دراسة و بحث حول السلطات الثلاث في الدولة الإسلامية

السلطة في اللغة :

هي التسلط والسيطرة والحكم( ) ، والسلطان يطلق على الوالي ، وعلى الحجة والبرهان( ) .
ويمكن القول : أن السلطة في النظام السياسي هي امتلاك القدرة الفاعلة للقيام فيما من شأنه تدبير أمور الدولة .
وتنقسم السلطات في الدولة الإسلامية إلى ثلاثة أقسام هي :-

1- السلطة التشريعية (التنظيمية) .
2- السلطة القضائية .
3- السلطة التنفيذية .

أولاً : السلطة التشريعية

السلطة التشريعية أو التنظيمية هي التي تتولى إصدار التشريعات ، وسن القوانين التي تحتاجها الدولة ، ونجد في الدول غير المسلمة أن الذي يتولى هذه السلطة أو الذي يسن لها التشريعات ، ويصدر القوانين ، هي مجالس تعرف بمجلس النواب ، أو مجلس الشعب ، أو المجلس الوطني ونحوها.( )
والتشريع في الدول غير المسلمة مستمد من (الدستور) ، والدستور هو: مجموع القواعد الأساسية التي تقرر النظام الحكومي ، لدولة من الدول .. وسلطة الحكومة .. وطرق توزيع هذه السلطة ، وكيفية استعمالها ، كما يقرر حقوق الأفراد وواجباتهم، بحيث يكفل للدولة نظاماً للحكم يتميز بالثبات والاستقرار ، ، ويكون في مأمن من التغير والارتباك .( )
أما الوضع في الدولة الإسلامية فيختلف تماماً عنه في الدول غير الإسلامية ، فإذا كان دستور الدول غير الإسلامية من وضع البشر ، فإن دستور الدولة الإسلامية من وضع رب البشر ، وإذا كان دستور الدول غير الإسلامية اشترطوا له صفة الثبات ، فإن الذي شرط الثبات لدستور الدولة الإسلامية هو رب الأرض والسماوات ، كما في قوله سبحانه { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}( ) .

واشتراط الثبات للدستور الذي وضعه البشر أمر غير ممكن ، فإن تغير الرؤساء وتغير الأزمان وتغير الضروف كفيل بتغيير هذه الدساتير ، ولم تسلم الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل من التحريف والتبديل ، فكيف تسلم أنظمة وقوانين وضعها البشر ؟‍‍!.
ومصدر التشريع في الدولة الإسلامية يتمثل في كتاب الله سبحانه وتعالى ، وفي سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) والفهم الذي يستنبطه العلماء اعتماداً عليهما بالإجماع والاجتهاد والقياس .
القرآن الكريم

وهو كلام الله المنزل على خاتم الأنبياء ، باللفظ العربي ، المتعبد بتلاوته ، المكتوب بالمصاحف ، المنقول إلينا نقلاً متواتراً .( )
والقرآن الكريم هو الأصل الأول للتشريع كما يدل على ذلك حديث معاذ بن جبل (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعثه إلى اليمن فقال : ((كيف تقضي ؟ فقال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ، قال : فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :فإن لم يكن في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : أجتهد رأيي . قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ))( ) .
ولم ينزل القرآن الكريم كتاب تشريع فقط ، بل نزل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، كما في قوله سبحانه {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}( ) .
ونزل القرآن الكريم هدى للناس ، كما في قوله سبحانه {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}( )

ونزل شفاءً ورحمة للمؤمنين ، كما في قوله{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}( )
وقوله {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذنهم وقر وهو عليهم عمى}( ) .
والقرآن الكريم كتاب تدبر وتذكر ، كما في قوله سبحانه {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}( ) .
وفي مجال التشريع فإن القرآن الكريم لم يلتزم أسلوباً واحداً في ذلك ، وهو مجرد وضع قواعد وتشريعات ، فلم يعبر عن كل مطلوب طلباً مؤكداً بمادة الوجوب، و لاعن كل ممنوع بمادة المنع أو التحريم ، ولا عن كل مخير فيه بمادة التخيير أو الإباحة ، ولا غير ذلك من العبارات التي من شأنها مجرد التشريعات .
بل غاير ونوع في أسلوبه بعبارات شيقة بليغة ليكون ذلك باعثاً على القبول ، والمبادرة إلى الامتثال ، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي :-

1- بيان الوجوب

نجد أن القرآن الكريم في مقام بيان وجوب الفعل يخبر عنه بأنه مكتوب ، كما قوله سبحانه {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم }( ) .
ومرة يعبر عنه بمادة الأمر {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}( ) .
وثالثة يطلبه بفعل الأمر {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}( ) .
ورابعة يخبر عنه بأنه خير أو بر {يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}( )، {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر}( ) .
وخامسة يقرنه بالوعد الجميل {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}( ) .
إلى غير ذلك من الأساليب الكثيرة البديعة المتنوعة .

2- بيان التحريم

نجد أن القرآن الكريم يعبر عن هذا أحياناً بمادة التحريم ، كما في قوله سبحانه {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم …}( ) .
وثانية يعبر عنه بمادة النهي {وينهي عن الفحشاء والمنكر}( ) .
وثالثة يعبر عنه بنفي الحل {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً}( ) .
ورابعة يخبر عنه بأنه شر {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم}( ) .
وخامسة يقرنه بالوعيد الشديد {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}( ) .
وسادسة يستعمل صيغة النهي أو الأمر بالترك {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً}( ) ، {وذروا ظاهر الإثم وباطنه}( ) .
وغيرها من الأساليب الكثيرة المتنوعة .

3- بيان الإباحة أو الجواز

يعبر القرآن الكريم عن بيان الجواز بلفظ الحل {أحل لكم الطيبات}( ) .
وثانية يعبر عنها برفع الإثم { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}( ) .
وثالثة برفع الحرج {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج }( ) .
ورابعة بالأمر بعد الحظر {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الحيط الأسود من الفجر}( ) وذلك حين كان في بداية فرضية الصيام يحرم على من أراد الصيام أن يأكل ويشرب إذا نام .
هذا شيء من أسلوب القرآن الكريم في التشريع ، كما نجد أن حكم الشيء الواحد قد يبين في مواضع مختلفة وأساليب متنوعة كل منها يناسب المقام الذي جاء فيه، دون أن يتغير هذا الحكم أو يقع القارئ في حرج .

الســـنة

السنة في اللغة :

هي السيرة و الطريقة .( )

وفي اصطلاح الأصوليين :

هي ما ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من قول أو فعل أو تقرير ( ).
السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الدولة الإسلامية ، وقد جاءت السنة مبينة لما ورد في القرآن الكريم ، كما في قوله سبحانه وتعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}( ) .
اتفقت كلمة المسلمين ممن يعتد برأيهم ، في كل عصر ، على أن ما صدر من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متعلقاً بالتشريع المصدر الثاني من مصادر الأحكام، يجب أن يلجأ إليه المجتهد عند الاستنباط ، كما يجب على المسلمين جميعاً الامتثال لما جاء فيه من الأحكام ، والعمل به متى ثبتت نسبته لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقد جاء الأمر من المولى سبحان وتعالى باتباع السنة كما في قوله سبحانه {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}( ) .
وقد حذر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الاستغناء عن السنة بدعوى الاكتفاء بالقرآن كما ورد في سنن أبي داود من حديث المقدام بن معدي كرب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته ، يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ))( ) .
يضاف القرآنيون

مكانة السنة مع القرآن في التشريع

جاءت السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه على النحو التالي :-

1- أن تكون موافقة له من كل وجه
فيكون توارد القرآن والسنة على حكم واحد، من باب توارد الأدلة . وذلك مثل أدلة وجوب الصلاة والزكاة والصوم ، وكذا أدلة تحريم الزنا والربا والخمر ونحو ذلك .

2- أن تكون بياناً لما أريد بالقرآن وتفسيراً له
وهذا يشمل تفصيل المجمل ، كالأحاديث المبينة لأوقات الصلاة وعدد ركعاتها وكيفيتها وأوقاتها ، وأنصبة الزكاة والأموال التي تؤخذ منها ، والحج وما فيه من الأعمال التفصيلية التي لم يأت القرآن بتفصيلها ، ونحو ذلك من العبادات فإن السنة جاءت مفصلة وشارحة لما جاء مجملاً في القرآن الكريم عن هذه العبادات .
وجاءت السنة أيضاً بتقييد المطلق ، كالحديث المبين لمقدار الوصية ((الثلث والثلث كثير))( ) فإنه مقيد لإطلاق قوله تعالى  من بعد وصية توصون بها أو دين ( ). وجاءت السنة أيضاً بتقييد قطع يد السارق اليمنى من الرسغ ، في حين جاءت الآية عامة في ذلك كقوله سبحانه :  والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما  ( ) .
وجاءت بتخصيص العام ، حديث ((لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها))( ) . فإنه مخصص لقوله تعالى  وأحل لكم ما وراء ذلكم  ( ) . وكذلك الأحاديث التي جاءت بتخصيص القاتل والرقيق الكافر بعدم الإرث من المسلم في حين جاءت الآيات مبينة من لهم حق الإرث .

3- أن تكون موجبة لما سكت القرآن عن إيجابه ، أو محرمة لما سكت القرآن عن تحريمه .
وذلك مثل الأحاديث التي جاءت بإيجاب صدقة الفطر ، كحديث : ((فرض النبي (صلى الله عليه وسلم) صدقة الفطر -أو قال رمضان- على الذكر والأنثى والحر والمملوك ،صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير))( ) .
وفي جانب التحريم فقد جاءت السنة بالنص على المحرمات من الرضاعة بعد أن اقتصر القرآن الكرم على النص على تحريم الأمهات والأخوات من الرضاعة . وجاءت السنة بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في الزواج ، وغير ذلك من الأحكام .( )

ثانياً : السلطة القضائية

السلطة القضائية في الدولة الإسلامية هي التي تتولى الحكم في المنازعات والخصومات والجرائم والمظالم ، واستيفاء الحقوق ممن مطل بها ، وإيصالها إلى مستحقيها ، والولاية على فاقدي الأهلية والسفهاء والمفلسين ، والنظر في الأوقاف وأموالها وغلاتها ، إلى غير ذلك مما يعرض على القضاء .
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في عهده هو الذي يقوم بهذه السلطة فهو الذي يقضي بين الناس في المدينة المنورة ، وبعث القضاة في الأمصار ، كما بعث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى اليمن قاضياً ، كما يقول علي (رضي الله عنه): (( بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أهل اليمن قاضياً ، فقلت : يا رسول الله ! ترسلني وأنا حديث السن ، ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال : إن الله سيهدي قلبك ، ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ؛ فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء. قال : فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد))( ) . كما بعث معاذاً إلى اليمن للقضاء( ).

وفي عهد أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) فقد كان يباشر القضاء بنفسه في المدينة ، وأحياناً كان يقوم بذلك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وبعض فقهاء الصحابة بأمر من الخليفة أبي بكر (رضي الله عنه) ، ويقول عمر بن الخطاب في ذلك: ((فلقد كان يمر علي الشهر ما يخصم إليَّ فيه اثنان))( ) ، وكان الولاة هم المسؤولون عن القضاء في الأمصار .( )
ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عين بعض الصحابة قضاة في المدينة ، كما عين عدداً من القضاة في الأمصار ، وبهذا الإجراء تم فصل السلطة القضائية عن سلطة الولاة . ( )

والشريعة الإسلامية توجب على من يتولى هذه السلطة ألا يجعلوا لأحد عليهم سلطاناً في قضائهم ، وأن يلتزموا الحق والعدل ، وأن يتجردوا عن الهوى وأن يسووا بين الناس جميعاً ، قال تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}( ) .

وقال سبحانه {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}( ) .
وتاريخ القضاء في الدولة الإسلامية يبين أن القضاة كانوا دائماً مستقلين في أحكامهم لا سلطان لأحد عليهم إلا الله سبحانه وتعالى ، ولا يخضعون في قضائهم إلا لشرع الله سبحانه وتعالى الذي يقيمون به الحق والعدل .
ومن أمثلة هذا الاستقلال أن إبراهيم بن إسحق قاضي مصر سنة 204 هـ اختصم إليه رجلان ، فقضى على أحدهما فشفع إلى الوالي ، فأمره الوالي أن يتوقف في تنفيذ الحكم ، فجلس القاضي في منزله ، حتى ركب إليه الوالي وسأله الرجوع إلى عمله ، قال : لا أعود إلى ذلك المجلس أبداً ، ليس في الحكم شفاعة .

رسالة عمر في القضاء

كتب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) رسالة في القضاء جاء فيها آداب القاضي وكيفية القضاء وتوجيهات هامة تتعلق بالقضاء ، على النحو التالي:-

((أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطل، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن العظيم والسنة، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك فاعمد إلى أحبها وأقربها إلى الله تبارك وتعالى وأشبهها بالحق، اجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه، فإذا أحضر بينة أخذ بحقه، وإلا وجب القضاء عليه، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدوداً في قذف أو ظنيناً( ) في ولاء أو قرابة، أو مجربا عليه شهادة زور، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، ودرأ( ) عنكم بالبينات، إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس للخصوم في مواطن الحق الذي يوجب الله سبحانه وتعالى به الأجر ويحسن به الذخر، وأن من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه في الحق يكفه الله تعالى فيما بينه وبين الناس، ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه شانه الله عز وجل، فإنه سبحانه وتعالى لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصاً فما ظنك بثواب عن الله سبحانه من عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام))( ) .
ومن هذه الرساللة القيمة تستنبط آداب القاضي ، ومنها :-

  • 1- أن يكون القاضي حريصاً على فهم الخصومة، فيجعل فهمه وسمعه وقلبه إلى كلام الخصمين، لأن من الجائز أن يكون الحق مع أحد الخصمين، فإذا لم يفهم القاضي كلامهما يضيع الحق.
  • 2- أن لا يكون ضجراً ولا قلقاً ولا غضبان ولا جائعاً ولا عطشان ولا ممتلئاً لأن هذه العوارض من القلق والضجر والغضب والجوع والعطش والامتلاء مما يشغله عن الحق .
  • 3- أن لا يقضي وهو يمشي على الأرض أو يسير على الدابة، لأن المشي والسير يشغلانه عن النظر والتأمل في كلام الخصمين ، ولا بأس بان يقضي وهو متكىء لأن الاتكاء لا يقدح في التأمل والنظر .
  • 4- أن يسوي بين الخصمين في الجلوس فيجلسهما بين يديه لا عن يمينه ولا عن يساره لأنه لو فعل ذلك فقد قرب أحدهما في مجلسه .
  • 5- أن يسوي بينهما في النظر والنطق والخلوة ، فلا ينطلق بوجهه إلى أحدهما ولا يسار أحدهما ولا يومىء إلى أحدهما بشيء دون خصمه .
  • 6- أن لا يلقن أحد الخصمين حجته لأن فيه مكسرة قلب الآخر، ولأن فيه إعانة أحد الخصمين.
    7- ومنها أن لا يعبث بالشهود لأن ذلك يشوش عليهم عقولهم فلا يمكنهم أداء الشهادة على وجهها .
  • 8- أن يسأل القاضي عن حال الشهود .

شروط القاضي

لا يجوز تقليد القضاء إلا لمن اكتملت فيه شروط سبعة هي( ) :-

1- أن يكون رجلاً ، وهذا يجمع صفتين البلوغ والذكورية .
2- العقل ، لأن غير العاقل لا يلي على نفسه ، فكيف يلي على غيره ، إضافة إلى أن القاضي لابد ان يكون صحيح التمييز ، جيد الفطنة ، بعيداً عن السهو والغفلة ، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل.
3- الحرية ، لأن نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره .
4- الإسلام ، لأن الفاسق المسلم لا يجوز أن يلي ، فأولى أن لا يلي الكافر.
5- العدالة ، لأن الفاسق متهم في دينه ، فلا تجوز شهادته ، فأولى أن لا تجوز ولايته.
6- السلامة في السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق ، والتفريق بين الطالب والمطلوب. وجوز الإمام مالك ولاية الأعمى للقضاء ، وقال بعض اصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى( ).

1- العلم بالأحكام الشرعية

ويتضمن أربعة أمور :-

ا- علمه بكتاب الله .
ب- علمه بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
جـ- علمه بأقوال السلف فيما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه .
د- علمه بالقياس الواجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها .

ثالثاً : السلطة التنفيذية
وهي السلطة التي تقوم بإدارة شئون الدولة في حدود الإسلام ، كإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام ، وتعيين الموظفين وعزلهم ، وتوجيههم ومراقبة أعمالهم ، وقيادة الجيش وإعلان الحرب ، وعقد الصلح والهدنة وإبرام المعاهدات ، ونحوها .
وهذه السلطة هي في الأصل بيد رئيس الدولة أو الإمام ، فهو المسئول الأول عن تدبير الأمور ، ولما كان رئيس الدولة لا يتمكن من القيام بهذه السلطة في كل أمور الدولة كان له وزراء وأعوان يعينونه على تدبير الأمور .
وتشمل السلطة التنفيذية في التنظيم الحديث للدول : رئيس الدولة ، ورئيس الوزراء ، والوزراء ، وجميع موظفي الوزارات والمصالح الحكومية .

الوزارة في الدولة الإسلامية

اشتقاق كلمة الوزارة مأخوذ من الوِزْر ، وهو الثقل ، لأنه يتحمل عن الملك أثقاله.
وقيل إنه مأخوذ من الوَزَر ، وهو الملجأ ، ومنه قوله تعالى {كلا لا وزر} أي لا ملجأ، فسمي بذلك لأن الملك يلجأ إلى رأيه ومعونته .
وقيل إنه مأخوذ من الأزر ، وهو الظهر ، لأن الملك يقوى بتوزيره كقوة البدن بالظهر .( )
أقسام الوزارة في الدولة الإسلامية
قسم العلماء الوزارة في الدولة الإسلامية إلى قسمين( ) :-

1- وزارة تفويض

وهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده. ويشترط في هذه الوزارة شروط الإمامة ، ويستثنى منها النسب القرشي .
وتتطلب هذه الوزارة ملة من الصفات الحميدة لتأهل صاحبها بالقيام بمهامه على الوجه المطلوب ، كالعفة والأمانة والستقامة والتجربة والحلم والعم والذكاء والصبر ونحوها .
ولما كانت كانت وزارة التفويض في أمر عام فلا بد لذلك من شرطين :-

1- على الوزير أن يطالع الإمام لما أمضاه من تدبير ، وأنفذه من ولاية وتقليد ، لئلا يصير بالاستبداد كالإمام .
2- على الإمام أن يتصفح أفعال الوزير ، وتدبير الأمور ، ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه .

صلاحيات وزير التفويض

لوزير التفويض صلاحيات عديدة منها :-

1- له أن يحكم بنفسه ويقلد الحكام لأن شروط الحكم فيه معتبرة .
2- يتولى الجهاد بنفسه ، وأن يقلد من يتولاه .
3- ينظر في المظالم وينيب فيها ، لأن شروط المظالم فيه معتبرة .
4- كل ما صح من الإمام صح من الوزير إلا في ثلاثة أمور هي :-

(ا) الإمام يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير .
(ب) للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير .
(جـ) للإمام أن يعزل من قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام .( )

2- وزارة تنفيذ

وزارة التنفيذ حكمها أضعف من وزارة التفويض وشروطها أقل ، لأن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره ، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة ، يؤدي عنه ما أمر ، وينفذ عنه ما ذكر ، ويمضي ما حكم ، ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش ، ويعرض عليه ما ورد من مهم ، وتجدد من حدث ملم ، ليعمل فيه ما يؤمر به ، فهو معين في تنفيذ الأمور ، وليس بوال عليها ولا متقلد لها.

وإذا كانت وزارة التفويض يشترط لها ما يشترط للإمام عدا القرشية ، فإن وزارة التنفيذ لا يشترط لها ما يشترط لوزارة التفويض ، فلا يعتبر لها شرط الحرية ولا العلم ، لأنه ليس له أن ينفرد بولاية ولا تقليد ، فتعتبر فيه الحرية ، ولا يجوز له أن يحكم فيعتبر فيه العلم.

صفات وزير التنفيذ

يراعى في وزير التنفيذ سبعة أوصاف هي( ) :-

1- الأمانة حتى لا يخون فيما اؤتمن فيه .
2- صدق اللهجة ، حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ، ويعمل على قوله فيما ينهيه .
3- قلة الطمع ، حتى لا يرتشي ، و لا ينخدع فيتساهل .
4- أن يسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء .
5- أن يكون ذكوراً لما يؤديه إلى الخليفة وعنه ، لأنه شاهد له عليه .
6- الذكاء والفطنة ، حتى لا تدلس عليه الأمور فتشتبه .
7- أن لا يكون من أهل الأهواء ، فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل .

الفرق بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

تفترق وزارتي التفويض والتنفيذ من حيث السلطة بأربعة أمور هي :-
1- يجوز لوزير التفويض أن يباشر الحكم والنظر في المظالم ، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
2- يجوز لوزير التفويض أن يستبد بتقليد الولاة والموظفين وليس ذلك لوزير التنفيذ.
3- يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب وليس ذلك لوزير التنفيذ .
4- يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال ، بقبض ما يستحق له ، ودفع ما يجب عليه وليس ذلك لوزير التنفيذ.( )

قواعد النظام السياسي في الإسلام

أولاً : الشورى

الشورى في اللغة : من شور ، يقال : أشار إليه باليد : أومأ ، وأشار عليه بالرأي . وشُرْتُ العسل واشْتَرْتُهَا ، أي اجتنيتها . والمشَارُ : الخلية يُشْتَار منها . والشوار : متاع البيت . والشَوَارُ والشَارَةُ : اللباس والهيئة . وشُرْتُ الدابة شَوْراً : عرضتها للبيع ، أقبلت بها وأدبرت .( )
الشورى في الاصطلاح : هي الإشارة بالآراء ومداولتها ، للوصول إلى الأصلح في أمر من الأمور .

أهمية الشورى في النظام الإسلامي

للشورى في النظام الإسلامي أهمية عظمية ، فهي قاعدة من قواعد نظام الحكم في الإسلام ، ولأهميتها فقد أمر سبحانه وتعالى بها نبيه محمداً (صلى الله عليه وسلم) كما في قوله سبحانه {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}( ) .
ولأهمية الشورى سميت بها سورة من القرآن الكريم ، وفيها أثنى الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين الذين اتصفوا بجملة من الصفات ومنها (الشورى) فيما بينهم ، كما في قوله سبحانه {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون. والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم}( ) . وإذا علم أن هذه السورة سورة مكية فهذا دليل على أن الشورى ليست مهمة للدولة فحسب بل هي مهمة لأي جماعة كانت صغيرة أو كبيرة ، لأن المسلمين لم يكن لهم دولة بعد في مكة المكرمة .

ولأهميتها لم يكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يغفل عنها ، مع كمال عقله، ورجاحة رأيه ، وهو المؤيد بالوحي من الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ومع هذا كله كان يشاور أصحابه ، فهذا هو المنهج القويم ، والطريق المستقيم ، في إدارة الجماعات واتخاذ القرارات ، بل كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أكثر الناس مشورة لأصحابه ، كما ورد في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : (( ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم))( ) .

ومما يدل أهمية الشورى في الولاية ما ورد في صحيح البخاري من حديث عمربن الخطاب (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ((من بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة( ) أن يقتلا))( ) .

الشورى عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

لما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكثر الناس مشورة لأصحابه – كما في الحديث المذكور – فقد كان عليه الصلاة والسلام يشاورهم في أمور كثيرة عامة وخاصة ، ويشاورهم جماعات وأفراداً ، ويخص منهم أولي الفضل ، كما في قوله لأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) : ((لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما))( ) .
ومما شاور فيه أصحابه الذهاب إلى العير يوم بدر كما في صحيح مسلم من حديث أنس (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان ، قال : فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ، ثم تكلم عمر فأعرض عنه ، فقام سعد بن عبادة ، فقال : إيانا تريد يا رسول الله ! والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا .( )
واستشار الرسول (صلى الله عليه وسلم) الناس في أسارى بدر كما في مسند الإمام أحمد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : إن الله عز وجل قد أمكنكم منهم ، قال : فقام عمر بن الخطاب ، فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم ، قال : فأعرض عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ثم عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : يا أيها الناس ، إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس ، قال : فقام عمر ، فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ثم عاد النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال للناس مثل ذلك فقام أبو بكر ، فقال : يا رسول الله ، إن ترى أن تعفو عنهم ، وتقبل منهم الفداء ، قال فذهب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كان فيه من الغم ، قال فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء ، قال وأنزل الله عز وجل ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم) إلى آخر الآية .( )
وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج فرأوا له الخروج فلما لبس لأمته وعزم قالوا أقم فلم يمل إليهم بعد العزم وقال لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله .( )

وشاور النبي (صلى الله عليه وسلم) عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله .( )

ولقد حث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بذل المشورة كما ورد في سنن ابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه))( ) . كما حذر من الخيانة فيها كما في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : (( … ومن استشار أخاه فأشار عليه بأمر وهو يرى الرشد غير ذلك فقد خانه))( ) .

الشورى عند الخلفاء

نهج الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم) نهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الشورى ، فكانوا لا يبرمون أمراً من أمور الأمة ليس فيه حكم واضح إلا تشاوروا فيه كما وصفهم ربهم سبحانه وتعالى بقوله {وأمرهم شورى بينهم} وأول أمر تشاوروا فيه بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو أمر الخلافة حتى تولى أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) .

قال البخاري : وكانت الأئمة بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) . ( )
واستشار أبو بكر (رضي الله عنه) الناس في استخلاف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كما سبق بيانه( ) .

ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم تابعه بعد عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) من بدل دينه فاقتلوه .( )

وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان كثيراً ما يستشير أصحابه ، وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل .( )

ومما استشار فيه الناس ما ورد في صحيح مسلم أنه (رضي الله عنه) استشار في إملاص المرأة( ) المغيرة بن شعبة فقال شهدت النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى فيه بغرة عبد أو أمة( ) ، قال: فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك قال فشهد محمد بن مسلمة.( )

وكذلك عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فقد استشار الناس في أمور كثيرة منها حرق المصاحف بسبب اختلاف القراء ، بعد أن جمع الأمة على مصحف واحد خوفاً من الفرقة، قال عنه علي (رضي الله عنه) : (( لا تقولوا في عثمان إلا خيراً ، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأٍ منا ))( ) .
وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) كان يسلك مسلكهم ويستشير أصحابه في أمور الأمة ، ومنها استشارته للناس عندما رفع أهل الشام المصاحف يوم صفين( ) .

حكم الشورى

اختلف العلماء في حكم الشورى على قولين( ) هما :-

القول الأول :

أنها واجبة
وهو قول جمهور الفقهاء ، ومنهم المالكية والحنفية ، والقول الصحيح في مذهب الشافعي( ) .
وممن ذهب إلى هذا القول القرطبي في تفسيره ، ونقل الإجماع على ذلك من كلام ابن عطية حيث يقول : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا مالا خلاف فيه .( )
والشوكاني في تفسيره ، ونقل كلام ابن خوزمنداد حيث يقول : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها وعمارتها .( )
ويستدل أصحاب هذا القول بقوله سبحانه {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}( )
ووجه الاستدلال بهذه الآية أن (شاورهم في الأمر) أمر والأمر يدل على الوجوب ، ما لم ترد قرينة تصرفه من الإيجاب إلى الندب . قال الفخر الرازي : ظاهر الأمر الوجوب فقوله : وشاورهم يقتضي الوجوب .( )
وقالوا إذا كان الأمر بالشورى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، أمره الله سبحانه وتعالى أن يستشير أصحابه ، فالشورى في حق غيره من الحكام والأمراء أوجب .

القول الثاني :

أنها مندوبة
وهو منسوب للشافعي وقتادة والربيع بن إسحاق ، وبه جزم أبو نصر القشيري ، ورجحه ابن حجر في الفتح( ) .
ويستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها :-
1- أن الأمر في اللغة لا يفيد الوجوب إلا إذا دلت قرينة على ذلك .
2- أن الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمشاورة أصحابه إنما هو لتطييب قلوبهم.( )
وقد ردَّ أبو بكر بن الجصاص هذا الاستدلال بقوله : وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على وجه تطييب نفوس الصحابة ، ورفع أقدارهم (كما ذهب بعض الفقهاء) لأنه لو كان معلوماً عندهم أنهم إذا استفرغوا جهدهم في استنباط الحكم الذي يستشارون فيه ، ثم لم يكن ذلك معمولاً به ، ولا متلقى بالقبول ، لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم ولا رفعٌ لأقدارهم ، بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول بها ، فهذا تأويل ساقط لا معنى له .( )
من هذا يتبين أن القول بالوجوب هو القول الراجح ، ويدل عليه فعل رسو الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته من بعده .

فوائد الشورى

للشورى فوائد عديدة ومنها :-

1- الكشف عن الكفاءات والقدرات ، وبها يظهر الأكفاء وتستفيد الأمة من كفاءتهم.
2- تدرب المستشار على المساهمة في الحكم والإدارة ، وتثريه بالتجربة وجودة الرأي والتفكير من خلال ممارسته للشورى .
3- استنباط الصواب .
4- اكتساب الرأي .
6- التحصن من الخطأ في اتخاذ القرار .
7- حرز من الملامة ، ونجاة من الندامة .
8- ألفة للقلوب .
9- إتباع الأثر .( )

أهل الشورى

الشورى في الإسلام المتعلقة بالقضايا الهامة ليست مطلقة لكل أحد، ولكن لفئة معينة من الناس لهم مواصفات خاصة ، وهم أهل الحل والعقد في القضايا الهامة للأمة، وذكر أهل العلم مواصفات خاصة للفئة المستشارة ، ومن ذلك على سبيل المثال : –
قال سفيان الثوري : ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة .( )
وقال بعض العلماء : إذا كان في الأحكام أن يكون عالماً ديناً ، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل.( )
وقال الخطابي : وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً وادَّاً في المستشير.( )
وقال محمد رشيد رضا : يجب أن يكون في الأمة رجال أهل بصيرة ورأي في سياستها ومصالحها الاجتماعية ، وقدرة على الاستنباط، يرد إليهم أمر الأمن والخوف ، وسائر الأمور الاجتماعية والسياسية، وهؤلاء الذين يسمون في الإسلام أهل الشورى، وأهل الحل والعقد، والذين يسمون عند الأمم الأخرى بنواب الأمة.( )
ومن هذه الأقوال وغيرها يمكن استنباط صفات المستشار العامة على النحو التالي :-

1- التقوى ليكون أنصح في مشورته .
2- العلم .
3- التجربة .
4- العقل .
5- سداد الرأي .
6- الأمانة .

نطاق الشورى

في قوله سبحانه {وشاورهم في الأمر} بيان لنطاق الشورى ، وهو كلمة (الأمر) وهي عامة بمعنى : أي أمر يرد عليك فيما يشاور في مثله ، والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد بها الشرع .( )
من المعلوم أن الشورى أمر اجتهادي ، ولا اجتهاد فيما فيه نص من كتاب الله سبحانه وتعالى ، أو سنة رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ولقد فهم صحابة
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا الأساس للشورى .
ولقد استشار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحابته في أمور كثيرة ، منها أمور الحرب ، والأسرى ، وحتى أنه (صلى الله عليه وسلم) استشارهم في أمره أهله لما حصلت حادثة الإفك .
قال ابن حجر : اختلف في متعلق المشاورة ، فقيل في كل شيء ليس فيه نص ، وقيل في الأمر الدنيوي فقط . وقال الداودي : إنما كان يشاورهم في أمر الحرب مما ليس فيه حكم ، لأن معرفة الحكم إنما تلتمس منه ، قال : ومن زعم أنه كان يشاورهم في الأحكام فقد غفل غفلة عظيمة . وقد أثبت ابن حجر مشاورته (صلى الله عليه وسلم) في بعض الأحكام .( )
وقد ثبت عن بعض الخلفاء (رضي الله عنهم) المشاورة في الأحكام ، كما شاور عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في حد الخمر كما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أُتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخفَ الحدود ثمانين( ) فأمر به عمر)) ( ) .
واختلف أهل العلم في معناه ، فقال بعضهم: إن الْجَرِيدَتَيْنِ كَانَتَا مُفْرَدَتَيْنِ جَلَدَ بِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَدَدًا حَتَّى كَمُلَ مِنْ الْجَمْع أَرْبَعُونَ ، وَقَالَ آخَرُونَ: مِمَّنْ يَقُول جَلَدَ الْخَمْر ثَمَانُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَمَعَهُمَا وَجَلَدَهُ بِهِمَا أَرْبَعِينَ جَلْدَة، فَيَكُون الْمَبْلَغ ثَمَانِينَ . وَفِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره أَنَّهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب (رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَأَشَارَا جَمِيعًا ، وَلَعَلَّ عَبْد الرَّحْمَن بَدَأَ بِهَذَا الْقَوْل فَوَافَقَهُ عَلِيّ وَغَيْره ، فَنَسَبَ ذَلِكَ فِي رِوَايَة إِلَى عَبْد الرَّحْمَن – رَضِيَ اللَّه عَنْهُ – لِسَبَقِهِ بِهِ ، وَنَسَبَهُ فِي رِوَايَة إِلَى عَلِيّ – رَضِيَ اللَّه عَنْهُ – لِفَضِيلَتِهِ وَكَثْرَة عِلْمه وَرُجْحَانه عَلَى عَبْد الرَّحْمَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .( )

وذهب من قال إن حد الخمر أربعين إلى أن الزيادة من عمر كانت تعزيراً يجوز فعلها إذا رأى ذلك الإمام .( )
واستشار الخليفة عمر بن عبد العزيز في القسامة كما في صحيح البخاري عن أبي رجاء مولى أبي قلابة وكان معه بالشام أن عمر بن عبدالعزيز استشار الناس يوما قال : ما تقولون في هذه القسامة ؟ فقالوا : حق قضى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقضت بها الخلفاء قبلك .( )

واستشارة الخلفاء في مجال الأحكام إنما ليعرفوا ما عند الناس في هذه المسألة من حكم الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ليأخذوا به ، ولو كان عندهم علم يقيني بأحكام هذه المسائل لما استشاروا فيها الناس .

الفرق بين الشورى في الإسلام والانتخابات في النظم الديمقراطية

تختلف الشورى في الإسلام عن الانتخابات في النظم الديمقراطية اختلافاً جذرياً، ويتمثل هذا الاختلاف بما يلي:-

1- تقوم الشورى في الإسلام على أساس ديني ، فقد جاء ذكرها في الكتاب والسنة ، كما سبق بيانه ، أما الانتخابات فتقوم على أساس دنيوي لتحقيق مصالح معينة إما للحام أو المحكومين .
2- الشورى في الإسلام لها جماعة مخصوصة بمواصفات معينة وهم أهل الشورى أو أهل الحل والعقد ، إما الانتخابات في النظم الديمقراطية فهي متاحة للجميع، وحتى للمجانين والمجرمين أيضاً( ) .
3- الشورى في الإسلام هدفها الوصول إلى الحق ، حتى ولو خالف ذلك راي الغالبية . أما الانتخابات فهي تسعى للوصول إلى رضاء الجماهير ، حتى ولو كان ما يريده مخالفاً للحق .
4- الشورى في الإسلام لها نطاق محدد ، فهي لا تتجاوزر إلى أصول الشرع وقواعده ، وإلى أمور حكم بها الشرع وبينها . أما الانتخابات في النظم الديمقراطية فهي غير محددة النطاق فربما أدت إلى تغيرر أصول الحكم في تلك البلدان .
5- الشورى في الإسلام أمر تعبدي من المستشار والمستشير مع إخلاص النية في ذلك ، أما الانتخابات فليست كذلك .
6- الشورى في الإسلام مأمونة النتيجة ، أما في النظم الديمقراطية فهي تعتمد لى أعلبية غوغائية فعلية أو مزورة ، وبالتالي فهي ليست مأمونة النتيجة .

ثانياً : العــــدل

العدل في اللغة :

خلاف الجور ، ورجل عدْلٌ أي رضاً ومقنعٌ في الشهادة . والعِدْلُ بالكسر : المثل . وقال الفراء : العَدْلُ بالفتح ما عادل الشيء من غير جنسه . وعدل عن الطريق أي جار . وتعديل الشيء : تقويمه . وتعديل الشهود : تقول إنهم عدول .( )
وفي الاصطلاح : هو الحكم بين الناس بالحق الموافق للشرع، وعدم الجور أو الميل في الحكم بسبب الهوى أو نحوه .
وجوب العدل وتحريم الظلم في النظام الإسلامي

لقد أوجب الله سبحانه وتعالى العدل على ولاة المسلمين ، ومن ولاه الله رعية كثيرة أو قليلة ، ولقد توافرت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب العدل ، ومنها على سبيل المثال ما يلي :-
قوله سبحانه {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}( ) .
وقوله سبحانه {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}( ) .
وقوله سبحانه {قل أمر ربي بالقسط }( ) ، والقسط هو العدل .
وفي السنة ما ورد في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : (( ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور))( ) .
وفي تحريم الظلم ما ورد في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما روى عن الله (تبارك وتعالى) أنه قال : (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا … ))( ) .
وما ورد في صحيح مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم))( ) .
وأوجب الله سبحانه وتعالى العدل لتستقيم الحياة ويأمن الناس ، وتنتظم أمور دينهم ودنياهم ، ولم يقتصر الأمر بالعدل في النظام الإسلامي مع الأصدقاء فقط ، بل جاء الأمر بالعدل حتى مع الأعداء ، كما في قوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}( ) أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم ، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقاً كان أو عدواً.( )

فضيلة العدل

العدل هو الذي أرسل الله سبحانه وتعالى من أجله رسله ، وأنزل الكتب ، كما في قوله سبحانه وتعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}( ) ، قال ابن كثير (رحمه الله تعالى) : (ليقوم الناس بالقسط) أي هو الحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا به .( )
وورد في صحيح مسلم عن أبي بكر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل – وكلتا يديه يمين – الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))( ) .
ومنه ما ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه))( ) .

وقد جاء في السنة أن الإمام العادل لا ترد دعوته ، كما في سنن الترمذي وغيره عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :(( ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حتى يفطر ، والإمام العادل ، ودعوة المظلوم ، يرفعها الله فوق الغمام ، ويفتح لها أبواب السماء ، ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين))( ) .
نماذج من عدل النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام
لقد ضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام أروع الأمثلة في عدلهم في رعاياهم ، وأصبحت تلك الأمثلة نبراساً يسترشد به الذين ينشدون العدل في رعاياهم ، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي : –

(ا) من عدل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة (رضي الله عنها) أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا من يكلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حب رسول الله (صلىالله عليه وسلم) فكلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : ((أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فخطب قال : يا أيها الناس ، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم ، أقاموا عليه الحد . وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) سرقت لقطع محمد يدها))( ) .

(ب) من عدل أبي بكر (رضي الله عنه)

عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن أبا بكر الصديق (رضي اللّه عنهم) قام يوم الجمعة فقال : إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم ، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن . فقالت امرأة لزوجها : خذ هذا الخطام ، لعل اللّه يرزقنا جملاً. فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر (رضي اللّه عنهما) قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما. فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا ؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه . فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا بالرجل فأعطاه الخطام ، وقال : استقد . فقال له عمر : واللّه لا يستقيد ، لا تجعلها سنة. قال أبو بكر : فمن لي من اللّه يوم القيامة ؟ فقال عمر : أرضه ، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة ، وخمسة دنانير فأرضاه بها.()

(جـ) من عدل عمر (رضي الله عنه)

عن الشعبي قال : كان بين عمر وبين أبي بن كعب (رضي الله عنهما) خصومة. فقال عمر : اجعل بيني وبينك رجلاً ، فجعلا بينهما زيد بن ثابت (رضي الله عنه) . فأتياه فقال عمر : أتيناك لتحكم بيننا ، وفي بيته يؤتى الحكم . فلما دخلا عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال : ها هنا أمير المؤمنين ، فقال له عمر : هذا أول جور ، جرت في حكمك ، ولكن أجلس مع خصمي ، فجلسا بين يديه . فادعى أبيّ وأنكر عمر فقال زيد لأبيّ : اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره . فحلف عمر ثم أقسم، لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء .( )

(د) من عدل عثمان (رضي الله عنه)

عن أبي الفرات قال : كان لعثمان رضي اللّه عنه عبد ، فقال له : إني كنت عركت أذنك فاقتص مني ، فأخذ بأذنه ، ثم قال عثمان رضي اللّه عنه : اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا ، لا قصاص في الآخرة .( )

(هـ) من عدل علي (رضي الله عنه)

عن الشعبي قال وجد على بن أبى طالب درعه عند رجل نصراني فأقبل إلى شريح يخاصمه : هذا الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب. فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني : ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح مالى بينة. فقضى بها شريح للنصراني، فأخذه النصراني، ومشى خطاً ثم رجع فقال أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدفعني إلى قاضيه يقضى عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق، فقال: أما إذ أسلمت فهى لك .( )
عن كليب قال : قدم عَلَى عليٍّ ، رضي اللّه عنه ، مالٌ من أصبهان ، فقسمه على سبعة أسهم ، فوجد فيه رغيفاً فكسره على سبعة وجعل على كل قسم منها كسرة ، ثم دعا الأمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطي أولاً .( )

ثالثاً : المساواة

المساواة في اللغة : مصدر سويت أو ساويت ، والسواء بمعنى العدل ، يقال ساويت بينهما أو سويت بينهما أي عدلت .( )
والمساواة في الإسلام هي عدم التفرقة بين الناس في الحقوق والواجبات على أساس العرق أو القبيلة أو البلد أو الحالة الاجتماعية والاقتصادية ونحوها .

مبدأ المساواة في الإسلام

المساواة من القواعد الأساسية للنظام السياسي في الإسلام ، والمساواة التي يقوم عليها هذا النظام هي المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات التي تعتمد على الجنس أو اللون أو القبيلة ونحوها من الصفات التي لا دخل للإنسان في اكتسابها ، أو ما اكتسبه من أمور الدنيا كالمال والمنصب . ولقد جاء القرآن الكريم معلناً هذا المبدأ، كما في قوله سبحانه وتعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا …}( ) . ووجه المساواة بين الناس هو أن الله سبحانه وتعالى خلقهم من أصل واحد من ذكر وأنثى ، فكلهم يرجعون إلى آدام وحواء .

وكما أن الناس خلقوا من ذكر وأنثى فإنهم في الخلقة من أصل واحد ، ومروا في خلقهم بأطوار متساوية كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى }( ) .
وجاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يؤكد هذا المبدأ في المساوة حيث خطب وسط أيام التشريق فقال : (( يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر ، إلا بالتقوى، أبلغت ؟ …))( ) .

ولقد أنكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أبي ذر عندما عير رجلاً بأمه، كما في صحيح البخاري عن المعرور بن سويد قال : لقيت أبا ذر بالربذة ، وعليه حلة وعلى غلامه حلة ، فسألته عن ذلك ، فقال : إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه ، فقال لي النبي (صلى الله عليه وسلم) : (( يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم))( ) .
كما أنكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التمايز بالأحساب والتفاخر بها ، ووصف ذلك بأنه من عمل الجاهلية ، كما في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ، وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب))( ) .

معيار التفاضل بين الناس

إن المساواة بين الناس في الإسلام، لا تعني المساواة بينهم في كل شيء ، بل هناك تمايز وتفاضل بينهم على أسس معينة تبينها نصوص الكتاب والسنة ، ومن ذلك على سبيل المثال :-

1- التفاضل بالتقوى كما في قوله سبحان { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }( ) .
2- التفاضل بالعلم ، كما في قوله سبحانه {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}( ) .
3- التفاضل في السبق إلى الخير ، كما في قوله سبحانه {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير}( ) .
4- التفاضل بين الناس بحسن الخلق ، كما في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو : أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن فاحشا ولا متفحشا ، وقال : ((إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا))( ) .
5- التفاضل بينهم بتعلم القرآن وتعليمه ، كما في صحيح البخاري من حديث عثمان (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))( ) .

وإذا تأملنا هذه النصوص وغيرها من النصوص التي تدل على التفاضل بين الناس ، لا نجد منها شيئاً يعتمد على أمور الدنيا ، بل كلها تتعلق في أمر الدين ، وبالجملة فإن مايكون فيه التفاضل بين الناس إنما هو العمل الديني الذي يكتسبه الإنسان في حياته .

مظاهر المساواة

تظهر المساواة بين الناس في هذا الدين بأمور عدة منها :-

1- المساواة في التكاليف الشرعية

المسلمون كلهم يعبدون رباً واحداً ، لهم كتاب واحد ، ورسول واحد ، وقد كلفوا من الشريعة بتكاليف موحدة لا تميز بين عربي وعجمي ، ولا أحمر وأسود ، ولا أمير و وزير. فكلهم يصلون خمس مرات في اليوم مستقبلين قبلة واحدة ، وكلهم يصومون شهراً واحداً هو شهر رمضان المبارك ، في وقت محدد لكل منهم (من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) ، وتتجلى هذه المساواة عندما يقفون في الحج بصعيد واحد بلباس واحد يدعون رباً واحداً ، على اختلاف أجناسهم ، وألوانهم ، ولغاتهم .

2- المساواة في الحدود

لا فرق في الإسلام بين غني وفقير ، ومأمور و أمير ، وشريف وضعيف ، في إقامة حدود الله وتنفيذ أحكامه كما هي الحال عند بعض الأمم والشعوب كما أخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن حال اليهود بقوله : ((يا أيها الناس ، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم ، أقاموا عليه الحد . وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) سرقت لقطع محمد يدها))( ) .
وفي جانب المساواة في الحدود يقول تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالإذن والسن بالسن والجروح قصاص}( ) .

3- المساواة في الجزاء

الناس في الجزاء على أعمالهم سواء {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}( ) . (من يعمل) تفيد العموم أياً كان هذا العامل ذكراً أو أنثى ، حراً أو عبداً ، عربياً أو عجمياً …الخ .

4- المساواة في المساءلة

ويدل على هذا الجانب من المساواة ما ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته))( ) .

عدم المساواة عند بعض الأمم والشعوب

كثير من الأمم الشعوب في القديم والحديث تفتقر إلى المساواة في أنظمتها – ولو ادعتها – ولقد كانت قريش في السابق تميز نفسها عن بقية القبائل الأخرى ، فكانت لاتسمح لأحد من غيرهم أن يطوف بالبيت في ثيابه ، بل يطوف عرياناً أو يستعير منهم ثياباً ليطوف فيها ، وكذلك كانت لا تقف مع العرب في عرفات في موسم الحج بل يقفون في مزدلفة ، كما ورد ذلك في صحيح مسلم من حديث هشام عن أبيه قال: ((كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون عراة ، إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا ، فيعطي الرجال الرجال ، والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ، وكان الناس كلهم يبلغونعرفات ، قال هشام : فحدثني أبي عن عائشة (رضي الله عنها) قالت : الحمس هم الذين أنزل الله عز وجل فيهم ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) قالت كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة يقولون لا نفيض إلا من الحرم فلما نزلت ( أفيضوا من حيث أفاض الناس ) رجعوا إلى عرفات))( ) .
وكذلك اليهود والنصارى يزعمون أنهم ليسوا كعامة الناس بل لهم فضل على غيرهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- ولقد أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم هذه المقالة بقوله سبحانه {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق }( ) . [تضاف أقوال الحاخامات]
وفي النظام الهندي القديم بلغت الطبقية ذروتها فضربت بالمساواة عرض الحائط، وقسمت المجتمع إلى أربع طبقات هي : –

– طبقة الكهنة ورجال الدين وهم (البراهمة) .
– طبقة رجال الحرب والجندية وهم (شترى) .
– طبقة رجال الفلاحة والتجارة وهم (ويش) .
– طبقة رجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات .
فكانت كل طبقة من هذه الطبقات تتميز بميزات ليست لما دونها من الطبقات.

رابعاً : الحرية

الحرية في اللغة : من حرر ، والحُرُّ : ضد العبد ، ويطلق على فرخ الحمامة ، وولد الضبية، وولد الحية . والحُرُّ أيضاً هو الخالص من الشوائب ، ويطلق على الكريم . والحرة ضد الأمة ، والحرة أيضاً بمعنى الكريمة . والحُرِّيَة بمعنى الخلوص من الشوائب أو الرق أو اللؤم.( )

والمقصود بالحرية في النظام السياسي في الإسلام ، هي خلوص الإنسان من القيود التي تحد من تصرفاته بغير حق .

الإسلام والحرية الحقيقية

جاء أعداء الإسلام بوصف الإسلام بعدم الحرية ، وأنه جاء فقيد الناس في عقيدتهم، وفي أخلاقهم ، وفي سائر تصرفاتهم ، ولم يكن هذا الاتهام موقوفاً على أعداء الإسلام من غير المسلمين ، بل إن بعض أبناء المسلمين الذين لم يتذوقوا حلاوة هذا الدين ، ولم يعرفوا دينهم حق المعرفة أصبح عندهم هذا الاعتقاد ، مما دعاهم إلى التنصل من بعض تعاليم الدين الإسلامي الحنيف بزعم البحث عن الحرية .
والحق أن هذا الدين الحنيف جاء للإنسان بالحرية الحقيقية التي لا تعرفها النظم الأخرى ، التي تزعم لنفسها أنها جاءت بالحرية ، لكنها جاءت بالقيود الثقال وفرضتها على شعوبها من حيث تشعر أو لا تشعر . وتتمثل الحرية في الإسلام بعدة جوانب أهمها:-

حرية العبودية لله

كل إنسان في هذه الحياة لابد أن يكون له إله يعبده ، ولقد عبد الإنسان كثيراً من الآلهة تختلف من زمان لزمان ، ومن مكان لمكان ، فمن البشر من عبد الأحجار ، ومنهم من عبد الأشجار ، ومنهم من عبد الشمس والقمر ، ومنهم من عبد النجوم ، ومنهم من عبد الملائكة ، إلى غير ذلك من الآلهة المتنوعة التي لايمكن حصرها ، من الآلهة التي لاتنفع نفسها فضلاً أن تنفع غيرها .
وحتى من زعم أنه لا يعبد شيئاً فإنما هو عبد لهواه ، كما في قوله سبحانه وتعالى {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون}( ) .
إضافة إلى أن كل من زعم أنه لا يعبد شيئاً أو عبد غير الله تعالى إنما هو عبد للشيطان أيضاً، لأنه أطاع الشيطان في ذلك ، وبهذا وصف إبراهيم عليه السلام أباه فيما حكاه المولى عنه سبحانه وتعالى بقوله : {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}( ) أي لا تطعه في عبادة هذه الأصنام( ) . فطاعة الشطان عبادة له وفي هذا يقول المولى سبحانه وتعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي ءَادَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}( ) أي لا تطيعوه في معصيتي( ) . أضف إلى ذلك من جاءوا يصرحون بعبادة الشطان من المعاصرين ، الذين يعرفون بعدبة الشيطان .

وما أحسن ما قال ابن القيم (رحمه الله) في نونيته :-

هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق لانفس والشيطان( )
وجاء الإسلام بنفي كل مايعبد من دون الله وإثبات العبادة لله سبحانه وتعالى وحده ، جاء بإثبات العبادة لمن بيده النفع والضر ، ومن هو على كل شيء قدير ، ومن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، جاء بإثبات العبادة لمن تنفع الناس عبادته، كما في قوله سبحانه {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}( ) .
فلمن تكون الحرية في العبودية ؟ أهي لمن يقيد نفسه بعبادة ما لا يملك له ضراً ولا نفعاً ؟! أم لذلك الذي أصبح أسيراً لهواه؟! كلا ، إنما الحرية في عبادة الله وحده ، في عبادة من يستحق العبادة سبحانه .
وليس من حرية العبودية في الإسلام أن يعبد الإنسان ما شاء ، أو يتقاعس عن الدعوة إلى هذا الدين والجهاد في سبيل الله محتجاً بقوله سبحانه: {لا إكراه في الدين}( ) فلم يقل أحد من المفسرين بهذا القول ، بل ورد فيها عدة أقوال منها :-
قال ابن مسعود : كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فهي منسوخة بآية السيف( ).
وقال قتادة : نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية … فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا ، أو يقروا بالجزية ، فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الدخول في الإسلام( ).
وقال ابن كثير : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه ، لا يحتاج إلى أن يكره أحد عليه ( ).

وجمع ابن سعدي بين هذه الآية والآيات التي تدعوا إلى جهاد المشركين فقال في تفسير قوله تعالى: {لا إكراه في الدين …} :
(( هذا بيان لكمال الدين الإسلامي ، وأنه لكمال براهينه ، واتضاح آياته وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة ، ودين الصلاح والإصلاح ، ودين الحق والرشد ، فلكماله وقبول الفطر له لا يحتاج إلى الإكراه عليه . لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر منه القلوب ، ويتنافى مع الحقيقة والحق ، أو لما تخفى براهينه وآياته . وإلا فمن جاءه هذا الدين ، ورده فلم يقبله ، فإنه لعناده . فإنه قد تبين الرشد من الغي ، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة ، إذا رده ، ولم يقبله . ولا منافاة بين هذا المعنى ، وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد . فإن الله أمر بالقتال ، ليكون الدين كله لله ، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين . وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر ، وأنه من الفروض المستمرة ، الجهاد القولي والفعلي . فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد ، فجزم بأنها منسوخة ، فقول ضعيف لفظاً ومعنى ، كما هو واضح وبين لمن تدبر الآية الكريمة)) ( ).
وكذلك ليس من حرية العبودية أن يرتد المسلم عن دينه ، فإنه من ارتد عن دين الإسلام فإن جزاؤه القتل ، كما ثبت ذلك من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) ((لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): من بدل دينه فاقتلوه))().

حرية الخُلق الكريم

إن الإسلام لا يحقق الحرية لفرد على حساب آخر ، ولا لفرد على حساب جماعة ، بل إن الإسلام يضمن حرية الفرد في إطار حرية المجتمع ، فجاء بالأخلاق الفاضلة والسلوك الجميل الذي يحقق للأفراد والجماعات حرياتهم وكراماتهم .
فالإسلام جاء بتحريم الكذب –مثلاً- أو الغيبة أو النميمة أو السب والإيذاء والفحش في القول والعمل ، كما في قوله سبحانه {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}( ) وذلك فيه حفاظ لحريات الآخرين وكراماتهم .
والذين يزعمون أن الحرية في التخلص من الأخلاق الإسلامية إنما هم أعداء الحرية ، فهم يدعون إلى السقوط في قيود الشيطان والهوى ، فضلاً عن أنهم يريدون حرية أفراد على حساب آخرين .

حرية التعامل السليم

أما في معاملة الإنسان مع غيره من الناس في البيع والشراء والأخذ والعطاء فقد كفل الإسلام فيها الحرية للطرفين ، فلا غش ولا خيانة ولا خداع ، ولا أكل مال أحد بالباطل برباً أو بقمار أو نحوه من المعاملات المحرمة في الشريعة الإسلامية .
وليس من الحرية أن يتعامل الإنسان مع غيره من البشر بما يكون فيه أكل لأموالهم بغير الحق ليحقق مصلحة شخصية ، وفائدة ذاتية ، ولو عُد ذلك في بعض النظم من حرية التعامل .

حرية التملك

جاء الإسلام بإعطاء حرية التملك للفرد سواء كان ذكراً أو أنثى ، صغيراً كان أو كبيراً ، ومما يدل على أحقية المرأة في التملك كالرجل قوله سبحانه {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن}( ) . ومما يدل على أحقية الصغير في التملك قوله سبحانه { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}( ) فاليتيم لا يكون إلا صغيراً ، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أثبت له التملك، وحذر من أكل ماله ظلماً ، ولا يعني ذلك إطلاق يده في ماله يتصرف فيه كما يشاء ، بل يقام عليه ولي من قبل القاضي حتى يرشد ، لقوله تعالى : {فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}( ) ، وذلك صيانة لماله من الضياع.

حرية التفكير

جاء الإسلام بحرية التفكير ، بل وحث الإنسان على التفكر لما في ذلك من النفع للإنسان في معرفة نعم الله سبحانه وتعالى ، ومعرفة قدرته وعظمته التي تدعو إلى تعظيمه وإجلاله ، ولقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم في الدعوة إلى التفكر ، كما في قوله سبحانه {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}( ) ، وقوله سبحانه {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت}( ) .

حرية التعبير

جاء الإسلام بكفالة حرية التعبير النافع من قول الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والكلام المباح الذي لايجلب ضرراً . ومنع التعبير فيما فيه الضرر لصاحبه أو لغيره من الناس ، وذلك لحفظ الدين من الآراء والتعبيرات المخالفة لشرع الله، ومن جانب آخر هو ضمان لحرية الآخرين .
ولقد حث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قول الخير كما في صحيح البخاري عن أبي شريح العدوي قال قال النبي (صلى الله عليه وسلم) :(( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت))( ) .
ومما يدخل في حرية التعبير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما في سنن الترمذي عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ))( ) .
تم ولله الحمد والمنة ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

فهرس المحتويات

تقـــــديم 2
تعريف النظام السياسي 3
مزايا النظام السياسي في الإسلام
الربانية 4
العالمية 7
الشمول 8
الواقعية 8
الوسطية 11
السياسة عند العرب قبل الإسلام
أولاً : أطراف الجزيرة 12
ثانياً : بلاد الحجاز 16
السياسة في العهد النبوي
العهد المكي 22
العهد المدني 23
التشريعات السياسية للدولة الإسلامية 25
نظام الخلافة في الإسلام
الخلافة في اللغة 38
الخلافة في الاصطلاح 38
حكم نصب الخليفة 39
هل عين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خليفة من بعده؟ 41
السياسة في عهد الخلفاء الراشدين
أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) 44
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) 49
عثمان بن عفان (رضي الله عنه ) 51
علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) 57
أركان الدولة الإسلامية
الركن الأول : الحكم بما أنزل الله 62
الركن الثاني : الشعب 64
أهل الذمة 64
المستأمنون 65
حقوق أهل الذمة 65
واجبات أهل الذمة 65
معاملتهم 66
الركن الثالث : الدار 67
أولاً : دار الإسلام 67
أقسام دار الإسلام 68
ثانياً : دار الحرب 68
ثالثاً : دار العهد 69
بعض الأحكام المتعلقة باختلاف الدار
أولاً : إقامة الحد 69
ثانياً : الربا 70
ثالثاً : القرض أو الغصب 70
الركن الرابع : أولو الأمر 70
معنى أولي الأمر 72
شروط الإمام
الإسلام 73
التكليف 74
الحرية 74
الذكورة 75
العدالة 76
العلم 76
الكفاءة 76
سلامة الحواس والأعضاء 77
النسب القرشي 78
الأفضلية 79
واجبات الإمام 80
حقوق الإمام
الطاعة 81
النصرة 82
النصيحة 83
السلطات الثلاث في الدولة الإسلامية
أولاً : السلطة التشريعية 84
القرآن الكريم 85
الســـنة 89
مكانة السنة مع القرآن في التشريع 90
ثانياً : السلطة القضائية 91
شروط القاضي 92
ثالثاً : السلطة التنفيذية 93
الوزارة في الدولة الإسلامية
وزارة التفويض 94
صلاحيات وزير التفويض 95
وزارة التنفيذ 96
صفات وزير التنفيذ 96
الفرق بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ 97
قواعد النظام السياسي في الإسلام
أولاً : الشورى
تعريف الشورى 98
أهمية الشورى في النظام الإسلامي 98
الشورى عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) 99
الشورى عند الخلفاء 101
حكم الشورى 103
حكم العمل بنتيجة الشورى 105
صفات المستشار 106
فوائد الشورى 106
نطاق الشورى 107
ثانياً : العــــدل
تعريف العدل 109
وجوب العدل وتحريم الظلم في النظام الإسلامي 109
فضيلة العدل 110
نماذج من عدل النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام 111
من عدل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) 112
من عدل أبي بكر (رضي الله عنه) 112
من عدل عمر (رضي الله عنه) 112
من عدل عثمان (رضي الله عنه) 113
من عدل علي (رضي الله عنه) 113
ثالثاً : المساواة
تعريف المساواة 114
مبدأ المساواة في النظام الإسلامي 114
معيار التفاضل بين الناس 115
مظاهر المساواة في النظام الإسلامي 116
عدم المساواة عند بعض الأمم الشعوب 118
رابعاً : الحرية
تعريف الحرية 120
الإسلام والحرية الحقيقية 120
حرية العبودية لله 120
حرية الخُلق الكريم 122
حرية التعامل السليم 123
حرية التملك 123
حرية الرأي والتعبير 124