التأمين على عمال المقاولات والمحاجر والملاحات .

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
الجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت الموافق 15 يونيه سنة 1996 الموافق 28 سنة 1417 هـ
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين : محمد ولى الدين جلال وفارق عبد الرحيم غنيم وانور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور وعبد القادر عبد الله .
وحضور السيد المستشارالدكتور / حنفى على جبالى رئيس المفوضتن
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمتن السر
أصدرت الحكم الأتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 14 لسنة 16 قضائية “دستورية ”
المقامة من :
شركة كيرسرفيس ليمتد .
ضـد :
1 ـ السيد / رئيس الجمهورية .
2 ـ السيد / رئيس مجلس الوزراء .
3 ـ السيد / وزير التأمينات الأجتماعية .
4 ـ السيد / رئيس مجلس إدارة الهيئة
5 ـ السيد / مدير مكتب المقاولات بمنطقة وسط القاهرة للتأمينات الأجتماعية .
6 ـ السيد / رئيس قسم التنفيذ الأدارى بالهيئة القومية للتأمين الأجتماعى .
7 ـ السيد / رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية لسكان حديد مصر .
الأجراءات
بتاريخ 27 مارس سنة 1994 ، إودعت الشركة المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبة الحكم بعدم دستورية قرار وزير التأمينات الأجتماعية رقم 74 الصادر فى 26/12/1988 بشأن التأمين على عمال المقاولات والمحاجر والملاحات .
وقدمت كل من هيئة قضايا الدولة ، والهيئة القومية للتأمين الأجتماعى مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها .
ونظرت الدعوى ، على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم .
المحكمة
بعد الأطلاع على الأوراق ، والمداولة .
حيث إن الوقائع ـ على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق ـ تتحصل فى أن الهيئة القومية لسكك حديد مصر ، كانت قد أسندت إلى الشركة المدعية فى مناقصة عامة أعلنت ، عملية نظافة القطارات بحوش أبو غطاس ومحطة مصر ، فأبرمت معها العقد 953/67/2 ، وسددت عنها إشتراكات التأمين الأجتماعى لعمالها القائمين بهذه العملية خصما من مستحقاتها لديها تنفيذا لقرار وزير التأمينات الأجتماعية رقم 74 لسنة 1988 بشأن التأمين على عمال المقاولات والمحاجر والملاحات وإذ لم تقبل الشركة هذا الخصم ، فقد أقامت الدعوى رقم 634 لسنة 1993 مدنى كلى أمام محكمة جنوب القاهرة الأبتدائية مختصمة فيها الهيئة القومية للتأمين الأجتماعى طعنا على قرار لجنة فحص المنازعات بها ، طالبة الحكم بإلزامها برد ماسبق خصمه من مستحقاتها لدى الهيئة القومية لسكك حديد مصر وفقا لأحكام القرار رقم 74 لسنة 1988 المشار إليه .
وبجلسة 8/3/1994 دفع الحاضر عن الشركة المدعية بعدم دستورية هذا القرار وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع ، فقد أجلت نظر الدعوى إلى جلسة 29/3/1994 ، لتقدم الشركة المدعية ما يفيد إقامة الدعوى الدستورية ، فأقامتها .
وحيث إن الشركة المدعية تقول بمخالفة القرار رقم 74 لسنة 1988 المطعون فيه للدستور من وجوه متعددة أولها : أنه انتزع عمال المقاولات من نطاق تطبيق قانون التامين الأجتماعى الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 ، وأحالهم نظام أخر يفتقر إلى مزايا هذا القانون ، وليس له به من صلة ، وهو ما يعد تجاوزا لحدود السلطة المخولة لوزير التأمينات الأجتماعية بمقتضى نص المادة (144) من الدستور فى شأن إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القانون .
ثانيهما : أن الأصل المقرر بمقتضى المادة (40) من قانون التأمين الأجتماعى هو الأ يتحمل المؤمن عليه بنصيب فى نفقات التأمين الأ بناء على نص خاص ، وهو ما لم يرد الأ فى المواد (17و46و72و70) من هذا القانون بيد أن المادة (95) من القرار المطعون فيه ، نقضت هذا الأصل بإلزامها المؤمن عليه أن يؤدى بنفسه نقدا حصته فى اشتراكات المشمولين بقانون التأمين الأجتماعى ، إذ يلتزم رب العمل وفقا لهذا القانون ، بأن يؤدى عن عمال منشأته اشتراكاتهم فى هذا التأمين شاملة حصته مضافا إليها الحصة التى يقتطعها من أجورهم ، ومن شان هذا التمييز ، الأخلال بنص المادة (40) من الدستور .
ثالثهما : أن نظام التامين على عمال المقاولات وفقا للقرار المطعون فيه ، لا يعدو أن يكون نظاما لجباية الأموال لاستناده إلى أسس غير واقعية تتمثل فى اتخاذه أساسا لحساب حصة رب العمل فى اشتراكات التأمين الأجتماعى لا يتحدد على ضوء اجر العمالة الفعلية ، بل بواقع نسبة مئوية من القيمة الكلية للمقاولة ، ليتمحض بذلك عن فرض ضريبة لا يجوز انشاؤها الأ بقانون .
وحيث أن المادة الثانية من قانون التأمين الأجتماعى الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 لم تشترط لسريان أحكامه على عمال المقاولات ـ كما اشترطت بالنسبة إلى غيرهم من الخاضعين لقانون العمل ـ أن تكون علاقتهم برب العمل علاقة منتظمة ، بل أستثنتهم من هذا الشرط تقديرا من المشرع بأن ما يغلب على علاقتهم بأرباب العمل فى نطاق المقاولات ، وهو عدم انتظامها ، وما اسبغ نظام التأمين الأجتماعى عليهم الأ إنقاذا لنص المادة (17) من الدستور التى تكفل للمواطنين جميعا خدمات التأمين الأجتماعى والصحى ، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة .
وحيث إن البين من قرار وزير التأمينات الأجتماعية رقم 74 لسنة 1988 بشأن التأمين على عمال المقاولات والمحاجر والملاحات ، أنه يقضى فى مادته الأولى بأن تسرى أحكامه على العمال الموضحة مهنهم فى الجدول رقم (1) المرفق ، ومن بينهم عمال المقاولات الذين يرتبط عملهم بعمليات المقاولات ، أيا كانت مدة العمل.
وبمقتضى مادته الثالثة ، يكون حساب الأجور التى يتم على أساسها حساب حصة صاحب العمل فى إشتراكات التامين الأجتماعى فى العمليات التى يتم التعاقد عليها إعتبارا من تاريخ العمل بهذا القرار ، على أساس نسبة مئوية من القيمة الكلية للمقاولة تتحدد وفقا للجدول رقم 3 المرفق ، وبمراعاة أنه فى حالة اسناد بعض عمليات المقاولة إلى مقاولين من الباطن ، تخصم قيمة الأشتراكات المستحقة عن هذه العمليات من قيمة الأشتراكات المستحقة عن المقاولة ، فإذا أسندت جميع عمليات المقاولة إلى مقاولين من الباطن تعين الأ تقل الأشتراكات المستحقة عن مجموع العمليات الداخلة فى المقاولة من قيمة الأشتراكات المستحقة على القيمة الكلية للمقاولة ، ووفقا لمادته الرابعة يعتد الترخيص الصادر من الجهة المختصة أو العقد أو أمر التشغيل أو المقايسات المعتمدة بحسب الأحوال فى تحديد الوعاء الذى تحسب على أساسه الأجور التى يتم على أساسها حساب حصة صاحب العمل فى الأشتراكات ، ويراجع هذا التحديد على ختامى الأعمال ، وتوجب مادته الحادية عشرة على المقاول إخطار مكتب الهيئة المختص الذى يقع فى دائرته محل المقاولة ، عن كل مقاولة يقوم بتنفيذها قبل البدء فى التنفيذ وكذلك بكل تغيير يطرأ على حجم المقاولة .
وعملا بمادته الخامسة عشرة ، لاتسرى أحكام هذا القرار فى شأن العمليات التى حددتها ويندرج تحتها العمليات التى ترى اللجنة المنصوص عليها فى المادة (19) ، أنها تحسب طبيعتها وحجمها يتم تنفيذها بالعمالة الدائمة لصاحب العمل .
كما ناط هذا القرار باللجنة الفنية لاعمال المقاولات والمحاجر والملاحات المنصوص عليها فى المادة (19) مباشرة الأختصاصات التى نص عليها فى مادته العشرين ومن بينها البت فى العمليات التى يثور بشأنها خلال ، وتعتبر اللجنة بالنسبة لعمليات التى يكون فيها الخلاف بين الهيئة وأصحاب الشأن ، لجنة فض المنازعات المنصوص عليها فى المادة (157) من قانون التأمين الأجتماعى .
وحيث إن شرط المصلحة الشخصية المباشرة ، يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية من جوانبها العملية ، وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة ، وهو الذلك يقيد تدخلها فى تلك الخصومة القضائية ، ويرسم تخول ولايتها فلا تمتد لغير المطاعن التى يؤثر الحكم بصتحتها أو بطلانها على النزاع الموضوعى ، ومؤداه الأ تقبل الخصومة الدستورية من غير الأشخاص الذين يمسهم الضرر من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم ، سواء أكان هذا الضرر وشيكا يتهددهم أم كان قد وقع فعلا . فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلا على من أدعى مخالفته للدستور أو كان من غير المخاطبين بأحكامه أو كان قد افاد من مزاياه ، أو كان الأخلال الحقوق التى يدعيها لا يعود إليه ، دل ذلك على إنتفاء المصلحة الشخصية المباشرة ، ذلك أن إبطال النص التشريعى فى هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعى أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانون بعد الفصل فى الدعوى الدستورية عما كان عليه عند رفعها .
ولا يتصور بالتالى أن تكون الدعوى الدستورية أداة يعبر المتداعون من خلالها عن أرائهم ، أو نافذة يعرضون من خلالها ألوانا من الصراع بعيدا عن مصالحهم الشخصية المباشرة ، أو شكلا للحوار حول حقائق علمية يطرحونها لاثباتها أو نفيها بل تباشر المحكمة الدستورية العليا ولايتها ـ التى كثيرا ما تؤثر فى حياة الأفراد وحرياتهم وأموالهم ـ بما يكفل فاعليتها . وشرط ذلك إعمالها عن بص وبصيرة ، فلا تقبل عليها اندفاعا ، ولا تعرض عنها تراخيا ، ولاتقتحم بمارستها حدودًا تقع فى دائرة عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية ، بل يجب أن تكون وقابتها ملاذا اخيرا ونهائيا وأن تدور وجودا وعدما مع تلك الأضرار التى تستقل بعناصرها ويكون ممكنا ادراكها يكون لها ذاتيتها ، ومن ثم يخرج من نطاقها ما يكون من الضرر متوهما او منتحلا او مجردا in abstracto أو يقوم على الأفتراض ولايجوز بالتالى أن يقيم المدعى دعواه الدستورية ليصون بها ـ وكأصل عام ـ حقوق الأخرين ومصالحهم بل ليكفل من خلالها نفاذ تلك الحقوق التى تعود عليه فائدة حمايتها in concreto .
والتزاما بهاذ الأطار جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن المصلحة الشخصية المباشرة شرط لقبول الدعوى الدستورية وان مناطها ان يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعةي وذلك بان يكون الحكم فى المسائل الدستورية لازما للفصل فى النزاع الموضوعى .
وحيث أن الأصل فى النصوص القانونية التى تنظمها وحدة الموضوع هو امتناع كلها عن بعضها ، باعتبار انها تكون فيما بينها وحدة عضوية تتكامل اجزاؤها وتتضافر معاينها وتتحدد توجهاتها ليكون نسيجا متألفا وكانت المادة الثالثة من القرار رقم 74 لسنة 1988 المطعون فيه التى تبين قواعد حساب الأجور التى يتم على اساسها حساب حصة صاحب العمل فى اشتراكات التامين الأجتماعى فى شأن المقاولات التى يضعها هذا القرار لاحكامه وتكملها مادته الرابعة التى تتعلق بالوعاء الذى تحسب على اساسه هذه الأجور فإن احكام هاتين المادتين ترتبطان فيما بينهما ارتباطا لا يقبل التجزئة ليدور طعن المدعية وقد تناول هذه الأحكام ذاتها متوخيا هدمها فى فلكها وتقوم بتحدبها مصلحتها الشخصية المباشرة ذلك ان تقرير صحتها او بطلانها يؤثر بضرورة فى النزاع الموضوعى القائم على عدم استحقاق الهيئة القومية للتامين الأجتماعى لحصة المقاول التى اقتضتها جبرا إعمالأ من جانبها لأحكام القرار رقم 74 لسنة 1988 المطعون فيه .
ولا كذلك نص المادة (9) من هذا القرار التى لا تتعلق بالحصة التى يؤديها المقاول فى اشتراكات التأمين الأجتماعى بل مدارها تلك التى يدفعها المؤمن عليه مباشرة الى الهيئة القومية للتأمين الأجتماعى وهو ما يعنى ان ابطالها لن يحقق للمدعية باعبتارها رب عمل اية فائدة عملية يمكن ان يتغبر بها مركزها القانونى بعد الفصل فى الدعوى الدستورية عما كان عليه عند رفعها مما يقتضى الحكم بعدم قبول الطعن بالنسبة اليها فى هذا الشق من دعواها .
ولا محل بالتالى للفصل فى التعارض المدعى به بين حكمها ونص المادة الرابعة من قانون التأمين الأجتماعى ، فضلا عن أن الرقابة القضائية التى تباشرها المحكمة الدستورية العليا فى شأن دستورية القوانين واللوائح ، مناطها قيام تعارض بين نص قانونى وحكم فى الدستور ، ولا شأن لها بالتناقض بين نصين قانونين ، سواء جمعهما قانون واحد ام تفرقا بين قانونين مختلفين ، أم كان واقعًا بين تشريعين من مرتبتين مختلفتين .
وحيث إن ما تذهب إليه المدعية من أن القرار المطعون فيه جاوز حدود السلطة المخولة لوزير التأمينات فى إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ قانون التأمين الأجتماعى، مردود بأن الأصل فى هذه اللوائح التى تصدر وفقًا لنص المادة (144) من الدستور، أنها تفصل ما ورد إجمالأ فى نصوص القانون بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها ، وإذ تقضى الفقرة الأخيرة من المادة (125) من قانون التأمين الأجتماعى الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 بأنه (ومع عدم الأخلال ) بالحد الأدنى لأجر الأشتراك الأساسى ، يكون لوزير التأمينات الأجتماعية بقرار يصدره بناء على إقتراح مجلس الأدارة ، أن يحدد أجر الأشتراك بالنسبة لبعض فئات المؤمن عليهم وطريقة حساب هذا الأجر وطريقة حساب الأشتراكات ، وتاريخ بدء انتفاعهم بنظام المكافأة ) وكان القرار المطعون فيه قد صدر عن الوزير المختص فى شأن فئة من المؤمن عليهم ، هم عمال المقاولات ، مفصلاً ـ بالأحكام التى تضمنها ـ ما ورد إجمالأ بنص المادة (125) من قانون التأمين الأجتماعى ، فإن هذا القرار يتمحض تنظيمًا لائحيًا صدر فى الحدود التى رسمتها المادة (144) من الدستور فى شأن اللوائح اللازمة لتنفيذ القانون .
وحيث إن المدعية ، تنعى على القرار المطعون فيه ـ محددًا نطاقًا على ضوء أحكام مادتيه الثالثة والرابعة المرتبطتين ببعضهما على ما تقدم ـ إهداره للمادتين (17و119) من الدستور ، تأسيسًا عن أن الأشتراكات التى تقتضيها الهيئة القومية للتأمين الأجتماعى عن المقاولين ، لا تقدر وفق الأجور الفعلية لعمالهم ، بل على أساس نسبة مئوية من القيمة الأجمالية لمجموع العمليات الداخلة فى المقاولة ، بعد استبعاد بعض العناصر منها ، ليس ذلك من المشرع الأ تقديرًا جزافيا لا يقوم على أسس واقعية ، ينحل إلى ضريبة ثم عرضها بغير قانون يبين أحكامها ، لتظهر خصائص الجباية فى النصين المطعون عليهما اللذان توخيا مجرد أنما الموارد المالية للدولة ، دون خدمات تأمينية تؤديها لعمال المقاولات المؤمن عليهم ، حال أن التأمين الأجتماعى ، لا يعدو أن يكون خدمة تلتزم الدولة بكفالتها .
وحيث إن هذا النعى مردود أولا : بأن عمال المقاولات يمثلون فى الأعم من الأحوال لعمالة غير منتظمة ، ويخضعون غالبا لشروط رب العمل مهما بلغ من تحيفها وعنتها وهم يقبلونها عادة صاغرين ضمانًا لقوتهم ، فلا يهيمون على وجوههم مشردين ، لينتفى التوازن بينهم وبين أرباب عملهم ، فلا تحكم علاقاتهم بهم مساواة اقتصادية يساومون على شروط العمل من خلالها .
ويزداد الأمر دقة مع وجود فائض للعمالة يكون فيه عرضها مجاوزًا طلبها ، وكذلك فى غيبة تنظيم نقابى يناضل ـ عن طريق الضغوط التى يفرضها ـ من أجل صون حقوق العمال المنضمين إليه ، هذا فضلا عن أن المقاولين يمارون فى شان حقيقة الأجور التى يتقاضاها عمالهم باعتبار أن مصلحتهم ينافيها أن يقدموا للهيئة التى تقوم على شئون التأمين الأجتماعى ، بيانًا دقيقًا بتكلفة العمل ، ذلك أن أعباءهم التأمينية تتحدد على ضوء حصتهم التى يدفعونها إليها ، وخفضها إلى أدنى حد ممكن ، بل والتحايل على التخصل منها ، يحملهم على الأخلال بوعائها سواء من خلال التقرير بأجور أقل من تلك التى يدفعونها فعلا للعمال الذين تعاقدوا معهم على تنفيذ المقاولة ، أو بإخفاء حقائق بدئها وانتهائها ، أو عن طريق الأبهام بان المقاولة لا تقتضى الأ عددًا من العمال أقل من هؤلاء الذين قاموا عملا بتنفيذها ، ليكون إلباس الحقيقة غير ثوبها محورًا لبياناتهم ، مما يناقض مصالح العمال ، ويحول دون أنتفاعهم بالخدمات التأمينية التى كان يجب تقديمها إليهم سواء فى أصلها أو نطاقها .
ولم يكن أمام المشرع إزاء التجهيل بأجور عمال المقاولة ، والتحايل لإخفائها أو تقرير غير حقيقتها مع إنتفاء الوسائل العملية التى يمكن بها رصدها بلا زيادة أو نقصان ـ الأ أن يتدخل بالأحكام المطعون عليها ليحدد على ضوئها وبصورة واقعية ـ ومن خلال الأسس التى تبناها ـ الحصة التى يلتزم المقاول ـ بصفته ربًا للعمل ـ بتقديمها إلى الهيئة التى ترعى شئون العمال فى مجال التأمين الأجتماعى، وهو ما يقع فى نطاق السلطة التقديرية للمشرع التى تقوم ـ فى جوهرها ـ على المفاضلة بين البدائل المختلفة التى تتزاحم فيما بينها على تنظيم موضوع معين لأختيار ما يكون ـ فى تقديره ـ أنسبها لمصلحة الجماعة وأقربها للوفاء بمتطلباتها بافتراض مشروعيتها جميعًا واتصالها بالحقوق محل التنظيم .
يؤيد ذلك أن القيمة الكلية لأجور عمال المقاولة ـ التى تتحدد على ضوئها حصة من يستخدمونهم من المقاولين فى التأمين الأجتماعى ـ يتعذر ضبطها بما لا يحور من حقيقتها ، وإذ كان المقاولون ـ فى أغلبهم ـ لا يعنيهم إيفاء حصتهم هذه ، بل يحرصون على إجهاض وعائها ببياناتهم الصورية أو التى يخالطها التدليس ، فقد كان منطقيا أن يرد المشرع سعيهم عليهم من خلال اعتناق معيار مرن يكون مؤشرًا صادقًا على مقدار الأجور التى يتقاضاها هؤلاء العملا ، فإعتد بالقيمة الكلية للمقاولة ، مستقطعًا جزءًا منها يكون معبرًا عن الحد الأدنى لأجور العمال الذين قاموا بتنفيذها ، وأعتبرها وعاء محددًا للمقاولين حصتهم فى التأمين الأجتماعى .
ومردود ثانيا : بان واقعية التقدير التشريعى للقيمة الأجمالية لأجور العمالة ، يثبتها انتفاء الدليل على المغالأة فيها ، ويؤكدها أن القيمة الكلية للمقاولة لا تتحدد اعتساقًا ، بل وفق أسس موضوعية تتمثل فى الوثائق الكاشفة عنها ، وهى الترخيص الصادر عن الجهة المختصة أو العقد أو أمر التشغيل أو المقايسات المعتمدة ، على أن تتم مراجعتها على ضوء ختامى الأعمال كى لا يدخل فيها الأ ما تم تنفيذه فعلا منها .
كذلك فإن موضوعية هذا التقدير يشهد عليها ما ينص عليه البند (1) من المادة الثالثة من القرار المطعون فيه التى تقضى بأنه فى حالة إسناد بعض عمليات المقاولة إلى مقاولين من الباطن ، تخصم الأشتراكات المستحقة عن هذه العمليات من قيمة الأشتراكات المستحقة عن المقاولة وليس لهذا القرار من شان ـ وعلى ما تنص عليه المادة (15) بالعمليات التى يقوم الدليل من طبيعتها وحجمها على أن تنفيذها تم بالعمالة الدائمة للمقاول .
ومردود ثالثا : بأن الفصل فى النزاع حول القيمة الكلية للمقاولة إذا ثار الخلاف حول حقيقتها فيما بين أرباب الأعمال والهيئة القومية للتأمين الأجتماعى ، وموكول إلى اللجنة الفنية لأعمال المقاولات المنصوص عليها فى المادة (19) من القرار المطعون فيه ، ومن المفترض أن تمحص هذه اللجنة ـ التى عاملها المشرع بوصفها لجنة فض المنازعات المنصوص عليها فى المادة 157 من قانون التأمين الأجتماعى ـ الأسس التى قام عليها ذلك التقدير ، فلا تعتد بالقيمة الكلية للمقاولة على إطلاقها ، بل يتعين أن تستبعد منها العمليات التى لا دخل للقوة العاملة فى أحداثها أو تكوينها ، كقيمة المعدات والتوريدات المصنعة بالكامل وسابقة التجهيز التى تمثل جزءًا من أصول وعناصر المشروع محل المقاولة ، وكذلك تكلفة الخبرة الأجنبية ، ليكون قرارها فى شأن ذلك كله ، كاشفًا عن النسبة المئوية التى يتعين حقا اقتطاعها خصمًا من القيمة الكلية للمقاولة ، وهو بعد قرار يجوز الطعن فيه أمام القضاء ، سواء من زاوية العناصر الواقعية التى استخلصها أو الضوابط القانونية التى طبقها .
وحيث إن تقدير حصص المقاولين فى أعباء التامين الأجتماعى وفقا لنص المادتين الثالثة والرابعة من القرار المطعون فيه ـ وهما مدار الطعن ومرماه ـ مبناه قاعدة موضوعية أقامها المشرع على ما يقع غالبا فى الحياة العملية ، لينقلب بها ما هو راجح عملا إلى حقائق ثابته لا يجوز أطراحها فى حالة بذاتها ، ذلك أن المشرع وإن اعتد فى صوغ القاعدة الموضوعية بما يكون واقعا فى أكثر الأحوال وأعمها ، الأ أن هذه القاعدة تستغرق علتها ، فلا يجوز معارضتها بها بعد اندماجها فيها واختفائها ، بما مؤداه أن المشرع يتقدم بتلك القاعدة مجردة عن سببها ، وليس لها بالتالى أن تعود إلى الظهور من خلال التدليل على تخلفها فى حالة بذاتها ، وبذلك تفارق القواعد الموضوعية القرائن القانونية التى ينشئها المشرع بمناسبة وقائع بذاتها إعفاء من إثباتها ،

ذلك أن القرائن القانونية ـ قاطعة كانت أم غير قاطعة ـ وإن كان مبناها ما يقع فى أكثر الأحوال وأغلبها مثلما هو الشأن فى القواعد الموضوعية ـ الأ أن القرائن جميعها ـ حتى ما كان منها قاطعاـ يجوز دحضها بالأقرار واليمين باعتبار أن علتها تلازمها ولاتفارقها ، بل تقوم إلى جوارها ، إذ كان ذلك وكانت المعايير التى إعتنقتها المادتان الثالثة والرابعة من القرار المطعون فيه لتحديد حصص المقاولين فى أعباء التامين الأجتماعى ، لا شأن لها بالقرائن القانونية ، بل مردها إلى قاعدة موضوعية مستعصية على الجدل ولا يناقض مضمونها حكما فى الدستور ، فأن هذه المعايير تظل مع مرونتها ، ومؤكدة لقاعدة ثابته لا يجوز هدمها ، ولو قام الدليل على تخلفها فى حالة بذاتها
وحيث أن الدستور وأن حرص على دعم التأمين الأجتماعى حين ناط بالدولة مد خدماتها فى هذا المجال إلى المواطنين فى الحدود التى بينتها القانون ، وذلك من خلال تقرير ما يعينهم على مواجهة بطالتهم أو عجزهم عن العمل أو شيخوختهم ، فذلك لأن مظلة التأمين الأجتماعى ـ التى يحدد المشرع نطاقها ـ هى التى تكفل بمداها واقعا أفضل يؤمن المواطن فى غده ، وينهض بموجبات التضامن الأجتماعية الذى يقوم عليها المجتمع وفقًا لنص المادة 7 من الدستور ، بما مؤداه أن المزايا التأمينية ضرورة إجتماعية بقدر ما هى ضرورة إقتصادية ، وأن غايتها أن تؤمن المشمولين بها فى مستقبل إيامهم عند تقاعدهم أو عجزهم أو مرضهم ، وأن تكفل الحقوق المتفرعة عنها لأسرهم بعد وفاتهم .
وحيث إن ما ذهبت إليه المدعية من أن الحصص التى يؤديها المقاولون إلى الهيئة القومية للتأمين الأجتماعى ـ تتمحض عن مزية لها ، تنفرد بها وتعود إليها وحدها غلتها ، مردود بأن العمال المخاطبين بأحكام القرار المطعون فيه ، مطالبون وجوبا بالأنضمام إلى هذا النوع من التأمين ، ويعتبرون بذلك مؤمنا عليهم يستحقون المزايا التأمينية التى كفلها هذا القرار عند سدادهم حصتهم فى اشتراكات التأمين الأجتماعى (المواد 5و6و7و8 من القرار المطعون فيه ) وليس إسهام المقاول مع المؤمن عليه فى أعباء هذا التأمين ، الأ ضمانًا للحقوق التأمينية التى يستأديها العمال من خلال توفير مصار تمويلها وعلى تقدير أن الحصص التى يقدمها المقاولون إلى الهيئة القومية للتأمين الأجتماعى ، تعتبر بديلا عن التزاماتهم القانونية قبل عمالهم كلما قام سببها بتحقق الخطر المؤمن منه ، سواء كان ذلك أثناء خدمتهم او انتهائها .
وحيث إن القرار المطعون فيه قد توخى حمل المقاولين على الأسهام فى المزايا التأمينية التى ينبغى كفالتها لعمالهم ، فلا يستغلهم هؤلاء انحرافًا بحجبها عنهم بهتانًا أو الأنتقاص منها عدوانًا وكانت الحصص التى تقتضيها الدولة من المقاولين هى واسطتها أصلا لايفاء الحقوق التأمينية المقررة قانونًا لعمالهم ، سواء أكان ذلك أثناء خدمتهم كالتعويض عن إصابتهم ورعايتهم طبيًا ، أم كان بعد أنتهائها كتعويض الدفعة الواحدة ، فإن ايفاء هذه الحصص ينفصل قانونًا عن مفهوم الضربية التى لا يجوز فرضها الأ بقانون أو فى الحدود التى بينها بوصفها فريضة مالية تقتضيها الدولة جبرًا من الملتزمين بأدائها دون أن يقابلها نفع خاص يعود عليهم من وراء دفعها ،

يؤيد ذلك أن المقاولين لا يؤدون حصصهم تفصيلا ، بل تعود عليهم ثمارها بطريق غير مباشر ، باعتبار أن غايتها النهائية ، هى أن تمتد مظلة التأمين الأجتماعى إلى هؤلاء العمال الذين قدموا أليهم من جهدهم وخبراتهم ما أعانهم على تنفيذ المقاولة ومن ثم تمثل حصص المقاولين جانبا من وعاء توجهه الدولة ـ التى تقوم فى التامين الأجتماعى بدور المؤمن ـ إلى المشمولين بأحكامه ، لضمان انتفاعهم بالحقوق التأمينية فى الحدود التى يبينها القانون ، لتغاير بذلك الضريبة سواء فى أساسها أو بالنظر إلى دوافعها ، بل إنها ـ فى مفهومها وغايتها ـ أدخل إلى النظم التى تقيم التعاون بين المؤمن عليهم على أسس دقيقة تتوخى مواجهة المخاطر التى يتعرضون لها ، وتوفى أضرارها من خلال توزيعها او تشبتها هى فى نطاق الطعن الماثل مخاطر لا يجوز إعفاء المقاولين من بعض تبعاتها ، بل يكون عملهم بها قبل عمالهم لازما قانونا ، باعتبار أن تغطيتها أكفل لأمنهم وأدعى لاستقرارهم
وحيث إنه متى كان ذلك وكان النصان المطعون عليهما لا يتعارضان مع حكم الدستور من أوجه أخرى .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة ، وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائة جنية مقابل أتعاب المحاماه .
امتن السر رئيس المحكمة