القانون الدولي التقليدي

المؤلف : ماهر ملندي ، ماجد الحموي
الكتاب أو المصدر : القانون الدولي العام
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

تعتبر معاهدة ” وستفاليا لعام ١٦٤٨ م) التي أنهت حرب الثلاثين سنة التي قامت بين مؤيدي ومعارضي الكنيسة( نقطة الانطلاق البارزة في تاريخ القانون الدولي التقليدي. إذ أكدت بصفة نهائية الهزيمة المزدوجة للبابا وللإمبراطور، وأسبغت رداء الشرعية الدولية الرسمية على مولد الدول الأوروبية الحديثة .

كما أنها رسمت نظامًا سياسيًا للقارة الأوروبية، يقوم على أساس التعايش بين دول أوروبا جميعًا ، وتأخذ بفكرة التوازن من خلال توزيع القوة (1). وقد اتسم القانون الدولي التقليدي بسمات محددة، عكست طبيعة العلاقات التي كانت تقوم بين أفراده، وهم أعضاء المجتمع الدولي في ذلك الوقت. ويمكن تحديد أبرز السمات المميزة للقانون الدولي التقليدي بما يلي:
١ – التركيز على مبدأ سيادة الدول وتقديسه.
٢ – التمسك بمبدأ المساواة بين الدول.
٣ – الاحتفاظ بحق الدولة المطلق في شن الحروب وارتكاب أعمال العدوان، باعتبار أن هذا الحق هو
مظهر من مظاهر سيادتها المطلقة.
٤- قّلة عدد الدول الأعضاء في المجتمع الدولي وتقسيمه على أساس ديني بحت.

وأما بالنسبة للتركيز على سيادة الدولة، فإن الفقهاء يشيرون إلى أن إدخال نظرية السيادة في المجال القانوني، يعد البداية الحقيقية لنشوء القانون الدولي التقليدي. وقد إرتبطت نظرية السيادة باسم الفقيه الفرنسي ” جان بودان” Jean Bodin حينما عرضها في مؤلفه ” الكتب الستة للجمهورية “، سنة ١٥٧٧ م، معرفًا السيادة على أنها: ” السلطة العليا على المواطنين والرعايا، والتي لا تخضع للقوانين “، وقد أكد على العلاقة القوية بين مفهوم السيادة ومفهوم الدولة، وأنها عنصر جوهري، إذ لا دولة بدون سيادة.

ذلك أن وجود السلطة العليا في الدولة هو العنصر الرئيسي لوجودها(2). ولم يتغير هذا المفهوم كثيراً بعد الثورة الفرنسية وبداية ظهور الجمهوريات، ولذلك يعد التمسك بالسيادة المطلقة للدولة، من أبرز سمات القانون الدولي التقليدي. كما ان ” غروسشيوس ” وهو من أبرز فقهاء هذه المرحلة اعتبر أن القانون الدولي هو: ” القانون الذي يطبق على المجتمع المكون من الدول ذات السيادة، ويحكم ما ينشأ بينها من علاقات(3) ” ويبدو واضحاً من هذا التعريف أن ” غروشيوس ” كان يعتبر أن تمتع الدولة بالسيادة، شرط لا بد منه لتمتعها بعضوية المجتمع الدولي، والخضوع لقواعد القانون الدولي. اتسمت هذه المرحلة أيضاً بالتشدد في التأكيد على مبدأ المساواة بين الدول، ذلك أن الإقرار بمبدأ السيادة المطلقة للدولة، يترتب عليه بالضرورة أن الدول المستقلة ذات السيادة بما تملك من إختصاص جامع على إقليمها، واختصاص مانع في علاقاتها الدولية تكون على قدم المساواة والتكافؤ مع الدول الأخرى .

بيد أن دراسة متأنية لتاريخ العلاقات الدولية في تلك المرحلة، يكشف لنا بوضوح أن مبدأ المساواة بين الدول كان شكلياً، ولم يحترم كثيراً على صعيد الواقع العملي. إن السمة الأبرز التي ميزت قواعد القانون الدولي التقليدي هو الاحتفاظ بحق الدولة المطلق وسيادتها الكاملة في شن الحروب وإرتكاب أعمال العدوان، دون تقييدها بأية ضوابط قانونية فعلية وعملية. وهذا نتيجة طبيعية وتسلسلا منطقيًا لتقديس مبدأ سيادة الدولة المطلقة في تلك المرحلة.

وعلى الرغم من أن رواد الفقه حاولوا في هذه الفترة أن يحدوا من سلطة الدولة المطلقة في شن الحروب، وذلك بالحديث عن الحرب العادلة، ووضع بعض القيود والضوابط الأخلاقية، إلا أن هذا لم يكن له أي أثر على الصعيد العملي. وهذا ما نجده في مؤلفات رواد الفكر القانوني في هذه المرحلة، أمثال الفقيه الأسباني”de-VITORIA (1480-1546)، الذي أباح فقط الحرب العادلة، التي تبغي الخير العام، وتقوم على حماية المصالح العامة للبشرية، ورد العدوان .

وأيضاً الفقيه سواريس ” SUARES ” (1548-1617) مأشار إلى أن الحرب العادلة هي التي تهدف إلى الدفاع عن الحق وإقامة العدل ومحاسبة الظلم )4) لكن الواقع الدولي الذي كان سائداً آنذاك، والممارسات الدولية التي كانت تتم في ظله، كانت بعيدة كل البعد عن هذه الضوابط الأخلاقية. فلم يكن لعدالة الباعث أو مشروعيته أي تأثير على قيام الحروب أو تبريرها، كما لم تخضع تلك الحروب لأية قيود أو ضوابط إنسانية، بل كان الواقع على النقيض من ذلك، حيث خضعت لشريعة الغاب.

وفي هذه المرحلة كانت الحرب تخدم غايتين أساسيتين:
الأولى هي الاعتماد على النفس في اكتساب الحقوق أو استردادها، نظراً لانعدام المحاكم الدولية، أو الهيئات القضائية الدولية المختصة القادرة على تسوية المنازعات الدولية.
الثانية هي تنفيذ قواعد القانون الدولي التقليدي، وتكييفها مع الظروف المتغيرة، وذلك لعدم وجود الهيئات الدولية القادرة على القيام بدور المشرع الدولي.

كما تركزت الجهود الدولية في نهاية هذه الفترة، على أنسنة الحروب بدلا من تحريمها، أي إخضاعها لبعض القيود والضوابط، التي تستهدف توفير المزيد من الحماية للمدنيين، من أشخاص وأعيان. فعقدت في هذا الإطار العديد من المعاهدات والاتفاقيات، كاتفاقية جنيف لعام ١٨٦٤ م، والتي عنيت بتحسين ظروف الحرب، حيث تضمنت بعض المبادئ، كوجوب الاعتراف بحياد سيارات الإسعاف والمستشفيات العسكرية، وتقديم المساعدة والعناية بكل الجرحى والمرضى، بغض النظر عن جنسياتهم. وكذلك اتفاقيتي لاهاي لعامي ١٨٩٩ م و ١٩٠٧ م. وتمثل هذه الاتفاقات مرحلة هامة في السعي لأنسنة الحرب، التي بقيت وفقاً لقواعد القانون الدولي التقليدي، عملاً من أعمال الدول يرتبط بسيادتها وبتقديرها. وفي ظل هذه المفاهيم التي سادت لفترة طويلة في فكر القانون الدولي التقليدي، كان من الطبيعي أن يقود ذلك في نهاية المطاف إلى حرب عالمية روعت العالم، وأجبرته على التفكير مليًا في مدى صواب ما كان يعتقده من أفكار، ويعتنقه من مبادئ.
________________
1- صلاح الدين عامر ، قانون التنظيم الدولي ، النظرية العامة ، الطبعة الأولى، ١٩81، ص ٢٦ .
2- لمزيد من التفاصيل حول تحديد المفهوم القانوني لمبدأ السيادة في العلاقات الدولية، انظر بصفة خاصة : غي أنيل، قانون )العلاقات الدولية، ترجمة نور الدين اللباد، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٩٩٩ م، ص ٣٦ ، وما بعدها . وبرتران بادي، عالم بلا سيادة، الدول بين المراوغة والمسؤولية، ترجمة لطيف فرج، مكتبة الروق، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠٠١ م، ص ٢١٧ وما بعهدها. والدكتور حازم عتلم، أصول القانون ٣٥٣ – الدولي العام، القسم الأول، أشخاص القانون الدولي، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠٠١ م، ص ٣٤٠
3- الدكتور صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص ٣٣ .
Clarence Morris، the Great legal philosophers، Philadelphia،1974 – 4