خطاب العرش … خطاب الحركة والفعل

يونس مليح*

ككل خطاب، ينتظر المغاربة في ربوع المملكة بكل صبر وتركيز بالغين، الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لتربع الملك على العرش، هذا الخطاب الذي يأتي في سياق تعرف فيه الساحة السياسية والمجتمعية ببلادنا حالة غليان وتقلبات وصراعات، يمكن القول عنها بأنها تشكل خطرا محدقا ببلادنا، وبأننا ننتظر شيئا ما غير واضح في الأفق.

بطبيعة الحال، هذا التخبط وهذه الصراعات وهذه التقلبات، سببها الأساسي والمحوري أحزابنا السياسية التي تعيش الموت الإكلينيكي البطيء، خصوصا تلك الأحزاب المسيرة للحكومة، والتي تعرف عشوائية وصراعات لم تعهدها البلاد منذ زمن قريب، وذلك راجع بكل تأكيد لبحثها عن تجميع وتكديس الثروات، والوصول إلى المناصب، في حين أنهم نسوا أو تناسوا بأن هدفهم الأول من تصويت الناخبات والناخبين عليهم، هو الدفاع عنهم وعن حقوقهم، وإيصال صوتهم، والرقي بمجتمعهم وتنميته، وإشراك الشباب في العملية السياسية ببلادنا.

فما هو إذن واقع حال الحقل السياسي ببلادنا؟ وما الجديد الذي جاء به خطاب الملك بمناسبة عيد العرش؟

أولا: واقع حال الحقل السياسي ببلادنا

واقع الحال لا يبشر بخير أبدا، ويؤكد بأن الحقل السياسي ببلادنا يقترب من الهاوية ومن الموت المحقق، فأحزابنا اليوم همها الأول والأخير هو إقصاء الواحد للآخر، وأن يبقى الحزب الوحيد مهيمنا على الساحة، منفردا بالقرار غير مبال للباقي “أنا ومن بعدي الطوفان”.

ففي كل مرة عندما يفشل التواصل السياسي مع المواطن، ينتقل معه الخطاب إلى مسح أخطاءه وزلاته في وجود “تماسيح وعفاريت” تؤثر على المسار العام للتنمية ببلادنا. إن الفشل الذي تتخبط فيه أحزابنا السياسية اليوم ليس بواسطة أجهزة المخزن كما يدعون، ولكنه بواسطة التفكير الرجعي وعقليات سياسيينا التي لا تهتم إلا بثقافة الغنيمة.

وفي كل مرة كذلك، ينتظر سياسيونا العصا السحرية التي ستصلح كل شيء، هذه العصا المتمثلة في الخطاب الملكي، الذي تسترجي منه أحزابنا البائسة إيجاد حلول لواقعنا المتخبط، ففي كل مرة يخطأ فيها الساسة إلا وينتظرون الملك من أجل حلها، وهو أمر غير مقبول.

ثانيا: خطاب العرش واللحمة الوطنية

جاء في خطاب الملك بمناسبة الذكرى 19 لتربعه على العرش، ما يلي:” المغرب هو وطننا، وهو بيتنا المشترك. ويجب علينا جميعا، أن نحافظ عليه، ونساهم في تنميته وتقدمه. إن الوطنية الحقة تعزز الوحدة والتضامن، وخاصة في المراحل الصعبة. والمغاربة الأحرار لا تؤثر فيهم تقلبات الظروف، رغم قساوتها أحيانا. بل تزيدهم إيمانا على إيمانهم، وتقوي عزمهم على مواجهة الصعاب، ورفع التحديات. وإني واثق أنهم لن يسمحوا لدعاة السلبية والعدمية، وبائعي الأوهام، باستغلال بعض الاختلالات، للتطاول على أمن المغرب واستقراره، أو لتبخيس مكاسبه ومنجزاته. لأنهم يدركون أن الخاسر الأكبر، من إشاعة الفوضى والفتنة، هو الوطن والمواطن، على حد سواء”.

في هذا الإطار، فقد حاول عاهل البلاد التأكيد على أن المغرب بيتنا جميعا، وبأن الوطن في أعناقنا جميعا، وهنا الملك يدعو إلى الوحدة، والتلاحم في هذه المرحلة الحساسة التي تمر منها بلادنا، والتي لها مخاطر كبيرة على أمن بلادنا، هذه المخاطر تأتي خصوصا من أعداء الوحدة الترابية للمملكة، وفي نفس الوقت تأتي من دعاة السلبية وبائعي الأوهام، وهو الأمر الذي حذر منه الملك، وأكد من خلاله على ضرورة التعبئة والوحدة، وهو ما خطه الملك تحت عنوان كبير “لنحافظ على وحدة واستقرار وأمن بلادنا”.

الأمر المهم في هذا الاتجاه، هو ضرورة التحلي بالاعتزاز والافتخار بالهوية المغربية، فالهوية والاعتزاز بها، واللحمة المغربية أكد عليها دستور المملكة المغربية لسنة 2011 حينما خصها بما يلي: “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية-الإسلامية والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها”. وهو ما يشكل بموجبه الركائز الأساسية التي بنيت عليها الهوية واللحمة الوطنية المغربية منذ قرون، وهي الإسلام، العربية، والأمازيغية كأحد الروافض المؤثثة لهوية المغاربة، والذين تعايشوا معها في ظل أمن روحي، وانسجام فكري، ووحدة ثقافية واجتماعية وسياسية.

إن من أبرز الدوافع نحو التأكيد على اللحمة والاعتزاز بالهوية الوطنية هو ما يشهده عالم اليوم المتغير في كثير من أحداثه، والمتمثل في الانفتاح والنمو والتقدم التكنولوجي الذي ربما يكون له تأثيراته علي الهوية الثقافية للمجتمع، ومما لا شك فيه أن العولمة الثقافية أصبحت تباشر تأثيرها علي الأجيال الجديدة من أبناء المجتمع، وأدخلت مفاهيم جديدة ومفردات غربية على لغتنا العربية، وأصبح الشباب العربي يرددها ويدافع عنها، بل أضحى مكمن الخطورة يتمثل فيما يمكن أن تتعرض له قيم الانتماء والاعتزاز بالوطن والعروبة والإسلام من تهديد، وصار من الواجب علي مؤسسات التربية والتعليم أن تتحمل مسئولياتها لاستعادة التوازن المفقود والدفاع عن هويتنا وثقافتنا.

ثالثا: خطاب العرش والأحزاب السياسية

في هذا الباب، فقد أكد الملك على:” إن تحقيق المنجزات، وتصحيح الاختلالات، ومعالجة أي مشكل اقتصادي أو اجتماعي، يقتضي العمل الجماعي، والتخطيط والتنسيق، بين مختلف المؤسسات والفاعلين، وخاصة بين أعضاء الحكومة، والأحزاب المكونة لها. كما ينبغي الترفع عن الخلافات الظرفية، والعمل على تحسين أداء الإدارة، وضمان السير السليم للمؤسسات، بما يعزز الثقة والطمأنينة داخل المجتمع، وبين كل مكوناته. ذلك أن قضايا المواطن لا تقبل التأجيل ولا الانتظار، لأنها لا ترتبط بفترة دون غيرها. والهيآت السياسية الجادة، هي التي تقف إلى جانب المواطنين، في السراء والضراء. والواقع أن الأحزاب تقوم بمجهودات من أجل النهوض بدورها. إلا أنه يتعين عليها استقطاب نخب جديدة، وتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي، لأن أبناء اليوم، هم الذين يعرفون مشاكل ومتطلبات اليوم. كما يجب عليها العمل على تجديد أساليب وآليات اشتغالها. فالمنتظر من مختلف الهيآت السياسية والحزبية، التجاوب المستمر مع مطالب المواطنين، والتفاعل مع الأحداث والتطورات، التي يعرفها المجتمع فور وقوعها، بل واستباقها، بدل تركها تتفاقم، وكأنها غير معنية بما يحدث”.

فعلى أحزابنا إلتقاط هاته الإشارات والرسائل من عاهل البلاد، على الأحزاب المغربية كما قلنا في بداية هذا المقال، أن تلعب أدوارها في استقطاب الشباب وتأطيرهم، والعمل على إدماجهم بشكل تعمل معه على تشبيب هذه الأحزاب، وترك نخبها القديمة التي أصبحت متجاوزة. فالأدوار اليوم تغيرت، ويجب على الأحزاب أن تلعب دور التعبئة، وتنشيط وتفعيل السياسات العامة للبلاد.

لذلك، يجب ترغيب وتشجيع الشباب على الممارسة السياسية، لأن الشباب هم القادرون على إيصال مشاكل المجتمع، لأنهم يعرفون جيدا معانات المواطنين والمواطنات، ويشكلون ذلك الجزء المزهر المتفتح لهذه البلاد، فشبابنا اليوم يجب أن يخرج من تلك الدائرة المظلمة الإنطوائية الانعزالية، المبتعدة عن المجال السياسي، إلى دائرة النور والمشاركة الفعلية في هذه الحياة السياسية.

الأمر الآخر في هذا الإطار، هو ضرورة ترك التواصل السياسي الهدام، فالمرحلة التاريخية التي تمر منها البلاد، لا يجب الاستهانة بها واختزالها في تواصل سياسي هدام وغير بناء، يؤدي في الأخير إلى حوار للصم بين الأطراف السياسية والرأي العام، ويهدم المسار التنموي ككل للبلاد. فعلى الأحزاب السياسية اليوم سواء أغلبية أو معارضة، حكومة وبرلمان، أن تتجاوز خلافاتها وصراعاتها الفئوية السياسوية، وتغليب روح التوافق الإيجابي والابتعاد عن المزايدات السياسية، والعمل على تجويد تواصلها السياسي من أجل خدمة مصالح الشعب المغربي، لاستكمال مسار بناء دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات.

رابعا: خطاب العرض والعدالة الاجتماعية والمجالية وتنافسية المقاولات

فيما يخص هذه النقطة، فقد خصه الملك بما يلي:” حجم الخصاص الاجتماعي، وسبل تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، من أهم الأسباب التي دفعتنا للدعوة، في خطاب افتتاح البرلمان، إلى تجديد النموذج التنموي الوطني. فليس من المنطق أن نجد أكثر من مائة برنامج للدعم والحماية الاجتماعية من مختلف الأحجام، وترصد لها عشرات المليارات من الدراهم، مشتتة بين العديد من القطاعات الوزارية، والمتدخلين العموميين. وبالإضافة إلى ذلك، فهي تعاني من التداخل، ومن ضعف التناسق فيما بينها، وعدم قدرتها على استهداف الفئات التي تستحقها. فكيف لهذه البرامج، في ظل هذا الوضع، أن تستجيب بفعالية، لحاجيات المواطنين وأن يلمسوا أثرها؟”.

لقد حاول الملك من خلال تطرقه للجانب الاجتماعي، إعطاء رسائل للحكومة، بضرورة النهوض بالأوضاع الاجتماعية التي يعيشها مواطنات ومواطنوا بلادنا، فهذا الموضوع أصبح نقطة رئيسية وأساسية بالنسبة للملك، ويجب العمل على إيجاد حلول لها بشكل سريع، عاجل، وقريب. فهذه المشاكل الاجتماعية هي السبب في المشاكل السياسية التي تعرفها بلادنا اليوم، الأمر الذي ينبغي على ساساتنا أن تجيب عنه وعن انتظارات المواطنات والمواطنين.

فالحماية الاجتماعية من خلال خطاب الملك، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتشغيل، وبدعم المقاولة الصغرى والمتوسطة، هذه الأخيرة تعتبر مدخلا للحداثة والانعاش الاقتصادي والتشغيل، الأمر الذي ينبغي معه العمل على إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، التي تعتبر مدخلا من أجل بت الروح المقاولاتية لدى شبابنا، وتشجيع الاستثمار ببلادنا.

الجانب الاجتماعي كذلك، هو ضرورة إصلاح الاختلالات التي يعرفها تنفيذ برنامج التغطية الصحية “RAMED”، بموازاة مع إعادة النظر، بشكل جذري، في المنظومة الوطنية للصحة، التي تعرف تفاوتات صارخة، وضعفا في التدبير. وإطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، من أجل النهوض بالرأسمال البشري للأجيال الصاعدة، ودعم الفئات في وضعية صعبة، وإطلاق جيل جديد من المبادرات المدرة للدخل ولفرص الشغل.

أما على مستوى العدالة المجالية، فعلى الرغم من كل المجهودات المحمودة والمبذولة من طرف الفاعلين المتدخلين، لازال الوضع غير مريح، إذ يكتسي موضوع السياسات المتعلقة بالتفاوتات المجالية بالمغرب صبغة اجتماعية واقتصادية إلى جانب الصبغة السياسية الكامنة في الارادة السياسية الحقة للفاعلين والمتدخلين في التصدي لهذا المشكل بكل عقلانية وانسجام. خاصةً وأننا في إطار الحديث عن سياسة عمومية تتعلق بالتفاوتات المجالية وتروم إلى تحقيق تنمية بجميع مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

لذلك، يجب التسريع بتقوية المؤسسات الجهوية، والتي تعد مدخلا رئيسيا من أجل معالجة الإشكالات التي تعاني منها التفاوتات المجالية، عبر إصلاح نظامها الجبائي الذي يعد مخزنا رئيسيا للموارد المالية التي ستمكن من تنمية هذه الوحدات، الأمر الذي يستدعي التعجيل بإصلاح القانون المؤطر للجبايات المحلية رقم 47.06.

*كاتب وباحث بسلك الدكتوراه

← قرار محكمة النقض: مسؤولية الناقل ‐ التعويض عن الضرر ‐ اتفاقية وارسو ‐ وزن البضاعة (نعم) ‐ نوع البضاعة (لا)
إعادة نشر بواسطة محاماة نت