تدوين مبادئ القانون الدولي لـ محمد حسين هيكل

تنص المادة ١٣ من ميثاق الأمم المتحدة، الموقَّع في ٢٦ يونيو سنة ١٩٤٥ من مندوبي الحكومات الممثلة في «مؤتمر الأمم المتحدة للتنظيم الدولي»، والمصدَّق عليه فيما بعد من جميع البرلمانات المختصة، على ما يأتي:

تنشئ الجمعية العامة ﻟ (الأمم المتحدة) دراسات وتقدم توصيات للأغراض الآتية:

(أ) إنماء التعاون الدولي في الميدان السياسي، وتشجيع التقدُّم المطَّرد للقانون الدولي وتدوينه
عرضت اقتراحات مختلفة على الجمعية العامة للأمم المتحدة، أثناء الفترة الثانية من دور انعقادها الأول في «فلشنج ميدوز» بالولايات المتحدة الأمريكية، ابتداءً من ٢٢ أكتوبر سنة ١٩٤٦، تنفيذًا لهذا الحكم من أحكام الميثاق.
وليس يعزب عن أحد أن تدوين مبادئ القانون الدولي، وأن السعي لنموه المطَّرد من الأعمال الطويلة الأمد التي تتطلب جهودًا قوية لإنجاز تلك الأعمال؛ ولهذا يجدر التبكير ببذل هذه الجهود.

ولئن لم يفت هيئة الأمم المتحدة أن تنشئ في إدارتها القانونية قسمًا خاصًّا لدراسة أوجه صلاحية التشريع الدولي وطرائقه وتدوين القانون الدولي، فإن ذلك لا يعدو أن يكون نواة لما ينبغي أن يُبذل.
وفي التقرير المقدم لجمعية الأمم المتحدة العامة بتاريخ ٢٦ يونيو سنة ١٩٤٦ عن نشاط الهيئة طبقًا لنص المادة ٩٨ من ميثاق الهيئة، يذكر السكرتير العام أن الإدارة القانونية للأمم المتحدة قد كُلفت — دون سواها — بأن تتصل بالحكومات والمعاهد والهيئات الخاصة لتستعرض مجال التشريع الدولي، ولتهيئ الفرص لنمو القانون الدولي، بإعداد الاتفاقات الكثيرة الأطراف، وبدعوة مؤتمرات دولية للتقنين، وبتركيز الجهود التي تبذلها مختلِف الهيئات الخاصة في هذه السبيل.

والاتحاد البرلماني الدولي في مقدمة الهيئات الدولية التي يعنيها أمر تدوين مبادئ القانون الدولي؛ فعلاج هذا الموضوع أمر يعنيه كل العناية وليس جديدًا عليه، بل لقد اشتغل به وأُدرج في جدول أعماله منذ ثمانٍ وأربعين سنة في المؤتمر التاسع للاتحاد البرلماني المعقود في أوسلو سنة ١٨٩٩.
وجدير بنا أن نذكِّر بما جاء عن ذلك في مجموعة الاتحاد البرلماني الدولي، المُعنونة «قرارات المؤتمرات وقرارات مجلس الاتحاد الرئيسية». (طبعة سنة ١٩١١، صفحة ١٨).

(ب) تدوين مبادئ القانون الدولي
«تتصل هذه المسألة اتصالًا وثيقًا بتنظيم المؤتمرات العامة للدول؛ إذ إنها تعمل على تدوين مبادئ القانون الدولي العام، ولو أن عملها تدريجي جزئي. وإن الكثيرين لَيأسفون لهذا البطء في التقدم».

«ولقد عالج مؤتمر كريتيانيا سنة ١٨٩٩ المسألة بعبارات صيغت في تحفُّظ، فدعا إلى «سن تشريع دولي عام تدريجًا». ثم اتخذ قرارًا قويًّا فدعا مجلس الاتحاد البرلماني الدولي إلى أن يُعد «مشروع قانون دولي عام يحدد حقوق الدول وواجباتها»، على أن يُطرح للمناقشة في مؤتمر مقبل. وكأنما قد استعظمت هذه المهمة على مجلس الاتحاد؛ فأثيرت ملاحظات عن تكليف هذا المجلس بمهمة شاقة كهذه، وصدر هذا القرار بأغلبية ٢٨ صوتًا مقابل ١٢، في مؤتمر بلغ عدد أعضائه ٢٤٢، ثم مضى الزمن ولم يستطع مجلس الاتحاد أن يؤدي شيئًا مما عُهد به إليه.
«وقد سبق أن ذكرنا أن مؤتمر لندن، في سنة ١٩٠٦، قد طلب تدوين مبادئ القانون الدولي على لسان لجنة متفرعة من مؤتمرات لاهاي».

«وحبذ مؤتمر برلين في سنة ١٩٠٨ الرغبة التي أُبديت في مؤتمر كريستيانيا في صورة أدعى إلى التحقق؛ ذلك بأنه رغب إلى مؤتمر لاهاي الثالث في أن يعمل على «تدوين مبادئ القانون الدولي العام»، مستندًا إلى الأعمال التي تمت من قبل في هذا المجال، ولا سيما أعمال معهد القانون الدولي».
***
وتجدد الاهتمام بعد الحرب العالمية الأولى ﺑ «تدوين مبادئ القانون الدولي»، فعرضت على مؤتمر الاتحاد الثالث والعشرين — المعقود بواشنطن في الأسبوع الأول من أكتوبر سنة ١٩٢٥ وبأوتاوا في ١٣ أكتوبر سنة ١٩٢٥ — ثلاثة تقارير في هذا الشأن؛ قدمها ثلاثة من أئمة القانون الدولي تحت عنوان «نمو القانون الدولي».

وضع المستر إليهو روت (عضو مجلس شيوخ الولايات المتحدة) أول هذه التقارير، وجعل عنوانه «تدوين مبادئ القانون الدولي».
ووضع المسيو هنري لافونتين (عضو مجلس الشيوخ البلجيكي) التقرير الثاني، وجعل عنوانه «إعلان حقوق الشعوب والدول وواجباتها».

وقدم المسيو م. ف. ف. بلا (النائب الروماني) التقرير الثالث، وجعل عنوانه «الإجرام في الحرب العدوانية وتنظيم العقاب الدولي».
***
ويتبين من هذه التقارير جميعًا أن مشاكل العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، هي بعينها المشاكل التي تكشف عنها الحرب العالمية الأولى، وأن ممثلي الشعوب — وهم قبل كل شيء أعضاء البرلمانات الذين تجمعهم مؤتمرات الاتحاد — متعطشون اليوم تعطشهم في الماضي إلى تقرير الأخلاق الدولية وسلطانها؛ ذلك بأنهم يعلمون أن مما ينفع الجماعة الإنسانية أن يكون للأمم قانونها الذي يحدد حقوقها وواجباتها؛ لأن الأمم تعيش جنبًا إلى جنب في عالم تزداد نواحيه تقاربًا يومًا بعد يوم؛ لانعدام الأبعاد وتشابك المصالح وتضارب الأطماع.
على أن ذلك التدوين الذي يتمناه الجميع قد ظهر أن تحقيقه عسير. وحسبنا الآن أن نذكر ضآلة التقدم الذي أسفرت عنه أعمال استمرت نصف قرن من الزمان.

ولنستعرض بإيجاز مرحلتين قطعتهما في هذا السبيل مؤتمرات الاتحاد البرلماني الدولي: فإعلان حقوق الدول وواجباتها، الذي أقره المؤتمر الخامس والعشرون للاتحاد البرلماني الدولي (برلين سنة ١٩٢٨)، يُعد بحقٍّ الباب الأول من مجموعة القانون الدولي؛ إذ يقرر — كبديهية من البديهيات — أن العلاقات بين الدول يجب أن تخضع لمبادئ القانون والأخلاق التي تخضع لها العلاقات بين الأفراد، وأن جميع أعضاء المجتمع الدولي متساوون في الحقوق، وأن كلًّا منهم لا يملك في هذا المجتمع إلا الحقوق التي قررها له القانون الدولي، وأن الدول ليس لها أن تقتضي حقوقها بنفسها، وأن لاستقلال كل دولة حرمة لا تُنتهك، وأن لا وجود لحق الفتح.

وفي جنيف سنة ١٩٣٢، عاد المؤتمر الثامن والعشرون للاتحاد الدولي إلى معالجة المسألة تحت عنوان: «المنهج التحليلي لتدوين مبادئ القانون العالمي»، فذكر المسيو هنري لافونتين في تقريره الفذ «أن إنشاء عصبة الأمم وتكوين محكمة العدل الدولية خاصة أيقظا الفكرة الراقدة في الخواطر (فكرة تدوين مبادئ القانون الدولي)، وأن الحاجة الملحة إلى قانون عالمي يسمو على القوانين المحلية سوف تفرض نفسها فرضًا على الأفكار».

ويبدو لنا أن هذه الضرورة أشد اليوم إلحاحًا منها في أي وقت مضى، بعد إقرار ميثاق الأمم المتحدة الذي حل محل ميثاق عصبة الأمم.

ولا يعزب عن بالنا تشعُّب مشكلة التدوين لمبادئ القانون الدولي. وأن ما اصطُلح على تسميته حقوق الدولة وواجباتها كثيرًا ما يمس الاختصاص التقديري المطلق للحكومات. من العسير الاهتداء إلى صيغ دقيقة مناسبة توفِّق بين مقتضيات التضامن الدولي وبين احترام السيادة لكل دولة. فالقانون الدولي (العام والخاص) واسع النطاق، ومشكلات تنازع الاختصاص شائكة بطبيعتها. كما أن من العسير صياغة مبادئ القانون الدولي وجمعها وتسجيلها رسميًّا — بحالتها الراهنة — في وثائق تشريعية تصلح للعرض على مختلِف البرلمانات لإقرارها، حتى لا تحتمل من بعدُ تأويلات مغرضة.
***

وإنَّا لنعلم أن اللجنة التي كوِّنت في عصبة الأمم لتدوين مبادئ القانون الدولي كانت إلى الإحجام أقرب منها إلى الإقدام؛ ولذلك طبعت أعمالها بطابع رجعي. وها هو ذا الشاهد من تاريخ الجهود الدولية التي بُذلت في سبيل تدوين مبادئ القانون الدولي منذ معاهدة فيينا في سنة ١٨١٥، ومؤتمرات لاهاي في سنة ١٨٩٩، وسنة ١٩٠٧، وسنة ١٩٣٠، فضلًا عن شتى مؤتمرات دول أمريكا؛ فهذا التاريخ يشهد بأن نتاج هذه الجهود لم يكن وفيرًا، وبأن مهمة التدوين كانت وستكون شاقة قليلة الجدوى.
على أننا نعتقد — رغم كل تلك السوابق التي لا تكاد تشجع — أن الوقت الحاضر مُواتٍ لمحاولة جديدة.

فالعالم المتمدن لا يمكن أن يدأب، كلما خرج من حرب عالمية، على الاستعداد لحرب عالمية أخرى. وكما أن الأفراد قد أيقنوا — بعد مُضي عدة قرون — أن العيش في سلام جنبًا إلى جنب في بلد واحد بدون حكومة قومية وبغير قوانين وضعية أمر غير ممكن؛ كذلك تدرك الأمم شيئًا فشيئًا أنها لا تستطيع العيش في سلام، جنبًا إلى جنب في عالم واحد، بدون حكومة عالمية، بغير قانون أساسه العدالة والأخلاق الدولية.

وهذه الحكومات العالمية لا يمكن أن تقوم — ولو في يوم بعيد — إلا بموافقة أعضاء البرلمان في كل دولة. فعلى النخبة من هؤلاء الأعضاء — الذين تجمعهم مؤتمرات الاتحاد البرلماني الدولي — أن يضعوا منذ اليوم ما يعتبرونه أسسًا جوهرية لقانون عدل وإنصاف يسود العلاقات بين أمم متساوية ذات سيادة، ابتغاء الخير العام لتلك المجموعة المتآخية من الأمم.

مناسبة الوقت لتدوين القانون الدولي
لاحظ الأستاذ دي فيشر، سنة ١٩٢٥ في مقدمة محاضرته القيِّمة بمجمع القانون الدولي عن تدوين مبادئ القانون الدولي، أنه «على أثر جميع الحروب التي فُجعت بها الإنسانية، كان الرأي العام يطالب بتدعيم القانون الدولي وإنمائه. والظاهر أن الشعوب كلما رأت خرق الدول للقانون، وهذا الخرق كثير الوقوع في الحروب التاريخية الكبرى، تجدد لديها أمل قوي في العمل على تنظيم العلاقات الدولية تنظيمًا أدق وأكمل وأكف نفاذًا؛ ذلك أن الأجيال التي تُبتلى بهذه الحروب يتولاها شعور قوي بانعدام الطمأنينة».

فإن صح القول سنة ١٩٢٥ بأن الشعوب كان يتولاها، إثر حرب سنة ١٩١٤، شعور قوي بانعدام الطمأنينة، فما عسى أن يكون حالها اليوم في هذا الجو المضطرب الآخذ بنفوس الجيل الحاضر، غداة حرب لا يجرؤ أشد الناس تفاؤلًا على أن يقرر بعدُ أنها خاتمة الحروب؟!

ولم يفت المستر ونستون تشرشل، في خطابه الذي ألقاه بكلية وستمنستر في ٥ مارس عام ١٩٤٦ في فلتون (ميسوري) بأمريكا، أن يقارن بصراحته المعهودة بين الحالة بعد حرب عام ١٩١٤ والحالة اليوم، وأن يبيِّن بجلاءٍ مدى التعارض بين روح التفاؤل التي كانت تسود العالم بعد معاهدة فرساي، وروح التشاؤم — بل القنوط — السائدة اليوم، قال في هذا الصدد:
في تلك الأيام الغابرة كان كلٌّ منا يؤمن إيمانًا صادقًا بأن الحروب قد انقضى عهدها إلى غير رجعة. أما اليوم، فلا أرى مثل هذه الثقة ولا أشعر بوجودها.

على أني — من جهة أخرى — لا أسلِّم بأن حربًا جديدة واقعة لا محالة، بل إنها قريبة الوقوع.

ولما كنت واثقًا من أن مصيرنا بين أيدينا، وأنَّا نستطيع النجاة بمستقبلنا، رأيت اليوم من واجبي أن أرفع الصوت عاليًا.

أمَا والشعور بانعدام الطمأنينة في نفوس الشعوب جميعها قد أصبح الآن أكثر رسوخًا منه في أي وقت مضى، فقد صار لزامًا على الاتحاد البرلماني الدولي أن يساهم من جديد فيدفع إلى العمل على تدوين مبادئ القانون الدولي؛ ذلك الأمر الذي أُدرج في جداول أعمال مؤتمرات الاتحاد منذ سنة ١٨٩٩.
القانون الدولي وآفاقه الجديدة

هذا، وإن بعض الآراء التي كانت تعتبر — فيما سلف — وليدة الخيال، مستحيلة التحقيق، قد أخذت تبرز كأنها حقائق في أرجاء العالم أجمع.

بلغ المجتمع الإنساني، في تطوره المستمر، مرحلة جعلت الرؤساء المسئولين يتحدثون عن سلطة تشريعية عالمية، وحكومة عالمية، ومحكمة عالمية، وقوة تنفيذية عالمية. وصارت الدول الكبرى في طليعة القائلين بأن فكرة السيادة القومية المطلقة قد فقدت من قداستها وإطلاقها عن ذي قبل، وزاد البعض فرماها بالبِلى والقِدم.

وها هو ذا ميثاق الأمم المتحدة — الذي لم يقابَل بمثل ما قوبل به ميثاق عصبة الأمم من حماسة وترحيب — قد اعتبرته الشعوب حلًّا مؤقتًا، وارتفعت الأصوات من كل صوب ساعة إبرامه، مطالبة بإعادة النظر فيه فورًا.

وإذا ما بلغ التطور الدولي هذا الشأن، فلا يرجى أن تكون الحكومات في طليعة الحركة الدافعة إلى الأمام؛ لأن عبء مسئولياتها يُبهظ كاهلها. وإنما يصدر هذا التطور من صميم الشعب، ومن ضمير الرأي العام العالمي لينطلق إلى غايته. فلم يكن المستر إرنست بيفن (وزير خارجية بريطانيا العظمى) متقدمًا الجماهير، بل كان تابعًا لهذا الاندفاع حين قال بمجلس العموم في ٢٣ نوفمبر سنة ١٩٤٥:

لقد أصبحت مقتنعًا بأن القومية المشتركة تتطلب برلمانًا مشتركًا، ومسئولية مشتركة، والخضوع لسلطة تشريعية عليا تقوم لأغراض معينة تعيينًا بيِّنًا.

وأرى أننا أصبحنا مُسيَّرين، بالضرورة الحتمية، نحو الشروع في تمهيد جديد لإنشاء مجلس عالمي تنتخبه شعوب العالم طُرًّا انتخابًا مباشرًا.

… وسيقر هذا البرلمان قوانين تصبح تشريعًا عالميًّا تحترمه الشعوب وتلتزم تطبيقه … وسيتولى الممثلون المباشرون للشعوب تنفيذ التشريع العالمي.

… وإني على استعداد لأن أجالس أيًّا كان: أجالس ممثل أي حزب أو أية أمة لنحاول أن نصور للعالم حق الانتخاب المباشر … أو نقيم دستورًا من قبيل الدساتير التي أخذت بها الدول الكبرى؛ في سبيل إنشاء مجلس عالمي له مرمًى محدود: هو السلام.
ومتى قبلنا هذه النظرية، انهارت النظرية الأخرى الخاصة بالقانون الدولي؛ لأن هذا القانون يفترض استمرار المنازعات بين الدول. فالأجدر أن نستبدل به قانونًا عالميًّا يرتكز على قوى العالم الروحية والخلقية، بدل القواعد المستمدة من القضاء الوضعي والمعاهدات الخاصة.

وهذا القانون العالمي — التي تُنشأ محاكم لتطبيقه، ويُعهد إلى بوليس عالمي بتنفيذ أحكامه — سيُشتق من قرار الشعوب صاحبة الحق في الانتخاب المباشر، والمتمتعة بكامل حريتها دون تمييز بسبب العنصر أو العقيدة … هذه هي الصورة التي ستبدو عليها السلطة العالمية الكبرى ذات السيادة، ووليدة الانتخاب، والتي ستُودع مصائر شعوب العالم بين يديها.

ونعيد ما ذكرناه أن جماهير الشعوب هي التي تدفع التطور دفعًا إلى إيجاد برلمان وقانون وحكومة ذوي صبغة عالمية؛ فها هي الصحف لا يمر يوم دون أن تفيض بأبحاث واقتراحات حول هذه الموضوعات، مما لو نُشر قبل الحرب العالمية الأخيرة لقوبل ببالغ الدهشة.

لقد صار موضوع القانون الدولي يهم العامة والخاصة على نحو لم يسبق له مثيل. وهذا أمر يستدعي حلولًا جديدة تتحقق بها الأماني المختلجة في صدور الشعوب، وهي التي تنقاد لها ولا تقودها الحكومات، والتي لا يسع البرلمانات التي تمثلها إلا ترديد صدى رغباتها وأمانيها.

مصاعب التقنين بمعناه الصحيح
حاولنا أن نستعرض إجمالًا، في الفقرات السابقة، مراميَ القانون الدولي الجديدة، وهي ترجع إلى روح الشعوب التي عركتها تجارب الحرب الأخيرة، أكثر منها إلى الإعداد العلمي.

فما هو الدور الذي يستطيع الاتحاد البرلماني الدولي أن يقوم به في محاولة تدوين مبادئ القانون الدولي الجديد؟
فلنبيِّن — بادئ ذي بدء — أننا لا نطلب إلى الاتحاد أن يضع مبادئ قانونية جديدة تستلهمها المحاكم الدولية في قضائها؛ فإننا نرى أن الوقت لم يحن بعدُ للتفرغ لذلك العمل المثالي، الذي تفيض الأحاديث بذكره، وهو: إعداد «دستور لعالم الغد».
ولما كان من المعلوم أن مبادئ القانون الدولي مستقاة من المعاهدات، أو العرف، أو المَلَكة القانونية الكمينة في الشعوب، فإنَّا نرى أنه لا يدخل في أعمال الاتحاد أمر إعداد مشروع اتفاق دولي، أو محاولة «تقنين» العادات الدولية قديمها أو حديثها. فهذا وذاك من مهمة العلماء أو المعاهد المتخصصة لا ريب، وهي مهمة مضنية طويلة الأمد.

وكفانا عبرة في هذا الصدد ما قام به الاتحاد البرلماني الدولي، وما بذلته المؤتمرات الدبلوماسية الدولية من محاولات، وما رأيناه من جهود «معهد القانون الدولي» و«جمعية القانون الدولي لجمع قوانين الأمم وتعديلها» و«المعهد الأمريكي للقانون الدولي» ومؤتمرَي لاهاي المعقودَين في سنة ١٨٩٩، وسنة ١٩٠٧، وغيرها من المعاهد المماثلة.

ولا يفوتنا أن معاهدة فرساي، وميثاق عصبة الأمم، والمعاهدات الدولية العديدة التي أُبرمت فيما بعد، كان كلٌّ منها مرحلة جديدة في سبيل تدوين مبادئ القانون الدولي تقنينًا جزئيًّا، وأن ميثاق تحريم الالتجاء إلى الحروب (الموقَّع في باريس في ٢٧ أغسطس سنة ١٩٢٨)، كان حجر الأساس لتدوين مبادئ القانون الدولي الجديد. وهكذا أخذت محاولة التدوين التعاهدي لمبادئ القانون الدولي تشق مجرًى جديدًا تحت رعاية عصبة الأمم؛ فكُوِّنت لجان من علماء القانون المبرِّزين بذلت أصدق الجهود؛ ونخص منها بالذكر لجنة علماء القانون السبعة عشر التي شُكلت سنة ١٩٢٤، ولكن مؤتمر لاهاي المعقود في مارس سنة ١٩٣٠ لم يوفَّق إلى وضع تقرير نهائي رغم العناية العظمى التي بُذلت في سبيل تحضيره.

هذا وقد اهتم «مجمع القانون الدولي» والمعاهد التي من قبيله بأمر التدوين التعاهدي للقانون الدولي.
كان لهذه المحاولات — بما فيها جهود جامعة الدول الأمريكية — ما لها من التقدير والفوائد، لكنها انتهت جميعًا باعتراف تلك الهيئات بأنه يستحيل عليها أن تعمل على تدوينٍ — وإن جزئيًّا — لمبادئ القانون الدولي، ما دام المطلوب منها إعداد مشروعات اتفاقات أو معاهدات ذات بروتوكول مفتوح؛ ذلك أن المصاعب كانت تبدو غير قابلة للتذليل عند الانتقال من المبادئ النظرية العامة إلى الحلول العلمية المحددة، حتى إن المسيو دي لابراديل قد قرر، في جلسة ١٨ أكتوبر سنة ١٩٣٤ بالمعهد الدبلوماسي الدولي، أنه:

كلما ازدادت الحلول تعيينًا وتحديدًا، تفاقم خطر الاختلاف، فالتضارب بين المصالح. وكلما ازدادت الحلول تعميمًا، خفت حدة الخطر وضاقت شقة الخلاف. فالصيغة العامة قمينة بأن تنال رِضَى الجميع، فهي الأصلح إذنْ للتقنين.
ويذهب الأستاذ جورج سيل نفس المذهب في مؤلَّفه عن «القانون الدستوري الدولي»؛ إذ يقول:
لا يمكن مطلقًا أن يكون المقصود هو تدوين قوانين عالمية كاملة تشمل كل العلاقات القانونية بين الشعوب، وتسلكها جميعًا في نظام واحد. فمثل هذا التفكير خيالي محض؛ ذلك أن التقنين كلما كان أضيق في موضوعه كان أوسع في مداه، وكلما كانت المبادئ المعروضة أقرب إلى النظريات وأبعد عن التحديد اتسع مجال تطبيقها. (جورج سيل: «القانون الدولي العام» طبعة سنة ١٩٣٤، الجزء الثاني، صفحة ٥٢٧).

التقنين وهيئة الأمم المتحدة
سار التطور الدولي مرحلة أخرى بإنشاء هيئة الأمم المتحدة؛ فجدَّ بذلك عامل حديث العهد على ميدان التقنين.

ذلك أنه لما اجتمع مؤتمر «سان فرنسيسكو» لوضع ميثاق الأمم المتحدة، تقدمت إليه عدة وفود باقتراحات ترمي إلى أن يتضمن الميثاق المبادئ الرئيسية للقانون الدولي، فقد أمدَّ الميثاق الأمم المتحدة ﺑ «القوة التنفيذية» التي كانت عصبة الأمم تفتقر إليها، والتي لا يقوم أي «حق» بدونها، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أقرب إلى فكرة «الحكومة العالمية» — التي ما فتئت في حيز الخيال — من مجلس عصبة الأمم.

أمَا وقد أنشئت «سلطة عالمية»، أفلا يقتضينا المنطق أن نشرع في إعداد قانون دولي عالمي؟
إن مؤتمر سان فرنسيسكو (وجمهرة أعضائه رجال سياسة — لا رجال قانون — لا يملكون إلا فرصة ضيقة لإعداد الميثاق) قنع بأن يسجل في الميثاق بعض مبادئ عامة من القانون الدولي أقرب إلى النظريات، ووكل أمر تدوين مبادئ القانون نفسه إلى مستقبل الأيام، بل إن ميثاق الأطلنطي ذاته لم يكن له في ميثاق الأمم المتحدة متسع.

لكن المادة ١٣، وهي التي قدمنا بها لهذا التقرير، عززت بعض الأمل في هذا المجال؛ إذ كلفت الجمعية العمومية إنشاء دراسات وتقديم توصيات لتشجيع نمو القانون الدولي نموًّا مطردًا، وتدوينه.

ولقد قررت هيئة الأمم المتحدة — بعد أن أنشأت في إدارتها القانونية قسمًا خاصًّا لتدوين مبادئ القانون الدولي — توحيد الجهود التي تبذلها في هذا الصدد مختلِف الهيئات الدولية.
وإنَّا لنرى أن الاتحاد البرلماني الدولي — بحكم تكوينه — في طليعة تلك الهيئات.

فما هو الدور الذي سيقوم به اليوم الاتحاد البرلماني الدولي في سبيل التقنين المقترَح؟
إننا لا نرمي إلى إعداد مشروع اتفاق يتضمن ما تعتنقه الحكومات من مبادئ قانونية، بل نرغب في إعداد إعلان يصدر من الاتحاد البرلماني الدولي؛ ليعبِّر عن الرأي العام في العالم المتحضر في شأن الحقوق الأساسية للدول وواجباتها في العهد الجديد.
فالمقصود هو تسجيل ظواهر التضامن الاجتماعي التي تقوم عليها العلاقات بين الدول، والتي أبرزت الحربُ الأخيرة أهميتَها.
وعسى أن يساهم الاتحاد بنصيبٍ وافر في التوجيه الجديد للرأي العام العالمي نحو إقرار المبادئ الأساسية لقانون دولي قائم على العدالة الطبيعية؛ ذلك أن الاتحاد البرلماني الدولي يعتبر — بحكم تكوينه — شمل ممثلي الشعوب الحرة للإدلاء بآرائهم، طلقاء من كل قيد.

تعريف التقنين المقترَح
ليس من المقصود إذنْ تدوين مبادئ قانونية أو تحليلها؛ فتلك مهمة علمية لم يتخذ لها الاتحاد أهبته. لكن للاتحاد رسالة أخرى تعود على البشر بالفوائد الجمة، ونشعر — نحن أعضاء البرلمانات — بأننا أقدر من غيرنا على الاضطلاع بها.

فتقنين مبادئ القانون الدولي — الذي نقترحه اليوم — يختلف اختلافًا جوهريًّا عن ذلك الذي شرع فيه الاتحاد سنة ١٨٩٩، أو الذي رمت إليه عصبة الأمم، أو الذي باشره مجمع القانون الدولي؛ ذلك أن ما ندعو الاتحاد إلى القيام به إنما عمل يُستقى من روح الشعوب، ومن مبادئ الأخلاق الدولية.

فالعمل الذي نقترح السير فيه يهدف خاصة إلى أن تنمو — بالوسائل البرلمانية — الأخلاق الدولية في عالم الغد.
أما الحديث عن مدى أهلية الاتحاد للاضطلاع بهذه المهمة، فأحسن ما قيل فيه هو ما ورد على لسان رئيس مجلس الاتحاد (الكونت دي فيار)، في خطابه إلى أعضاء شعب الاتحاد في شهر يوليو سنة ١٩٤٥ عند استئناف أعمالنا التي انقطعت بسبب الحرب، حين قال:

يشرع الآن في تنظيم العالم على وضع جديد. ومهما تكن النظم النهائية التي تتخذ للهيئة العالمية الجديدة، فإن اتحادنا سيُدعى إلى القيام بدور ضخم إلى جانب الحكومات ورجال السياسة الذين سيتلاقون في هيئة الأمم المتحدة.

وهكذا يواصل الاتحاد — طليقًا من كل رباط رسمي — تمثيله للشعوب الحرة التي تشترك في مداولاته بكامل حريتها؛ مما يتيح له في بعض الأحايين أن يُقوِّم اتجاه الحكومات ذاتها، أو أن يسد النقص الملموس في سياستها.

«وسيظل الاتحاد بوجهٍ خاص ممثلًا — كما كان — لسلطة عظمى: ألا وهي سلطة الحق. فمهما كانت الأهمية التي تضفى على مشكلة القوى العالمية وتوازنها أو تعاونها، فستبقى المسائل الدولية أبدًا مسائل أخلاقية».

فالعامل «الأخلاقي» هو الذي يهمنا — بصفة خاصة — في التقنين الذي يمكن للاتحاد البرلماني الدولي أن يشترك فيه.

وحسبنا في تعريف ما نعنيه من «تدوين مبادئ القانون الدولي» تعريفًا بيِّنًا، أن نقرر أن ما نقصده إنما هو «تدوين المبادئ الأساسية للأخلاق الدولية» في هذه اللحظة التي تترك خلالها الأمم المتحضرة رويدًا رويدًا نظامًا بائدًا، أسس على مجرد «اشتراك الدول في هذا الوجود»، وتتجه إلى نظام جديد يقوم على الترابط والتضامن والتعاون الدولي.

ومهمة الاتحاد تنحصر إذنْ في البحث عن المبادئ الكبرى للأخلاق الدولية التي سيساعد تكريسها — عن طريق التقنين، بوساطة أعضاء برلمانات الأمم المختلفة — على توطيد دعائم المَلَكة القانونية الكمينة في الشعوب: تلك المَلَكة التي تزعزعها اليوم عوامل سياسية واجتماعية عدة.

ثم لنعد إلى ما قاله الأستاذ «لابراديل»، من أن «الحق — وهو قانون الأمم — يلزمه تأييد الرأي العام إياه، حتى يسيطر على الدول التي تدَّعي أنها صاحبة السيادة عليه، في حين أنها من رعاياه».

مبدأ التقنين
أما عن مبدأ التقنين الذي نقترح على الاتحاد البرلماني أن يتولاه، فإننا ننقل عن الأستاذ «دي فيشر» العبارة التالية:
تقوم في الأوضاع القانونية الدولية — كما هي الحال في الأوضاع القانونية الداخلية — مبادئ أو قواعد معينة مستقلة عن سلطان الدولة. وهي تسمو عن كل حكم مستمَد — إن صراحة وإن ضمنًا — من إرادة الحاكمين؛ وذلك أن هذه القواعد الأولية أو الأصلية لم تخلقها الدول، بل فرضت نفسها عليها فرضًا.
… وبعض هذه القواعد الأولية أو الأصلية منقول — فيما يختص بالعلاقات بين الدول — من مبادئ القانون الأساسية التي تقوم عليها جميع النظم القانونية الداخلية. ومن هذا القبيل حق الدول في الحياة المستقلة، وحقها في الحرية، وحقها في المساواة … وهي مبادئ — على قلة عددها — جِدُّ جوهرية، وتُعرف باسم «الحقوق الأساسية للدول. (شارل دي فيشر — «تدوين مبادئ القانون الدولي»، صفحة ٣٤١).

ويقول المؤلف نفسه بعد ذلك، وهو ما نشاركه الرأي فيه:
ونعتقد أن روح العدل والتضامن الاجتماعي — وهي أساس كل قاعدة قانونية — لا يمكن أن تولد إلا في ضمائر الأفراد. هذه حقيقة أساسية يرجع الفضل في إبرازها إلى بعض المؤلفين المعاصرين، وفي مقدمتهم الأستاذ دوجي. (المؤلف ذاته، صفحة ٣٤٦).

ومن هذه الاعتبارات الجمة استنبط الاتحاد البرلماني الدولي «إعلان حقوق الدول وواجباتها» الذي وافق عليه — في صورة قرار — عقب مؤتمر الخامس والعشرين المعقود في شهر أغسطس سنة ١٩٢٨ في برلين.
وهذا الإعلان — الذي اقترحه أحد مؤسسي الاتحاد البرلماني الدولي، وهو المسيو لافونتين، وكيل مجلس الشيوخ البلجيكي، وأستاذ القانون الدولي لأكثر من أربعين عامًا، والذي استُعين في إعداده بآراء ما يُرْبِي على ثلاثين من أساطين القانون الدولي ذوي الشهرة العالمية — يبدو لنا اليوم مناسبًا وصالحًا لأن نورده من جديد، وها هو ذا نصه:

إعلان حقوق الدول وواجباتها
(١) تخضع العلاقات بين الدول لنفس المبادئ القانونية والأخلاقية التي تخضع لها العلاقات بين الأفراد.
(٢) إن الدول متضامنة بعضها مع بعض، وتتألف منها جماعة بحكم الواقع والقانون.
(٣) أعضاء المجتمع الدولي متساوون قانونًا، وليس لأحدهم في هذا المجتمع إلا الحقوق التي يخولها له القانون الدولي.
(٤) تقوم المعاهدات بين الدول مقام القانون، فعلى هذه الدول أن تلتزم احترامها. ولا يجوز إلغاء أية معاهدة أو تعديلها إلا بموافقة الدول صاحبات الشأن، أو طبقًا لأحكام القانون الدولي.
(٥) كل خلاف يقوم بين الدول ولا يُفض بالتراضي يجب أن يُحل بطريق من طرق التقاضي: بالتوفيق، أو بالتحكيم، أو بالقضاء؛ ويجب على كل دولة أن تنفذ الحكم الصادر بحسن نية.
(٦) لا يجوز للدول أن تنتصف لنفسها بنفسها. وكل اعتداء مسلح يعتبر جناية، ويحاكَم المجرمون طبقًا للقانون الدولي.
(٧) للدولة المعتدَى عليها اعتداءً مسلحًا حق الدفاع الشرعي عن نفسها، ويجب على المجتمع الدولي أن يعضدها، وكذلك يجب لها هذا التعضيد إذا أُنكر لها حق مقرر أو اعتُدي عليه.
(٨) لاستقلال كل دولة حرمة، ولا وجود لحق الفتح.
(٩) للشعوب الحق في تقرير مصيرها بكامل حريتها، وهو حق لا يمكن التنازل عنه، ولا يسقط بمُضي المدة، وكل تعديل للحدود بين الدول لا يكون إلا طبقًا للقانون الدولي.
(١٠) لا يجوز للدول أن تستغل — لمصلحتها الذاتية — الشعوب المختلفة عنها حضارة والخاضعة لوصايتها؛ فمهمة تلك الدول هي العمل على تحسين الأحوال المادية والخلقية والثقافية لهذه الشعوب، حتى يستطاع قبولها بأسرع ما يمكن في المجتمع الدولي. والأقاليم التي تشغلها هذه الشعوب يجب أن تُفتح — من الوجهتين التجارية والصناعية — لرعايا جميع الدول.
(١١) يجب على الدول أن تتعاون في جميع نواحي النشاط البشري، وخاصة في تلك التي ترمي إلى رفاهية الإنسانية جمعاء. ويجب على المجتمع الدولي أن يكفل الموارد الاقتصادية التي تحتاج إليها كل دولة في معيشتها ونمائها.
(١٢) يجب أن يكفل — في كل الدول، لجميع المواطنين — التمتع بالحقوق التي يقتضيها اطراد التقدم الحر لحياتهم الثقافية، دون تمييز بسبب الدين أو العنصر أو الجنسية.
(١٣) يجب على الدول أن تكفل — في حدود أقاليمها، لجميع البشر — التمتع الكامل بالحقوق المقررة لنفس رعاياها، دون تمييز بسبب العنصر أو الجنسية أو السن أو الجنس، وأيًّا كانت عقائدهم الدينية أو الفلسفية أو الاجتماعية، مع استثناء الحقوق السياسية كلها أو بعضها.
(١٤) يجب على أعضاء المجتمع الدولي أن يكفلوا للعمال — اليدويين والفكريين — حفظ كرامتهم وحقهم في العمل، وفي الراحة، وفي الترفيه، وفي الحصول على أجر معادل لعملهم.
***

هذا هو النص الذي وافق عليه المؤتمر الخامس والعشرون للاتحاد المعقود في برلين سنة ١٩٢٨.

وكيفما كان الأمر، فإذا ما فحصنا المبادئ الكبرى، التي قررها إعلان حقوق الدول وواجباتها، لا نجد فيها جديدًا. فالفقهاء منذ زمن بعيد يقصرون حقوق الدول الرئيسية على خمسة؛ وهي: الحق في البقاء، الاستقلال، المساواة، الاحترام، التجارة الدولية. (يراجع على الأخص: جيلبرت جيدل: حقوق الأمم وواجباتها، والنظرية التقليدية في حقوق الدول الأساسية، سنة ١٩٢٥).

ويلاحظ جيدل عليها بحق «أنها حقوق تملكها كل دولة بحكم وجودها، وأنها لصيقة بها، وأنها ذات مميزات ثلاث: فهي مطلقة، لها حرمة لا تُنتهك، غير قابلة للتصرف».
ويضيف — في جهة أخرى — أن «الحقوق الأساسية ما زالت دعامة القانون الدولي التقليدي؛ فهي ما يسميه بحق بعض المؤلفين (القانون الدولي الدستوري)، وهو يحدد مركز الأعضاء داخل النظام القانوني الدولي الذي ينتمون إليه، كما يضع — أو يحاول أن يضع — قواعد لنشاطهم المتبادل». (مجموعة محاضر مجمع القانون الدولي سنة ١٩٢٥، الجزء ١٠، صفحة ٥٤٣).
ويقرر ف. دي مارتنس عن هذه الحقوق نفسها، في مؤلَّفه (جزء أول، صفحة ١٨٧) أن:

لكل دولة مستقلة هذه الحقوق مهما كان سلطانها السياسي، أو مدى اتساع رقعة إقليمها، أو مدى علاقاتها بالشعوب الأخرى. ولا يمكن للدول أن تبلغ بغير هذه الحقوق غرضها المشروع في الحياة الدولية، ولا يمكن أن تعتبر من أعضاء المجتمع الدولي … فالحقوق الرئيسية لصيقة بالدول، ولا يمكن التصرف فيها، وهي نافذة المفعول أبدًا، ولا يمكن للدولة أن تتنازل عنها دون أن تتنازل عن استقلالها. وإذنْ، لا تكون المعاهدات — التي تنتهك هذه الحقوق أو تبيدها — صحيحة ولا تتمتع بصفة الإلزام. (دي مارتنس، ذكره جيدل صفحة ٥٤٥ في مؤلَّفه المذكور).
***
إن حدود هذا التقرير لا تسمح لنا — بأية حال — أو نورد تاريخ نظرية حقوق الدول الأساسية، ابتداءً من «جروسيوس» و«كريستيان» و«ولف»» إلى «فاتيل» و«دي مارتينس» حتى مختلِف فقهاء القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومهما يكن من أمر، فالاتحاد البرلماني الدولي لا يضم رجال فقه، بل رجال سياسة ينشدون مقترحات عملية.
وعذرنا في هذا الاستطراد هو أنه — في سبيل فحص عناصر «إعلان حقوق الدول وواجباتها» الذي أقره المؤتمر الخامس والعشرون في سنة ١٩٢٨ ببرلين، وفي سبيل رده إلى أسسه الجوهرية — كان لزامًا علينا أن نعود قليلًا إلى العلماء الأقدمين. فالكلام عن حقوق الدول الأساسية محدود بالبحث في الحقوق الآتية:
(١) الحق في البقاء.
(٢) الحق في الاستقلال.
(٣) الحق في المساواة.
(٤) الحق في الاحترام.
(٥) الحق في التجارة الدولية.
وهذه الحقوق مطلقة كما يقرر الفقهاء، غير قابلة للانتهاك، غير قابلة للتصرف.

وإذا عدنا — على ضوء هذه المبادئ — إلى «إعلان» سنة ١٩٢٨، وجدناه لم يزد عن أن يجمعها في مادة أضاف إليها بعض الضوابط والتعليقات، ومزج بينها وبين مبادئ جوهرية أخرى قررها ميثاق عصبة الأمم، وكررها بعبارة مختلفة ميثاق الأمم المتحدة.
ومن الممكن أن نتوسع — بطرق شتى — في هذه المبادئ التي سلكها «إعلان» سنة ١٩٢٨ في أربع عشرة مادة موجزة.

ففي سنة ١٩٣٤، بناءً على دعوة بعض مندوبي الدول في الجمعية العمومية الخامسة عشرة لعصبة الأمم، اضطلع «المجمع الدبلوماسي الدولي» بهذه المسألة. وكان يشد أزره أساطين القانون الدولي العالميون، فوضع «المشروع الابتدائي لإعلان الأوضاع الأساسية والمبادئ الكبرى للقانون الدولي الحديث»، وقد حوى أربعًا وخمسين مادة.

وبعد مناقشات طويلة في غاية الطرافة، انتهى المجمع الدبلوماسي الدولي، في ١٨ أكتوبر سنة ١٩٣٤، إلى «مشروع معدل لإعلان الأوضاع الأساسية والمبادئ الكبرى للقانون الدولي الحديث»، ولم يتضمن هذا المشروع سوى ٤٠ مادة. (يراجع القاموس الدبلوماسي، المجلد الثالث تحت عنوان «تقنين» Codification).

وهذا في رأيي إطناب عديم الغناء؛ ذلك أن غالبية هذه المواد — كما هي الحال في «إعلان» سنة ١٩٢٨ — لم تَعدُ أن تكون ترديدًا أو زيادة في نفس المبادئ التي نص عليها ميثاق عصبة الأمم من قبل، واحتضنها — من بعد — ميثاق الأمم المتحدة.
ولما كان هذا الميثاق — في أصله — اتفاقًا دوليًّا، أقرته جميع البرلمانات الديمقراطية، وارتبطت به فعلًا كل الأمم المتحضرة؛ فلا جدوى من أن يعيد مؤتمر الاتحاد — في إعلان يصدره — نفس المبادئ بصيغة أخرى.

ولا يمكن من جهة أخرى للاتحاد البرلماني الدولي — ومؤتمره السنوي لا يستغرق أكثر من أسبوع واحد — أن ينافس علماء القانون المتخصصين الذين يعملون، منذ عشرين عامًا، على أن يضعوا مشروعات اتفاقات دولية لتقنين المواد — التي يبدو أن الطريق الدولي قد مهد سبيلها — تقنينًا جزئيًّا. ولنذكر على سبيل التخصيص مشروعات التقنين الخاصة بالامتيازات والحصانات الدبلوماسية، وبالمياه الإقليمية، وبالجنسية، وبالقرصنة، وباستغلال الثروة البحرية، وبمسئولية الدولة عن الأضرار التي تلحق — في إقليمها — رعايا الدول الأخرى في أشخاصهم أو في أموالهم.

تلك هي المسائل التي طلبت معالجتها اللجنة الخاصة بدراسة تقنين مبادئ القانون الدولي، التي شكلها مجلس عصبة الأمم في سنة ١٩٢٤، وهذه الدراسة — كما لا يخفى — من عمل القانونيين المتخصصين، ولا يختص بها أعضاء البرلمانات الذين تجمعهم المؤتمرات السنوية للاتحاد.

ويحق لنا الآن أن نتساءل: ما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به الاتحاد في تقنين مبادئ القانون الدولي؟
الغرض الجديد من تدوين القانون الدولي
يهمنا بادئ ذي بدء أن نكون واقعيين؛ فالمحاولات التي بُذلت في سبيل تقنين مبادئ القانون الدولي تقنينًا تعاهديًّا بالمعنى الصحيح قد باءت — باعتراف الجميع — بالفشل حتى الآن، رغم مواتاة الظروف ورغم ما بذله الممثلون المفوضون للدول في عصبة الأمم.
أوَلَم يقل مسيو هنري لافونتين، في مؤتمر الاتحاد المعقود في جنيف سنة ١٩٣٢، وعند الكلام عن محاولة حديثة ما يأتي:
واستغرقت مداولاتهم زهاء ثلاث سنوات، وأخيرًا عقد مؤتمر في لندن، بناءً على اقتراح من عصبة الأمم. ولم تدرج في جدول أعماله إلا مسائل ثانوية، مثل: الجنسية، والمياه الإقليمية، ومسئولية الدولة عن الأضرار التي تلحق في أقاليمها بأشخاص الأجانب أو بأموالهم.

وعلى الرغم من ثانوية المسائل المعروضة، فالواقع — الذي لا يكاد يُصدق — أن مؤتمر لندن لم ينتهِ إلى قرار بشأن المسألتين الأخيرتين. وكل ما استطاعه هو تدوين قانون للجنسية لا يزال موضع نظر، ولم توافق عليه إلى اليوم — ونحن في سنة ١٩٣٢ — إلا دولتان فقط؛ وهما النرويج، وإمارة موناكو. والأرجح أنه لن يوافق عليه أحد غيرهما. ويتضح من ذلك أن النجاح كان ضئيلًا. (راجع مضبطة مؤتمر الاتحاد البرلماني لسنة ١٩٣٢ بجنيف، صفحة ٣٧٢).

أوَلَم يذكر مسيو بوليتيس (علَّامة القانون الدولي)، عند تعليقه على أعمال لجنة التقنين التي كوَّنتها عصبة الأمم، أنه:

ويزيد الأستاذ جورج سيل، وقد استشهد بما سبق، قوله:
إن ما يقوله العلَّامة والسياسي القدير، نصير التقنين، عن محاولة التقنين التي جرت في جنيف يمكن — في اعتقادنا — أن يقال عن أغلب المحاولات الأخرى التي رمت إليه. وفي رأينا أن مثل هذا العمل لا يمكن أن ينجح — والعلاقات الدولية على حالتها الراهنة — إلا بطريق استثنائي، وأنه لا يصح الشروع فيه إلا في حذر وفي ظروف جد مواتية. (جورج سيل، «القانون الدستوري الدولي»، كتاب القانون الدولي، الجزء الثاني، طبعة سنة ١٩٣٤، صفحة ٥٣٣).

حدود العمل المقترح
وعلى ضوء المحاولات التي عرضنا لها، والأعمال التي قام بها الاتحاد منذ سنة ١٨٩٩، ورغبة منا في ألا نزج بالاتحاد في عمل لا منفذ له؛ نحرص على أن نقرر أننا — مع التمسك بعبارة «التقنين» وفيها ما فيها من الطموح — لا نقصد إلى التقنين التشريعي أو التعاهدي. فالتقنين بالنسبة لنا إعلان جديد لإرادة الشعوب — التي يعبر عنها بكل حرية أعضاء برلمانات الأمم المختلفة — فيما يختص بجوهر مبادئ الأخلاق الأساسية للقانون الدولي.

ولسنا ندعو أعضاء البرلمانات إلى إقرار هذا الإعلان، بوصفهم أصحاب السلطة التشريعية، بل بوصفهم الممثلين الصادقين للرأي العام العالمي؛ هذا الرأي العام الذي قال عنه علَّامة القانون الأمريكي إليهو روت — خلال الحرب العالمية الأولى (سنة ١٩١٤–١٩١٨)، وهو ما ذكره ج. باون سكوت في دورة معهد القانون الدولي المعقودة في هافانا — ما يلي:

لا توجد على سطح الأرض إلا سلطة واحدة تستطيع أن تحافظ على القانون صيانة للحضارة وللإنسانية. وتلك السلطة العزيزة الجانب، هي سلطة رأي الإنسانية العام. فلولاه لكانت كل منظماتكم التي تؤلَّف لغرض السلام، وهيئاتكم التي تقام لتتولى القضاء العالمي، ومعاهداتكم التي تُعقد للصلح، وهباتكم التي تُبذل لصيانة السلام؛ عاجزة قاصرة لا حول لها ولا سلطان؛ إذ ليست في العالم قوة تستطيع أن تتحرك ما لم يكن الرأي العام ظهيرها.

فيجب إذنْ أن يصدر مشروع القرار — الذي سنختم به هذا التقرير — من أعضاء البرلمانات بوصفهم ممثلي الرأي العام العالمي.
سلطات البرلمان المتزايد في توجيه السياسة الدولية

بلغ النظام النيابي الديمقراطي مرحلة اشتركت فيها البرلمانات بنصيب فعلي — يزداد على مدى الأيام تأثيرًا — في توجيه السياسة الخارجية لبلادها.

ولقد باد عهد الدبلوماسية السرية، وأغلب الدساتير ما زال يخص السلطة التنفيذية وحدها بحق المفاوضة في المعاهدات الدولية. لكن المفاوض يجد نفسه — في كل حين — وقد وُجِّه إليه سؤال أو استجواب عن سير المفاوضات التي يقوم بها. فكل مفاوض يعلم أن مفاوضته لن تجدي فتيلًا إذا لم يتبع — يومًا بعد يوم — أماني البرلمانات ومقترحاتها؛ إذ إنه لا يمكن أن تظل وزارة في الحكم من غير التمتع بثقة هذه البرلمانات.

إذنْ فمن الممكن القول — دون أن نُرمى بالمبالغة — إن لأعضاء البرلمانات اليوم الكلمة الأخيرة في أن يحددوا لمندوبي الدول — في مختلِف فروع هيئة الأمم المتحدة — الاتجاهات التي يجب عليهم اتباعها. وليس هذا فيما يختص بالموافقة على المعاهدات ومختلِف الإجراءات الدولية فقط، بل وفي جميع مراحل المفاوضات الخاصة بها وفي التصديق عليها، وهذه الكلمة لأعضاء البرلمانات بصفة نهائية وبطريق غير مباشر.

لذلك نود لو أن برلمان البرلمانات، وهو الاتحاد البرلماني الدولي، أعلن اليوم — باسم جميع أعضاء البرلمانات في العالم — بعض المبادئ الكبرى للأخلاق الدولية، التي يجب أن يستلهمها — في مختلِف البلاد — وزراء الخارجية، ورجال السياسة، والمفاوضون، ومندوبو الدول في مجلس الأمن وفي الجمعية العمومية وفي مختلِف فروع هيئة الأمم المتحدة. وهؤلاء يتبعون جميعًا — في نهاية الأمر — إرشاد البرلمانات. ولا يمكنهم القيام بعملٍ دائم من غير موافقة البرلمانات موافقة صريحة.

هل توجد أخلاق دولية؟
قال الأستاذ هربرت كراوس، في مؤلَّفه القيِّم عن «الأخلاق الدولية»:
الأخلاق الدولية! ألِمثل هذه الأخلاق وجود؟ أهي من طبيعة تختلف عن طبيعة الأخلاق التي يتبعها الأفراد؟ وما الذي تجيزه، أو تخوله، أو تفرضه؟ وهل في استطاعتنا تحسينها؟ وكيف يكون هذا التحسين؟ تلك أسئلة تعرض هنا بصفة مباشرة، وتتطلب — استجابة للضرورة الملحة — إجابة شافية.
وهذه الإجابة هي التي ندعو الاتحاد البرلماني الدولي إلى الإدلاء بها.
قال لودفيج جمبلوفيش سنة ١٩٠٧ في مؤلَّفه عن «القانون العام»:
تقوم الأخلاق حتى اليوم بدور ثانوي في العلاقات الدولية؛ فالأنانية هي الرائد الوحيد للدول والشعوب في تصرفاتها، ولن يخطر ببال أي مؤرخ أن يعيب عليها ذلك، أو أن يدَّعي قياس تصرفاتها بمقياس القانون أو بمقياس الأخلاق.

فالدول أو الشعوب لم تشعر مطلقًا بأنها مقيدة — في علاقاتها المتبادلة — بالقانون أو بالأخلاق. فليس القانون الدولي وحده هو الذي يحتاج إلى المستقبل كي يكفله ويتعهده، بل الأخلاق الدولية هي أيضًا بهذه المثابة؛ ذلك لأنه لم يكن لكليهما وجود ناضج فيما مضى، وهذه هي العظة التي يمكن استخلاصها من التاريخ. (جمبلوفيش «الجمايني شتات لير» النسبروك، طبعة ثالثة، سنة ١٩٠٧، صفحة ٤٢٥ وما بعدها).

وها هو ذا التاريخ يثبت لنا — كما لاحظ تريدلنبرج أحد علماء الأخلاق الدولية في مؤلفه «عن الشعوب والدول» الذي ظهر سنة ١٨٦٠ — أن الدول كانت تتعامل فيما بينها طبقًا للخلق الغريزي الظاهر للإنسان الفطري، ويرمي قانونه الأول والأخير إلى الإبقاء على نفسه، ولا تخرج عواطفه عن الحسد والغيرة، والشك والخبث، والغضب والحقد؛ ولهذا يشعر بعد النصر فقط بالشفقة على الأضعف، وببعض الكرم على البائس المنكوب.

وإن التاريخ ليدعونا إلى أن نضيف إلى هذه العبارات بعض الأمراض الدولية الأخرى التي يجب أن نضع في مقدمتها ما سماه بعض المؤلفين — على سبيل التفكهة — «تضخم الذات»، أو «مهام خاصة لنشر المدنية». وهي التي خولتها بعض الأمم لنفسها، حتى تستر زحفها الاستعماري.

الحروب العالمية مجددة للأخلاق الدولية
من الملاحظ أن للحروب العالمية فضلًا — لا شك فيه — يخفف من شرها وأذاها؛ ذلك أنها تعيد إلى الأخلاق الدولية جدَّتها، فتعدل كثيرًا من إدراك الدول وجماعاتها لفكرة الأخلاق. فمن ينكر — مثلًا — التأثير العميق لشروط الرئيس ولسون الأربعة عشر على الأخلاق الدولية؟ ألم يكن ميثاق عصبة الأمم المتحدة أول مادة في معاهدة الصلح بفرساي؟ وأي ازدهار نالته مبادئ الأخلاق الدولية النبيلة خلال الحرب العالمية الكبرى الثانية، في التصريحات اليومية التي كان يدلي بها الناطقون بلسان الديمقراطيات الكبرى المنتصرة؟ ألم يأتِ ميثاق الأمم المتحدة الذي وضع أثناء القتال — وبخاصة في مقدمته — ببعض المبادئ الأساسية للخلق الدولي، جديدة كانت أو معادًا توكيدها، وهي المبادئ التي لا تستحق أن تبقى نصوصًا بلا أثر في سبيل الخير الأسمى للمجموعة البشرية؟

وثائق نورمبرج
يضاف إلى ذلك أن هنالك مبادئ ذات أهمية جوهرية من قانون العقوبات الدولي، تضمَّنها الاتفاق المبرم بلندن في ٨ أغسطس سنة ١٩٤٥ الخاص بإنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب ومعاقبتهم، والميثاق الملحق به، والحكم الصادر من محكمة نورمبرج.

للذكرى
لما كان مصير ميثاق الأمم المتحدة — والعلاقات الدولية عامة — متعلقًا في نهاية الأمر بإرادة ممثلي الشعوب؛ وهم أعضاء الاتحاد البرلماني الدولي، فإننا نرغب إلى الاتحاد — بوصفه جماعة لها إرادتها الخاصة المستقلة عن كل عنصر مكوِّن لها — أن يتبنى رسميًّا وفي صراحة بعض التصريحات الأساسية التي ألقاها خلال الحرب الأخيرة الناطقون بلسان الديمقراطية. وهي التصريحات التي لا يصح بأي حال أن تتعرض لغير الزمان، فتلقى بذورها في هوة النسيان، وتعود إلى ما آلت إليه تلك التصريحات النبيلة السامية التي صدرت — في ظروف مشابهة — أثناء الحرب الكبرى الأولى.

نريد أن يعلن الاتحاد، خلال مؤتمر السادس والثلاثين بالقاهرة — وهو الأول بعد الحرب — أن المنضمين إليه — أفرادًا كلٌّ منهم على حدة وجماعة قائمة بنفسها — يتمسكون بالمبادئ الآتية:
(١) إعلان الحريات الأربع الجوهرية التي نادى بها الرئيس روزفلت في ٦ يناير سنة ١٩٤١.
(٢) ميثاق الأطلنطي الذي أبرمه الرئيس روزفلت وتشرشل رئيس الحكومة البريطانية، في ١٤ أغسطس سنة ١٩٤١، والذي صدَّقت عليه ست وثلاثون أمة في أول يناير سنة ١٩٤٢، وإحدى وعشرون أمة أخرى قبل أبريل سنة ١٩٤٥.
(٣) بعض الأحكام الواردة في بلاغ مؤتمر موسكو، وفي التصريح الصادر على أثره من الدول الأربع الكبرى، وهي: الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، الاتحاد السوفييتي، الصين، وخاصة الحكم السادس، وهذا نصه:
… أنها لن تستخدم — بعد وقف القتال — قواتها الحربية في أقاليم الدول الأخرى إلا للأغراض المذكورة في التصريح الحالي، وبعد تبادل المشورة فيما بينها.
(٤) بعض الأحكام الواردة في تصريح طهران الموقَّع عليه في أول ديسمبر سنة ١٩٤٣ من الرئيس روزفلت وتشرشل والمارشال ستالين.
(٥) أن المبادئ الجوهرية لقرار شابلنبيك في ٨ مارس سنة ١٩٤٥ التي سبق أن عرضت في شكل مقنن، يجب أن تعمم حتى تنضوي تحت لوائها — إلى أقصى حد ممكن — جماعة الأمم المتحضرة.
(٦) المبادئ الجوهرية للأخلاق الدولية، وهي التي وردت في تصريحات الناطقين بلسان الديمقراطيات الكبرى المنتصرة، وقد يكون من أكثرها دلالة التصريح — الذي ألقاه المستر جيمس بيرنز — المنشور في أول مارس سنة ١٩٤٦، حينما كان وزير خارجية الولايات المتحدة.
لا يحق لنا أن نستبقي جيوشنا في أقاليم دول أخرى ذات سيادة إلا بموافقتها ورضاها الصادرَين بمطلق الحرية.
لا يجوز لنا أن نشن حرب أعصاب لتحقيق أغراض استراتيجية.
لفْت نظر الأمم المسئولة إلى أوضاع قد تعرِّض السلم للخطر، لا يعتبر إهانة لها.

ما من أمة تملك أمر مصائرها ملكًا تامًّا، فإننا مرتبطون بعضنا ببعض في اليسر والعسر.

إن حق الاعتراض المخول للأعضاء الدائمين بمجلس الأمن لا يعفي — في الواقع — أية دولة — كبيرة أو صغيرة — من التزامها الأدبي بأن ترعى في أعمالها أغراض الميثاق ومبادئه.

إذا اقتضى الحال تسوية الأوضاع القائمة بين الدول — كبيرة كانت أو صغيرة — يجب أن يُنظر إليها — في صراحة وإنصاف — على وجهها الصحيح وعلى ضوء المصلحة المشتركة لجميع الدول كبيرها وصغيرها، في صيانة السلم والأمن في العالم؛ لأن الأمم الكبرى يجب أن تتحد كلمتها جميعًا دون أن تنفرد بالسيطرة واحدة منها.

يجب على الأمم أن تضع حدًّا نهائيًّا للمناورات التي ترمي من ورائها إلى الحصول على منافع استراتيجية في نواحي العالم المختلفة، فكل تسوية تخفي مرحلة جديدة تتوسل بها السياسة لتنساب السيطرة من ثناياها.
لن نأتي شيئًا يترتب عليه تقسيم العالم إلى كتل أو إلى مناطق نفوذ؛ فالعالم واحد غير قابل للتجزئة.

مشروع قانون خاص بالتقنين
يتضح مما تقدم أن ما نقترح على الاتحاد البرلماني أن يعهد به — بِناءً على القرار الذي سيُعرض على المؤتمر السادس والثلاثين — إلى لجنة خاصة، ينحصر في أن تُجمع — في مواد — المبادئ الأساسية للأخلاق الدولية التي عُبر عنها خلال الحروب الماضية تعبيرًا جديدًا. فإن الإنسانية لتتحمل خسارة فادحة إذا ما عادت — مع الزمن — التصريحات التي عددناها ومثيلاتها إلى عالم النسيان. ذلك أننا نريد من المؤتمر البرلماني الدولي وهو يسجلها ويؤكدها من جديد، أن يساهم في حفظها في ذاكرة الفئة المختارة من أعضاء برلمانات العالم طُرًّا. ولا غَرْو، فإن لهم الكلمة العليا في سياسة بلادهم الدولية.

الخاتمة
فإلى الذين يتحكمون في السياسة الدولية، وإلى الممثلين الأحرار للرأي العام العالمي — وهم أعضاء الاتحاد البرلماني الدولي — نتوجه بالقرار الخاص بالتدوين الجديد لمبادئ القانون الدولي الأخلاقية، كما تُستخلص من التصريحات التي ألقاها خلال الحروب الأخيرة الناطقون بلسان الدول الديمقراطية الكبرى.
فكل تقنين يصدر منكم يصبح في غنًى عن أن تقره السلطات التشريعية المحلية؛ لأن هذا التقنين يعتبر من وقت موافقتكم مكفولًا بالسلطة الأدبية التي تملكها الجماعة البشرية الممثلة فيكم.
فإذا ما ظفر غدًا مبدأ جديد من مبادئ القانون الدولي — بفضل قراركم ذي الطابع الأخوي — بإيضاح أو بتحديد لم يتمتع به من قبل؛ وإذا ما خلعتم — فيما بعد — على هذه المبادئ الجديدة صفة الاستقرار، وطبقتموها تطبيقًا فعليًّا مستمرًّا كما تستحق، فإنكم تساهمون بذلك في اتخاذ قرارات وإنشاء تيارات فكرية وفقهية ستحمل للإنسانية المعذبة المتشائمة خيرًا كثيرًا.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت