دراسة و بحث حول العولمة من حيث الواقع و الإمكانات

العولمة .. الواقع .. والإمكانات

(قراءة في كتاب اتجاهات العولمة وإشكالات الألفية الجديدة لـ السيد ولد أباه)

العولمة، العالمية، الكونية … ومصطلحات أخرى تتردد في وقتنا الحاضر، البعض يجهلها والبعض الآخر يعيها كمفهوم ولا يعي أخطارها. ولكن ما الفرق بين العالمية والعولمة والكونية؟ هل تلتقي في رؤية واحدة، أم تتفرغ وتتشعب في مسارات مختلفة؟ هل وجدت العولمة منذ وجود الحضارة الإنسانية على الأرض؟ أم هي وليدة ظروف سياسية واقتصادية مرّ بها العالم في النصف الثاني من الفرن العشرين؟ ألم تكن الحضارات التي نشأت في الزمن قائمة على العولمة من خلال سيطرتها على الشعوب الضعيفة؟ ألم تكن الدولة العربية الإسلامية شكلاً من العولمة لها في فترة زمنية من التاريخ، من خلال طرح الإسلام كدين عالمي للبشر كافة … دين يحترم الرغبات الشخصية والديانات المختلفة ويحترم حرية الشعوب، ويعمل على تحسين أوضاع الناس نحو الأفضل.

ما تأثير العولمة على العالم عامة والوطن العربي خاصة؟ وما تأثيرها على أوضاعنا السياسية نحن الشعب الفلسطيني؟ وكيف يتحصن الوطن العربي لمواجهة هذا الخطر؟ وما هي سبل الخلاص منه؟ ولماذا ينساق أبناؤنا نحو العولمة متحللين من مبادئهم وقيمهم وقوميتهم؟ وما الذي افتقد في حضارتهم ووجدوه في الحضارات الأخرى؟! وكيف نحصن العقول ونحميها من خطر العولمة؟ وكيف نحمي هويتنا من تيار يجرفنا معه نحو الهاوية؟ ألم تدرك هذه العقول أن العولمة قد تجاوزت المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية إلى التغيير النوعي للبشرية لخدمة أطماعها؟ وهذا يضعنا أمام الصورة الأخرى للعولمة من خلال معرفتنا بـ: ماهية العولمة، مدى تمظهرها في الوطن العربي؟ كيفية التعامل معها.

ثورة الاتصالات وأبعادها الأيديولوجية

اختلفت موازين القوى في القرن العشرين نتيجة ما شهده العالم من تقدم هائل في مجال تكنولوجيا المعلومات والتقنيات الاتصالية الجديدة التي أصبحت جوهر السلطة التي تقوم عليها الدولة. ومن أبرز هذه التقنيات شبكة “الإنترنت” التي وجدت في الأصل لخدمة وزارة الدفاع الأمريكية، وتحولت فيما بعد إلى استخدام عام لمختلف أنحاء العالم.

يقول “بيل غيتس” في كتابه الطريق إلى الأمام: “سيفضي الإنترنت إلى تغيير جذري في شكل العالم من حيث أوجهه المختلفة” (اتجاهات العولمة: 9). ومن الملاحظ أن الولايات المتحدة قد وظفت الإنترنت لخدمة شؤونها الإستراتيجية والسياسية. وقد أشار زعيم اليمين المحافظ في الولايات المتحدة “نيوت غينغرش” في كتابه نهوض أمريكا إلى “أن التفوق المعلوماتي سيضمن لبلاده السيطرة على العالم والتحكم به” (10).

وكان نتيجة هذا التقدم ظهور العولمة التي ظهرت في شتى مجالات الفكر الإنساني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وقد تنبه لهذا الخطر الرئيس الفرنسي “جاك شيراك” الذي دعا إلى مواجهة هذا الغزو الثقافي الأمريكي واللغة الانجليزية، وذلك من خلال تقنين استخدام شبكة الإنترنت.

ولا يقل خطر الإعلام الفضائي عن الإنترنت، حيث أنه لم يعد يهتم بتغطية الأحداث فحسب، بل أصبح أكثر ميلاً للصور الخاطفة التي أشار إليها المفكر الفرنسي “رجيس دوبرية” بما سماه “ثقافة الصورة”. وقد سيطرت السلطات السياسية والاقتصادية في الدول الغربية على الإعلام لمعرفتها بمدى تأثيره وخطره على الثقافات الأخرى.

وقد تنبهت المجتمعات العربية إلى خطر الإعلام الفضائي، حيث نلاحظ في الآونة الأخيرة جرأة هذا الإعلام في طرح الموضوعات الحساسة والساخنة. وفي الوقت ذاته تنبهوا إلى خطر ما يسمى “بالعولمة” الذي أصبح يخترق الحضارة والثقافة العربية من أجل انخراطها ضمن الثقافة الأحادية المتمثلة بالولايات المتحدة.

فوكوياما ونهاية التاريخ

أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى إعلان الولايات المتحدة ميلاد نظام جديد يرتكز على الحرية. وهذا ما أشار إليه المفكر “فرنسيس فوكوياما” في كتابه نهاية التاريخ، مؤكداً انتهاء الصراع بين الأيديولوجيات السياسية بانتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية انتصاراً حاسماً.

وهذه النظرية – نهاية التاريخ – تضع السيطرة بين يدي دولة واحدة متمثلة بأمريكا، وهي بذلك تقضي على كل ما يربط الإنسان بالعقيدة والأرض والتاريخ. وتضيف إليها قيماً جديدة بديلة.

لذلك، نجد فوكوياما يعبر عن نهاية الأيديولوجيا بنهاية التاريخ على اعتبار أن التاريخ مكان الصراع بين الأفكار والأيديولوجيات المختلفة. وهو يرى أن الصراع توقف باندثار الشيوعية وانطلاق بديل أيديولوجي جديد، هو البديل الليبرالي الشامل للنواحي السياسية والثقافية والرأسمالية الاقتصادية.

وقد استفاد فوكوياما من طروحات “هيغل” المثالية، “التي عنيت بالصياغة المكتملة للاتجاه التاريخاني من حيث مشروعها النسقي الجدلي الرامي إلى ردم التصدعات ولأم الشروخات التي أفضى إليها مشروع الحداثة في مستوياته المختلفة: الفهم، العقل، المجتمع المدني، الدولة، الذات، المنطق” (149).

وتعمل العولمة على صهر العالم في بوتقة حضارية معينة، كما أنها تعتبر قمة التطور التي وصلت إليها الرأسمالية، حيث تسعى إلى استبدال المال المحلي برأس المال العالمي، وما يترتب على ذلك من انقلاب في علاقة الإنسان بواقعه وبالآخرين من جهة، وبتاريخه وميراثه الثقافي أو الحضاري من جهة أخرى. وقد أطلق “هربرت ماركوز” على هذه الحضارة الجديدة “حضارة الإنسان ذي البعد الواحد” (126).

وتعتبر تجربة “النمور الآسيوية” تحدياً للرأسمالية الأمريكية التي لم تستطع بدورها اختراق التقاليد والأعراف الدينية والمجتمعية الآسيوية. وتعود أسباب الأزمة الآسيوية إلى انهيار العملة، وانعدام الرقابة على حركة الرساميل. ولكن المفكر “سوروس” أرجأ هذه الأزمة إلى ما يُسمى بالوهم الأيديولوجي القائم على التوازن. وكأن حركة الأسواق المالية تستقر وتتوازن بذاتها دون أي تدخل خارجي.

وتسعى الدول الآسيوية إلى الحفاظ على هويتها من خلال اعتمادها على اقتصاد غير رأسمالي يعارض فيه النمط الليبرالي الغربي الذي يهدف إلى الربح في الدرجة الأولى. ومن ناحية أخرى تسعى الصين إلى إيجاد نموذج اقتصادي يجمع بين الرأسمالية ومُثُل الاشتراكية على أن يخضع للتقاليد الصينية.

وقد نادى عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بووديو” باليوتوبيا الليبرالية الجديدة التي تقوم على “الإيمان المطلق بحرية التبادل، وتقديس سلطة السوق، والبحث عن أقصى حد من المنفعة الفردية، والحد من نفوذ السلطة المركزية، والخصخصة الشاملة للمصالح العمومية” (36). ولكن الليبرالية الجديدة وما حملته من مبادئ مضللة عن الحرية والديمقراطية والرأسمالية ترى أن العالم قد تجاوز اليوتوبيا باتخاذها نهجاً جديداً يمارس في أنحاء العالم.

“صامويل هانتينغون” وصراع الحضارات

بينما نجد فوكوياما يتحدث عن نهاية التاريخ وبداية العولمة، نجد المفكر الأمريكي هانتينغون يتحدث عن صراع الحضارات. وهو يرى أن البشرية تتجه نحو الصراع والتصادم فيما بينها، وهو بذلك ينطلق من فرضية تناقض فرضية العولمة التي تدعو إلى التوحد البشري في كيان حضاري متجانس. وفكرة صراع الحضارات تنطلق من أن كل مجتمع له خصائص اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية مميزة تكسبه استقلالية في مواصفاته الحضارية، وهذا ما يعرف بـِ “الهوية”. ويتأزم الصراع عندما يصل بين الحضارة الغربية والإسلام.

وهو يرى أن الإسلام أصبح أكثر وعياً بالدين وبخطر الغزو الثقافي. ولكن ما الشكل الذي اتخذه الصراع في هذا العصر؟ وهل ظهر ما يُسمى بصراع الأديان؟ ولا ننكر أن صراع الأديان من أخطر الصراعات التي عرفتها البشرية في العالم.

وقد تنبه إلى هذا الخطر أيضاً المستشرق الأمريكي “برنارد لويس” الذي كتب مقالة في مطلع التسعينيات أشار فيها “إلى حتمية الصراع بين الإسلام والغرب” (92). وحول الثقافة الإسلامية يقول الخبير الفرنسي “جان كلود بارو:

“في اللحظة التي يحتفل بها الغربيون بانهيار الأيديولوجيات ونهاية التاريخ، ها هي أيديولوجية قوية تنبثق من أعماق ثلاثة عشر قرناً من التاريخ، إنها دين طازج، فيا للهول والمفاجأة” (93).

ويبقى صراع الحضارات قائماً ومستمراً ما دام هناك عدم تكافؤ بين البشر، لأن بعض الحضارات ترتقي على حساب حضارات أخرى” (92). ولكن ألا نلاحظ أن العولمة وصراع الحضارات متعارضان، والسؤال الذي يُطرح الآن: على ماذا يرتكز العالم اليوم؟! وهل توجد إمكانية للتعايش بين الحضارتين؟!

الطريق الثالث

ما بين الاشتراكية والرأسمالية وفشلهما في تحقيق أسباب السعادة للبشر، انبثق نظام يجمع بين الاشتراكية والرأسمالية. وقد ارتبط نموذج الطريق الثالث بالمفكر الاقتصادي والاجتماعي “انتوني غيدنس”: “وهو يرفض وصف مقاربته بالتوفيقية، إنما يعتبرها نزعة راديكالية” (41).

إلامَ يهدف هذا النظام؟

يقول غيدنس: “إنّه برنامج لتحديث الاقتصاد والنظام السياسي ونمط الضمان الاجتماعي بالبحث عن تجديد المؤسسات العمومية، ودفع دور المجال العمومي وإعادة بناء المجتمع الأهلي، ويشكل بعد العدالة الاجتماعية قلب هذه النظرة” (42). فالطريق الثالث ليس أيديولوجيا جديدة، إنّما يعبر عن المخاطر والمآزق التي واكبت التوسع الرأسمالي.

كيف تعامل الوطن العربي مع العولمة؟

الوطن العربي من البلدان النامية التي نظرت إليه أمريكا بتعاطف ظاهري وطمع خفي لحل مشاكله السياسية والبيئية. ووجدت أن الحل الوحيد لهذه المشاكل هو التغيير الهيكلي الجديد في العلاقة بينها وبين هذه الدول النامية. لذلك، نرى الأطماع الأمريكية بالوطن العربي كما في حرب الخليج العام (1999) وحرب أمريكا على العراق حالياً، لأن الليبرالية الجديدة تستهدف السيطرة على النفط والماء وتسارع التسلح العالمي عن طريق تدخلات القوى المسلحة الأمريكية.

وتتعرض حضارات اليوم للتفتيت والاندثار من قبل أمريكا. ولكننا لا نستطيع إنكار أن الأحداث الأخيرة أدت إلى زعزعة التوازن الاقتصادي والإستراتيجي لأمريكا. كما أن الأحداث التي ظهرت في الصرب وكرواتيا والصومال أدت بدورها إلى زعزعة حلم “بوش”، وظهرت أخطار جديدة هددت الكيان الأمريكي مثل المفاعلات النووية. وقد قال الكاتب الأمريكي “الفين توفلر” في كتابه السلطة الجديدة: “إن ديناميكية العولمة بقدر ما تقرب أرجاء المعمورة بعضها من بعض وتفسح المجال أمام هوية كونية غير مسبوقة، تستهدف في الآن نفسه وحدة الكيانات الوطنية” (58).

هل معنى ذلك أن العالم اليوم أصبح يواجه مشكلة ضياع الهوية القومية؟ يقول فوكوياما في مقالته “التفكك الهائل”: “إنني لا أرى في ما حدث في عالم السياسة الدولية، وفي الاقتصاد العالمي خلال السنوات العشر الماضية أي شيء يتعارض حسب وجهة نظري مع الاستنتاج القائل إن الديمقراطية المتحررة والنظام الاقتصادي الذي يتحكم في السوق هما البديل الوحيد النافع للمجتمعات المدنية” (125). ولكن كيف تواجه المجتمعات العربية العولمة؟ هل تحاول امتلاك التراث وإعادة بنائه وفق مصالحها وحاجياتها؟ أم تحاول الانجراف مع تيار العولمة؟ وما مدى إدراكها إلى أهمية التمسك بالهوية المحلية ومقاومة ما يُسمى بالهوية الكونية؟ وهل تدرك أنه ليس باستطاعة ثقافتها أن تتمتع باستقلالية مطلقة. وأنه لم يعد باستطاعتها أن تتحوقل حول ذاتها؟

لقد اختلف المفكرون في تناول العولمة في الوطن العربي فمنهم من تناولها من الجانب الاقتصادي مثل المفكر السوري “محمد الأطرش” حيث قال: “اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافة ضمن إطار رأسمالية حرية الأسواق” (109). وبعضهم تناولها من الناحية السياسية والثقافية والاقتصادية وتأثيرها على الوطن العربي. إن عدم تبلور مفهوم العولمة لدى المفكرين العرب أدى إلى انقسامهم إلى مؤيد ورافض لها. فهل يعود الاختلاط في الفهم إلى عدم دراسة المرتكزات الأساسية التي قامت عليها العولمة بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، التي أشار إليها المفكر الأمريكي فوكوياما في مقالته بعنوان “نهاية التاريخ”.

الحلول المقدمة

فمنهم من تمسك بالدين إلى درجة الغلو كما تمسكوا بالقيم التراثية والحضارية الإسلامية، وهم يرون في العولمة الاغتراب والتغريب. وظهرت بعض التيارات الفكرية مثل حركة الإخوان المسلمين، ومن أبرز أعلامها: محمد البويهي، ويوسف القرضاوي. ومنهم من طالب بمواكبة العولمة، ونظر إلى الاتجاه الديني الأصولي” بالانغلاق والتحجر، فهم يرون أن العولمة ستؤدي إلى تحديث المجتمع العربي، ومن أبرزهم: موسى سلامة، وطه حسين”. أما الطريق الثالث، فعمل على التوفيق بين التراث والحداثة من خلال توظيف التراث لغايات نضالية وأيديولوجية.

ومن الذين عارضوا النهج التوفيقي جابر عصفور الذي يرفض “التوظيف الإيجابي للتراث الذي ينقله من حضوره التاريخي إلى الحضور التخييلي الذي يزيف الوعي بالحاضر والماضي على السواء” (183)، أما تحريز العظمة، فقد انتقد دعاة التوفيقية بشدة لأنه يرى “أن شرط الديمقراطية والتحديث هو انفكاك الفكر والحياة عن الارتهان بالمطلق… ونبذ محاولة إدغام المستقبل في الماضي” (183). وقد نظر نصر أبو زيد إلى “العلمانية العربية الحالية باستخدام آليات التأويل بتوظيفها في نقد منهجي ونظري للنصوص الدينية، وهو بذلك يعتبر أن النصوص نصوص لغوية، بمعنى أنها تنتمي إلى بيئة ثقافية محددة، تم إنتاجها طبقاً لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي” (182).

يرى الكثير من المفكرين أنه بعد سقوط الأيديولوجيات الغربية يظل الإسلام الأيديولوجية القادرة على استنهاض شعوب العالم الفقيرة وإنقاذها من مظاهر العولمة. يقول محمد الطالبي: “الله سبحانه وتعالى يدعونا إلى الصراط المستقيم … إن الصراط ليس شيئاً متناهياً، وإنما هو طريق نسير فيه دائماً إلى الأمام (190). والعولمة تسعى إلى التعولم من خلال محاربة الانتماء والتجذر والهوية الوطنية. لذا يجب التحصن بوطنيتنا وقوميتنا وثقافتنا من أجل إيقاف الخطر الأخطبوطي الذي بدأ يسيطر على العقول العربية.

لذلك، يجب أن نسأل أنفسنا من أين نبدأ؟ ومن يتحمل المسؤولية؟ هل نبدأ من الأسرة كونها المنطلق الأول للطفل بما تغرسه من قيم وعادات وخُلُق؟ ويأتي دور المدرسة المكمل لدور الأسرة في تعزيز هذه القيم، وخلق جيل قادر على اتخاذ قرارات بعد دراستها وتمحيصها. من هنا يأتي دور المناهج التعليمية في تنمية القومية الوطنية والثقافة العربية وتعزيزها، والتمسك بتراثنا الخصب، والاستفادة من التقدم العلمي والتقني الذي يشهده العالم اليوم مع التمسك بالهوية.

فلمَ لا نكون مثل “النمور الآسيوية” التي أوجدت عولمة خاصة بها؟!

——————————————————-

تمت اعادة النشر بواسطة محاماة نت.