دراسة حول الدور الانشائي للقاضي الاداري في خلق القاعدة القانونية

المبحث الأول: منهجية القاضي الإداري في خلق القاعدة القضائية

المطلب الأول:المعطيات التي يستند عليها القاضي الإداري في خلق القاعدة القضائية.
المطلب الثاني: مراحل خلق القاعدة القضائية.
المطلب الثالث: طرق خلق القاعدة القضائية.

المبحث الثاني: منهجية القاضي الإداري في تطوير القاعدة القضائية.

المطلب الأول: تبني قواعد قضائية مرنة.
المطلب الثاني: تبني قواعد قضائية مفتوحة.

إن عبارة الاجتهاد القضائيLa jurisprudenceتعود إلى أصل لاتيني jurisprudencia وتعني علم القانون، ذلك أنjuris تعني القانون ، في حين تعني prudencia المعرفة أي العلم وبذلك يطلق على الاجتهاد القضائي العلم التطبيقي للقانون.
والمقصود بالاجتهاد القضائي، كمصدر من مصادر القاعدة القانونية، هو مجموع القواعد التي تستنبط من الأحكام الصادرة عن المحاكم.

وفي إطار حديثنا عن مناهج الاجتهاد القضائي الإداري نشير إلى أن الطابع المميز للقانون الإداري هو كونه قانون قضائي، فكما يقول الفقيه marcel waline “لولا الاجتهادات القضائية لمجلس الدولة لما كان هناك وجود للقانون الإداري في فرنسا أو على الأقل سينحصر في مجموعة من الأجهزة وتجميع اختصاصاتها فاجتهادات مجلس الدولة كانت وراء صياغة وتشكيل أعمال فقهية كبرى في القانون العام الفرنسي”. ولهذ االسبب أطلق على القضاء الإداري صفة قضاء إنشائي أكثر مما هو قضاء تطبيقي مقارنة مع القضاء العادي فهو يبتدع الحلول لمختلف المنازعات التي تكون الإدارة طرفا فيها.فنظرية المسؤولية الإدارية ونظرية العقود الإدارية ونظرية الطعن بسبب تجاوز السلطة كلها تعتبر من الإنشاء الخالص للقضاء الإداري. فالقاضي الإداري يعتمد الواقع أكثر ما يعتمد القانون ويستنبط أحكامه من واقع الأحداث ومن الظروف المحيطة بالنازلة المعروضة على أنظاره، كما يحرص على أن تكون منهجية تدخله شرعية وملائمة أي مطابقة للواقع لأن الظروف تتغير وبالتالي لا يستلزم الإقدام على تطبيق قواعد جامدة تكون نتائجها وخيمة على سير الإدارة وعلى مصالح الأفراد لهذا فهو يقوم بتطوير هذه القواعد وتكييفها مع الحاجيات الجديدة.

فماهي إذن المنهجية التي يتبعها القاضي الإداري في خلق القاعدة القضائية وفي تطويرها؟

المبحث الأول: منهجية القاضي الإداري في خلق القاعدة القضائية

إن المشرع مهما توخى الدقة والكمال في عمله لا يستطيع أن يحيط بكل شيء وأن يضع مسبقا الحلول اللازمة لكل القضايا التي قد تعرض على القضاء،فقد يحصل أن الحالة المعروضة على أنظار القاضي هي خارج توقعات المشرع نتيجة تطور الحياة الاجتماعية وبالتالي فإن اهتمام القاضي ينصب على بحث الحلول وخلق قاعدة قضائية جديدة.

المطلب الأول: المعطيات التي يستند عليها القاضي الإداري في خلق القاعدة القضائية

إن خلق القاعدة القضائية من طرف القاضي يتم بالرجوع إلى المعطيات المبلورة données élaborées وإلى المعطيات الخامة données brutes، هذه المعطيات التي تشكل المصادر المادية للقانون القضائي droit jurisprudentiel.

أولا: المعطيات المبلورة

وتتشكل هذه المعطيات من أعمال الفقه. فالقاضي الإداري يمكنه أن يستعين في قدراته بالحل المقترح عليه من لدن الفقه كما يمكنه أن يعدل محتوى هذا الحل الفقهي. فقرار casanova الصادر عن مجلس الدولة في 29 مارس 1901 الذي قدر قبول الطعن بالإلغاء الذي يرفعه الطاعن بصفته ملزم بالضريبة الجماعية contribuable communal ضد القرارات التي تحمل ميزانية المجلس نفقات زائدة كان حلا اقترحه الفقيه أندري هوريو.

ثانيا: معطيات السلطة العامة

متطلبات السلطة العامة

– القاضي الإداري وضمان حرية نشاط السياسة حيث أظهر القاضي الإداري ضرورة ضمان هذه الحرية من خلال نظرية أعمال الحكومة التي تترجم رغبة القاضي في عدم عرقلة نشاط السلطة السياسية سواء على المستوى الداخلي أو في علاقاتها الدولية. -القاضي الإداري وضمان حرية النشاط الإداري يتعين على القاضي أن يقيم توازنا عادلا بين حقوق الإدارة وواجباتها وحقوق الأفراد وواجباتهم.

المعطيات الأخلاقية

فالقاضي يعطي اهتماما خاصا للمعطيات الأخلاقية إلى درجة إدراجها أحيانا بشكل صريح في قواعد القانون القضائي كمبدأ المساواة مثلا،وتشكل المبادئ العامة للقانون الشكل المثالي للتعبير عن المعطيات الأخلاقية فمبدأ المساواة أمام التكاليف العمومية وأمام ولوج المرافق العامة يشكلان ترجمة من لدن الاجتهاد القضائي للقاعدة الكائنة في ضمير الجماعة التي تشكلها المساواة.

المعطيات الاقتصادية

ويأخذها القاضي بعين الاعتبار في خلق قاعدة قضائية جديدة كمثال على ذلك نظرية الظروف الطارئة التي أنشأها القضاء الإداري الفرنسي لتمكين الملتزم بالعقد الإداري من مطالبة الإدارة بالمساهمة في الخسارة نتيجة ظروف غير متوقعة.

المطلب الثاني: مراحل خلق القاعدة القضائية

إن عمل القاضي الإداري في خلق القاعدة القضائية يمر بمراحل متعددة.[[1]]

-المرحلةالأولى

وهي مرحلة وعي القاضي بالقاعدة الجديدة، ذلك أن القاضي قد يكتشف قصور القانون الوضعي حول مسألة معينة ويبدل جهده لتتميم هذه الثغرة. ،فالتشريع الإداري يعاني من قصور في نصوصه وعدم كفايتها وهنا يبرز دور الاجتهاد القضائي لملء هذا الفراغ إما عن طريق توضيح النصوص أوإنشائها في حالة انعدامها ،وكمثال على ذلك نذكر مسألة معالجة مصادر قانون الوظيفة العمومية في فرنسا،فإلى غاية الحرب العالمية الثانية كانت الوظيفة العمومية تعاني من نقص في مجال التشريع فلم تكن هناك سوى أنظمة خصوصية تسري على فئات معينة وخارج هذه الأنظمة كان يقع على عاتق مجلس الدولة الفرنسي مهمة وضع قواعد تحمي الشرعية ففتح الباب لجميع الموظفين بإقامة دعوى الشطط في استعمال السلطة ضد المقررات الرامية لحرمان الموظفين من الاستفادة من التعويضات المادية،وبموجب هذا الامتياز وضع مجلس الدولة قاعدة قضائية تتعلق بالضمانات الجماعية لكل الموظفين.

-المرحلة الثانية

وهي مرحلة تجريب القاعدة expérimentation de la règle وفيها يتم قياس مزايا وعيوب القاعدة، حيث تتحلل هذه الأخيرة من طابعها السري لكي تثير ملاحظات خاصة من لدن الفقه.

-المرحلة الثالثة

وهي مرحلة إدراج القاعدة في القانون الوضعي، حيث ينبغي أن تتسم منهجية القاضي الإداري هنا بنوع من الليونة والتدرج لأن القاضي ليس بمشرع،وبالتالي فإن القاعدة الجديدة تتطلب نوعا من التكرار لتكسب ثقة المشرع حيث يجب أن تلقى عدة تطبيقات قبل أن تستقر في القانون الوضعي كقاعدة قانونية، ومثال ذلك مبدأ المساواة أمام القانون وأمام ولوج المرافق العامة وأمام تحمل التكاليف العمومية الذي عرف عدة تطبيقات من طرف مجلس الدولة في العديد من القرارات قبل أن يستقر المبدأ بشكل صريح في القانون الوضعي.نفس الطريقة أنتجت قبل أن تستقر نظرية الظروف الطارئة نهائيا في القانون الوضعي ففي قرار 6 غشت 1855 وافق مجلس الدولة على منح تعويض لمقاولي الأشغال العمومية من أجل إصلاح الضرر الذي لحق بهم من جراء عاصفة وتبنى نفس الحل في قضية 1874 سنة puymury حيث اعترض المقاولون المعهد لهم بجلب بقايا الأحجار صعوبات استثنائية وأخذت نظرية الظروف الطارئة صياغتها النهائية في القانون الوضعي في قضية شركة الغاز بوردو ومجلس الدولة بتاريخ 30 مارس 1916.

المطلب الثاني: مراحل خلق القاعدة القضائية

يتم خلق القاعدة القضائية انطلاقا من استنتاجات مفوض أو بمناسبة النزاع أو تعليل حكم من الأحكام.

أولا: استنتاجات مفوض الحكومة

حيث يلعب هذا الأخير دورا هاما في خلق القاعدة الجديدة من خلال استنتاجاته، ففي قضية terrier بتاريخ 6 فبراير 1903 أعلن مفوض الحكومة “روميو”أن جميع الأعمال التي تتم بين الأشخاص العمومية والغير أو بين الأشخاص العامة نفسها سواء كانت قائمة على تنفيذ مرفق عام أو التنفيذ السيئ لهذا الخير تدخل في اختصاص القضاء الإداري.

وفي قضية VEZIAبتاريخ 20 دجنبر 1935 استوجب على مجلس الدولة في النازلة أن يبحث عما إذا كانت مسطرة نزع الملكية لأجل المنفعة العامة قد اعترف بها قانونا لشركة VEZIA لأن هذه المسطرة بحكم طابعها غير المألوف في القانون الخاص احتفظ بها للجماعات العمومية وفي هذا الصدد أوضح مفوض الحكومة le tournerieأن هذه الشركة تمارس نشاطا خاصا لا يكمن أن ندخله في عداد نشاط مؤسسة عمومية وإنما بحكم توفر الشركة على بعض امتيازات السلطة العمومية قد نعتبرها مؤسسة ذات نفع عام.

ثانيا: خلق القاعدة بمناسبة فحص عناصر النزاع

حيث جعل مجلس الدولة صحة مادية الوقائع المعللة كشرط عام لشرعية تصرف إداري، ففي قضية trépan بتاريخ 20 يناير 1922 أكدت الإدارة أنها منحت عطلة لمستخدم تبعا لطلب تقدم به في حين تبين أن هذا الأخير لم يتقدم بأي طلب في الموضوع فسوء نية الإدارة كان واضحا.
وفي نفس السياق قضى المجلس الأعلى أن استقالة الموظف لا تفترض بل تنتج عن إدارة المعني بالأمر بكل حرية ففي قضية ليلى الغراس بتاريخ 10 يوليوز 1970 قضى المجلس الأعلى “أن تغيب المدعية غير قانوني إن كان من شأنه أن يبرر متابعة تأديبية، إلا أنه لا يكمن اعتباره تركا للوظيفة من شأنه قطع العلاقة التي كانت تربط الإدارة بالمعنية بالأمر”.

ثالثا: خلق القاعدة القانونية بمناسبة تعليل حكم من الأحكام.

حيث تكون للقاضي الإداري فرصة تأكيد قاعدة جديدة عادة ما تكون مستقلة عن الدعوى إلا أنها تقترب ماديا من القاعدة التشريعية ، ففي الحكم بلانكو الشهير الصادر عن محكمة التنازع بتاريخ 8 فبراير 1873 ظهرت قاعدتان:

الأولى: أبرزت ذاتية أو استقلال نظام المسؤولية العمومية.
الثانية: أبرزت السمات الأساسية لهذه المسؤولية.

المبحث الثاني: منهجية القاضي الإداري في تطوير القاعدة القضائية.

إن القاضي الإداري ،عند وضعه للقاعدة الجديدة ، يدرك محتواها ومحدوديتها أكثر من غيره وبالتالي فليست لديه نية وضع قاعدة نهائية وإنما فقط تلك التي ظهرت له الأكثر ملاءمة للنزاع الذي بت فيه،ولهذا فهو يحتفظ بحق إدخال تعديلات عليها عند الضرورة وتطويرها انسجاما مع تطور الظروف العامة،فجمود القاعدة inertie de la règle يشكل خطرا على سير الإدارة وعلى مصالح الأفراد إذ وترتكز منهجية القاضي الإداري في تطوير القاعدة القضائية على تبني قواعد مرنة وأخرى مفتوحة.

المطلب الأول: تبني قواعد قضائية مرنة Règles jurisprudentielles souples

هناك قواعد قانونية صلبة وأخرى مرنة،والمعيار الذي يمكن بواسطته تمييز هذين النوعين من القواعد هو مدى وجود تعريف دقيق للمصطلحات التي تضمنتها القاعدة أوعدم وجوده،بهذا المعنى يمكن اعتبار كقاعدة صلبة تتضمن تعريفا دقيقا للمصطلحات المعبر عنها، وبالمقابل فإن القاعدة المرنة هي التي تتميز برفض القاضي إعطاء تعريف دقيق لها،وبالتالي فإن القواعد المرنة هي الأكثر قابلية للتعديل الأمر الذي يفسر أن لب القواعد القضائية تنتمي إلى صنف القواعد المرنة،مثال ذلك هو أن الاجتهاد القضائي لم يعط أبدا تعريفا دقيقا للشروط الغير المألوفةclauses exorbitantes وإنما كانت هناك عدة تعاريف حسب كل قضية،فحكمة التنازع اعتبرت في قرار الشركة الفلاحية التعاونية للتخزين بتاريخ 14 نونبر 1960 أن “الشرط غير مألوف وهو ذلك الشرط غير المعتاد في علاقات القانون الخاص”. بينما نجد مجلس الدولة يعرفه تارة بأنه “شرط يهدف إعطاء الأطراف حقوقا أو فرض التزامات عليهم أجنبية بطبيعتها عن التي يمكن لأي فرد أن يتحمل في إطار القوانين المدنية والتجارية”[[2]] .
مثال آخر عن القواعد القضائية المرنة نذكر مفهوم المرفق العام الذي كثيرا ما كان يلجأ إليه القاضي في أحكامه دون أن يعطي تعريفا دقيقا للمرفق العام.
وعدم التحديد الدقيق للمصطلحات المضمنة في القواعد المرنة يفسر الحذر الذي بيديه القاضي من الوقوع في الخطأ.

المطلب الثاني: تبني قواعد قضائية مفتوحة Règles jurisprudentielles ouvertes

القواعد القضائية المفتوحة هي التي تتضمن استثناءات لها،. أما القواعد القضائية المغلقة فلا تتضمن أي استثناء،وبالتالي فالقواعد المفتوحة هي التي بإمكانها أن تتطور مع الظروف وتتكيف مع متطلبات الواقع.

وكمثال عن القواعد القضائية المفتوحة نذكر استنتاجات مفوض الحكومة”روميو” في قرار Terrier بتاريخ 6 فبراير 1903 الذي جاء بقاعدة وباستثناء،فالقاعدة هي أن كل ما يخص تنظيم وسير المرافق العامة يشكل نشاط إداريا يدخل بطبيعته ضمن اختصاص القضاء الإداري،أما الاستثناء فهو أن هناك ظروفا تعمل فيها الإدارة في نفس ظروف الخواص.

مثال آخر يتعلق بالاجتهاد القضائي الخاص بإنشاء المرافق العامة الصناعية والتجارية من طرف الجماعات،فلمدة طويلة كان مجلس الدولة يعلن تمسكه بحرية التجارة والصناعة مما كان يمنع على الجماعات من منافسة الخواص في مشاريعهم التجارية والصناعية، لكن الاجتهاد القضائي لمجلس الدولة اتبع هذه القاعدة باستثناء يمنح بموجبه للجماعات إمكانية التدخل في الميدان الاقتصادي ومنافسة الخواص إذا كانت اعتبارات المصلحة العامة تفرض ذلك. قرار مجلس الدولة بتاريخ 30 ماي 1930 الغرفة النقابية للتجارة بالتقسيط ل Nevers.

وقد يضيف القاضي الإداري أحيانا استثناء عاما يخص جميع القواعد القضائية يمكن أن يعدل محتوى هذه القواعد جذريا وهذا الاستثناء يخص نظرية الظروف الاستثنائية.[[3]]
إن اجتهاد القاضي الإداري، على مستوى خلق وتطوير القواعد القضائية، لا يمكن أن يتم دون اللجوء إلى مناهج توصله إلى الحلول التي ينشدها للمنازعات التي تعرض على أنظاره.

المراجع المعتمدة

باللغة العربية

1-الرسائل
الحلابي الكتابي (إدريس): مدى مساهمة السلطة القضائية في خلق القاعدة القانونية دراسة مقارنة. رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. الرباط السنة الجامعية 1984/1985. 234ص.

2-Les ouvrages en Francais

GAUDEMET (YVES) : les méthodes de juge administratif ،paris،Librairie générale de droit et de jurisprudence ،1972.
WILINE (Marcel) : l’action du conseil d’Etat dans la vie française،Le conseil d’Etat، live jubilaire، 24décembre 1949، Paris، Recueil Sirey ،PP. 109 – 129.
CHAPUS (René) : droit du contentieux administratif،. Paris، Edition Montchrestien ،1982.
Les grands arrêts de la jurisprudence administrative، Paris. Sirey 1990.

الهوامش
[1]GUUDEMET (Yves) : les méthodes du juge administratif. Paris L.G.D.J 1972. Pp. 216-225
[2] قرار مجلس الدولة بتاريخ 2 فبراير 1958 في قضية شركة النحاس falmegambie
[3]Gaudemet (Yves) : op.cit p.265

إعادة نشر بواسطة محاماة نت