رقابة محكمة التمييز في مجال فرض الجزاء الجنائي

المؤلف : صلاح هادي صالح الفتلاوي
الكتاب أو المصدر : الخطورة الاجرامية واثرها في تحديد الجزاء الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يكمن هذا المجال في البحث عن السلطة التي تمتلكها محكمة التمييز بالرقابة على سلطة القاضي في تقدير الجزاء الجنائي ، وقد يجد اتجاه فقهي أن هذا الأمر يتوقف على خطة المشرع في الأهتمام بهذا المعيار(1) فاذا ما تبين من نصوص القانون الصريحه ، أن المشرع يجعل هذه الخطورة مناطاً للجزاء الجنائي ، أو أمكن إستخلاص هذا المناط من روح القانون في ضوء الأحكام التي أخذ بها تعين القول بأن المشرع قد خصص الغاية التي يجب على محكمة الموضوع أن تتوخاها عند استعمال سلطتها التقديرية في حدود الصالح العام ، وفي الوقت ذاته يجب أن يلاحظ أنه بعض التشريعات قد تهتم بجسامة الجريمة عند تقدير العقوبة إما بوصفها قرينه على الخطورة أو لتحقيق معاني الردع العام .

وقد إستلزمت بعض القوانين تسبيب تحديد الجزاء الجنائي كضمان لجدية هذا التحديد وعدم انحرافه عن الغاية التي رسمها القانون ، مثال ذلك قانون العقوبات الايطالي لسنة (1930) في م (132-1) وقانون الدفاع الاجتماعي البلجيكي لسنة 1930 في المادة (26) وقانون العقوبات اليوناني لسنة (1950) في المادة (79-4) وتطبيقاً لما سبق(2) فقد قضت محكمة النقض الايطاليه بأن فائدة النص على التسبيب هو التحقق من الحكم وفقاً للمعايير التي رسمها القانون ، وانها لا تزاول سلطتها التقديرية في الرقابة على محكمة الموضوع ما لم تباشرها على نحو تحكمي .

كذلك قضت محكمة النقض البلجيكية بأن عدم تسبيب إختيار التدبير الاحترازي يعتبر سبباً لنقض الحكم كله بما تضمنه من تدبير وعقوبة ، لأن كلاً من الاثنين يكون وحدة لا تتجزأ . كما سارت محكمة النقض الالمانية على الاتجاه في تخويل محكمة النقض الرقابة على السلطة التقديرية لقاضي الموضوع في اختيار الجزاء الجنائي .

وخلافاً لذلك ذهبت محكمة النقض اليونانية الى أن القواعد التشريعية المقرره لارشاد القاضي في اختيار العقوبة تقتصر على مجرد توجيه ارشادات بسيطة اليه وبالتالي لا تخضع سلطته في تقديرها للرقابة بينما ذهبت محكمة النقض في مصر في قرارات لها على أن تقدير العقوبة هو من إختصاصات محكمة الموضوع من دون أن تكون ملزمة ببيان الأسباب التي من أجلها اوقعت العقوبة بالقدر الذي ارتأته(3) ، ومن الأحكام التي جاءت بها محكمة النقض المصريه بأنه إذا كانت محكمة الموضوع قد ظنت خطأ أنها عاملت المتهمين بالرأفة حسب المادة (17) من قانون العقوبات ، فأن هذا الخطأ لا يكسب الطاعنين حقاً في تخفيض العقوبة اعمالاً لهذه المادة ، وفي حدود التطبيق الصحيح للقانون ، متى كانت أسباب الحكم ليس فيها ما يدل على أن المحكمة كانت لا تزال في حرج من النزول بالعقوبة عن القدر الذي قضت به على كل من المتهمين ، وتكون العقوبة المقضي بها هي التي رأتها مناسبة للواقعه وهي حرة من أي تمهيد(4) .

والواقع من الأمر أن تقدير الجزاء الجنائي عقوبة كان أو تدبيراً إحترازياً ليس مجرد مسألة موضوعية يجب تركها لمطلق تقدير قاضي الموضوع ، طالما أن القانون قد اراد تحديده تحقيقاً لغاية معينة لضبط هذه السلطة التقديرية ومن ثم يكون من العبث بعد ذلك إلا تتوافر الرقابة الجدية على توخي تحقيق هذه الغاية وتطبيقاً لذلك فقد نصت المادة (259) الفقرة (أ/3-4) من قانون اصول المحاكمات الجزائية العراقي على أنه (أ- لمحكمة التمييز بعد تدقيق اوراق الدعوى أن تصدر قرارها فيها على أحد الوجوه الآتيه : (3) تصديق الحكم بالادانة مع تخفيف العقوبة (4) تصديق الحكم بالادانة مع اعادة الاوراق لاعادة النظر مرة واحدة في العقوبة بغية تشديدها) . وتطبيقاً لذلك قضت محكمة التمييز أنه ((للهيئة العامة بمحكمة التمييز أن تشدد عقوبة المحكوم عليه رأسـاً من دون أن تعيد الدعـوى الى محكمتها للقيام بذلك))(5) .

وتزاول محكمة النقض رقابتها على ضوء ما تستبينه من مدونات الحكم المطعون فيه ، فاذا اشكل عليها الأمر فلا تملك أن تبحث المسالة بنفسها من الناحية الموضوعية ، لأن في ذلك خروجاً على سلطتها التقديرية ، ولهذا فأنه يتعين على المشرع أن يلزم القاضي بتسبيب حكمه فيما يتعلق بأختيار الجزاء الجنائي ، فأن اغفل هذا التسبيب كان حكمه قاصراً(6) . ولا شك أن رقابة محكمة التمييز على حسن إختيار الجزاء الجنائي يضمن نوعين من الاستقراء في تحديد ضوابط الحكم بهذا الجزاء ويقضي على الفوضى التقديرية في اختيار العقوبات والتدابير الاحترازية(7) .

وقد اعترض البعض في مصر على تخويل محكمة النقض سلطة الرقابة على اختيار الجزاء الجنائي بدعوى أن هذه المهمة تدخل ضمن الاختصاص المطلق لقاضي الموضوع دون غيره وانه ليس لمحكمة النقض سلطة بحث المسائل الموضوعية .

إلا أن هذا الرأي يغفل أن الرقابة المقصودة هي ليست تدخلاً في سلطة محكمة الموضوع بل هي اعمال لنصوص القانون أو روحه ، وتطبيق لنظرية البطلان ذاته ، ويبدو هذا التطبيق واضحاً ، إذا اعتبرنا الغاية التي استهدفها المشرع من الجزاء الجنائي شرط موضوعي لصحة الحكم الجنائي تطبيقاً لمبدأ أن الغاية المشروعة شرط موضوعي لصحة الاعمال الاجرائية العامة التي تدخل في حدود السلطة التقديرية(8) .
________________
1- د- أحمد فتحي سرور، نظرية الخطورة الإجرامية، مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثاني، السنة الرابعة والثلاثون، مطبعة جامعة القاهرة، يونيه 1964، ص 566
2- د- احمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص 566 .
3- مجموعة القواعد القانونية في 25 عاماً ، الجزء الثالث ، ص 489 – نقض اكتوبر 1961 مجموعة احكام النقض ، السنة الثانية عشر ، رقم 168 ، ص 849 .
4- المرجع السابق ، نقض 25 مايو 1945 ، ص 1136 .
5- النشرة القضائية ، قرار رقم 82 في 16/2/1976 ، العدد الثاني ، السنة السابعه 1977 ، ص 345 .
6- نص قانون اصول المحاكمات الجزائية العراقي في المادة (224 ف أ) على أنه ( يشتمل الحكم أو القرار على … الأسباب التي استندت اليها المحكمة في اصدار حكمها أو قرارها واسباب تخفيف العقوبة أو تشديدها … ) .
7- د- احمد فتحي سرور ، نظرية البطلان في قانون الاجراءات الجنائية ، القاهرة 1959 ، ص 325 .
8- د- احمد فتحي سرور ، نظرية البطلان في قانون الاجراءات الجنائية ، المرجع السابق ، ص 326 .