القبول و ذلك في حالة ما إذا كان مجلس العقد لم ينفض بعد ولازال الطرفان منشغلين بأمر العقد و لم ينصرفا إلى أمور أخرى غير التعاقد، كما اعتبر التعاقد بواسطة الهاتف أو بأي طريق مماثل يأخذ حكم التعاقد ما بين حاضرين.

المطلب الثاني

مجلس العقد الحكمي

الأصل في مجلس العقد أن يكون مجلسا حقيقيا و ذلك بتصور الحضور الفعلي للمتعاقدين و تبادل الحوار و النقاش و التفاوض حول مضمون العقد و كما يعلم لدى الكل أن لكل أصل استثناء، ففي عديد من الأحيان يفصل بين صدور الإيجاب أو القبول أو العلم بهذا الأخير فترة زمنية قد تطول أو تقصر لا بل و قد يتدخل ضابط المكان في هذا المجلس إذ قد يفصل بين المتعاقدين فاصل مكاني يكون حائلا دون الحضور الفعلي للمتعاقدين في المكان ذاته، فتفصلهما أميال و دول و عندئذ تثور فكرة مجلس العقد الحكمي كمقابل لفكرة مجلس العقد الحقيقي.(17)

ففي العديد من الأحيان قد يبعد أحد المتعاقدين عن الأخر مكانا إلا أن الرغبة في التعاقد موجودة حيث أن الإشكال الوحيد يكمن في صعوبة تنقل أحدهما إلى الآخر ليتم اللقاء مباشرة نظرا لأسباب و ظروف تحول دون ذلك.(18)

فالمقصود بمجلس العقد الحكمي المجلس الذي يكون فيه أحد المتعاقدين غير مجالس للثاني و هو ما اصطلح عليه الفقهاء بالتعاقد بين غائبين ، فالتعاقد بين غائبين هو التعاقد الذي يتم بين متعاقدين لا يضمهما مجلس واحد عن طريق الكتاب أو الرسول أو ما يشبههما و هو ما كان عليه الحال إلى وقت قريب إلى أن ظهرت الإلكترونيات و أصبحت البديل في إظهار الرغبة من خلال عرض الإيجاب المفضي إلى التعاقد من طرف الموجب.(19)

جاء أيضا في تعريف مجلس العقد الحكمي بأنه المجلس الذي يكون أحد المتعاقدين غير حاضر فيه ، كما هو الحال في العقد الإلكتروني فالأصل أن يكون مجلس العقد مجلسا بين حاضرين لأن الأصل في التعاقد أن يكون بين حاضرين فإذا حدث ما يخالف هذا الأصل و كان التعاقد بين غائبين فيسمى مجلس العقد حينئذ بمجلس العقد الحكمي و هو ما ينطبق على التعاقد بالوسائل المستحدثة حيث يوجد أحد المتعاقدين في مكان و الآخر في مكان آخر ويتم التعاقد عبر وسيط إما أن يكون الهاتف أو الفاكس أو شاشة الحاسوب.(20)

المبحث الثاني

الطبيعة القانونية لمجلس العقد الإلكتروني

إن ما سبق ذكره من تعريف لمجلس العقد يستوي فيه العقد بين حاضرين و بين غائبين، لكن نظرا لطبيعة التعاقد بالوسائل الإلكترونية فإننا نجد ثمة فارق كبير بين العقدين ، يتمثل في أن التعاقد ما بين غائبين إنما يكون إذا لم يجمع المتعاقدين مجلس واحد، مما يجعل الاتصال بينهما غير مباشر، بل يكون الموجب في مكان يختلف عن مكان القابل و يكون الإيجاب موجها إلى شخص غير ماثل أمام الموجب بنفسه أو بمن ينوب عنه و من جهة أخرى يفترض في التعاقد بين غائبين تدخل وسيط لإيصال إرادة أحد الطرفين بغية اتحادها بإرادة الآخر سواء كانت هذه الوسيلة آلة ميكانيكية أو أوتوماتيكية كشاشة الحاسوب …الخ.

ففيصل التفرقة بين عقد الحاضرين و عقد الغائبين هو وجود فترة زمنية تفصل بين صدور القبول وعلم الموجب به.(21)

أمام هذه الرؤية فقد تضاربت الآراء و تعددت الاتجاهات حول تحديد الطبيعة القانونية للتعاقد الالكتروني، هل هو تعاقد بين حاضرين أم أنه تعاقد بين غائبين.

نظرا للأهمية المترتبة على تحديد طبيعة مجلس العقد الإلكتروني فقد ظهرت عدة اتجاهات في هذا الصدد.

فمنهم من ذهب إلى القول بأنه تعاقد بين حاضرين ، و منهم من ذهب إلى القول بأنه تعاقد بين غائبين ، و البعض قال بأنه تعاقد بين حاضرين زمانا و غائبين مكانا ، والبعض الآخر قال بأنه تعاقد بين غائبين تطبق عليه أحكام مجلس العقد الحكمي.(22)

فهناك من الفقهاء من اتخذ من ضابط الزمان أساسا للتمييز بين التعاقد بين حاضرين أو بين غائبين، ففي التعاقد بين حاضرين تنعدم الفترة الزمنية الفاصلة بين صدور القبول و العلم به ، فيمكن للموجب أن يعلم بالقبول وقت صدوره ، أما في التعاقد ما بين غائبين فإنه على العكس من ذلك.(23)

عليه فسوف نحاول من خلال هذا المطلب تحديد الطبيعة القانونية لمجلس العقد الإلكتروني، وذلك من خلال عرض مختلف الآراء الواردة بهذا الخصوص.

المطلب الأول

مجلس العقد الإلكتروني هو تعاقدين حاضرين وتعاقد بين غائبين

اختلف الفقه في تحديد الطبيعة القانونية لمجلس العقد الإلكتروني فمنهم من اعتبره تعاقدا بين حاضرين ومنهم من اعتبره تعاقدا بين غائبين.

الفرع الأول

مجلس العقد الإلكتروني هو تعاقد بين حاضرين

ينطبق مفهوم مجلس العقد حسب هذا الرأي على كل متعاقدين انصرافا إلى موضوع التعاقد دون أن يشغلهما شاغل آخر و طالما أن الاتصال يتم مباشرة عبر شبكة الانترنت،بحيث يمكن أن يرى كل منهما الآخر و يسمعه في آن واحد ، فلا وجود للفاصل الزمني بين صدور التعبير عن الإرادة، و وصول هذا التعبير إلى علم الموجه إليه دون الأخذ بالاعتبار التباعد المكاني ، فمجلس العقد هنا يكون مجلسا حكميا و ليس حقيقيا.(24)

حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن التعاقد الإلكتروني هو تعاقد بين حاضرين لكون أطراف التعاقد على اتصال دائم عبر شبكة الإنترنت(25).

برروا ذلك على أساس أنه و إن كان هناك تباعد للأجساد فجميع لوازمها متوافرة في الحال، فبمجرد صدور الصيغة يعلم كل طرف بتعبير الآخر، و حسب رأيهم فإن تلاشي الحدود الجغرافية التقليدية إنما هو نتيجة حتمية لتطور وسائل الاتصال الحديثة التي ذللت الصعاب ، و يسرت التواصل بين الأشخاص عبر كافة أنحاء المعمورة (26)،بحيث جعلت هذه الوسائل المستحدثة الأطراف تلتقي افتراضيا مما يمكننا من القول بأن الأطراف تلتقي افتراضيا ، مما يعني بأن أحدهما قد انتقل حكميا إلى مكان تواجد الآخر ، و عندئذ يصبح التعاقد تعاقدا بين حاضرين حضورا مفترضا من حيث الزمان و المكان.

استدل أصحاب هذا الرأي بقولهم أن المجلس قد تحقق باتحاد الوحدة الزمنية لمجلس العقد و بالتالي فإن مجلس العقد هو زمان الاتصال عبر الانترنت يبدأ بالاتصال و ينفض بانتهائه.

اعتنق هذا الرأي المشرع المصري في نص المادة 94 من القانون المدني حينما اعتبر التعاقد عن طريق شبكة الانترنت تعاقدا بين حاضرين.(27)

ما يعاب على هذا الاتجاه أنه بني مجلس العقد على ركن أو أساس واحد فقط ألا و هو الزمان و ينظر إلى مجلس العقد بأنه وحدة زمنية مع إهماله لاعتبار المكان فالمكان هو الآخر ركن أساسي في مجلس العقد.(28)

ضف إلى هذا فقد بالغ الفقه في الانحياز لهذا الرأي ، بعد أن جعل التعاقد عبر خدمة البريد الإلكتروني يأخذ نفس الحكم بخصوص التعاقد عبر شبكة الانترنت من خلال التفاعل المباشر الذي يتيح لطرفي التعاقد رؤية بعضهما البعض و التحاور المباشر بالصوت و الصورة معا في الآن ذاته ضف إلى هذا فإن بعضا من الفقه قال بأن هذا التعاقد هو تعاقد حقيقي و ليس حكمي وهو أمر مبالغ فيه.(29)

الفرع الثاني

مجلس العقد الإلكتروني هو تعاقدين غائبين

يذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول بأن طبيعة التعاقد بالوسائل الالكترونية هو تعاقدين غائبين زمانا ومكانا مثله مثل التعاقد بالمراسلة أو عبر الهاتف و أن وجه الاختلاف لا يكمن إلا في نوع الوسيلة التي يجرى بها، حيث أنها ذات طبيعة الكترونية.(30) يرى أصحاب هذا الاتجاه أيضا أن التعاقد الالكتروني يعد تعاقدا بين غائبين، سواء تم التعاقد عبر الشبكة العنكبوتية أو الحوار الصوتي أو بالصوت والصورة معا في حال وجود كاميرا تتيح للطرفين ذلك ، ففي كل الحالات نكون بصدد التعاقد بين غائبين و ذلك قياسا على التعاقد بالكتابة أو الرسول أو الهاتف أو ما شابه ذلك.(31)

لقد اعتنق هذا الاتجاه مجلس مجمع الفقه الإسلامي في الدورة السادسة بجدة في مارس 1990 ، و الذي قرر ما يلي : “إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، و لا يرى احدهما الآخر معاينة ، و لا يسمع كلامه و كانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة ، و ينطبق ذلك على البرق و التلكس و الفاكس و شاشات الحاسوب ، ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه و قبوله”.(32)

فالتعاقد عبر الإنترنت يعد تعاقدا بين غائبين لعدم صدور الإيجاب و القبول في نفس الوقت ، إضافة على التباعد المكاني مما يجعل مجلس العقد مجلسا حكميا تطبق عليه أحكامه ، ضف على هذا فإن البعض في تبريرهم لهذه الرؤية قالوا بأن اعتبار مجلس العقد الالكتروني مجلسا تحكمه قواعد مجلس العقد الحكمي يرجع إلى إمكانية استفادة المستهلك من حق الرجوع الذي منحه إياه المشرع في حالة التعاقد عن بعد.(33)

إن ما يعاب على هذا الرأي أن أصحابه قد تجاهلوا دور وسائل الاتصال الحديثة ففيه تحقيق للتفاعل المباشر بين طرفي التعاقد بحيث يتبدد الفاصل الزمني مما يستبعد القول باعتبار أن مثل هذا التعاقد يعد تعاقدا بين غائبين في كل حالات.(34)

المـــطلب الثــــاني

مجلس العقد الإلكتروني هو تعاقد بين غائبين ذو طبيعة خاصة وذو طبيعة مختلطة

اعتبر بعض الفقهاء مجلس العقد الإلكتروني تعاقدا بين غائبين ذو طبيعة خاصة باعتبار استغراق مدة زمنية بين التعبير عن الإرادة وعلم المعني بها ،أما البعض الآخر فقد اعتبره مجلسا ذو طبيعة مختلطة يمزج بين الحضور والغياب.

الفرع الأول

مجلس العقد الإلكتروني هو تعاقد بين غائبين ذو طبيعة خاصة

يرى البعض أن التعاقد الالكتروني و منه مجلس العقد تعاقد بين غائبين ذو طبيعة خاصة، و لا يمكن بأي حال من الأحوال القول بأنه تعاقد بين حاضرين ذلك أن تبادل صيغتي الإيجاب و القبول بين طرفي العقد لا يكون إلا من خلال الوسائل التقليدية المعتادة التي تستغرق فترة زمنية بين إرسال القبول وصوله إلى من وجه إليه ، إنما يكون يتبادل الرسائل عبر شبكة الانترنت إلكترونيا ، حيث يتاح التفاعل المباشر بين الطرفين، فحتى و إن كان هناك تباعد مادي مكاني بينهما، فإن التقارب الافتراضي ألزماني متوافر و الحجة التي على أساسها أطلق على التعاقد الالكتروني وصف التعاقد بين غائبين هو أن هذا الأخير يقوم على فكرة تفاوت المسافات و الزمن معا ، حيث أن التفاوت الزمني غير موجود بالنسبة للتعاقد الإلكتروني حيث يتاح للطرفان التفاعل المباشر. (35)تجدر الإشارة إلى أن هذا الرأي لم يتعرض للنقد.

الفرع الثاني

مجلس العقد الإلكتروني ذو طبيعة مختلطة

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن مجلس العقد الإلكتروني ذو طبيعة مختلطة يتم من خلال مجلس عقد حكمي افتراضي بحيث أنه يكون تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان و بين غائبين من حيث المكان (36)،باعتبار أن الأمر يتم بوسائل سمعية بصرية، تسمح بالتفاعل بين طرفين يضمهما مجلس واحد حكمي افتراضي، شأنه شأن التعاقد عن طريق الهاتف.(37)

فرق أصحاب هذا الاتجاه بين الحالات حسب الأساليب التي يتم بها التعاقد الإلكتروني و ذلك على النحو الآتي.(38)

الحالة الأولى: إذا كان التعاقد يتم عن طريق الانترنت فيكون التفاعل بين طرفي التعاقد تفاعلا مباشرا ، بحيث يرى كل منهما الآخر ، ويستمع إليه مباشرة في الآن ذاته ، فإن هذا المجلس يطلق عليه وصف مجلس العقد الحقيقي فيعتبر تعاقدا بين حاضرين من حيث الزمان و المكان(39).

الحالة الثانية: إذا كان التعاقد يتم عن طريق الشبكة العنكبوتية و المتاح هو نقل الصوت دون الصورة بين الموجب و الموجب له، فإنه في هذه الحالة يكون التعاقد تعاقدا بين حاضرين من حيث الزمان و بين غائبين من حيث المكان مثله مثل التعاقد بواسطة الهاتف.(40)

الحالة الثالثة: إذا كانت الوسيلة المتاحة هي البريد الالكتروني بحيث يتبدد الفاصل الزمني بين إرسال الرسالة الالكترونية و وصولها إلى الشخص الموجهة إليه أو قصر هذه المدة فإننا نكون في هذه الحالة بصدد تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان و غائبين من حيث المكان ، لكن إذا كانت التقنية المستخدمة هي البريد الالكتروني وكان الفارق الزمني في التواصل بين الموجب و الموجب له فارق معتبر، بحيث لا يعلم الموجب له فورا بعرض الموجب فإننا نكون بصدد تعاقدين بين غائبين زمانا و مكانا(41)

خاتمة:

من خلال معالجة موضوع الدراسة ومن خلال إيراد مختلف التعاريف بشأن مجلس العقد خلصنا إلى وجود نوعان من مجلس العقد ،مجلس العـــقد الحقيقي ومجلس العقد الحكمـــي.

أما عن مجلس العقد الحقيقي فهو المجلس الذي يغلب فيه الحضور الفعلي لأطراف التعاقد بحيث يكون كل من الموجب والقابل على إتصال مباشر يسمع كل منهما الآخر مباشرة بحيث لا يشغلهما عن التعاقد شاغل ومجلس العقد الحكمي ،وهو المجلس الذي ينتفي فيه الحضور الفعلي والمباشر لأطراف التعاقد ،بحيث لا يجالسان بعضهما كما هو الحال في مجلس العقد الإلكتروني ،ومنه يمكن تكييف مجلس العقد الإلكتروني بأنه مجلس عقد بين حاضرين زمانا وغائبين مكانا كما هو الحال في التعاقد عبر الخط مباشرة ،كما انه يكون تعاقد بين غائبين زمانا ومكانا إذا كانت التقنية المعتمد عليها في التعاقد هي تقنية البريد الإلكتروني.

الهوامش:

().عبد العليم الشيخ أسامة ، مجلس العقد و أثره في عقود التجارة الالكترونية (دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي و القانون الوضعي) الطبعة الأولى، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية ، مصر، 2008 ، ص 19.

(2).المدرس محمد محروس عبد اللطيف،التعاقد بالانترنيت ومشكلة إتحاد مجلس العقد في القوانين العربية ،(د ط)،المدينة العربية،مصر،(د س ن)،ص02.

(3).سرحان إبراهيم باسم محمد ، مجلس عقد البيع بين النظرية والتطبيق ،رسالة ماجستير ، جامعة النجاح الوطنية بنابلس، كلية الدراسات العليا، فلسطين، 2006،ص53.

(4).عبد الهادي سالم الشافعي جابر ، مجلس العقد في الفقه الإسلامي و القانون الوضعي (دراسة مقارنة)، الطبعة الأولى، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، مصر، 2001 ص 86-87.

(5).عبد العليم الشيخ أسامة ،مرجع سابق، ص 20.

(6).عبد الهادي سالم الشافعي جابر ، المرجع سابق، ص 86.

(7).المرجع نفسه ، ص 88 – 89.

(8).عبد العليم الشيخ أسامة ، المرجع السابق، ص 22-21.

(9).المرجع نفسه، ص 19 – 20.

(10).عوضين محمد نجيب أسس التعاقد بالوسائل المستحدثة (دراسة مقارنة ) ،مجلة القانون و الاقتصاد ، العدد 75 ، القاهرة، 2005 ، ص 62.

(11).عبد العليم الشيخ أسامة ،المرجع السابق، ص 22.

(12).عبد الهادي سالم الشافعي جابر ، مرجع سابق، ص92- 93-94.

(13). عبد العليم الشيخ أسامة ، المرجع السابق، ص22.

(14).عبد الهادي سالم الشافعي جابر ،المرجع السابق،ص95.

(15).عوضين محمد نجيب ،مرجع سابق،ص63-64-65.

(16).مرزوق نور الهدى،التراضي في العقود الالكترونية ،مذكرة ماجستير،جامعة مولود معمري تيزي وزو، كلية الحقوق و العلوم السياسية ، الجزائر، )2011/ 2012 (،ص156 – 157.

(17).أبو عمرو مصطفى أحمد ،مجلس العقد الإلكتروني( دراسة مقارنة)، الطبعة الأولى، دار الجامعة الجديدة،الإسكندرية، مصر،2011 ص 87.

(18).عبد الهادي سالم الشافعي جابر،مرجع سابق، ص 202.

(19).المرجع نفسه ، ص 202.

(20)عبد العليم الشيخ أسامة، مرجع سابق، ص 23– 24.

(21).الابراهيم محمد عقلة ، حكم إجراء العقد بوسائل الاتصال الحديثة ، مجلة الشريعة و الدراسات ، العدد 5،الكويت ، 1986 ،ص 102-103.

(22).مرزوق نور الهدى ، مرجع سابق، ص 160.

(23).المرجع نفسه، ص 160.

(24).أبو عمرو مصطفى أحمد ، مرجع سابق، ص 94-95.

(25).مرزوق نور الهدى ، المرجع السابق، ص 160.

(26)أبو عمرو مصطفى أحمد ،المرجع السابق، ص95.

(27).مرزوق نور الهدى ، المرجع السابق ، ص 161.

(28).عبد الهادي سالم الشافعي جابر، مرجع سابق، ص 282.

(29).أبو عمرو مصطفى أحمد ، مرجع سابق، ص 95-96.

(30).عبد العليم الشيخ أسامة ، مرجع سابق، ص 25.

(31).أبو عمرو مصطفى أحمد ، المرجع السابق ، ص 96.

(32)عبد الهادي سالم الشافعي جابر ، مرجع سابق، ص 298.

(33).ممدوح إبراهيم خالد ، إبرام العقد الالكتروني،دراسة مقارنة،(الطبعة الأولى)، دار الفكر الجامعي ، الإسكندرية، مصر، 2006 ، ص 288.

(34).مرزوق نور الهدى ، مرجع سابق، ص 162.

(35).عبد العليم الشيخ أسامة ، مرجع سابق، ص 25.

(36).المرجع نفسه ، ص 25.

(37).مرزوق نور الهدى ، المرجع السابق، ص 162.

(38).أبو عمرو مصطفى أحمد ، مرجع سابق، ص 96.

(39).نفس المرجع، ص 96.

(40).المرجع نفسه ، ص 97.

(41)أبو عمرو مصطفى أحمد،المرجع السابق، ص 97-98-

إعادة نشر بواسطة محاماة نت