في مصر كانت البدايات مع بنك التسليف الزراعي (1931) والبنك الصناعي (1947) وشركة الحديد والصلب (1954) وشركة السكر والتقطير المصرية (1946)(1). غير ان هذا النظام لم يزدهر في ظل النظام الاشتراكي ، الا انه عاد مرة أخرى للظهور بعد إتباع سياسة تحرير الاقتصاد حيث تمثلت في شركات الاقتصاد المختلط في قطاعات مختلفة من النشاط الاقتصادي شملت الزراعة والتشييد والصناعة والسياحة والأغذية ، وبلغ عدد هذه الشركات التي يساهم فيها القطاع الخاص والتي انشئت طبقا للقانون 97 لسنة 1983 الخاص بهيئات القطاع العام وشركاته والقانون الحالي رقم 203 لسنة 1991 الخاص بقطاع الأعمال ، أربعا وثلاثين شركة وتتراوح نسبة مساهمة رأس مال الخاص في هذه الشركات بين 50% مثل شركة النصر للأجهزة الكهربائية “فيلبس” أو مثل شركة ادفينا للأغذية المحفوظة ، وشركة بور سعيد لتداول الحاويات والبضائع ، وشركة النصر لصناعة الفخار والحراريات ، و2% مثل شركة مصر لصناعة الكيماويات و 0.03% مثل شركة مصر للألبان والأغذية .

وتزيد هذه النسبة في شركات أخرى مثل شركة الحديد والصلب المصرية حيث بلغت 1،1% والشركة القومية لانتاج الإسمنت ، حيث بلغت 1،3% بينما تصل النسبة إلى 91،1% في الشركة المتحدة للإسكان والتعمير . وفي العراق : تأسست أول شركة مختلطة وهي شركة السمنت الشمالية بموجب القانون رقم 51 والصادر في 14/9/1935 ، ثم تأسست شركة استخراج الزيوت النباتية وكانت نسبة مساهمة المصرف الصناعي في هذه الشركة 2%(2). وفي سنة 1940 صدر قرار بفصل المصرف الزراعي عن المصرف الصناعي الا ان القرار لم ينفذ الا في عام 1946 بسب ظروف الحرب(3) . وقد ساهم المصرف الصناعي حتى عام 1961 في عشرين شركة مختلطة ، وتراوحت نسبة مساهمته في هذه الشركات ما بين (5% ـ 30%) من رأس المال الاسمي للشركات المختلطة سنة التأسيس ، وإجمالاً يبلغ عدد الشركات المختلطة منذ تأسيس المصرف المذكور حتى عام 1991 أربعة وأربعون شركة مختلطة(4) .

ولقد كان لقرارات التأميم في عام 1964 الأثر البالغ في انكماش القطاع الصناعي المختلط حيث أممت كل الشركات باستثناء أربع شركات مختلطة ظلت تحت مسؤولية المصرف الصناعي تمهيداً لتصفيتها(5) . وتأسست شركات مختلطة جديدة وبنسبة مساهمة من قبل المصرف الصناعي أكبر من مساهمته في فترة ما قبل التأمين حيث تراوحت هذه النسبة منذ عام 1965 الى عام1997س1 بين (10% ـ 72%) ، وقد اندمجت الكثير من الشركات المختلطة بعضها مع البعض(6). خلاصة تجربة طريقة الاقتصاد المختلط في العراق انها مورست على نطاق ضيق وفي مجالات محدودة ابتداء من القانون رقم 36 لسنة 1983 إلى حين صدور قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 المعدل وقانون الشركات العامة رقم 22 في نفس السنة والامر المرقم 64 لسنة 2004 بشأن تعديل قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997. ولعل تحويل بعض الهيئات العامة إلى شركات اقتصاد مختلط هو الأحدث ضمن التطورات الحادثة لنظام الاقتصاد والمختلط . وكان مرفق الاتصالات هو المجال المختار لهذه التحولات . ففي فرنسا صدر قانون 26 يوليو 1996 بشأن تحويل ( France Telecom ) وهي شخص عام إلى شركة مساهمة تملك الدولة فيها مباشرة أغلبية رأس المال ، وينص القانون على ان يخضع مشروع France Telecom فيما يتعلق بالاستغلال العام له للنصوص الواردة فيه ، وكذلك النصوص المطبقة على الشركات المساهمة ، وأخيرا تضمن القانون انه اعتبار من 31 ديسمبر 1996 تخرج الأموال العامة لمشروع France Telecom من الدومين العام .

وفي مصر صدر القانون رقم 19 لسنة 1988 ونصت مادته الأولى على ان ” تحول الهيئة القومية للاتصالات السلكية واللاسلكية إلى شركة مساهمة مصرية تسمى الشركة المصرية للاتصالات ” ونصت المادة الثانية على ان تكون لهذه الشركة الشخصية الاعتبارية ، وتعتبر من أشخاص القانون الخاص ، ويسري عليها فيما لم يرد بشأنه نص خاص في هذا القانون أحكام كل من قانون شركات المساهمة وشركة التوجية بالأسهم والشركات ذات المسؤولية المحدودة الصادر بالقانون رقم 159 لسنة 1981. ونصت المادة 8 من القانون على انه يجوز بقرار من مجلس الوزراء ان يطرح للبيع أسهم بقيمة جزء من رأس مال الشركة للاكتتاب العام على ان تظل الأغلبية من رأس المال للدولة ويكون للعاملين في الشركة نسبة من الأسهم المطروحة للبيع يحددها مجلس الوزراء . أما في العراق فقد أجازت المادة 35 من قانون الشركات العامة رقم 22 لسنة 1977 تحويل الشركات العامة الى شركات مساهمة ، ولا شك في وجود بعض الشركات العامة من يضطلع بمرفق عام اقتصادي مثل الشركة العامة للبريد والاتصالات فضلاً عن الشركة العامة لادارة النقل الخاص ، والشركات العامة للمناطق الجنوبية المنبثقة عن الهيئة العامة للكهرباء ، ولا شك ان في هذا التحول اثراء لنظام الاقتصاد المختلط وتدعيما لشركاته . ولهذا النظام أنصار يحبذونه وخصوم يناهضونه ، ومزاياه كما يراها أنصاره(7). انه من خير مظاهر تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية . والدولة عندما تقوم بذلك تسن القوانين وتضع اللوائح ، وهذا لا يكفي بل يجب ان تتدخل تدخلا مباشرا في تلك الشؤون بان تشترك بنفسها في الأعمال الصناعية والتجارية . وهذا لا يستتبع بالضرورة إلغاء المشروع الخاص بل العكس لابد من الإبقاء عليه ، والدولة في حاجة إلى رؤوس أموال الأفراد ، إذ ان أموالها لا تكفي ، كما انها تملك ثروات عظيمة من مناجم وابار ومساقط مياه وغيرها في حاجة إلى استغلال ولا يمكن الاستفادة منها إلا إذا شاركت رؤوس الأموال الفردية ، والدولة بذلك تتجنب عيوب الاستغلال المباشر ، كما انها تضيف إلى مزايا الاستغلال الفردي مزايا الاستغلال المباشر ، فالدولة لا تدخل للشركة باعتبارها صاحبة سيادة بل على قدم المساواة مع الأفراد وتقبل الخضوع للقواعد العامة للقانون التجاري ، ولكنها مع ذلك تستطيع توجيه المشروع عن طريق تمثيلها في مجلس الإدارة توجيها يحقق المصلحة العامة ، فتكون بذلك قد أخذت ما في الاستغلال المباشر من فوائد وتجنبت ما فيه من عيوب .

كما ان ميزة هذا النظام هو استبعاده للسياسة وما ينتج عنها من أضرار وتحل الكفاءة محل المحسوبية ، وتبدو على المشروع مظاهر الاستقرار الناشئ المتولد عن اطمئنان الجمعيات العمومية للمساهمين التي تنتخب مجالس إداراتها إلى ان مصالحها ترعى على خير وجه . ويقول الأستاذ الدكتور توفيق شحاتة ” ويخيل إلينا ان هذا النظام بما فيه من مرونة كبيرة خير أسلوب من أساليب استغلال المشروعات العامة للدولة ولا يعدله أي أسلوب آخر يسمح بمسايرة مقتضيات الحياة الاقتصادية ، فتمتع الشركات بالحرية التي لابد منها لتنمو وتزدهر كما انه يحتفظ للدولة بحقوق السلطة العامة بالقدر الضروري لتحقيق المصلحة العامة(8). ويؤكد أ.د. سليمان الطماوي هذا الرأي بقوله ” كنا وما زلنا نعتقد ان طريقة الاقتصاد المختلط من انسب الطرائق لتعاون القطاعين العام والخاص في المجالات التي لم يقصرها المشرع على القطاع العام ، لاسيما وان التنظيمات الحديثة لدينا تجعل للدولة هيمنة تامة على المشروعات التي تدار بهذه الطريقة (9). أما عن خصوم هذه الطريقة فتتلخص حججهم ان من شأن هذا النظام توسيع سلطان الدولة وبسط سيطرتها على المشروعات الخاصة وابرز عيوب هذه الطريقة هو ان مجلس إدارة الشركة يجمع بين مصلحتين متعارضتين ، الأمر الذي ينتج عنه عدم الاستقرار ويؤدي في النهاية إلى تحويل الشركة أما إلى استغلال مباشر واما إلى مشروع خاص(10).

وباعتقادنا ان معظم هذه العيوب ترجع لا إلى طبيعة ذلك النظام نفسه بل إلى كيفية تطبيقه . وبناء على ذلك نرى في نظام الاقتصاد المختلط الأسلوب الامثل في إدارة النشاط الاقتصادي العام بعد انتهاج العديد من الدول له مثل مصر وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرته الأسلوب المفضل لديها للتحويل من القطاع العام إلى القطاع الخاص ، وقد اتبعت بريطانيا أيضا هذا الأسلوب(11). والأمر الذي حفزنا على تبني هذا النظام والمناداة بتوسيع حالات تطبيقه هو التطور الحادث مؤخرا والمتمثل في تحويل بعض الهيئات العامة التي تدير مرافق عامة اقتصادية (مرافق التليفونات) إلى شركات مساهمة . واعتقد ان هذا التحول ستعقبه تحولات كثيرة أخرى يكون موضوعها تغيير طرائق إدارة مرافق عامة اقتصادية أخرى ، خضوعا لمبدأ قابلية هذه المرافق للتغيير والتطوير . اذا كانت الدولة تعمل حالياً على تشجيع الاستثمارات الخاصة على المشاركة في تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال أسلوب الاقتصاد المشترك في شتى مجالات النشاط الاقتصادي(12). فيجب عليها العمل على زيادة نسبة هذه الاستثمارات ، بل والاستفادة من هذه الطريقة في مجال تقديم الخدمات كمرافق النقل بالسكك الحديدية والسيارات والهواتف والكهرباء والغاز على سبيل المثال لا الحصر ، وذلك ليس بالنسبة للمرافق الجديدة المزمع إنشاؤها فحسب ، بل والقائمة فعلاً بتحويل ادارتها من طريقة الهيئات العامة الى شركات الاقتصاد المختلط . هذه هي باختصار أهم الاتجاهات المعاصرة في إدارة المرافق العامة الاقتصادية ، وهذه الاتجاهات بمثابة المقدمات التي أفضت إلى نتائج مهمة ، هي اتساع دائرة القانون الخاص وانحسار دائرة القانون العام في إدارة المرافق العامة الاقتصادية .

________________________________

[1]- د.محمد محمد عبد اللطيف ، الاتجاهات المعاصرة في ادارة المرافق العامة الاقتصادية ، مصدر سابق ، ص70.

2- د . عبد الوهاب حمدي النجار ، دراسة عن البدايات الاولى لتكوين المصرف الصناعي للفترة (1935 ـ 1945) بمناسبة اليوبيل الذهبي للمصرف ، المؤسسة العامة للتنمية الصناعية ، 1985 ، ص1 وص6.

3- كاتلين ام لينكي ، تصنيع العراق ، بغدد. ، 1963 ، ص225 .

4- السيد نزار صديق الياس القهوجي ، إنتاجية القطاع العام المختلط في العراق والعوامل المؤثرة فيها للفترة 1980 ـ 1990 ، دراسة تحليلية ، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الادارة والاقتصاد. ، جامعة الموصل ، 1993 ، ص20 .

5- المصدر السابق ، ص21 و ص22 .

6- اذ كانت الشركة الوطنية للصناعات الغذائية نتيجة لدمج أربع شركات مختلطة وهي معمل البيرة الوطني ، والشركة الوطنية للصناعات الغذائية ، ومعمل عصير يافا ، ومعمل السفن أب . للمزيد من التفصيل يراجع : السيد نزار صديق الياس ، المصدر السابق ، ص22 وما بعدها .

7- د.سليمان الطماوي ، مبادئ القانون الاداري ، دراسة مقارنة ، الكتاب الثاني ، نظرية المرافق العامة ، مصدر سابق ، ص126. ود. توفيق شحاتة ، مظهر من مظاهر تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي ، مصدر سابق ، ص553. ود. عزت فوزي حنا ، المصدر السابق ، ص225 ، ود. علي البارودي ، في سبيل نظام قانوني موحد للمشروع التجاري العام ، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر ، الإسكندرية ، دون سنة طبع ، ص62 وما بعدها .

8- د.توفيق شحاتة ، نظهر من مظاهر تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي ، المرافق العامة الاقتصادية ، مصدر سابق ، ص 553 – 554 .

9- د.سليمان الطماوي ، مبادئ القانون الاداري ، دراسة مقارنة ، الكتاب الثاني ، نظرية المرافق العامة ، مصدر سابق ، ص126.

0[1]- فلد. يمير ايفانوفيتش ، محاضراته عن المشروع الاقتصادي في يوغسلافيا لطلبة الدكتوراه في الجامعات المصرية عام 62/1963 ، اشار إليها د. علي البارودي ، المصدر السابق ، ص58.

1[1]- استخدمت بريطانيا أسلوب بيع الأسهم بالبورصة وفقا للعرض والطلب وذلك في مؤسسة الغاز وفي شركة المواصلات . د. احمد ماهر ، المصدر السابق ، ص109.

2[1]- لا سيما ان المدة 25 من مسودة الدستور تنص على ” تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد. العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصدره ، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته ” ، وكذلك تنص المدة 26 على ما يأتي ” تكفل الدولة تشجيع الاستثمارات في القطاعات المختلفة ، ونظم ذلك بقانون ” .

المؤلف : حسن محمد علي البنان
الكتاب أو المصدر : مبدا قابلية قواعد المرافق العامة للتغيير والتطوير
الجزء والصفحة : ص193-198

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .