لقد نص قانون العقوبات العراقي في المادة (41) على نماذج أربعة لاستعمال الحق، وجاء بها على المثال لا الحصر (1) وقد خصها بالذكر في القانون دون غيرها لشيوعها وكثرة وقوعها. ونحن هنا سنكتفي بدراسة هذه النماذج بالذات كتطبيقات لاستعمال الحق كسبب للاباحة وهي :

1.حق التأديب :

تشير المادة (41) مارة الذكر بانه (…….. ويعتبر استعمالا للحق تأديب الزوج زوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعا او قانونا او عرفا). مما يعني ان حق التأديب انما يشمل على سبيل الحصر الزوجة والأولاد.

أ – تأديب الزوجة :

من المتفق عليه طبقا لاحكام الشريعة الإسلامية ان للزوج حق تأديب زوجته بالضرب ضربا خفيفا على المعصية التي لم يرد بشأنها حق مقرر، ولكن لا يجوز له اصلا ان يضربها ضربا فاحشا ولو بحق وهو ما يسمى بالولاية التأديبية للزوج على زوجته (2). ويراد بالضرب الخفيف، او البسيط كما يسميه البعض، هو الضرب الذي لا يحدث الكسر او الجرح ولا يترك اثرا او لون ولا يختلف عنه مرض. مما يعني انه اذا ضرب الزوج زوجته بغير حق ومن دون معصية ارتكبتها ولو ضربا بسيطا فان فعله لا يعتبر مباحا وكذلك نفس الأمر فيما لو ضربها ضربا شديدا (مبرحا) ولو لمعصية فان فعله لا يعتبر مباحا أيضاً. وبالتالي ينطوي في الحالتين تحت طائلة التجريم والمسؤولية. ولما كان مصدر هذا الحق هو الشريعة الإسلامية الغراء فانه لابد من الالتزام في الشروط التي وضعتها الشريعة لاستعماله وهي ان يكون الضرب اخر المطاف اذ يجب ان يسبقه وعظ المرأة فان لم ينفع فاللجوء الى هجرها في المضجع. فان لم ينفع فيجوز للزوج الى الضرب الخفيف (3). ومع ذلك فلا يجوز اللجوء ان كانت هناك وسيلة أخرى تنفع غيره. والضرب هنا يجب ان يقيد بالغاية الاجتماعية المرجوة منه وهي التأديب فان خرج من هذا القيد الى باعث آخر كالانتقام او الاستيلاء على المال او الدفع الى طلب الطلاق او الدفع الى الفحشاء او غيرها، فانه يتحول الى عمل اجرامي يزول به سبب الإباحة ويتحول الى جريمة يسأل عنها الزوج مسؤولية جنائية.

ب – تأديب الأولاد القصر :

تضمنت المادة (41) منح حق تأديب الصغار (الأولاد الصر) الى الاباء والمعلمين ومن في حكمهم كالوالي والوصي والأخ الكبير والأم. وينبغي ان تفسر كلمة (المعلم) تفسيرا واسعا بحيث تشمل المعلم في المدرسة والمعلم لحرفة او صنعة او مهنة. وولاية التأديب هذه انما تتضمن اجازة استعمال الضرب الخفيف من أجل تعليمهم وتهذيبهم وتوجيههم عندما يحتاج الأمر الى ذلك. وان يكون هذا الضرب مقيدا بالحدود المقررة شرعا او قانونا او عرفا. والضرب المسموح به شرعا به هنا، وفقا لما يقرر فقهاء الشريعة هو الضرب باليد الذي لا يتجاوز ثلاث ضربات وفي مواضع ليست خطرة بحيث لا ينال الراس او الوجه او القلب، او ان لا يكون شديدا من شأنه كسر العظم او شق الجلد كما لا يجوز مطلقا استعمال آلة او عصا او سوطا. ويراد بالولد القاصر، هنا من لم يبلغ سن الرشد ولم يتحرر بعد من الولاية على النفس مما يترتب عليه ان الضرب الشديد لا يحقق سبب الإباحة وكذلك الضرب الذي لا يكون الغرض منه التعليم والتقويم حتى ولو كان خفيفا. فالمعلم الذي يضرب القاصر انتقاما او ليحضه على جريمة هذه مسؤولية جنائية.

2.عمليات الجراحة والعلاج الطبي :

من المعلوم المساس بجسم الإنسان يكون اعتداء على حقه في سلامة جسمه. وهذا يكون جريمة تسمى الايذاء العمد او الضرب المفضي الى موت بحسب النتيجة التي يؤدي اليها الاعتداء. غير ان أعمال الجراحة والمعالجة الطبية التي يجريها الأطباء على مرضاهم تخرج من نطاق هذا التجريم وتعتبر مباحة استنادا لنص القانون الذي رفع عنها الصفة الجنائية والى ذلك اشارت المادة (41) بقولها : (ويعتبر استعمالا للحق عمليات الجرحة أو العلاج على أصول الفن متى اجريت برضاء المريض او ممثله الشرعي او اجريت بغير رضاء ايهما في الحالات العاجلة). ولا يعتبر رضاء اساسا في انتفاء مسؤولية الطبيب، في هذه الحالة، لان القاعدة العامة في القانون الجنائي ان ليس لرضاء المجني عليه من أثر في توافر المسؤولية الجنائية او عدم توافرها. كما لا يعتبر انتفاء القصد الجنائي لدى الطبيب أساسا لعدم مسؤوليته؛ لان الواقع هو ان قصد الايذاء قائم عنده مادام يرتكب الفعل عن إرادة وعلم بان من شان فعله المساس بجسم المريض او بصحته. وانما أساس ذلك هو ان الطبيب يستعمل حقا مقرر له بمقتضى القانون. فأجازه القانون للطبيب بهذه الأعمال هي الأساس في اباحتها له وعدم تحقق مسؤوليته الجنائية عنها (4) ومع ذلك فان لتحقق هذه الإباحة شروطا لابد لتحققها حتى تقوم الإباحة وتتحقق هي :

أ – الترخيص بالعلاج :

حيث يجب ان يكون مجرى العلاج او عمليات الجراحة مرخصة له قانونا بإجرائها سواء كان طبيبا او غير طبيب كقابلة او مولدة او ممرضة. وقد تكفل بيان ذلك قانون مزاولة مهنة الطب والقوانين الأخرى. فاذا لم يكن مرخصا بذلك تحققت مسؤوليته الجنائية عن أفعاله ونتائجها. فان اجرى حلاق عملية جراحية لأخر او قلع له ضرسا فانه يسال عن عمله هذا جنائيا حسب تكييفه القانوني.

ب – رضا المريض :

يعتبر رضاء المريض شرطا لتحقيق الإباحة في عمليات الجراحة والعلاج الطبي بدونه يكون مجرى العلاج او العملية الجراحية مسؤولا جنائيا والرضا يكن شفاها او كتابة وقد يكون ضمنا ويتحقق بمجرد لجوء المريض الى الطبيب لمعالجته واذا لم يكن المريض ممن توافر لديه اهلية الرضا والقبول فيقوم مقامه ممثله الشرعي. ومع ذلك فقد يكون المريض في حالة خطر مما يتطلب الاسراع في معالجته أو اجراء عملية جراحية له لانقاذ حياته ولا يكون في وسعه التعبير عن رضائه ويتعذر العثور على من ينوب عنه كممثل شرعي يعبر عن ارادته في هذه الحالة تقوم ضرورة يستطيع الطبيب بمقتضاها ان يتدخل ويجري العملية او العلاج المذكر دون الحصول على رضا المريض (5).

جـ – قصد العلاج :

يجب ان يكون عمل الطبيب او المعالج مقصودا به علاج المرض. لان العلاج هو علة الاجازة القانونية وان استعمال الحق يجب ان يكون وفقا للغرض الذي من أجله وجد. فان لم يكن قصد الطبي بالعلاج كالإضرار بالمريض او تخليصه من واجب كالخدمة العسكرية او لتسهيل تعاطي المواد المخدرة أو اجراء تجربة عملية او القيام بعمل مخالف للنظام العام والآداب العامة، فانه يسال جنائيا عن عمله مسؤولية عمدية (6). وهكذا فان علمية (الاخصاء) تعتبر جريمة حتى وان كان المجني عليه راضيا. اما عمليات جراحة التجميل فان الراي السائد هو اعتبارها مشروعة.

د- اتباع أصول الفن :

على الطبيب عند اجرائه العملية او المعالجة ان يتبع أصول الفن المقررة علمية وان لا يجعل عمله العلاجي يسير في مجال غير مقر فنيا أو لا يزال قيد التجربة والبحث. لأن عمليات الجراحة والمعالجة المباحة هي تلك التي تعتبر لازمة لتحسين صحة المريض ليس غيره. مما يترتب عليه انه اذا قام المعالج باجراء عمل على مريض لا يقره علم الطب ولا تعترف به أصول فنه فان عمله هذا يتجرد من صفة الإباحة ويصبح جنائيا. كما لو كان المريض مصابا بجرح بسيط فقام المعالج بكيه بقضيب ملتهب بالنار من الحديد. وما يقره جمهور الأطباء من اسلوب متبع او دواء معطى هو المعول عليه في تحديد اتباع أصول الفن من عدمه. ويعتبر الخطأ الفاحش، الذي لا تقره قواعد المهنة، كذلك الاهمال الذي لا يصح صدوره من معالج يلتزم باصول في العلاج من باب مخالفة أصول الفن وعدم اتباعها مما يحقق مسؤولية المعالج الجنائية ويزيل صفة الإباحة عن فعله. كما لو اجرى الطبيب عملية جراحية بآلات غير معقمة او اجراها وهو بحالة سكر.

3.ممارسة الالعاب الرياضية :

من الالعاب الرياضية ما يستلزم أعمال عنف قد يترتب عليها اصابات مما يقع تحت طائلة احكام قانون العقوبات كالمصارعة والملاكمة ولعبة الشيش والساس والتحطيب وغيرها. ومن المتفق عليه فقها وقضاء ان الالعاب الرياضية لا تترتب عليها مسؤولية جنائية ما دام اللاعب لم يخرج عن حدود اللعب وقواعده. وقد اقر المشرع العراقي ذلك فنص في المادة (41) مارة الذكر على اعتبار هذه الالعاب من صور استعمال الحق كسبب للاباحة حيث قال : (…….. ويعتبر استعمالا للحق أعمال العنف التي تقع أثناء الالعاب الرياضية، متى كانت قواعد اللعب قد روعيت). والاساس الذي يقوم عليه انتفاء المسؤولية، هنا هو الإباحة القانونية لهذه الالعاب ليس غير مما يترتب عليه ان من يمارس نشاطا رياضيا حتى وان كان عنيفة لا يسأل عما ينجم عنه من أضرار بالغير لانه يستعمل حقا اباحه القانون له. ومع ذلك فان اباحة القانون هذه مقيدة بشروط لابد لتحقيقها في اللعبة كي يتمتع لاعبها بسبب الإباحة وبالتالي يعفي من المسؤولية عن الاضرار التي احدثتها اللعبة وهذه الشروط هي :

أ – ان تكون اللعبة معترف بها : وتكون كذلك اذا كانت شائعة بصورة عامة او خاصة. فلعبة الساس تعتبر معترف بها لأنها شائعة ولو بصورة خاصة.

ب – ان تحصل الاصابات أثناء ممارسة اللعبة الرياضية : مما يعني ان الاعتداء الذي يقع قبل البدء باللعة او بعد انتهائها يخضع للمسؤولية والعقاب.

جـ – ان تراعى في اللعبة قواعده وأصوله : حيث لكل لعبة قواعدها واصولها الفنية والرياضية واجبة الاتباع فان لم تتبع من قبل احد اللاعبين بان تعمد الخروج عليها واحداث اصابة بمنافسة تزول صفة الإباحة عن فعله مما يترتب عليه مسؤوليته الكاملة عنه كما لو تعمد لاعب كرة القدم ضرب أحد أعضاء الفريق المنافس فانه يسال مسؤولية عمدية عن ضربته هذه. اما اذا ترتبت الإصابة نتيجة اهمال اللاعب فانه يسال مسؤولية غير عمدية ما دام اهماله يكون خروجا على قواعد اللعب المعترف بها (7).

4.استعمال العنف في القبض على المجرمين :

يقضي قانون أصول المحاكمات الجزائية بوجوب القبض على أي شخص يشاهد متلبسا بارتكاب جريمة. وقد يتطلب هذا القبض استعمال الشدة والعنف مع المتلبس بالجريمة لشل مقاومته والحيلولة بينه وبين الهروب. ولأجل ان يمارس الناس هذا الواجب اعتبر القانون استعمال الشدة في هذه الحالة عملا مباحا حيث نص في المادة (41) سالفة الذكر أنه (……… ويعتبر استعمالا للحق أعمال العنف التي تقع على من ارتكب جناية او جنحة مشهودة بقصد ضبطه).

ولأجل تحقق سبب الإباحة، في هذه الحالة، وبالتالي اعتبار فعل العنف المرتكب مباحا لابد من توافر الشروط التالية :

أ – ان تكون جريمة المجرم المراد القبض عليه من قبيل الجنايات او الجنح. مما يعني انه لا يجوز استعمال العنف في القبض على مرتكب المخالفة وبالتالي فان استعمل يسأل صاحبه عن نتائج استعماله جنائيا.

ب – ان يكون المجرم متلبسا بالجناية او الجنحة : فالتلبس هو الذي يبرر للناس استعمال العنف في القبض مما يترتب عليه انه لا يجوز استعمال العنف في غير حالات التلبس ما لم يكن قد صدر امر بإلقاء القبض على الشخص من جهة مختصة.

جـ – ان يكون القصد من استعمال العنف مع الجاني هو القبض عليه : فان كان القصد هو الانتقام او الثأر فعندئذ تتجرد الواقعة من صفة الإباحة ويسأل بالتالي مرتكبها عنها.

_____________________

1-ومن أمثلة حالات استعمال الحق كسبب اباحة الأخرى. كإباحة افشاء السر والقذف بحق الموظف العمومي او من في حكمه وغيرها اذا ما توافرت شروطها كما نص عليها القانون.

2-أما اذا ورد بالمعصية حد فان القاضي هو الذي يتكفل بمعاقبتها

3-قوله تعالى : (واللاتي يخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا). آية رقم 34 من سورة النساء.

4-انظر في تفصيل ذلك الدكتور محمود نجيب حسني، المرجع السابق 182 ص187 – الدكتور السعيد مصطفى السعيد، المرجع السابق 162.

5-انظر الدكتور حميد السعدي، المرجع السابق ص331.

6-انظر جارو ج5 ن1985 – جارسون مادة 309 – 311 ن 84 – الدكتور السعيد مصطفى السعيد، المرجع السابق، ص165.

7-انظر الدكتور السعيد مصطفى السعيد، المرجع السابق، ص168.

المؤلف : علي حسين خلف + سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .