دولة القانون الضرورة والمقدمة للشروع في التنمية

يقول أفلاطون “القانون فوق أثينا” يشكل تعبير “دولة القانون” مصطلحاً سياسياً وقانونياً.

فدولة القانون مصطلح سياسي بل “شعار سياسي” يعبر في الأساس عن طموح جمعي أو مجتمعي (المحكومين) لمواجهة السلطة (الحكم). بيد أن مصطلح دولة القانون كشعار سياسي أصبح يستخدم من قبل السلطة (الحكم) لإضفاء صفة الشرعية التي يمثلها في مواجهة المحكومين. أي أن مفهوم دولة القانون كمصطلح سياسي يستخدم من قبل فريقين متنازعين على السلطة بشكل أزلي هما الحكام والمحكومين.

ودولة القانون كمصطلح قانوني يشكل نظرية دستورية محورها تبين الانتقال أو التحول في الحكم من المشخص إلى المجرد. أي بمعنى أوضح انتقال الحكم من مفهوم ذاتي أو شخصي متصل بالحاكم (الملك، الأمير..) إلى مفهوم مجرد أساسه القاعدة القانونية والمؤسسة.

تشكل هذه المساهمة الجزء الأول من موضوع متكامل تحت عنوان من “دولة القانون” إلى “الحكم الجيد” مقدمة وهدف للتغيير والتنمية “والموضوع رغم ترابطه في مرتكزاته الثلاث التي يشير إليها العنوان إلاّ أننا اضطررنا إلى تقسيمه إلى جزأين حيث يظهر الجزء الثاني حول الحكم الجيد والتنمية في العدد القادم…

هيئة التحرير
أي أن دولة القانون هي شعار سياسي ونظرية دستورية هدفها تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين. وهذا التنظيم يتم من خلال إيجاد علاقة متوازنة بين طرفي العلاقة. فالحاكم كأحد طرفي العلاقة وممارس للسلطة يرغب بتغليب ضرورات ممارسة السلطة. والمحكومين باعتبارهم الطرف الآخر لهذه العلاقة يرغبون بتغليب ضمانات الحقوق والحريات العامة. ولكن ضرورات ممارسة السلطة تتجلى من خلال التقييد الوارد سياسياً وقانونياً على الحقوق والحريات العامة، في حين أن ضمانات الحقوق والحريات العامة تتجلى من خلال التقييد القانوني والسياسي للسلطة.

لذلك، ومبدئياً، فإن دولة القانون بمفهومها الواسع هي التي تقيم التوازن بين ضرورات السلطة وضمانات الحقوق والحريات العامة. لأن تغليب ضرورات السلطة يؤدي إلى الاستبداد، وتغليب ضمانات الحقوق والحريات العامة يؤدي إلى الفوضى. ولكن كيف يمكن تحقيق هذا التوازن للقول بقيام دولة القانون؟ ما هي الآليات النظرية لذلك؟ ما هي آليات التنفيذ؟ ما هي معايير التقييم؟…؟…؟

وهنا لابد عند طرحنا لهذه التساؤلات من أن نأخذ بعين الاعتبار مسلمات لا يمكن تجاوزها، وهي أن الأصل والمبدأ إطلاق الحقوق والحريات العامة والاستثناء هو التقييد. ففي العقد الاجتماعي بين أفراد المجتمع رضي الأفراد بالتخلي عن جزء من حقوقهم وحرياتهم لصالح كيان جمعي هو الدولة متجسد بالسلطة بهدف تحقيق ضمان أفضل لهذه الحقوق والحريات. ولذلك يجب على الدولة أن تحكم بأقل قدر من أدوات السلطة (حكومة الحد الأدنى).

كذلك لابد أن ندرك بأن نوعية الحكم في دولة القانون أصبحت تتجلى في التقيد بالأحكام القانونية والخضوع للمؤسسات بدلاً من الطاعة للحكام. فالطاعة للقانون وليس للحكام هو هدف دولة القانون، أي الانتقال من المشخص إلى المجرد، من الفيزيائي إلى الاعتباري.

هذا المفهوم “الشعاراتي” السياسي والدستوري الذي نظر له علماء السياسة وفقهاء القانون أطلقوا مفهوماً جديداً وأصبح يتضمنه، هو مفهوم “الحكم الجيد” أو “الرشيد” أو “السديد”. بل إنه يمكن القول إن مفهوم دولة القانون أصبح من المسلمات، وغير كاف بحد ذاته لتقديم حكم نوعي، فنوعية الحكم المطلوبة حالياً مختلفة وتتطلب إضافة لدولة القانون حكم جيد له أبعاد تنموية.

ولقد أطنب المؤلفون في أبعاد دولة القانوني (سياسي، قانوني، ثقافي، منهجي، فلسفي…) وهي أبعاد مترابطة بل متشابكة. وفي سياق هذا الموضوع لن أتطرق إلا للبعدين الأساسيين الأكثر ترابطاً وتشابكاً وهما البعد السياسي والبعد القانوني.

وبالعودة إلى ما بدأنا به فدولة القانوني هي شعار سياسي ونظرية دستورية هدفها تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين. وهذا التنظيم يتم من خلال إيجاد علاقة متوازنة بين طرفي العلاقة.

في هذا السياق يأتي الخطاب الرسمي العربي على ذكر تعبير “دولة القانون والمؤسسات”. هذه العبارة التي تتكرر باستمرار هل هي إعلان نوايا عن الرغبة في تحقيق شروط قيام دولة القانون؟ وهل يعي من يرفع هذا الشعار (السياسي) مضامينه القانونية وآليات الوصول إليه؟ أم هي تأكيد لواقع إن الفرضيتين بلا معنى: فالواقع القائم أبعد ما يكون عن دولة القانون، بل عن النية في تحقيق شروطها. وهذا الاستنتاج ناجم عن المقارنة بين الإعلان السياسي والتجسيد القانوني.

ولذلك سوف نبين في عجالة مفهوم دولة القانون كشعار وسبل تجسيده إلى واقع معاش. باعتباره نقطة انطلاق نحو المفهوم الجديد “الحكم الجيد” ببعده التنموي.

ـ في نشأة دولة القانون ومضامينها النظرية:

من المعروف تاريخياً أن مصطلح “دولة القانون” ظهر في نهايات القرن التاسع عشر في ألمانيا في زمن تكوين الوحدة (القومية) الألمانية (عهد بسمارك). لذلك كان الهدف منها يتجه أساساً لتدعيم مركزية الدولة، إضافةً لعقلنتها وحسن سيرها. ولم يكتس مفهوم دولة القانون بعده الليبرالي إلا فيما بعد.

وقد أخذ الفقهاء يميزون بين مصطلحين متناقضين للتعبير عن مضمون دولة القانون. هذان المصطلحان هما: “دولة البوليس” (دولة الضبط الإداري تحديداً) و”دولة القانون” (دولة التشريع).

فدولة البوليس، هي التي تمتلك سلطة (إدارة) غير مفيدة لمواجهة الأوضاع المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية… وبالتالي تتخذ القرارات والأوامر والتدابير (التقديرية) اللازمة كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك مما يعني بأنها تشكل تهديداً للحقوق والحريات العامة، باعتبارها غلبت ضرورات السلطة على ضمانات الحريات والحقوق العامة (كما أشرنا سابقاً).

أما دولة القانون فهي التي تقيد نفسها بنظام قانوني (تشريعي بالمفهوم العام).
1 ـ في الحقيقة إن مفهوم دولة القانون ومضمونه هو من المفاهيم ذات الدلالات المختلفة باختلاف بعدي الزمان والمكان: السياق التاريخي والثقافي للأمم أو المجتمعات ولذلك نرى مثلاً أن المصطلحات Rule of law في إنكلترا، وL’Etat de droit في فرنسا.

وRechtsstaat في ألمانيا المعبرة عن مفهوم دولة القانون. تنطوي على صيغ مختلفة ترتبط بالتكوين التاريخي والثقافي لشعوب هذه الدول إلا أنها تشترك فيما بينها في تحديد المفهوم العام لدولة القانون.

السلطة القضائية تعتبر الوسيلة الأمثل لصيانة وحماية الحقوق والحريات. ووجود قضاء مستقل شرط أول لوجود باقي مقومات الدول’ والرقابة القضائية لا قيمة لها إلاّ إذا كان القضاء مستقلاً.

قواعده القانونية (الشكلية والموضوعية) محددة ومعروفة مسبقاً (قاعدة: الجهل بالقانون لا يعتد به والتي تفترض النشر/أو الشفافية وفق مفهوم الحكم الجيد)، لا يمكن للسلطة (الإدارة) أن تخرقها.

انطلاقاً من ذلك فإن المفهوم المبدئي أو الأولي لدولة القانون ـ في ألمانيا ـ يعبر عن النظام السياسي الذي تكون فيه السلطة (الإدارة) مفيدة في عملها بأحكام وقواعد قانونية معروفة مسبقاً للحكام والمحكومين (وهذا ما يسمى بالمعنى الضيق لدولة القانون).

بعد ذلك أخذ هذا المفهوم المبدئي أو الأولي لدولة القانون يتطور ليأخذ معان عديدة تبعاً للمنطلقات التي من خلالها نظر الفقهاء لهذا المفهوم، فنجد بعض الفقهاء من رواد مدرسة القانون أو الحق الطبيعي ـ وعلى رأسهم العميد ديجي Duguit ـ يوسعون من هذا المفهوم، ويرون بأن دولة القانون تعني خضوع الدولة لأحكام تعلو الدولة ذاتها وتفرض عليها التزامات تفوق ما نظر له الفقهاء الألمان (رواد المذهب الوضعي) الذين يرون دولة القانون تعبر عن النظام السياسي الذي تكون فيه السلطة مفيدة بالأحكام والقواعد القانونية التي وضعتها بموجب إرادتها المستقلة. لذلك فإن أنصار مدرسة الحق الطبيعي يرون بأن دولة القانون تستوجب احترام قواعد قانونية فوق الدول، تفرض نفسها حتى على صاحب السيادة (السلطة التأسيسية الأصلية) حتى ولو كان الشعب ذاته، وهذه القواعد الموضوعية هي القواعد المتعلقة بحقوق الإنسان الطبيعية (وهذا ما يسمى بالمعنى الواسع لدولة القانون).
وقد ذهب جانب من الفقه (وعلى رأسهم Caree de Malberg)، على الرغم من قبولهم بالمعنى الأولي الضيق لدولة القانون إلى التمييز بين مفهومين هما: دولة القانون Etat de droit والدولة القانونية Etat legal.

ـ في المعنى الشائع والمعاصر لدولة القانون
إن التعريف الشائع والمعاصر لمفهوم دولة القانون يرتبط لدى علماء السياسة والقانون والاجتماع والفلسفة… ولدى المشتغلين في الحقل العام أخذ يركز على عناصر ثلاثة متصلة بالحكم: هدف الحكم، وسائل ممارسة الحكم، نوعية الحكم.

أولاً ـ هدف الحكم:
إن دولة القانون هي التي تهدف إلى إقامة نظام سياسي (حكم) بهدف إلى حماية الحقوق العامة كيف تتم هذه الحماية؟… الجواب: بتقييد السلطتين التشريعية والتنفيذية (الإدارة).

أي أن دولة القانون هي الدولة التي تخضع بدايةً لنظام قانوني ذاتي يمتد من الدستور إلى أبسط القواعد القانونية قيمةً (المذهب الوضعي)، وفقاً لمبدأ تدرج القواعد القانونية الذي قال به الفقيه Hanss Kelsen. وتخضع أيضاً إلى مبادئ وقواعد غير منصوص عليها في القانون الوضعي. هذه القواعد الأخيرة منبثقة من طبيعة “دولة القانون” (مدرسة القانون الطبيعي). ويتوجب على كافة السلطات أن تتقيد بها.

فدولة القانون هي الدولة التي لا تقيد الحقوق والحريات العامة إلا بالقدر الكافي واللازم لتأمين مقتضيات الأمن والاستقرار بما يؤمن حسن ممارسة هذه الحقوق والحريات (المناخ اللازم لعملية التنمية الشاملة وفق مفهوم الحكم الجيد).

ثانياً ـ وسائل الحكم:
لتحقيق الهدف الذي تسعى له دولة القانون لابد من توفر الوسائل التالية:
1 ـ الفصل بين السلطات:
يعتبر مبدأ فصل السلطات La separation des pouvoirs أحد أهم المبادئ الدستورية في الدول الديمقراطية المعاصرة.
هذا المبدأ الذي ينسب إلى مونتسكيو، على الرغم من أنه ليس هو أول القائلين به، من خلال بحثه عن المثالية السياسية عن طريق إيجاد حكم معتدل يوازن بين ضرورات السلطة وضمانات الحقوق والحريات العامة.

قال مونتسكيو: إنّ الحل الوحيد لإجبارهم هذا الحكم على الاعتدال، ومنعه من الانحراف هو الفصل بين السلطات. وقد برر مونتسكيو هذا الفصل بين السلطات بأسباب فلسفية وتاريخية وبشرية يمكن تلخيصها بما قاله في إحدى فقرات كتابه (روح القوانين) حيث قال إن الحرية السياسية لا يمكن أن تتواجد إلا في ظل الحكومات المعتدلة، غير أنها لا توجد دائماً، إذ إنها لا تتحقق إلا عند عدم إساءة استعمال السلطة. ولكن التجربة الأبدية أثبتت أن كل إنسان يتمتع بسلطة لابد أن يسيء استعمالها إلى أن يجد الحدود التي توقفه، فالفضيلة في حد ذاتها في حاجة إلى حدود. ولكي لا يمكن إساءة استعمال السلطة فإنه يتوجب أن يكون النظام قائماً على أساس أن السلطة تحد السلطة “Le pouvoir arête le pouvoir”. ولذلك يمكننا القول: إنّ محرك مبدأ الفصل بين السلطات عند مونتسكيو كان في الحقيقة ثلاث أفكار مترابطة:

ـ كيف نحمي الحرية؟ بعدم إساءة استعمال السلطة.
ـ كيف نمنع إساءة استعمال السلطة؟ عن طريق إيجاد حكومة معتدلة.
ـ كيف نتوصل إلى الحكومة المعتدلة؟ عن طريق الفصل بين السلطات.
ولذلك تعتبر من أهم مزايا مبدأ الفصل بين السلطات صيانة الحرية ومنع الاستبداد، والمساهمة في إنشاء أو بناء دولة القانون.
2 ـ رقابة القضاء
إذا كان مبدأ فصل السلطات يشكل نوعاً من الرقابة السياسية التي تعني أن كل سلطة تملك الوسائل الكفيلة بالحد من تعسف أو تجاوز السلطات الدستورية الأخرى. فإن الرقابة القضائية تعتبر الوسيلة الأمثل لصيانة وحماية حقوق وحريات الأفراد، سواء فيما يتعلق بخضوع السلطة التنفيذية أو الإدارة للقانون، أم في خضوع السلطة التشريعية للدستور.

فالسلطة التنفيذية تكون خاضعة في تصرفاتها لأحكام الدستور طبقاً لفكرة تدرج القواعد القانونية La hierarchie des normes، حيث تشكل أحكام الدستور القواعد الأسمى Les norms superieure التي تأتي في قمة هرم القواعد القانونية.

فالسلطة التنفيذية، يجب أن تتفق أعمالها وتصرفاتها، كسلطة إدارية Pouvoir administratif، ليس مع أحكام الدستور فقط، بل مع أحكام القواعد القانونية الأخرى النافذة من قوانين عادية ولوائح تنظيمية استناداً لمبدأ المشروعية Le principe de legalite. والقضاء هو الضامن والكفيل لتأمين احترام السلطة التنفيذية (الإدارة) لهذه الأحكام من خلال دعوى الإلغاء Le recours pour exces de pouvoir، ودعوى التعويض عن أعمالها المادية وتصرفاتها القانونية (سواء اللوائح التنظيمية أم القرارات الفردية) (1).

وكذلك فإن أعمال السلطة التشريعية يجب أن تدور في حدود أحكام الدستور، وخاصةً في إصدارها للتشريعات. فلا تملك السلطة التشريعية أن تخالف أحكام الدستور، في نصها وفي روحها، من خلال القوانين الصادرة عنها. فأحكام القوانين يجب أن تكون متفقة مع أحكام الدستور، وذلك تحت طائلة بطلانها. وضمان أن تكون أحكام القوانين متفقة مع أحكام الدستور يتم عن طريق الرقابة على دستورية القوانين La controle de la constitutionnalite des lois، سواء بطريق الدعوى المباشرة أم بطريق الدفع الفرعي بعدم الدستورية.

3 ـ استقلال القضاء

إنّ وجود قضاء مستقل يشكل أحد أهم الدعامات الأساسية لقيام دولة القانون. وعلى استقلال القضاء يتوقف الوجود الفعلي لبقية مقومات دولة القانون. فلا قيمة للدستور، ولا لمبدأ الفصل بين السلطات، ولا لإعلان الحقوق والحريات الفردية، غلا بوجود رقابة قضائية تضمن احترام أحكام الدستور وبقية القواعد القانونية، وتضمن ممارسة كل سلطة وظائفها في حدود مبدأ فصل السلطات، وتضمن حماية للحقوق والحريات الفردية. ولا قيمة لهذه الرقابة القضائية إلا إذا كان القضاء المستقل يمارسها.

واستقلال القضاء (العدلي أو الإداري أو الدستوري) الذي يعتبر أمراً لابد منه لقيام دولة القانون يجب أن يتأمن على مستويين: الاستقلال الشخصي للقضاة يتأمن على أكثر من صعيد: كيفية اختيار القضاة، والحصانة وخاصةً عدم القابلية للعزل، والنظام المالي والإداري الخاص بالترقية والنقل والتأديب، وقواعد الحياد في مواجهة الخصوم، أما الاستقلال الوظيفي للقضاء فيتأمن من خلال: عدم تحصين أي عمل من أعمال سلطة الدولة من رقابة القضاء. وعدم تدخل كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في عمل القضاء، وضمان احترام حجية الأحكام وتنفيذها (2) .

ثالثاً ـ نوعية الحكم:
إن نوعية الحكم التي تنجم عن الوسائل والأهداف المحددة سابقاً، هو الحكم الذي تكون فيه الطاعة والخضوع من الحاكم والمحكوم إلى القانون والمؤسسات.

ولكن لا يمكن تحديد نوعية الحكم المؤسساتي الناجم عن دولة القانون إلا من خلال الربط بين دولة القانون والمناخ الذي نشأت فيه: فكرياً وفلسفياً، وسياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً… وحتى دينياً.

فدولة القانون كمفهوم وكشعار، نشأت وتأصلت بفعل تطورات عديدة عاشها الغرب المسيحي من قرونه السوداء إلى عصره الذهبي، عصر الحداثة الذي يعيشه بكل أبعاده: ثورة علمية من غاليله إلى بيل غيت، وثورة اقتصادية ليبرالية أنتجت تقدماً وحضارة مادية، وثورة دينية من الكنيسة إلى العلمانية، وثورة في سند الحكم من الإلهي المطلق إلى الديمقراطي، ولا ننسى أيضاً ثورة بل حروب القوميات… فنوعية الحكم الذي نتحدث عنه في دولة القانون، يجب أن لا يفهم فقط على أنه يتجلى في خضوع الدولة للشرعية القانونية من أجل الوصول إلى العدالة والإنصاف، وإنما يجب أن يفهم بجميع تجليات محيطه المتطور.

فدولة القانون دستورياً ـ وكما أشرنا سابقاً ـ محورها هو الانتقال في الحكم من الذاتي المشخص إلى الاعتباري المجرد، أي إلى حكم القانون والمؤسسات لا حكم الأفراد. وبتعبير آخر إلى الحكم الذي يكون الولاء فيه لسيد وحيد هو القانون والمؤسسة.

وفكرة السيادة للقانون وللمؤسسة دستورياً لا تنجم إلا من خلال آلية سياسية تتجسد في كيفية إسناد السلطة التي يجب أن تكون عن طريق الشعب، أي بالديمقراطية. فالحكم الديمقراطي هو منطلق ومآل دولة القانون، أي هو نوعية الحكم الذي تنشده دولة القانون.

تحرير الإنسان من المؤسسات الفاسدة يعني أننا نعطيه أقصى حد من الحرية ونمنحه كامل الثقة كصاحب وظيفة في المجتمع وليس بصفته إنساناً فقط.

قبول المعارضة يتيح للسلطة الحاكمة الاستفادة من نقدها وهذا يسمح باستدراك ما يحسن سير المؤسسات السياسية في سبيل خدمة الإنسان.

والديمقراطية كنوعية حكم لدولة القانون. لا يجب أن ينظر إليها كنظام حكم وغيديولوجيا فحسب، بل بكونها، أيضاً، نمط حياة ونظرة إلى الذات وإلى الآخر، نظرة إلى الإنسان بصفته إنساناً قبل كل شيء، بصفته صاحب الحق الطبيعي في التعبير عن ذاته. وعن خياراته، وعن إمكانياته في التعبير والإبداع دون خوف ودون حدود، إلا ما تفرضه عليه مواطنيته بما له من حقوق وعليه من واجبات، وذلك في إطار المجتمع الذي يسوده القانون وتحكمه المؤسسات في ظل متلازمتي الحرية والمساواة. لذلك فإن الحكم الديمقراطي كنوعية حكم لدولة القانون لا يحتاج إلى أناس أطهار ومعصومين وخارقين لممارسة الحكم، بل يحتاج إلى أناس عاديين يخضعون للسيد الوحيد/القانون(3).

الهوامش:

1 ـ أما أعمال السلطة التنفيذية كسلطة حكومية Pouvoir gouvermental، فإن هناك وسائل وآليات قانونية ـ سياسية مختلفة لحمل هذه السلطة لاحترام أحكام الدستور. فهناك إمكانية سحب الثقة من الحكومة Montion censure أو محاكمة الرئيس في حالة الخيانة العظمى La haute trahison والذي يشكل خرق الدستور أحد أسبابه في بعض الدول.
2 ـ يضاف إلى هذه المقومات الأساسية لدولة القانون العديد من المقومات الأخرى. وخاصة تلك المتعلقة بالأمن القانوني La securite juridique. وعلى رأسها مبدأ عدم رجعية القواعد القانونية Non-retroactivite.
3 ـ كما يقال في دولة القانون وحكمها الديمقراطي “يجب ألا ينظر الحاكم (الحاكم بمختلف مستوياته) إلى نفسه وكأنه ولد من عيون أمه والمحكومين ولدوا كما يولدوا الناس. وكذلك يجب على المحكومين بالمقابل ألا ينظروا إلى الحاكم وكأنه ولد من عيون أمه وهم ولدوا كما يولدوا الناس”.

وانطلاقا من ذلك فإن الحكم الديمقراطي ـ كمنطلق ومآل لدولة القانون ـ يفترض الإيمان والاستناد إلى بعض الأسس والركائز، والتي يمكن إجمالها بالتالي:
1 ـ الثقة بالفرد
إن الإيمان بقيمة وأهمية الفرد يعتبر إحدى الإيديولوجيات الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية. هذا الإيمان في الواقع ناجم عن موروث تاريخي أفرزته الحضارات التي تعاقبت على هذه الدول. فالعصور القديمة ركزت وأكدت إنسانياً على الشخصية الإنسانية الحرة المسؤولة، واقتصادياً على الملكية الفردية، واجتماعياً على العدالة. وقد جاءت الحضارة اليونانية اللاتينية على تنظيم ذلك في إطار الدولة أو السلطة السياسية. ومن ثم أدخلت المسيحية على هذه الأفكار دقة ولهجة جديدة: ففكرة الإنسان الحر المسؤول أعطيت مزيداً من القيمة من خلال التأكيد على النفس والخلاص الفرديين، وأكملت فكرة العدالة بفكرة الإحسان. ونمت الفكرة الفردية كأحد جذور الحرية بقوة في ظل القرون الوسطى. وبدأ هذا الموروث التاريخي “يتمأسس”(1) منذ عصر النهضة حيث نشأت الفردية الحديثة التي تشكل تراثاً إنسانياً للمجتمعات الغربية. فالإنسان أو الفرد هو خير بطبيعته، والمؤسسات هي التي يمكن أن تكون فاسدة، لذلك يكفي أن نحرر الإنسان من هذه المؤسسات بأن نعطيه أقصى حد ممكن من الحرية، أي نمنحه كامل الثقة، حتى نحصل على نظام اجتماعي كامل، للأسباب التالي ة:
1 ـ المجتمع ليس سوى مجرد تجمع أفراد نتيجة روابط العقد الاجتماعي فيما بينهم، أي ناجم عن مجرد اتفاقهم الإرادي.
2 ـ إن محور تنظيم المجتمع يجب أن يتركز على حماية حقوق الفرد، من خلال تقييد مجال السلطة السياسية في أضيق نطاق ممكن.
3 ـ القانون ليس سوى التعبير عن الإرادة العامة، أي إرادة مجموع المواطنين، وهذا قمة التمجيد للإنسان الفرد الذي يمنح عقله ثقةً وإيماناً كاملين.
4 ـ إن الثقة بالفرد لا تذهب إليه كإنسان فقط، وإنما كصاحب وظيفة في المجتمع.
هذا المفهوم الفلسفي الثقافي للثقة بالفرد تنجم عنه عدة آثار فيما يتعلق بالمؤسسات السياسية أو التنظيم السياسي التي يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
1 ـ الاعتراف للفرد بالحريات التي تسمح له بالتصرف في المجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، هذه الحريات تفهم على أنها مجرد قدرات للفرد يمارسها من أجل تحقيق ذاته.
2 ـ المساواة التي تعتبر مظهراً من مظاهر الحرية وشرطاً لممارستها. وهذه المساواة هي مجرد تكافؤ للفرص على الصعيد الحقوقي، أي أنها مساواة قانونية لا فعلية.
3 ـ مبدأ الاقتراع العام، والثقة بالفرد كناخب.
4 ـ الثقة بالفرد كمنتخب، يمثل الأمة بأكملها.
2 ـ الإيمان بفضيلة الحوار
الحوار من حيث الظاهر هو تبادل الكلام والعمل الحر، تبادل الآراء والأفكار والأحكام، أي القدرة والإمكانية على القول (مبادرة) والنقض (الرد على المبادرة).
والحوار من حيث المبدأ، يقتضي وجود إمكانية الاتصال بالآخر، لأنه يفترض وجود فردين أو مجموعتين من الأفراد: الأولى تقوم بالمبادرة والأخرى ترد على المبادرة. ولكن هذين الطرفين المتحاورين يجب أن يأخذ بعين الاعتبار بعداً قيمياً يتمثل بالحقيقة والعدالة. ولذلك فإن الحوار الحضاري يتطلب:
1 ـ القناعة بوجود حقيقة وعدالة، أو على الأقل بإمكان الاقتراب من الحقيقة(2) والعدالة.
2 ـ القناعة الحقيقة يتعلقان أساساً بتجربة المقترحات والأفكار الأولى عن طريق مرورها عبر عقول متتابعة تعمل بما لها من ذاتية على تنقيتها كلها أو في جزء منها من الأخطاء التي تمتزج بالحقيقة.
3 ـ الاعتقاد بوجود نوع من التعادل الفكري بين الأفراد، أو على الأقل تتوفر فيهم القدرة على المساهمة في الحوار.
هذا المفهوم المبدئي للحوار يرتب عدة آثار فيما يتعلق بالمؤسسات السياسية أو التنظيم السياسي، يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
1 ـ إنّ النظم الديمقراطية المعاصرة تقوم على التمثيل السياسي (الديمقراطية التمثيلية). وأهم ما يسهم في تطوير آلية التمثيل السياسي هو الحوار بين المنتخب وناخبيه. هذا الحوار يسمح للنواب (الممثلين) بالوقوف باستمرار على رغبات ومتطلبات وآراء ناخبيهم.
2 ـ وجود الأحزاب السياسية التي تسهم في عملية الحوار بين الحكام والمحكومين، بين السلطة والمعارضة.
3 ـ المجالس البرلمانية التي تؤمن الحوار بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية وبين الأكثرية والمعارضة.
4 ـ إنّ مبدأ الفصل بين السلطات، الذي يعتبر كما أشرنا أهم وسائل دولة القانون، يؤمن نوعاً من الحوار بين السلطات الأساسية وخصوصاً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
3 ـ المجتمع التعددي
تقوم الديمقراطية على تعددية المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، وهذا أمر طبيعي تفرضه مقتضيات الحرية، التي تعتبر الشرط الأساسي للثقة بالفرد، فالتعددية السياسية تنجم عن حرية الرأي، حيث يكون من حق المواطنين، أفراداً وجماعات، أن تختلف آراؤهم حول سير الشؤون العامة وحول القرارات السياسية، وحول تنظيم المجتمع وأسسه. وهذه التعددية السياسية تتجلى في حرية التجمع والمشاركة، وتعددية الأحزاب السياسية، وتعددية المرشحين نتيجة الانتخابات التنافسية، وتعددية الكتل البرلمانية في المجالس التشريعية الخ.
والمجتمع التعددي هو نقيض المجتمع الاجماعي في الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد. والخيار بين المجتمع التعددي والمجتمع الاجماعي لا يتعلق فقط بالتناقضات بين الإيديولوجيات أو المعتقدات للمذهب السياسي المعتنق، بل في النظرة إلى الحل الذي يمكن أن نتبعه لحل التناقضات التي يحتويها كل مجتمع في المجالات المختلفة. وبهذا الصدد لدينا موقفان ممكنا تجاه هذه التناقضات: الموقف الأول يتمثل في الاعتقاد بأن هذه التناقضات غير ممكنة الحل، وأنّ محاولة حلها تولد تناقضات جديدة، وأنه من الممكن للمجتمع أن يتقدم في ظل هذه التناقضات، وبالتالي علينا القبول بتعدد المصالح والأحزاب، والآراء… أي نقبل بالمجتمع التعددي. أما الموقف الثاني فيسوده الاعتقاد بأن حل هذه التناقضات ممكن، بل ضروري، وذلك لأن مختلف التناقضات الجزئية تنطلق من تناقض أساسي يمكن تجاوزه من خلال مجتمع الحزب الواحد الذي من خلاله يمكننا نشر معتقد واحد رسمي حول أسس المجتمع.
ويزعم بعض الباحثين بأن الميل نحو المجتمع التعددي يعود إلى جملة من العوامل ذات الصبغة السوسيولوجية التي تتمحور في نقطتين:
1 ـ إن التعددية اعتمدت في بلدان سبق لتكوين الأمة فيها أن تكامل وتبلور، مما أكسبها رشداً لتحقيق ما يسمى بالعيش المشترك.
2 ـ إن الليبرالية الاقتصادية، القائمة طبعاً على التعددية، الموجودة في هذه البلدان أسهمت في قيام المجتمع التعددي سياسياً.
4 ـ ثنائية السلطة/المعارضة
تقوم المجتمعات الديمقراطية على ثنائية السلطة/المعارضة. هذا الأمر منطقي لأنه ينجم عن قيام هذه المجتمعات على الثقة بالفرد وخاصة حرية الرأي، وعن الإيمان بفضيلة الحوار والمجتمع التعددي.

ويقصد بالمعارضة Opposition بالمدلول العضوي، الهيئات (الأحزاب والتجمعات السياسية) التي تختلف مع الحكومة وتنتقدها، وتسعى للحلول محلها. ويقصد بالمعارضة بالمدلولٍ الموضوعي، كل نشاط أو عملٍ يتضمن نقداً للحكومة، سواء أكان صادراً عن أحزاب أو تجمعات سياسية، أم عن أفراد وتجمعات غير سياسية.

فالسلطة في الأنظمة الديمقراطية، على الرغم من أنها غير منازع عليها ككل، لا تظهر بالمظهر الشامل والتوفيقي بين المتناقضات في المجتمع. فالقبول بها ليس بحاجة إلى أن تكون مقدسة، فهي ليست سوى سلطة سياسية تمارس على أناس أحرار. والحرية تفترض وجود انسجام أو توافق على نظام يكفل ممارسة هذه الحرية، ولكن هذا النظام ليس نظاماً شمولياً لتكريس السلطة، بل مجرد نظام ينطلق من أسس المجتمع للمحافظة على هذه الحرية.

فرفض المعارضة يعني السعي لإقامة مجتمع إجماعي يفكر فيه جميع أفراده على نحو موحد. أما قبول المعارضة فيعني السعي لإقامة مجتمع تعددي، يحقق ثنائية الأكثرية/الأقلية، التي تجعل الحياة السياسية أقرب إلى فهم المواطنين، من خلال مناقشة المسائل العامة، بين الأكثرية والمعارضة، بشكل علني، وهذا ما يشكل أحد أهم أسس الديمقراطية وقبول المعارضة من قبل السلطة الحاكمة، تسمح لهذه الأخيرة بالاستفادة من نقد الأولى من أجل حسن سير المؤسسات السياسية في سبيل خدمة الإنسان. والإنسان بفضل المعارضة يتمكن من تأكيد استقلاليته الذاتية ويحافظ على حريته في مواجهة السلطة. فبواسطة المعارضة يستطيع الإنسان مراقبة السلطة الحاكمة، مباشرة من خلال عملية الانتخاب، أو بصورة غير مباشرة عن طريق ممثليه، ويمكنه من المشاركة في الحكم. فوجود المعارضة يضيق مجال السرية، ويوسع مجال الشفافية السياسية وما ينجم عنها، حيث تبقى كالسيف المسلط على رقبة السلطة. باختصار يمكننا القول: “إن المعارضة تشكل أهم “ميكانيكيات” سير المؤسسات السياسية في الأنظمة الديمقراطية.

5 ـ تداول السلطة
إن القبول بثنائية السلطة/المعارضة يقتضي القبول بمبدأ تداول السلطة فيما بينهما. وتداول السلطة يعني انتقال السلطة من شخصٍ لأخر، أو من جماعة سياسية لأخرى وفقاً للطرق المحددة في الدستور. ولا يشترط في ذلك، أن يتم هذا التداول بشكل فعلي خلال فترات محددة، وإنما يكفي أن تكون هناك فرصة جدية لمن في المعارضة أو للأقلية أن يصبح في السلطة، أو يشكل الأكثرية.

باختصار، تقوم المجتمعات الديمقراطية على تنظيم عقلاني لعنصرين نقيضين هما السلطة والحرية، أو كما أشرنا سابقاً ثنائية السلطة/الحرية: سلطة الحكام وحرية المحكومين، الذين هم في آن واحد مواطنون يتبادلون المواقع وفقاً لمبدأ تداول السلطة. هذه العقلانية في التوفيق بين هذين العنصرين تقوم على عدة أسس التنظيم السياسي يقوم على مبدأ التمثيل (النظام التمثيلي)، ورقابة الممثلين على الحكام، والانتخابات التنافسية لمدة معينه، وإتباع رأي الأكثرية دون التقيد بمبدأ الإجماع وهذا نتيجة منطقية للمجتمع التعددي.

وانطلاقاً من هذه الأسس والركائز للحكم الديمقراطي يجب أن نشير إلى الأمور الأساسية التالية:
1 ـ إن الديمقراطية كنظام حكم، كما أشرنا سابقاً، ليست مادة نستوردها أو أسلوب نقلده فحسب، وإنما هي نمط حياة لا يتكون إلا بالتراكم (وفقاً للمنطق الجيولوجي) التاريخي. يجب على كل جيل أن يعمل بكل مسؤولية من أجل الحفاظ على هذا النمط من الحياة والحكم وترسيخه والدفاع عنه ضد أي خطر يحدق به بشكل مباشر أو غير مباشر، أي لابد من حامل اجتماعي للديمقراطية. فالديمقراطية ليست نظرية للدراسة وإنما تجربة حياتية، أي لابد من نقلها من حيز الخطاب المثالي من قبل الحاكم والمحكوم إلى الواقع التجريبي المعاش.

تتيح دولة القانون الوصول إلى الحكم (الجيد) الرشيد بما له من بعد تنموي شامل يمنح للديمقراطية قوتها واستمرارها ويهيئ للتنمية البشرية أن تأتي في طليعة محاور التنمية وأهدافها.

2 ـ إن الديمقراطية وفقاً للمنظور التاريخي هي وليدة الحداثة الغربية، ومظهر من مظاهرها تعمل على تسويقه وتصديره. حيث أن أي اتفاق شراكة مع دول الغرب (الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية المسيطر عليه من الغرب) يترافق مع شق يسمى “الشرط السياسي”. هذا الشق يهدف إلى حث الدول الراغبة في الشراكة على تطبيق سلسلة من الوصفات احتراماً لعدد من المبادئ وعلى رأسها “الحكم الديمقراطي” و”دولة القانون”. هذا الأمر يجب أن لا يشكل دعوة لنا للاستمرار في النظر إلى الديمقراطية كمنتج أجنبي دخيل، وإنما كمفهوم وتجربة حضارية إنسانية ملك للبشرية جمعاء.

3 ـ إذا كانت التجارب الديمقراطية قد دلت على إن الديمقراطية لا تسير في تاريخ المجتمعات على نمط واحد مطرد، فيجب أن لا يشكل لنا ذلك دعوة لكي نغرق في مصطلح “الخصوصية”.

4 ـ إن الديمقراطية ليست العصا السحرية، وليست الدواء والترياق الشافي الذي ننشده لكافة العلل، كما يراهن عليها معظم المثقفون العرب، كما راهنوا على مفاهيم أخرى (كالاشتراكية) لمواجهة التخلف. ولكن ذلك ليس دعوة للعزوف عن الديمقراطية، وإنما دعوة لكي ننظر إليها بأنها شرط مسبق ولازم ولكنه غير كاف لنوعية الحكم الذي ننشده. فالحامل الاجتماعي اللازم للديمقراطية يحتاج إلى تعزيز وتقوية (إلى مناخ)، والحكم الجيد أو “الرشيد” أو السديد” ببعده التنموي الشامل هو الذي يمنح هذا الحامل الاجتماعي للديمقراطية قوته ويعززها.

وهنا لابد أن نشير إلى أن البعد التنموي المقصود هنا لا يقتصر على البنية التحتية للدولة بالمفهوم الاقتصادي (وفقاً للمنطق الماركسي) والذي استخدم من قبل الحكم في مختلف الدول العربية كحجة لإرجاء إقامة دولة القانون والديمقراطية، وإنما المقصود بالبعد التنموي هنا التنمية الشاملة وفي مقدمتها التنمية البشرية (الحامل الاجتماعي للديمقراطية).

الهوامش:
4 ـ من المؤسسة.
5 ـ تعتقد أنه في الحوار يجب أن ننطلق من حقائق أو حقيقة بدون أل التعريف. وبالتالي يجب أن لا يقول الإنسان وجدت الحقيقة وإنما وجدت حقيقة بدون أل التعريف. لأن الحقيقة المطلقة لا يملكها إلا الأنبياء عن طريق الوحي الإلهي.

مقال لد.سام دلّه :عميد كلية الحقوق جامعة حلب
إعادة نشر بواسطة محاماة نت