أحكام قضائية رهن الاعتقال

مقدمه :

لعل أمتع الكلمات وقعا علي سمع الإنسان وعقله ووجدانه هي كلمة ( الحــرية ) .

فالحرية معني عميق يحسه الطفل في مهده فيضيق بكل القيود حتي تلك التي تهدف إلي رعايته ، ويدركه الشاب في زهوته فيتمرد علي كل الموروثات والقيم ، ويتمسك به الرجل في سطوته فيثور علي كل من يفرض عليه إرادته ، ثم ها هو الشيخ في حكمته يتبرم بكل ما هو جديد لم يألفه .

وما كل ذلك وذاك إلا مظهر من مظاهر الحرية يعتز به كل حسب مفهومة ومعرفته .

بيد أن مفهوم الحرية الحقيقية ليس بالأمر اليسير ، فالحرية ليست استجابة فورية لكل رغبة ، ولا استسلام تلقائي لكل نزوة ، بل هي في الحق رغبه تتحقق ، وحاجة تقضي ، داخل تخوم وحدود ، وابسط تلك الحدود وأشملها ، هي حقوق الغير بدورهم في الحرية ، فوعاء الحرية المستنير لابد أن يجد حدوده عند حق الأخرين في الحرية ، فحرية الجماعة تحيط بحرية الفرد ، ثم أنها تدعمه وتسانده ، وحرية الفرد العاقلة تحقق سعادة الجماعة ، ثم إنها تبارك مسيرتها .

وها هم فتية قد ملا الله قلوبهم إيمانا بمكانة الحرية وعظم قدرها ، فنذروا أنفسهم للدفاع عنها ، واتسعت أفاقهم لتظل الجميع بحمايتها ،ثم هفت قلوبهم الرحيمة للذود عن أولئك المستضعفين في الأرض في احلك أوقاتهم ضيقا وحرجا ، فانبروا للدفاع عن حقوق السجناء في اسرهم ، وقد راعهم ما قد يتعرضون له من هوان وهم في محبسهم ، وهكذا ظهر علي الوجود مباركا ( مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء ) .

ولقد كان من ثمرة جهود تلك المؤسسة التي لا تنفك تبذل الجهد تلو الآخر ، هذا البحث القيم تحت عنوان ( أحكام القضاء المصري بين التعطيل والإهدار – دراسة تطبيقية في ضوء العلاقة بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور) .

وقد تناول هذا البحث التطبيقي القيم في بدايته ضمانات الحريات العامة وتلك العلاقة الوثيقة بين حقوق الأفراد الواردة بالدستور وقانون الإجراءات الجنائية الذي يكون مع قانون العقوبات أهم وسائل حماية حرية الإفراد من العدوان عليها ، ثم أوضح في بحث مستقل ضمانات المتهم منذ لحظة الاشتباه فيه حتي لحظة قضائه للعقوبة إذا ما ثبتت إدانته ، ثم عرج بعد ذلك للأحكام القضاء المصري في مجال الحريات العامة ، ومدي عدوان السلطة التنفيذية علي تلك الأحكام بالمخالفة لأحكام الدستور .

وعرج في مبحث أخر للآثار الوخيمة المترتبة علي هذا العبث بالحقوق الدستورية .

وقد ارفق بدراسته الجادة عدة مرفقات تناولت بيانات تفصيلية من واقع الأحكام والطعون المتعلقة بقرارات الاعتقال والتعويض عن القرارات الخاطئة منها ، علاوة علي قائمة مطولة من الأحكام القضائية المتعلقة بموضوع البحث .

واذ شرفني ( مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء ) بطلب كلمة استهلالية لهذا البحث وهو شرف كبير ما كنت لا طمع فيه وان سمحت لي نفسي بالتطلع إليه ، فلا يسعني إلا أن أشيد بذلك البحث الرفيع الذي تشتد حاجتنا إلية يوما بعد يوم ، فمسيرة الديمقراطية رهينة بسيادة القانون ، وسيادة القانون بدورها رهينة بحسن تفهم السلطات الثلاث لحقيقة دورها المنشود من ناحية ، ومدى احترامها للخطوط الفاصلة بين سلطاتها وسائر السلطات من ناحية اخرى ،

وقناعتها الكاملة بضرورة العزوف عن محاولة التوسع في دائرة اختصاصاتها علي حساب الإختصاصات المخولة لغيرها من السلطات ، فمبدأ الفصل بين السلطات واحترام كل منها لغيرها هو أولي ضمانات الديمقراطية ، وحجر الأساس في هيكلها ، والأمم التي لا تدرك ذلك تضع نفسها موضع الصغار وتزهو بقوة موهومة إذا ما جمعت كل السلطات في يد واحدة ، وهي في طغيانها لا تري سوي ذاتها ، دون أن تدرك أنها محل سخط الجميع وازدرائه .

ولقد آثرانا ذلك البحث الجامع ما بين النصوص القانونية والآراء الفقهية من ناحية والتطبيق العملي من ناحية اخرى ، فاوضح بما لا يدع مجالا للشك المعاني التي سبق ذكرها . وارسي بيد ثابتة معالم طريق لا ينبغي العدول عنه .

وبعد ، ، ، لعلي أكون قد أوفيت أؤلئك الرجال حقهم من التقدير ، أعانهم الله علي أداء المهام الصعبة التي اختاروها مدفوعين بنبل المقصد ، وأثابهم علي ذلك العرق المبذول طوعا طمعا في سمو الغاية .

أحكام قضائية رهن الاعتقال

أحكام قضائية رهن الاعتقال

أحكام القضاء المصري بين التعطيل والإهدار

دارسة تطبيقية في ضوء العلاقة بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور

إعداد وتحرير : د.عمرو رضا بيومي المحامى

أ. إيهاب سلام المحامى

تقديم : المستشار / محمود عادل الشربينى

نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس لجنة الحقوق والحريات بالمجلس

الطبعة الأولي : مايو 2001

رقم الإيداع : 8224 /2001

الناشر : مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء

فريق العمل بالمركز

وحدة المساعدة القانونية و العمل الميداني

عادل مكى عاطف حافظ

عصام عبد العزيز هانى مدحت

دعاء عباس انتصار السعيد

سالى احمد عبد الحكم

المحامون

وحدة الشئون الإدارية

أميرة حمدى مديرة الوحدة

هناء هاشم محمد حمدى

حمدى حمدى حنان زارع

اشرف حسن

محمــــــد زارع

المحامي

مقــــدمة :

لا شك أن المعيار الحاسم والقاطع في الحكم علي مدي مصداقية أي نظام يزعم تمتعه بالديمقراطية واحترام الحريات العامة للمواطنين يتمثل في إعلاء شأن السلطة القضائية وتأكيد قدسية مركزها القانوني ، خاصة فيما يتصل بالأحكام الصادرة عن تلك السلطة .

وإذا كانت الدولة القانونية هي تلك التي يحكمها مبدأ سيادة القانون و تقبل أن تعمل بواسطة القانون ، وأن يحكمها القانون الذى يوفر للأفراد حقوقهم ويضمن حرياتهم ، وان يكون خضوع الدولة للقانون مكفولا برقابة قضائية يباشرها قضاء مستقل محايد .

وإذا كان مبدأ الفصل بين السلطات، والذي يتحقق بتواصل وتعاون السلطات الثلاث – السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية- في الدولة، وتعادلها فى المركز القانوني، وعدم طغيان أحدهم علي غيرها ، فان إهدار ذلك المبدأ لابد وان يعصف بأي زعم ديمقراطي لا يجد له في الواقع أي وجود .

ولما كانت الحريات العامة ، وفق النصوص الواردة بأغلب دساتير الدول المعاصرة ، من المقدسات الهامة التي حرصت علي تأكيدها تلك الدساتير، وذلك بأن جعلت السلطة القضائية ضمانة أساسية ضد تعسف السلطة التنفيذية أو جورها علي تلك الحريات ،فإن عدم احترام أحكام القضاء يجسد – بحق – إعلانا صريحا عن امتهان السلطة التنفيذية لتلك الحريات ، وتأكيدا قويا علي عدم ديمقراطية ذلك النظام .

من هنا ، تأتي أهمية هذه الدراسة التى ترصد حالة أحكام القضاء المصري في ضوء مبادئ ومواد الدستور ، وتتعرض – من خلال واقع الحياة السياسية في مصر –لمدي احترام السلطة التنفيذية لمكانة السلطة القضائية في الأحكام الصادرة عنها ، خاصة فيما يتصل بالحريات العامة للمواطنين والتي تعد – وفق مبادئ وأحكام الدستور المصري 1971- من أهم الأهداف التي أكد ذلك الدستور علي ضرورة حمايتها واحترامها .

لذا تنقسم هذه الدارسة إلي فصلين ، نتعرض في أولهما إلي أهم ثوابت النظم الديمقراطية التي تتصل بحماية وضمان الحريات العامة وتتركز في التأكيد علي مبدأ الفصل بين السلطات واحترام السلطة القضائية ، حيث تتجلى هذه الضمانات فى إطار العلاقة فيما بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور، مع إبراز أهم الوسائل التي تتبعها السلطة التنفيذية للتحايل علي أحكام القضاء لتعطيلها أو إهدارها بكلية .

أما الفصل الثاني فهو بمثابة دراسة تطبيقية لحالة أحكام القضاء المصري قيما يتصل بالحريات العامة ، وموقف السلطة التنفيذية – ممثلة في وزارة الداخلية – إزاء تلك الأحكام ، علي ضوء مواد الدستور ومدي ديمقراطية الحياة السياسية في ظل موقف الدولة تجاه مبدأ الفصل بين السلطات، وهو ما تعكسه –بصدق- أحكام القضاء المصري التي صدرت في هذا الشأن ورصدها مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء .

علي أن نختم هذه الدراسة بالتعرض لأهم أثار إهدار أحكام القضاء المصري ، وذلك بالقدر الذي تتسع له هذه الدراسة وذلك علي التفصيل الأتي :-

الفصل الأول

المركز القانوني لأحكام القضاء فى النظم القانونية المعاصرة

تمهــــيد :

إذا كان من الثابت أن الدولة القانونية التي تعلو فيها سيادة القانون لابد أن تعطي للحقوق والحريات كل حماية دستورية حتى يستظل بها المشرع العادي في سائر فروع القانون ، فإن الحماية الدستورية للحقوق والحريات ليست مجرد حماية أيديولوجية أو فلسفية ، وإنما هي حماية قانونية في أسمى صورها يتقيد بها المشرع في جميع فروع القانون . ويتطلب تحديد أبعاد هذا التقيد إيضاح التوازن بين الحقوق والحريات سواء فيما بينها أو بين المصلحة العامة من ناحية أخرى ؛ الأمر الذي يجرد الحماية من معناها ويؤدي إلى أن تفقد الحقوق والحريات محتواها .

ولاشك ان الدولة القانونية بحكم وظيفتها عليها أن تحمي جميع المصالح القانونية ، وهي ليست قاصرة على الدولة وحدها بل إنها تشمل أيضا حقوق الفرد ، فالحقوق والحريات يجب أن يحميها القانون ، ولا يجوز إهدارها بدعوى المحافظة على مصلحة المجتمع ، بل يتعين التوفيق بين المصلحتين في إطار العلاقات الاجتماعية التي تحكم المجتمع .

كما ان ظهور أفكار حقوق الإنسان كانت مبعثا للمشرع الدستوري لكي يختار من بينها ما هو أساسي ولازم للديمقراطية، فهي لا تقوم بغير سيادة القانون الذي يحمي الحقوق والحريات ؛ مع توفير ضمانات قانونية في المسائل الجنائية لكفالة محاكمة عادلة منصفة تأسيسا على أن الوضع المركزي الذي تحتله الحقوق والحريات في الدولة الديمقراطية يعتبر أساسا للنظام القانوني السياسي للدولة.

وإذا كانت الحماية الجنائية للحقوق والحريات ، وحماية النظام العام تتم من خلال التجريم والعقاب وكانت الإجراءات الجنائية تتخذ لتمكين الدولة من اقتضاء سلطتها في العقاب ، فإن ذلك لا يعني التضحية بحقوق وحريات الأفراد الذين يتم تجريم أفعالهم والعقاب عليها واتخاذ الإجراءات الجنائية في مواجهتهم ،و كما ان الحماية الجنائية للمصلحة العامة تتقرر بحسب الأصل بقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية ، لذا فإن حماية الحقوق والحريات تتقرر بحسب الأصل بالدستور .

ومما لاشك فيه ان إساءة استخدام العقوبة تشويها لأهدافها ، يناقض القيم التي تؤمن بها الجماعة في اتصالها بالأمم المتحضرة وتفاعلها معها ، ولا يكفي بالتالي أن يقرر المشرع لكل منهم حقوقا قبل سلطة الاتهام ، بل يجب أن يكون ضمان هذه الحقوق مكفولا من خلال وسائل إجرائية إلزامية يملكها ويوجهها ، ومن بينها – بل في مقدمتها – حق الدفاع .

ولما كان القانون الجنائي بفرعيه ( قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية ) يتولى حماية الحقوق والحريات من المساس بها سواء من خلال التجريم والعقاب ، وتوفير الضمان القضائي وتمكين المتهم من محاكمة منصفة أمام القضاء ؛ وكان هذا القانون في ذات الوقت يهتم بحماية مصالح المجتمع التي تتعرض للخطر أو الضرر بسبب ما يصيبها من أعمال تمس حقوق الأفراد وحرياتهم وكذا حسن سير الحياة الاجتماعية ؛ فإن التوازن الدقيق بين اعتبارات حماية المصلحة العامة واعتبارات حماية حقوق الإنسان والحريات تلقى مجالها الخصب في هذا القانون .

واذا كان من الثابت أن كلا من قانوني العقوبات والإجراءات في ظل الديمقراطية وسيادة القانون التي أكدها الدستور ليسا أداة للقهر أو التحكم ، وإنما يجب أن يرتكزا على أساس من الدستور الذي يعد حماية للحقوق والحريات، خاصة و أن حق الدولة في العقاب ينطوي على مساس جسيم بحرية المتهم ، وهو ما لا يمكن إقراره ولا تحديد مداه إلا بواسطة جهاز مستقل محايد هو القضاء ، بوصفه الحارس الطبيعي للحريات . ولا تقتصر أهمية هذا التدخل على كشف الحقيقة ، بل إنها تمتد كذلك إلى تحديد نطاق حق الدولة في عقاب الجاني .

ولما كان الفرد يتعرض لمخاطر التجريم والعقاب إذا لم يحسن وضع ضوابط دقيقة له تحافظ على التوازن المطلوب بين مقتضيات حماية حقوق الغير وحرياته ومراعاة المصلحة العامة وحماية الحقوق والحريات . فلا يجوز أن يكون هذا التوازن وسيلة للعصف بالحقوق والحريات أو مدخلا لحرمان المواطنين منه بصورة غير منطقية .

واذا كانت حماية الحقوق والحريات العامة تعتبر بمثابة مسؤولية وواجب على الدولة فى إقرار النظام العام مستخدمةُ في ذلك حقها في العقاب ، فإن الضمان القضائي لحرية المواطن – وان كان متهما – وفق أحكام الدستور يقف حالا دون أن تجور السلطة التنفيذية علي تلك الحرية ، وهو ما يتضح فى أبعاد العلاقة فيما بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور، وهو ما نسعى إلى التعرض له علي النحو الآتي : –

المبحث الأول

ضمانات الحريات العامة

بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور

تمهـــيد :

إذا كانت القوانين على اختلافها واختلاف أهميتها وخطورتها ليست نصوصا مرصوصة – ولن تكون – وإنما هي أولا وقبل كل شئ حكم القاضي الذي يحيل النص إلى واقع ملموس ، فإذا بالواقع حقيقة مؤكدة هي تطبيق لحكم النص القانوني فيصير جمود النص حركة ، وتتحول الحركة إلى حياة ، ومن هنا تأتي أهمية العلاقة الوثيقة فيما بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور الذي لا بد وأن يكون القانون بوجه عام ، قد نبت في إطاره لينمو في ظله ويتحسس حدوده ولا يتعداها . لذا يكون من الأوفق أن نمهد للحديث عن العلاقة فيما بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور، بتعريف وتبيان خصائص كل منهما، وذلك على النحو التالي:

أولا: قانون الإجراءات الجنائية:

يعرف قانون الإجراءات الجنائية بأنه ” مجموعة القواعد القانونية التي تتضمن إجراءات البحث عن الجرائم وضبطها ووسائل إثباتها وتحدد السلطات المختصة بملاحقة المجرم ومحاكمته وتبين إجراءات المحاكمة وتنفيذ الأحكام الجنائية ” وهو بذلك يشكل مجموعة من القواعد القانونية تنظم النشاط الذي تباشره السلطات العامة بسبب جريمة ارتكبت وتستهدف به تحديد المسئول عنها وإنزال العقوبة أو التدبير الاحترازي .

و يقوم قانون الإجراءات الجنائية بتحقيق دورين أساسيين وهامين فهو من ناحية يحقق مصلحة المجتمع في التمتع بالأمن والطمأنينة بالضرب على أيدي المجرمين ، فالعقوبة التي يقررها قانون العقوبات جزاء لجريمة معينة تظل حبيسة النص ، أيا كانت جسامتها إلى أن يتدخل قانون الإجراءات الجنائية ليخرجها إلى حيز التنفيذ عن طريق ضبط المجرم وملاحقته ثم إصدار حكم بإدانته يمكن بمقتضاه توقيع العقاب عليه ، ولذلك يمثل قانون الإجراءات الجنائية بالنسبة لقانون العقوبات حلقة الاتصال أو همزة الوصل بين الجريمة والعقاب، ويعتبر الأداة الوحيدة لتطبيق قانون العقوبات .

ومن ناحية أخرى يرمي قانون الإجراءات الجنائية إلى تحقيق هدف سام ثمين يتمثل في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم ، فقد تتجمع الشبهات حول بريء فيلقى به في قفص الاتهام ، ولا يجد هذا المظلوم ملاذا إلا فيما يضعه قانون الإجراءات الجنائية من قواعد تتيح له فرصة الدفاع عن نفسه وإثبات براءته ، هذا الدور المزدوج يتطلب من قانون الإجراءات الجنائية أن يقيم التوازن بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد فيضمن القواعد المحددة التي تضمن تحقيق الهدفين معا ، فيتجنب إفلات المجرم من العقاب كما يحول دون الحكم بإدانة بريء .

ويتحقق التوازن على صعوبته – في ظل النظم الديمقراطية القائمة على احترام حرية الفرد- عندما يستند قانون الإجراءات الجنائية إلى عدة مبادئ أهمها تحقيق أولى يجري مع المتهم ليقدم دفاعه في أي مرحلة من مراحل الدعوى وتحديد اختصاصات الهيئات القضائية بدقة ووضوح ، ومبدأ استقلال القضاء ، أما في ظل النظم الدكتاتورية فان التوازن يختل اختلالا كبيرا ، فتمثل قواعد الإجراءات الجنائية إلى ترجيح مصلحة الدولة على حساب حقوق الأفراد وحرياتهم فيتم سير الدعوى بسرية وبسرعة مما يهدر حق المتهم في الدفاع، ويكون للسلطة التنفيذية سلطات واسعة تتيح لها فرصة التحكم والتعدي على حقوق الأفراد كأثر مباشر لتبعية القضاء لتلك السلطة .

ومن الثابت أن موضوع قانون الإجراءات الجنائية عبارة عن نشاط للسلطات العامة سببه جريمة وغايته عقوبة أو تدبير احترازي وينقسم هذا النشاط إلى قسمين : أولا – الأجهزة والهيئات التي تعهد إليها الدولة بمباشرة هذا النشاط، أي أجهزة السلطات العامة التي يخولها القانون الاختصاص بهذا النشاط ، ثانيا : الأصول والقواعد التي تحكم عمل هذه الهيئات فتبين ما يجوز لها اتخاذه وما يحظر عليها .

ثانيا : الدســــتور:

لم يظهر مصطلح الدستور في مصر – فى الأدبيات القانونية- إلا منذ 1923 ، أما قبل ذلك التاريخ فكان الشائع هو استعمال لفظ ” القانون النظامي أو الأساسي ” وإذا كان الملاحظ أن عبارة ” القانون النظامي أو الأساسي ” أصح لغة ، فإن كلمة ” دستور ” بإيجازها ودلالتها ، مع شيوع استعمالها قد ضمنها العرف شيئا من معنى القدسية ولهذا فقد شاع استعمال التسمية في دساتير الدول العربية الحديثة

وتثير كلمة دستور في الذهن معنيين مختلفين : –

أحدهما مادي أو موضوعي ، ويقصد به ” مجموع القواعد الأساسية في الدولة ، فتعتبر قواعد دستورية تلك التي تحدد شكل الدولة ( موحدة أو مركبة ) ونوع الحكومة ( جمهورية أو ملكية ) والسلطات العامة و علاقتها ببعضها ، وحقوق الأفراد ، وبمعنى آخر تعتبر دستورية جميع القوانين التي تتناول موضوعات تدخل في نطاق دراسة القانون الدستوري .

والمعنى الثاني : شكلي أو رسمي ، ويقصد به تلك الوثيقة المتضمنة للقواعد الدستورية في الدولة والتي يتم وضعها وتعديلها بطرق خاصة تجعلها أسمى وأكثر ثباتا من القوانين العادية ، والمفروض أن يتطابق هذان – المعنيان كل منهما على الآخر ، بمعنى أن تحتوي الوثيقة الدستورية على القواعد الأساسية في الدولة و لكن هذا التطابق لا يتحقق على نحو مطلق .

واذا كان تعقد وتشابك الحياة المعاصرة يستلزم العمل على محاولة اكتشاف مصالح الشعب كحقيقة تاريخية وتنظيم هذه المصالح بناء على أهميتها وصياغتها في مؤسسات ، أو بعبارة أخرى إلى تأسيس شعور الشعب بالعدالة وخلق الشروط القانونية السياسية والاجتماعية لحماية سيادة تلك المؤسسات في الدولة لأنه إن لم تحترم سيادة القانون ومبادئ العدالة فسيكون الميل جارفا لاستبدال القانون بسلطة الفرد ، الأمر الذى يستلزم وجود الدستور الذي يحمي حقوق المواطنين التي لا يمكن الاستغناء عنها في تقدمهم الإنساني في عملية تحقيق أهدافهم كأفراد وكأعضاء مسئولين في المجتمع .

فمن الثابت أن سيادة القانون تستمد من سيادة الدستور ، فهو الذي يضع الأسس التي يقوم عليها القانون في كل فروعه ؛ فيسمو عليها بحكم مكانته ، وتخضع له جميع قواعده القانونية بحكم وحدة النظام القانوني الذي يعلوه الدستور . وبهذه العلاقة العضوية بين الدستور والقانون ، تتدرج القواعد القانونية من حيث المرتبة ؛ فيتخذ منها الدستور وضعه الأسمى .

وقد عبرت المحكمة الدستورية العليا عن ذلك في قولها بأن ” الدولة القانونية هي التي تتقيد في جميع مظاهر نشاطها – وأيا كانت سلطاتها – بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا لأحد ، ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها “.

وإذا كان الدستور- كحقيقة يؤكدها التاريخ – ليس منحة من حاكم كما أنه ليس ديكورا يزدان به جبين نظام وليس زخرفا يتباهى به الحاكمون ، وإنما هو القول الفصل بين إدارة الحاكم وإدارة المحكوم . وهذه العلاقة تتسم بالقوة والفعالية ” فوجود قانون الإجراءات الجنائية وما يعترضه من تنظيم للقضاء وتحديد لأسلوب عمله ، هو وفاء بالتزام تفرضه على الدولة المبادئ الدستورية العامة بكفالة توزيع العدالة بين المواطنين ، واهتمام قانون الإجراءات الجنائية بكفالة حقوق الدفاع وحماية كرامة المتهم وحقوقه الأساسية هو وفاء بالتزام دستوري بصيانة الحريات العامة ونتيجة لذلك كانت خطة الشارع في قانون الإجراءات الجنائية مرتبطة بسياسته الدستورية العامة .

ولم يثر شك في أن قانون الإجراءات الجنائية في نظام سياسي استبدادي يختلف عنه بالضرورة في ظل نظام ديمقراطي حر ، ذلك أن قيمة الفرد وكرامته وما ينبغي الاعتراف له به من حقوق – ولو كان متهما – يختلف باختلاف هذين النظامين وتفسر هذه الصلة الوثيقة بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور كيف أن بعض قواعد الإجراءات الجنائية الأساسية قد ارتقت في سلم التدرج التشريعي فاتخذت مكانها بين نصوص الدستور وتفسر هذه الصلة الوثيقة كيف أن التعديل الجوهري في الدستور إزاء الحقوق الفردية والحياة العامة ينبغي أن يتبعه تعديل في نصوص الإجراءات الجنائية ، وبغير ذلك ينتفى الاتساق بين الدستور وقانون الإجراءات الجنائية ، وتتعرض بعض نصوص الأخير للدفع بعدم دستوريتها ويؤيد ذلك أن تطبيق دستور جديد في مصر 1971 قد استتبع إدخال تعديل هام على قانون الإجراءات الجنائية بالقانون رقم 37 لسنة 1972 .

وتأكيدا لقوة هذه العلاقة الوثيقة فيما بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور ؛ نذكر ما جاء بحكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 37 لسنة 9 ق دستورية بتاريخ 19/5/1960 من أن ” الدساتير المصرية المتعاقبة قد حرصت جميعها منذ دستور 1923 على تقرير الحريات والحقوق العامة في طيها قصدا من الشارع العادي فيما يسنه من قواعد وأحكام وفي حدود ما أراده الدستور لكل منها من حيث إطلاقها أو جواز تنظيمها تشريعيا فإذا خرج المشرع فيما يقرره من تشريعات على هذا الضمان الدستوري بأن قيد حرية أو حقا ورد في الدستور وقع عمله التشريعي مشوبا بعيب مخالفة الدستور .

المطلب الأول

العلاقة بين قانون الإجراءات الجنائية والدستور

في إطار مبدأ الشرعية الإجرائية

إذا كان من الثابت أن الأصل في الإنسان البراءة ، و من حقه أن يتمتع بحريته وسائر حقوقه المقررة في القانون فانه يتعين على الدولة تبعا لذلك احترام هذه الحرية وتلك الحقوق بأن يكون إقرار حقها في العقاب بيد جهاز مستقل هو القضاء وحتى تنتقل الدعوى إلى القضاء كي يفصل فيها بحكم قضائي لا بد معه من اتخاذ إجراءات معينة تكون ما يسمى بالخصومة الجنائية ، وفي هذه الخصومة تهدف الدولة إلى جمع الأدلة اللازمة حول كيفية وقوع الجريمة ونسبتها إلى المتهم ثم تحديد مسئوليته عنها وتحديد الجزاء الملائم له .

ووفقا لمبدأ الشرعية الذي يحكم الدولة القانونية يجب أن يسعى المشرع إلى إقامة التوازن الكافي بين حقوق ممثل الدولة في الاتهام ( النيابة العامة ) وحقوق الدفاع ، بحيث تضمن للمتهم احترام حريته وكافة حقوقه الشخصية ، واحترام هذا المبدأ أمر ضروري ولازم لتحقيق المحاكمة الجنائية العادلة . ولهذا فإن قانون الإجراءات الجنائية يجب أن ينظم الحدود التي يمكن فيها للسلطات العامة المساس بالحريات الفردية من أجل إقامة العدالة الجنائية .

ولما كان الهدف الأسمى الذى ترنو إلى تحقيقه الشرعية الإجرائية – باختلاف مفاهيمها في الدول المختلفة تبعا لنظمها السياسية والاقتصادية – هو إقامة التوازن العادل بين صالح الفرد وصالح المجتمع برسم النطاق القانوني لحماية الحرية الشخصية والتي يجب ألا نضحي بها مهما كانت المبررات باعتبارها الحد الأدنى الذي لا يتعارض مع مصالح المجتمع ، فإن الدستور أحد أهم ضوابط الشرعية الإجرائية بالإضافة إلى إعلانات حقوق الإنسان ، فهي التي ترسم حدودها وتلزم المشرع باتباعها سواء بتحديد الإطار العام وترك مضمونها ونطاقها للقانون أو بالنص عليها فكلما كانت الدساتير صادقة في التعبير عن آمال الشعب انعكس ذلك على الشرعية الدستورية التي تتمتع بالقيمة الإلزامية ، وتكون بذلك القوانين الإجرائية قد اكتسبت الشرعية .

ولاشك أن الخصومة الجنائية لا تسعى إلى إقرار حق الدولة في العقاب إلا بعد تحقيق كافة الضمانات لاحترام الحرية الفردية للمتهم، فالدولة بسلطاتها وأجهزتها المختلفة تملك وبلا شك أن تنال حقها في العقاب من المتهم بارتكاب الجريمة بكافة الطرق والوسائل ، إلا أن مبدأ الشرعية الذي يحكم الدولة القانونية يلزم أجهزتها الإدارية والقضائية سواء بسواء باحترام القواعد العامة التي حددها القانون لضمان احترام الحريات الفردية واستقرار أمن المجتمع ، لذا ينبغى علينا إلقاء الضوء على أهم أركان الشرعية الإجرائية .

الفرع الأول

أركان الشرعية الإجرائية

تقوم الشرعية الإجرائية على أركان ثلاثة :-

1- افتراض براءة المتهم حتى ثبات إدانته .

يشكل افتراض براءة المتهم عنصرا أساسيا في مبدأ الشرعية الإجرائية ، ويراد بذلك ملازمة هذه القرينة للمتهم من لحظة القبض عليه وحتى صدور حكم نهائي ضده يدحض هذه القرينة ويكشف عن ارتكابه للجريمة أو تثبت براءته فترقى تلك القرينة إلى مستوى اليقين وتبدوا أهمية هذا المبدأ في الآثار المترتبة عليه لصالح المتهم وضمان حقوقه . وأول هذه الآثار هو تقرير عبء الإثبات على عاتق مباشر الدعوى الجنائية ( سلطة الاتهام ) وقدم مطالبته بتقديم دليل البراءة .

أما الأثر الثاني ، فهو تفسير الشك لصالح المتهم ، وثالث هذه الآثار هو معاملته معاملة تحترم آدميته وإحاطته بالضمانات الكافية التي تكفل له براءته أن كان بريئا حقا . وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة ، إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه في الحياة ، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا في ضوء مبدأ الشرعية الإجرائية وتوفير ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية ، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى .

وتتحقق تلك الضمانات كلما كان الاتهام الجنائي معرفا بالتهمة ، مبينا طبيعتها ، مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها ، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون ، وأن تجري المحاكمة علانية ، وخلال مدة معقولة ، وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة إلى موضوعية التحقيق الذي تجريه ،

وإلى عرض متجرد للحقائق وإلى تقدير شائع للمصالح المتنازعة وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها ، ومن ثم كفلها الدستور في المادة رقم(67) وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها ، وتندرجان تحت مفهومها ، هما افتراض البراءة من ناحية وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى ، وهو حق كفله الدستور فى صلب المادة ( 69) بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول .

وتتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح ، يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ، ويحول بضماناتها دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها ، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة ، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الجماعي – بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته ، أو ان تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها ، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة .

بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموع من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا تجوز النزول عنها والانتقاص منها .

ويؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الانسان عليها ، فلقد ولد حرا مبرءاً من الخطيئة أو المعصية ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة مازال كامنا فيه مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال ، إلى أن تنقض محكمة الموضوع بقضاء جازم لارجعة فيه هذا الافتراض على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها إليه فى كل ركن من أركانها ، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها بما فى ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا أكان متطلبا فيها ، وبغير ذلك لاينهدم اصل البراءة .

2- مبدأ قانونية الإجراءات الجنائية :

يضع المشرع الخطوات و الإجراءات التى تباشرها السلطات المختصة فى الدولة من اجل تقصى الحقيقة وملاحقة مرتكب الفعل المخالف للقانون وإيقاع العقاب اللازم متى توافرت أسبابه ، وهو فى وضعه هذه القواعد يحدد متطلبات عدم المساس بالحرية الفردية فالقانون وحده هو المصدر الوحيد الذى يرسم ويحدد تلك القواعد الإجرائية منذ تحريك الدعوي الجنائية حتى انتهائها بحكم بات ، ويعرف هذا الانفراد فى تنظيم الإجراءات الجنائية بمبدأ قانونية الإجراءات الجنائية .

ومن ذلك يتضح أن مبدأ الشرعية الإجرائية يقتضي احترام الحرية الفردية المقررة بالقانون أثناء الخصومة الجنائية ، وتكفل قوانين الدولة تحديد ما يتمتع به الفرد قبل الدولة من حقوق يتعين عدم التفريط فيها أثناء الخصومة الجنائية ، كما تحرص دساتير بعض الدول على تحديد أهم الضمانات التي يجب احترامها وخاصة ما يتعلق بالحريات العامة وحقوق الدفاع ، وترسم هذه الدساتير الخطوط العريضة للمشرع وتحدد له الإطار الذي يستطيع بداخله تنظيم إجراءات الخصومة الجنائية ، وإلا كان القانون غير دستوري ؛ فضلا عن التزام السلطتين القضائية والتنفيذية باحترام ما تقضي به النصوص الدستورية في هذا الصدد .

الفرع الثاني

ضمانات المتهم

في ضوء مبدأ الشرعية الإجرائية

لقد اطرد قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن خضوع الدولة للقانون محدد على ضوء مفهوم ديمقراطي مفاده ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يقر التسليم بها فى الدولة الديمقراطية باعتباره مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية وضمانة أساسية لنصوص حقوق الانسان وكرامته وشخصيته المتكاملة ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعد بالنظر إلى مكوناتها، وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور فى كثير من مواده، ومنها ما كفل ضمانات دستورية للمتهم فى ضوء مبدأ الشرعية الإجرائية ، ويأتي على رأسها ما يعرف بالضمانات الدستورية للمتهم إزاء الحبس الاحتياطي .

فلقد نصت المادة 41 من الدستور المصري 1971 على أن الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس ، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض علي أحد أو تفتيشه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وذلك وفقا لأحكام القانون .

كما نصت المادة 42على أن” كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته بأي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ، ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا ، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون ..”

ولقد أورد المشرع الدستوري هذه الضمانات في صلب الدستور رغم أن مكانها الطبيعي هو قانون الإجراءات الجنائية ؛ وذلك حتى يسبغ عليها سموا من سموه ويكفل لها قوة من قوته . ولا شك أن هذه الطبيعة الدستورية ترتب نتائجها آثارا غاية في الخطورة والأهمية والتي نجملها فيما يلي :

أولا : عدم دستورية القوانين واللوائح التي تخل بهذه الضمانات كما تقضي بذلك المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا .

ثانيا : حق التظلم من الإجراء المقيد للحرية الشخصية .

فقد نصت المادة 71 من الدستور على أن ” يبلغ كل من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فورا ويكون له حق الاتصال بمن يري إبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذي ينظمه القانون

ويجب إعلانه على وجه السرعة بالتهم المواجهة إليه ..وله ولغيره التظلم أمام القضاء من الإجراء الذي قيد حريته الشخصية .. وينظم القانون حق التظلم بما يكفل الفصل فيه خلال مدة محددة وإلا وجب الإفراج حتما .

ثالثا : عدم سقوط الدعوي الجنائية أو المدنية الناشئة عن الاعتداء على الحرية الشخصية بالتقادم .

وتعتبر هذه النتيجة متفقة تماما مع ما نصت عليه المادة 57 من الدستور من أن ” كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوي الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء .

رابعا : حق المضرور في تعويض عادل :

إذا كان من الثابت أن مشروع قانون الإجراءات قد اتجه في المادة 379 إلى الأخذ بمبدأ مسئولية الدولة عن تعويض المحكوم عليه عن الضرر الذي أصابه من جراء الحكم الذي قضي بإلغائه وتتحمل الدولة التعويض المحكوم به ولها أن ترجع به على المدعي بالحقوق المدنية أو على المفتري أو على شاهد الزور الذي كان سببا في صدور الحكم الذي قضي بإلغائه بناء على طلب إعادة النظر .

فإن عدم النص صراحة في قانون الإجراءات الجنائية على حق المضرور في تعويض عادل لا يحول دون تفسير نص المادة 57 من الدستور – سالف الذكر – التفسير الذي يتفق مع روح ذلك النص والذي يضمن حق المضرور في تعويض عادل وحث المشرع على النص صراحة على ذلك الحق .

المطلب الثاني

الرقابة القضائية على شرعية الإجراءات الجنائية

فى ضوء مبدأ الفصل بين السلطات

يعني مبدأ الفصل بين السلطات توزيع وظائف الدولة الثلاث علي سلطات ثلاث ، السلطة التشريعية وتختص بإصدار القوانين ، والسلطة التنفيذية وتختص بتنفيذ القوانين ، والسلطة القضائية وتختص بتطبيق القوانين علي ما يعرض عليها من منازعات .

ووفقا لمبدأ الفصل بين السلطات يكون لكل سلطة اختصاص معين لا يجوز لها الخروج عليه ، وإلا اعتدت علي اختصاصات السلطات الأخرى . فلا يجوز مثلا للسلطتين التنفيذية والقضائية تقرير القوانين التشريعية أو التصدي للأعمال البرلمانية التي تصدر من السلطة التشريعية كما لا يجوز للأخيرة الفصل في المنازعات القضائية وإصدار أحكام فيها أو التدخل في الأمور الخاصة بموظفي الحكومة العموميين ، عدا موظفي البرلمان ، أو القيام بعمل من الأعمال الداخلة في النطاق الدستوري للسلطة التنفيذية .

وإذا كان من الثابت – من الناحية الفقهية والدستورية- أن الدولة تنهض كنظام قانوني بحماية الحقوق والحريات عن طريق إصدار القانون الذي يقرر هذه الحماية ، ومن خلال السلطة القضائية التي تكفل الحماية المذكورة ،فإن إرادة القانون في حماية الحقوق والحريات لا تنتج آثارها بطريقة فعالة إلا إذا كفل القضاء هذه الحماية .

والتدخل القضائي هو الذي يضمن فاعلية نصوص القانون . بخلاف السلطة التنفيذية ، فإنها تعمل على مجرد تطبيق القانون دون أن تملك التأكد من سلامة هذا التطبيق ، وبالتالي لا تملك ضمانة الحماية التي يقررها القانون للحقوق والحريات على وجه أكيد . فالقرارات الإدارية مهما كانت قيمتها تتضاءل أمام الأحكام القضائية بقوتها وحجيتها . والسلطة القضائية باستقلالها وحيادها أكثر قدرة من غيرها على التعبير عن الإرادة الحقيقية للقانون .

ولاشك أن خضوع الدولة للقانون يعني عدم إخلال تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة . ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي كفلها الدستور .

ولما كان من المتعين أن تتكامل السلطة القضائية مع السلطة التشريعية في تطبيق القانون لحماية الحقوق والحريات ؛ فالسلطة التشريعية تضع القانون تطبيقا للدستور ، والسلطة القضائية تصدر الحكم تطبيقا للقانون

ويمارس القاضي دوره بتحديد القاعدة القانونية الواجبة التطبيق وتفسير مضمونها . ولا يقتصر عمل القاضي في هذا الشأن على التعرف على القاعدة القانونية وتحليل مضمونها ، وإنما ينهض أيضا بإجراء التكيف اللازم لهذا المضمون مع الوقائع القانونية المعروضة عليه، ويسهر على احترام وتطبيق الحقوق والحريات العامة للأفراد، وعلى ذلك فإن احترام أحكام القضاء بتنفيذها وعدم تعطيلها أو إهدارها يجسد إعلانا صريحا عن مصداقية الدولة الديمقراطية التي تحترم القانون وتحكم بموجبه في ضوء مبدأ الفصل بين السلطات الذي يعد إحدى أهم دعائم النظام الديمقراطي .

غير أن مبدأ فصل السلطات لا يعني استئثار كل سلطة بالوظيفة المخولة لها أصالة ، حتي ولو نص القانون علي خلاف ذلك ، بل معناه تواصل السلطات واتحادها في أداء أعمالها في حدود القوانين الديمقراطية ، وإذا ما فقد التوازن بين سلطات الدولة فى المجتمع ، فإنه يكون طبيعيا أن تسعي السلطة التنفيذية بحكم استئثارها بمقاليد القوة والبطش – وبشتى الطرق -إلي احتواء كافة مؤسسات وسلطات المجتمع ومنها السلطة القضائية ، وذلك تعزيزا لمكانتها وفرضا لسلطاتها . كذلك فإن مدي استقلال السلطة القضائية رهين بطبيعية العلاقات بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية .

فإذا سيطرت السلطة التنفيذية علي السلطة التشريعية وصيرتها كيانا ضعيفا ملحقا بها انعكس ذلك سلبا علي السلطة القضائية وإذا اختلت العلاقة بين السلطتين لصالح السلطة التنفيذية أحيط بالسلطة القضائية وفقدت إلي حد كبير استقلالها .

ولقد أجمعت معظم دساتير الدول ، كما أكدت المواثيق العالمية والمؤتمرات الدولية، علي كفالة حق المواطن في أن تنظر قضيته أمام القضاء الطبيعي .ويتحدد القضاء الطبيعي بعدة عناصر يأتى على رأسها:

1- أن تنشأ المحكمة بقانون في وقت سابق علي نشوء الدعوى بحيث لا يجوز بعد نشوء الدعوى أو وقوع الجريمة انتزاع المواطن أو المتهم من قاضيه الطبيعي إلي محكمة أخري أقل ضمانا تنشأ خصيصا من أجلها .

2 – أن يتحدد اختصاص المحكمة بواسطة القانون وفقا لمعايير موضوعية مجردة غير متوقف علي مشيئة سلطة معينة .

3 – أن يكون هذا القضاء دائما أي أن تكون له ولاية دائمة دون قيد زماني معين سواء تحدد هذا القيد بمدد معينة أو بظروف استثنائية مؤقتة .

4 – أن تتوافر في هذا القضاء ضمانات الكفاءة والحيدة والاستقلال .

5 – أن تتوافر أمامه حقوق الدفاع وضماناته كاملة .

وإذا كان من الثابت أن استقلال القضاء يقتضي أن يكون بعيدا عن تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وألا يخضع في قضائه لغير حكم القانون ،فهذا الضابط الأخير هو الذي يحقق لاستقلال القضاء تكامله ومعناه الإيجابي وهو عدم الخضوع في قضائه لغير حكم القانون ، فيحق لنا أن نتساءل عن مدى احترام السلطة القضائية فى مصر ؛ خاصة فيما يتصل بتنفيذ أحكام القضاء ، هذا ما نسعى إلى مناقشته فيما يلي :

المبحث الثاني

المركز القانوني للسلطة القضائية

وأحكام القضاء فى مصر

تحقيقا لمبدأ الشرعية الإجرائية ولمبدأ الفصل بين السلطات يقتضي أن تختص السلطة القضائية بالفصل فى المنازعات والجرائم الواقعة بدءا من تحريك الدعوى الجنائية وإصدار الإجراءات المقيدة للحرية الشخصية وانتهاء بحكم تنقضي فيه الخصومة الجنائية ، حيث يعتبر القضاء هو الحارس الحقيقي للمتهم وحقوقه وضماناتها، وهو الذى يبعث فى المبادئ المعلن عنها فى الدستور الفاعلية المنتجة.

ولقد حرص الدستور المصري 1971 على ضمان الحق فى هذه المحاكمة العادلة حينما نصت المادة السابعة و الستون على أن ” المتهم بريء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه …”هو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الانسان فى مادتيه العاشرة و الحادية عشرة اللتين تقرر أولاهما : ” ان لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره فى محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة ، تتولى الفصل فى حقوقه والتزاماته المدنية أو فى التهمة الجنائية الموجهة إليه.

و ثانيتهما : “حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية افترض براءته إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه” .

فلقد نصت المادة ( 165 ) من الدستور على أن”السلطة القضائية مستقلة ، وتتولاها المحاكم علي اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون” .

كما نصت المادة (70) من الدستور المصري 1971 على ” لا تقام الدعوى الجنائية إلا بأمر من جهة قضائية فيما عدا الأحوال التى يحددها القانون ” وذلك حرصا من الدستور على شرعية الإجراءات الجنائية واختصاص السلطة القضائية بها .

وعلي الرغم من أن دساتير مصر المتعاقبة قد حرصت علي النص علي أن المحاكم تتولى سلطة القضاء وأن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، وأن القضاة محصنون ضد العزل ، حيث نصت المادة( 65) على أن” تخضع الدولة للقوانين ، واستقلال القضاء وحصانته ضمانا أساسيا لحماية الحقوق والحريات” .

إلا أن المشرع المصري قد خرج علي كل هذا ، حين لجأ إلي التشريعات الاستثنائية التي تتعدد به جهة الاختصاص بالفصل في المسألة الواحدة ، حيث يأتىعلي قمة ذلك المحاكم العسكرية ، ومحاكم أمن الدولة ومحكمة القيم ، ومحكمة الأحزاب والمحكمة الخاصة بمحاكمة رئيس الجمهورية والوزراء ونوابهم.

فمن الثابت أن السلطة التشريعية إذا ما أصبحت في حالة تبعية للسلطة التنفيذية تستجيب لكل ما تطلبه الأخيرة منها ، وذلك بسن وتشريع القوانين التى تحتاجها،، وبذلك فإنها تسهل لها القبض علي مجريات الأمور في البلاد ويكون ذلك عادة بإصدار قوانين تقيد الحريات العامة للمواطنين وتنزع الاختصاص بنظر المنازعات التي تنشأ عن هذه القوانين من القاضي الطبيعي لتضعه في يد قاض غير طبيعي لا يتمتع بالاستقلال ولا بالحياد ولا بالعلم .

ولقد طغت سطوة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية فى مصر، وتجلى ذلك في عدة صور ، من أهمها :

1- سلب ولاية القاضي الطبيعي في نظر كثير من المنازعات .

2- الامتناع عن تنفيذ أحكام السلطة القضائية .

وفيما يلي نناقش بالبحث والدراسة أهم معالم هاتين الصورتين ، وذلك على النحو الآتي :

المطلب الأول

سلب ولاية السلطة القضائية

وإسنادها إلي محاكم استثنائية أو خاصة

أولا: إهدار الأحكام القضائية فى ظل العمل بقانون الطوارئ :

اذا كان من الثابت – عمليا – أن تتسع السلطات المخولة للسلطة التنفيذية علي حساب السلطات الأخرى في ظل العمل بالأحكام العرفية أو قانون الطوارئ أو أي قانون استثنائي آخر في حالة الظروف الاستثنائية التي يصعب مواجهتها بقواعد المشروعية العادية ، حيث يكون من الجائز أن تخرج السلطة التنفيذية والإدارية علي مبدأ المشروعية قليلا لمواجهة تلك الظروف ، إلا أنه لا يجوز لتلك السلطة أن تتخذ ذلك ذريعة لاستمرار فرض سيطرتها وقلب الأمور إلي أن يصبح الاستثناء هو الأصل .

ولقد استقر القضاء الإداري الفرنسي علي ثلاثة شروط لابد من توافرها للقول بأننا أمام ظرف استثنائي يبرر الخروج عن قواعد المشروعية العادية وإمكان المساس بالحقوق والحريات الفردية هي :

1- أن تجد الإدارة نفسها أمام حالة غير مألوفة .

2- صعوبة استخدام القوانين العادية لمواجهة هذه الحالة .

3- أن يترتب علي تلك الحالة غير المألوفة تعريض المصلحة العامة لخطر جسيم .

ولقد استقر الأمر علي ذلك في مصر ، أى ضرورة توافر ذات الشروط لإمكانية القول بوجود ظروف استثنائية للخروج علي قواعد المشروعية العادية .

ولقد كان أول استخدام لقانون الأحكام العرفية عام 1914 في ظل الاحتلال البريطاني ، أما بعد ثورة 1952 فقد صدر القانون رقم 533 لسنة 1954 ولم يستمر طويلا إذ ألغي بالقانون رقم 162 لسنة 1958 والذي مازال مطبقا في مصر حتى الآن رغم تعديله أكثر من مرة بالقانون رقم 37 لسنة 1972 والقانون رقم 164 لسنــة 1981 والقانــون رقم 50 لسنة 1982 فعلي مدار أربعة وثمانين عاما مضت طبقت الأحكام العرفية فيها لمدة 58 سنة ومازالت مطبقة في مصر حتى الآن منذ إعلانها عقب اغتيال الرئيس السادات في عام 1981 .

وفيما يلي بيان لأهم معالم حالة الطوارئ في ظل أحكام الدستور المصري لسنة 1971 والقوانين المتصلة بهذا الشأن :-

أ – السلطة المختصة بإعلان حالة الطوارئ :

نصت المادة (148) من الدستور المصري علي أن ” يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ علي الوجه المبين في القانون ويشترط ضرورة عرض هذا الإعلان علي مجلس الشعب خلال الخمسة عشر يوما التالية ليقرر ما يراه بشأنه وإذا كان مجلس الشعب منحلا يعرض الأمر علي المجلس في أول اجتماع له وفي جميع الأحوال يكون إعلان حالة الطوارئ لمدة محدودة ولا يجوز مدها إلا بموافقة مجلس الشعب “ونصت المادة الثانية من قانون الطوارئ رقم (162) لسنة 1958 على أن ” إعلان حالة الطوارئ وانتهاءها بقرار من رئيس الجمهورية “.

ولقد أضافت هذه المادة ضرورة بيان الحالة التي أعلنت بسببها حالة الطوارئ في قرار إعلانها ، ومن ذلك يتضح أهمية توافر عدة شروط هي : –

1- أن إعلان حالة الطوارئ يكون بيد رئيس الجمهورية ابتداء .

2- ضرورة العرض على مجلس الشعب لإبداء رأيه بالرفض أو الموافقة.

3- يتحتم أيضا أن تكون لمدة محدودة لا يجوز مدها إلا بموافقة مجلس الشعب .

4- عدم تحديد أسباب إعلان حالة الطوارئ وتركها لرئيس الجمهورية .

غير أن سيطرة حزب الحكومة على البرلمان يؤدى في الواقع إلى سهولة حصول الحكومة على الموافقة على العمل بقانون الطوارئ أطول فترة ممكنة مثلما هو حادث من عام 1981 وحتى الآن .

ب – أسباب إعلان حالة الطوارئ:

نظرا لخطورة حالة الطوارئ على حقوق وحريات الأفراد فقد حرص المشرع على النص عليها ، ففي المادة الأولى من القانون رقم 162 لسنة 1958 نص على انه يجوز إعلان حالة الطوارئ كلما تعرض الأمن أو النظام العام في أراضى الجمهورية أو في منطقة منها للخطر سواء كان ذلك بسبب وقوع حرب أو قيام حالة تهدد بوقوعها أو حدوث اضطرابات في الداخل أو كوارث عامة أو انتشار وباء ، ويتضح من استقراء ذلك النص ضرورة توافر خطر حال وداهم تتعرض له البلاد ، وقد توسع المشرع المصري في ذلك وحدد مصادر الخطر في أمور خمسة هي:

1- وقوع حرب.

2-قيام حالة تهدد بوقوع حرب .

3 – حدوث اضطرابات داخلية.

4- كوارث عامة .

5- انتشار وباء.

وبالرغم من تعدد تلك الحالات في ذلك النص إلا أن المشرع قد تركها واسعة فضفاضة دون تحديد قاطع جعلها تتسم بالعمومية والغموض وأثار الخلاف حول تفسيرها ، لذا فقد وجه إلى تلك المادة العديد من أوجه النقد منها :-

1-لم يبن المشرع ما هو المقصود بالحرب ، هل هي الحرب التي تكون مصر طرفا فيها ، أم يكفى أي حرب أخرى طالما أنها تهدد الأمن والنظام في مصر .

2- أباح المشرع إعلان حالة الطوارئ لمجرد قيام حالة تهدد بوقوع حرب .

3 – فيما يتعلق بالكوارث والأوبئة، فالملاحظ أن المشرع لم يحصر إعلان حالة الطوارئ في هذه الأماكن التي وقعت فيها هذه الكوارث والأوبئة كما أنه لم يحدد ماهيتها .

4- عمومية وعدم وضوح الاصطلاحات ، مثل استخدامه لفظ حالات الخطر التي تبرر إعلان حالة الطوارئ.

ج – حدود السلطات القائمة على تطبيق قانون الطوارئ.

جرى نص قانون الطوارئ على منح السلطة القائمة على تطبيق قانون الطوارئ سلطات واسعة وشبه مطلقة وقد حددت المادة الثالثة من القانون رقم 162 لسنة 1958 المعدلة بالقانون رقم 37 لسنة 1972 السلطات التي يجوز لرئيس الجمهورية مباشرتها في أوقات الطوارئ وذلك بقولها” لرئيس الجمهورية متي أعلنت حالة الطوارئ أن يتخذ التدابير المناسبة للمحافظة علي الأمن والنظام العام وله علي وجه الخصوص

1- وضع قيود علي حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور في أماكن وأوقات معينة والقبض علي المشتبه فيهم أو الخطرين علي الأمن والنظام العام واعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية .

2-الأمر بمراقبة الرسائل أيا كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكافة وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإغلاق أماكن طبعها علي أن تكون الرقابة علي الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام مقصورة علي الأمور التي تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومي .

3-تحديد مواعيد فتح المحال العامة وإغلاقها وكذلك الأمر بإغلاق هذه المحال كلها أو بعضها .

4-تكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال والاستيلاء علي أي منقول أو عقار ويتبع في ذلك الأحكام المنصوص عليها في قانون التعبئة العامة فيما يتعلق بالتظلم وتقدير التعويض .

5-سحب التراخيص بالأسلحة والذخائر أو المواد القابلة للانفجار أو المفرقعات علي اختلاف أنواعها والأمر بتسليمها وضبط وإغلاق مخازن الأسلحة .

6-إخلاء بعض المناطق أو عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة .

ويجوز بقرار من رئيس الجمهورية توسيع دائرة الحقوق المبينة في الفقرة السابقة علي أن يعرض هذا القرار علي مجلس الشعب في المواعيد المنصوص عليها في المادة الثانية من هذا القانون .

ويترتب علي إعلان حالة الطوارئ انتقال السلطة من الهيئات المدنية إلي الهيئات العسكرية وتفصل محاكم أمن الدولة في الجرائم التي تقع بالمخالفة للأوامر الصادرة بناء علي إعلان حالة الطوارئ ويجوز لرئيس الجمهورية أو من يفوضه أن يحيل إلي محاكم أمن الدولة الجرائم التي يعاقب عليها القانون العام .

ولاشك أن صياغة تلك المادة قد احتوت على العديد من المآخذ والمثالب الدستورية والقانونية ، نذكر منها ما يلي :

1-لم ترد سلطات رئيس الجمهورية- رغم اتساعها -في قانون الطوارئ على سبيل الحصر إذ منح رئيس الجمهورية الحق في اتخاذ التدابير المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام وله حق توسيع تلك السلطات مما يؤدى إلى عدم ضمان حقوق وحريات الأفراد وتهديدهم بشكل مستمر.

2-أعطى قانون الطوارئ للسلطة التنفيذية حق توسيع الاختصاصات والسلطات الممنوحة لها في حالة الطوارئ دون إعطائها حق تقيد هذه السلطات بقدر الحالة الواقعية الموجودة.

3-أعطى قانون الطوارئ حق ممارسة سلطات الطوارئ لرئيس الجمهورية وحده دون استشارة أحد إذ كان من الأحوط منح ذلك الحق لجهة استشارية إلى جانبه تكون أقدر على تقدير تلك الحالة من تقدير رئيس الجمهورية.

4-أجاز القانون إصدار الأوامر العسكرية كتابة أو شفاهة أو في السماح بإصدار الأوامر العسكرية شفاهة ، الأمر الذى أوجد مجالات كثيرة للتلاعب والتحريف وصعوبة الإثبات بما يهدد حريات الأفراد وأمنهم .

د – رقابة القضاء على إعلان حالة الطوارئ والتظلم من الإجراءات الصادرة أثناء تطبيقها

*مدى خضوع قرار إعلان حالة الطوارئ لرقابة القضاء :

يدخل قرار إعلان حالة الطوارئ في نظام اختصاص السلطة التنفيذية فهو يعد قرارا إداريا إلا أن القضاء المصري قد اعتبر قرار إعلان حالة الطوارئ من أعمال السيادة التي يترك للحكومة الحرية التامة فيها ولا تكون خاضعة لأي رقابة بشأنها وقد تأكد ذلك في العديد من أحكام القضاء الإداري والقضاء الدستوري .

ولقد انقسم الفقه حول طبيعة قرار إعلان حالة الطوارئ ، فالبعض يرى أنه يعد من قبيل أعمال السيادة أما الرأي الغالب فيرى ضرورة اعتبار قرار إعلان حالة الطوارئ قراراً إداريا عاديا مثل سائر أعمال الإدارة ذلك أن حالة الطوارئ هي نظام استثنائي أقره الدستور ووضع له حدوده وضوابطه ويجب أن تتقيد السلطة التنفيذية بمراعاة هذه الحدود والضوابط وللقضاء أن يراقب ذلك للتأكد من عدم الخروج عليها مثلما يفعل بالنسبة لبقية أعمال الإدارة حتى مع التسليم بأن قرار إعلان حالة الطوارئ بعد موافقة مجلس الشعب عليه يكتسب مركزا قانونيا خاصا.

واذا كان من الثابت أن خضـوع القوانين للرقابة الدســـتورية والقضائية تستهدف التأكد من توافر الشروط القانونية في القرار والحكم بإلغائه بأثر رجعى أو الحكم بصحته ؛ فإن اعتبار قرار إعلان حالة الطوارئ من قبل أعمال السيادة يتنافى مع نص المادة ( 68 ) من الدستور التي تنص على عدم جواز تحصين أي عمل من أعمال الإدارة ضد رقابة القضاء والقول بغير ذلك معناه منح السلطات العسكرية سلطات مطلقة وتجريد الأفراد من أهم الضمانات التي تتوافر لهم في النظم الديمقراطية ألا وهى سيادة القانون .

ثانيا: خضوع الإجراءات المتخذة طبقا لقانون الطوارئ لرقابة القضاء .

تعتبر القرارات المتخذة استنادا لحالة الطوارئ ،حسب التكييف القانوني لها ؛ قرارات إدارية . وقد استقرت أحكام محكمة القضاء الإداري على اختصاصها بنظر طلبات إلغائها ومراقبة مشروعيتها ،إلا أن المشرع المصري قد عصف بذلك الاختصاص وتلك الضمانات الحامية للحقوق والحريات عندما نص في المادة الثالثة وتعديلاتها على أن تختص محكمة أمن الدولة العليا دون غيرها بنظر كافة الطعون والتظلمات من الأوامر والقرارات المشار إليها في المادة 3 مكرر من القانون رقم 162 لسنة 1958 وتحال إلى هذه المحكمة جميع الدعاوى والتظلمات المنظورة أمام أية جهة قضائية أخرى .

ورغم مخالفة تلك المادة لمضمون نص المادة( 68 ) من الدستور التي تحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء وكذلك حق كل مواطن في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي ؛ فإنه يؤدى إلى إضعاف السلطة القضائية في مواجهه السلطة التنفيذية ؛ فضلا عن مخالفته لمبدأ حق التقاضي ومبدأ سيادة القانون ومبدأ الفصل بين السلطات ، وهى من المبادئ الدستورية .

واذا كانت المادة ( 3 ) مكرر من قانون الطوارئ المعدلة بالقانون رقم37 لسنة 1972 قد نصت على ان يبلغ فورا كل من يقبض عليه أو يعتقل وفقا للمادة السابقة بأسباب القبض عليه أو اعتقاله ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع والاستعانة بمحام ويعامل المعتقل معاملة المحبوس احتياطيا وللمعتقل ولكل ذي شأن أن يتظلم من القبض أو الاعتقال إذا انقضى ثلاثون يوما من تاريخ صدوره دون أن يفرج عنه ويكون التظلم بطلب يقدم بدون رسوم إلى محكمة أمن الدولة العليا التي تشكل وفقا لأحكام القانون وتفصل المحكمة في التظلم بقرار مسبب خلال خمسة عشر يوما من تاريخ تقديم التظلم وذلك بعد سماع أقوال المقبوض عليه أو المعتقل، إلا أن الواقع والمعمول به من قبل السلطة التنفيذية فى هذا الشأن يتعارض كلية مع هذا النص حيث يتم عرض التظلم دون سماع أقوال المعتقل أو إحضاره أو سماع دفاعه.

وقد تعرضت هذه المادة للتعديل بالقانون رقم 164 لسنة 1981 ليقلل من ضمانات المعتقل ؛ إذ نص على أن لكل من يقبض عليه أو يعتقل أن يتظلم من ذلك لرئيس الجمهورية إذا انقضت ستة أشهر من تاريخ القبض أو الاعتقال دون أن يفرج عنه ، ويقدم التظلم لرئيس الجمهورية أو من يفوضه ولصاحب الشأن في حالة رفض تظلمه أو عدم البت فيه أن يتقدم بتظلم جديد كلما انقضت ستة أشهر من تاريخ تقديم تظلمه السابق .

وبذلك أصبح رئيس الجمهورية خصما وحكما في ذات الوقت، كما تمت زيادة المدة التي يجوز بعدها تقديم التظلم فجعلها ستة أشهر .

ولقد أصبح نظر التظلمات من القبض أو الاعتقال ، بموجب التعديل الحاصل على المادة ( 3 ) مكرر بمقتضى القانون رقم 50 لسنة 1982، من اختصاص محكمة أمن الدولة العليا بدون رسوم وفى خلال ثلاثين يوما من تاريخ القبض أو الاعتقال دون الإفراج عن المعتقل وذلك التعديل الأخير أجاز لوزير الداخلية حق الاعتراض على قرار الإفراج الصادر من المحكمة خلال خمسة عشر يوما ولمن رفض تظلمه الحق في تقديم تظلم جديد كلما انقضى ثلاثون يوما من تاريخ رفض التظلم .

المطلب الثاني

طرق ووسائل السلطة التنفيذية

فى تعطيل وإهدار الأحكام القضائية

يعني مبدأ خضوع الدولة للقانون خضوعها للقضاء كذلك ، وإمكانية مقاضاتها أمامه ، ونزولها علي أحكامه ، ولا وجود للدولة القانونية إلا بوجود رقابة قانونية قضائية حقيقية وفعالة علي أعمال السلطة التنفيذية . ففي الدول الديمقراطية لا تمارس الإدارة سلطاتها بلا حدود أو ضوابط ، إنما تخضع في ممارستها لوظائفها واختصاصاتها التى يفرضها عليها القانون من أحكام وما لم يوجد جزاء علي مخالفة هذه الأحكام ، فإنها لا يمكن أن تمثل قيدا حقيقيا علي نشاط الإدارة ،إذن لا قيمة لمبدأ المشروعية في الدولة ما لم يقترن بمبدأ أخر وهو ضرورة احترام أحكام القضاء وضرورة تنفيذها ، فالحماية القضائية لا تكتمل إلا بتمام تنفيذ الأحكام ، فلا قيمة لأحكام القضاء إذا لم تنفذ .

ولاشك أن استخدام السلطة التنفيذية لمجموعة من الحيل والمناورات كي تتهرب من تنفيذ أحكام القضاء ، فى ظل انتفاء نظام جزائي فعال لمن يقف عقبة في سبيل تنفيذها ، سيجعل عددا غير قليل من الأحكام الهامة محلا للإهمال والإهدار.

ومن الثابت عمليا اتساع ظاهرة التهرب من تنفيذ الأحكام القضائية بعد إنشاء مجلس الدولة في مصر بسبب ما نص عليه قانون إنشائه من اختصاصه بإلغاء قرارات الإدارة المخالفة للقانون . فالإدارة التي اعتادت أن تري قراراتها في منأى عن رقابة الإلغاء ، تتصور أحيانا أن إلغاء القضاء الإداري لقراراتها يعني المساس بهيبتها وبالتالي فهي لا تخفي كراهيتها بل ومقاومتها لتنفيذ هذه الأحكام ، كما يعتبر تمرد السلطة التنفيذية علي الأحكام التي تصدرها وامتناعها عن تنفيذ أمر له عواقب وخيمة ، لانه يهدر مبدأ الفصل بين السلطات ، بل ويحطم فكرة العدالة ذاتها .

وسائل الامتناع عن تنفيذ الأحكام :

تتعدد وسائل امتناع الإدارة عند تنفيذ الأحكام ،والتي تبدأ من التباطؤ أو التراخي في التنفيذ ، مرورا بإساءة تنفيذ الحكم أو بتنفيذه تنفيذا ناقصا أو مبتورا أو علي غير ما قصده الحكم ، وانتهاء بالرفض السافر أو الصريح للتنفيذ ، وهو أشد أنواع الانحراف في استخدام السلطة .

ولاشك أن استخدام الإدارة لأي وسيلة من وسائل الامتناع عن تنفيذ الأحكام سالفة الذكر يتوقف علي مدي الآثار المترتبة علي الحكم بالنسبة للإدارة . فإذا كانت آثار تنفيذ الحكم خطيرة علي الإدارة ؛ فإن رفض تنفيذ الحكم في هذه الحالة قد يكون سافرا . أما إذا كانت خطورة الآثار أقل درجة ، فان صور الامتناع عن التنفيذ قد تنحصر في التراخي في التنفيذ أو التنفيذ الناقص أو المبتور. ويتمثل تعطيل واهدار السلطة التنفيذية لأحكام القضاء فى عدة صور نتعرض فيما يلي لأهمها: –

أولا: التباطؤ أو التراخي في التنفيذ

لا يجوز للإدارة أن تتذرع بحاجتها الى فسحة من الوقت لترتب فيها الأوضاع التي سيتناولها – خاصة إذا كان صادرا بالإلغاء – فى تبرير تقاعسها أو تراخيها في تنفيذ الحكم بفترة تطول عن تلك التي يقدرها القاضي حسب الأحوال ، وهو أمر مرفوض من الناحية المنطقية والعملية ، ويتعارض مع ما للحكم من حجية تستوجب التنفيذ .

ولقد استقرت أحكام القضاء الإداري على ” أن من واجب الجهة الإدارية أن تقوم بتنفيذ الأحكام في وقت مناسب من تاريخ صدورها وإعلانها ” . فإن هي تقاعست أو امتنعت دون وجه حق عن هذا التنفيذ في وقت مناسب اعتبر هذا الامتناع بمثابة قرار سلبى مخالف للقانون يوجب لصاحب الشان التعويض .

ثانيا: إساءة التنفيذ أو التنفيذ الناقص

إن قاعدة المشروعية لابد وأن تكون بمثابة قيد عام على تصرفات الإدارة حتى عندما تتمتع بسلطة تقديرية في تنفيذ الأحكام خاصة تلك الصادرة بالإلغاء ، وإلا كان ذلك إهدارا منها لقيمة الحكم إذ لا معني لإلغاء القرار لمخالفته للقانون إذا عادت الإدارة من جديد إلي مخالفة القانون أو إذا نفذت الحكم تنفيذا صوريا أو مبتورا وإنما يجب عليها أن تنفذ الحكم تنفيذا صحيحا كاملا مراعية في ذلك ما جاء في منطوقه وما ارتبط بهذا المنطوق من أسباب جوهرية.

ثالثا: الرفض الصريح

لقد أكدت محكمة القضاء الإداري أن امتناع الإدارة عن تنفيذ حكم قضائي نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به وواجب النفاذ هو مخالفة قانونية صارخة تستوجب مسئولية الحكومة عن التعويضات ، ذلك لأنة لا يليق بحكومة في بلد متحضر أن تمتنع عن تنفيذ الأحكام النهائية بغير وجه قانوني لما يترتب علي هذه المخالفة الخطيرة من إشاعة الفوضى وفقدان الثقة في سيادة القانون .

كما استقرت أحكام القضاء الإداري علي أن الامتناع عن تنفيذ الحكم هو قرار سلبي خاطئ – ذلك أنه يعتبر في حكم القرار الإداري امتناعا للسلطة الإدارية عن إصدار قرار من الواجب عليها إصداره وفقا للقانون – وقد كان من الواجب إصدار قرارها بتنفيذ هذا الحكم عملا بأحكام قانون مجلس الدولة الذي جعل لمحكمة القضاء الإداري ولاية القضاء كاملة فضلا عما ينطوي عليه ذلك من مخالفة قانونية وخطأ يستوجب التعويض.

ولما كان من الثابت انه لا يجوز للإدارة التنصل من التزامها بتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها بإدعاء سبب مزعوم من المصلحة العامة فالكل يجب أن يخضع للمصلحة الأعلى التي تعني احترام القانون واطاعة أحكام القضاء ولا توجد أية مصلحة أخري يمكن تغليبها علي هذه المصلحة .

لذا فقد حرصت محكمة القضاء الإداري على أن تؤكد ” أن إصرار الوزير علي عدم تنفيذ حكمها ينطوي علي مخالفة للشئ المقضي به وهي مخالفة قانونية لمبدأ أساسي وأصل من الأصول القانونية . . ومن ثم واجب اعتبار خطأ الوزير خطأ شخصيا يستوجب مسئوليته عن التعويض المطالب به . ولا يؤثر في ذلك انتفاء الدوافع الشخصية لديه ، أو قوله بأنه يبغي من وراء ذلك تحقيق مصلحة عامة . ذلك ان تحقيق هذه المصلحة لا يصح أن يكون عن طريق ارتكاب أعمال غير مشروعة ” .

الأسباب الظاهرة التي قد تتذرع بها الإدارة للامتناع عن التنفيذ :

هناك من الأسباب ما قد تتذرع به الإدارة لكي تماطل في تنفيذ الحكم أو ترفض تنفيذه صراحة ، وقد لا يكون لهذه الأسباب ما يبررها من الواقع أو القانون ، أو هذه الأسباب غير كافية لإهدار مبادئ قوة الشيء المقضي بها وقد تعلن الإدارة عن أسباب ودوافع ليست هي الأسباب والدوافع الحقيقة وراء الامتناع عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها وعادة ما تتذرع الإدارة عن الامتناع عن تنفيذ الأحكام بأسباب عديدة منها :

1- أسباب تستند إلي المصلحة العامة :

من الأسباب الواهية التى تسعى بها الإدارة إلى التخلص من التزامها بتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها هو فكرة المصلحة العامة ، ولا يخفى فساد هذا الزعم على إطلاقه ؛لأن المصلحة العامة تعني احترام القانون وطاعة أحكام القضاء وليس هناك مصلحة تعلو علي هذه المصلحة ؛ حيث إن الأحكام القضائية نفسها – ومنها الأحكام الصادرة بالإلغاء – إنما تهدف الى تصويب التصرفات الإدارية تحقيقا للصالح العام ذاته. لذلك فان عدم تنفيذ الإدارة للأحكام القضائية وإهدارها بزعم الاستناد إلي فكرة الصالح العام لا أساس له من الصحة ويتعين استبعاده

2- أسباب تستند إلي الامن والنظام العام :

إذا كان من الثابت أن احترام حجية الشيء المقضي به من المبادئ الأساسية وأصل من الأصول القانونية التى تمليها أهمية توفير الطمأنينة العامة وتقضي بها ضرورة استقرار الحقوق والروابط الاجتماعية ، إلا أن ذلك لا يسوغ للإدارة أن تتذرع بفكرة الأمن والحفاظ على النظام العام فى مواجهة حادث عارض أو اضطراب خفيف كمسوغ للامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء. أما إذا كان يترتب علي تنفيذ الحكم فورا إخلال خطير بالصالح العام يتعذر تداركه كحدوث فتنة أو تعطيل سير مرفق عام فإن القضاء ذاته يرجع لتعليب الصالح العام علي الصالح الخاص مع مراعاة أن تقدر الضرورة بقدرها .

3- أسباب تتعلق بصعوبات التنفيذ :

قد تتذرع الإدارة بوجود عقبات مادية أو قانونية تعوق التنفيذ ، دون أن يكون لهذه الأسباب أي أساس من الواقع أو القانون ، لذا فإن الإدارة لا تعفي من تنفيذ الحكم استنادا لهذه الأسباب .

الأسباب الحقيقية للامتناع عن تنفيذ الأحكام :

قد تتذرع الإدارة بالأسباب المشار إليها سلفا للامتناع عن تنفيذ الأحكام وتكون الحقيقة غير ذلك إذ غالبا ما يكون وراء هذه الأسباب الظاهرة أسباب حقيقة يتمثل أهمها فيما يلي :

1- الدوافع السياسية :

من الثابت –واقعيا – أن يكون الامتناع عن تنفيذ الأحكام بسبب توافر دافع سياسي . فقد يرفض المسئولون تنفيذ الأحكام الإدارية أو يضعون عراقيل في سبيل تنفيذها إذا كانت تمس الحزب الذي ينتمون إليه أو النظام السياسي الذي يشاركون فيه وغالبا ما تظهر هذه الدوافع السياسية في قضايا صادرة في منازعات إدارية لكنها تمس مسائل سياسية .

2- البيروقراطية :

الى جانب الدوافع السياسية التي قد تقف عقبة أمام تنفيذ الأحكام فان الإدارة قد تميل – فى سبيل الحفاظ علي هيبتها – إلي الحد من الرقابة القضائية علي أعمالها . وقد يكون ذلك بالوقوف في وجه تنفيذ الأحكام ، اعتقادا منها بان تنفيذ الأحكام لا يكون لازما إلا حين لا يمس هيبتها أو ينال من مكانتها .

3- الدوافع الشخصية :

لاشك أن الباعث الشخصي قد يكون- فى كثير من الأحيان- أحد دوافع الإدارة إلى تعطيل تنفيذ الحكم ، خاصة إذا كان ذلك الحكم ، وما يرتبط به من آثار، يتصل بموظف هو في حقيقته خصم للمحكوم لصالحه أو غير متعاطف معه ، فيختلق العقبات المادية والقانونية بغرض عدم تنفيذ الحكم .

وإذا كنا قد أشرنا – فيما سبق- الى أهمية الأسباب التى تتذرع بها الإدارة لتعطيل أو الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء أو إهدارها بالكلية ، وكذلك تلك الأسباب الحقيقية التى تقف وراء ذلك .

وإذا كانت المادة (72 ) من الدستور تنص على أن”تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب ، ويكون الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين جريمة يعاقب عليها القانون ، وللمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوي الجنائية مباشرة إلي المحكمة المختصة” . فماذا كان موقف السلطة التنفيذية فى مصر إزاء هذا النص الدستوري الآمر؟ هذا ما سوف نتعرض له في ضوء أحكام الدستور والعلاقة فيما بينه وبين قانون الإجراءات الجنائية ، وذلك من خلال موقف السلطة التنفيذية تجاه أحكام القضاء وما كفله الدستور من احترام واجب للحريات العامة ، وذلك على النحو الوارد بالفصل الآتي: الفصل الثاني

إهدار السلطة التنفيذية وتعطيلها لأحكام القضاء

فى مصر بالمخالفة لأحكام الدستور

تمهـــــيد:

يعتبر الدستور هو أسمى القواعد القانونية في التنظيم القانوني المصري ، وذلك لما تضمنه من قواعد وأسس فلسفية للتنظيم القضائي والقانوني والسياسي والاجتماعي فى مصر .

ولقد حرص المشرع الدستوري على ضمان الحرية الشخصية للمواطن المصري منذ الوهلة الأولى فجاء ذلك ضمن وثيقة إعلان الدستور من ضمن الأهداف والغايات التي أجمعت إرادة جماهير الشعب المصري على تحقيقها ، إذ نص على ما يلي :

” الحرية للإنسان المصري عن إدراك لحقيقة أن إنسانية الإنسان وعزته هي الشعاع الذي هدى ووجه خط سير التطور الهائل الذي قطعته البشرية نحو مثلها الأعلى .

وأن كرامة الفرد انعكاس طبيعي لكرامة الوطن ذلك أن الفرد الذي هو حجر الأساس في بناء الوطن وبقيمة الفرد وبعمله وبكرامته تكون مكانة الوطن وقوته وهيبته .

ان سيادة القانون ليست ضمانا مطلوبا لحرية الفرد فحسب لكنها الأساس الوحيد لمشروعية السلطة في نفس الوقت “.

وترتيبا على ذلك ، يكون الأصل هو إطلاق الحرية الإنسانية والاستثناء هو التقييد ، إلا ان تقييد حرية الإنسان يتطلب العديد من الضمانات الدستورية والقانونية واللائحية لضمان عدم تعرض السلطة للمواطن في حريته ، وقد تنوعت هذه الضمانات بتنوع التنظيم القانوني المصري فجاء بالدستور العديد من القواعد العامة والمجردة التي تعبر عن أهم الضمانات. كما تضمن كل من قانون الإجراءات الجنائية و قانون العقوبات العديد من المواد التي تضمن للمواطن المحافظة على حريته الشخصية وسلامته إذا ما تعرض لأي إجراء مقيد للحرية.

وعلى ذلك فسوف نتناول بالشرح والتعليق – في عجالة سريعة -هذه الضمانات ، موضحين أهم هذه الضمانات ومدى حرصها على ضمان الحرية الشخصية للإنسان .

أولا : الضمانات الدستورية
حرص الدستور المصري على حماية حرية الإنسان وحقه في الأمان وعدم التعرض لأي إجراء فيه تقييد لحريته أو حركته . وذلك من خلال العديد من المواد منها ( 41،42، 57، 66، 67، 68، 71 ) .

وقد صدر الدستور المصري الحالي في سبتمبر عام 1971 أي بعد العمل بقانون الطوارئ بأربع عشرة سنة لذلك فقد حرص الدستور المصري على توفير الضمانات الكافية للمواطنين وذلك لما تمثله الحرية الشخصية والحق في الأمان من أهمية بالغة في بناء المجتمع وسوف نوضح فيما يلي مدى أهمية الضمانات الدستورية التي جاءت بنص كل من المواد سالفة الإشارة على التفصيل الآتي :

أ – المادة ( 41 ) من الدستور :
تعتبر الحرية الشخصية هي من أولى الحريات والحقوق الدستورية بل والإنسانية أيضا ؛ إذ أن الحرية الشخصية لصيقة الصلة بالإنسان والاعتداء عليها يشكل اعتداء على أول وأهم مبادئ حقوق الإنسان .

فقد جرى نص هذه المادة على أن ” الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصونة لا تمس ، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة ، وذلك وفقا لأحكام القانون ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي .

وعلى ذلك فقد تطلبت هذه المادة ضرورة حماية الحرية الشخصية وعدم فرض أي قيود عليها إلا كاستثناء مشروط بمقتضيات التحقيق وصيانة أمن المجتمع وإن كانت بداية هذا النص قد انطوت على عبارات فضفاضة إلا أن المشرع الدستوري قد اختتمها بضرورة فرض الحماية الأكثر تقدما والمتمثلة في الحصول على أمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وفقا للقانون بصفتهما الجهات القضائية المختصة وممثلين المجتمع مصدر القانون ومن ثم تطلبت المادة ( 41 ) من الدستور ضرورة توافر شروط معينة لإمكانية تقييد حرية المواطن هي :

1-ضرورة وجود تحقيق أمام جهة قضائية .

2-صدور إذن من الجهة القضائية ( القاضي المختص أو النيابة ) بضرورة القبض على أحد الأشخاص .

3-أن يكون الغرض منه صيانة أمن المجتمع .

4-اتفاق الإذن مع أحكام القانون .

ومن ثم تطلبت هذه المادة العديد من الشروط الشكلية والموضوعية وذلك حرصا على حماية الحريات والحقوق وعدم تعرض المواطنين لتقييد حريتهم دون مبرر أو سبب أو جعل تقييد الحرية سيفاً مصلتاُ من السلطة التنفيذية على رقاب المواطنين الأبرياء .

ب – المادة ( 42 ) من الدستور :
وضعت المادة ( 42 ) من الدستور بعض الضمانات الأخرى وذلك في سبيل حماية حرية الأفراد حيث نصت على ان ” كل مواطن يقبض عليه أو يسجن أو تقيد حريته بأي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ، ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا ، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون وكل قول يثبت أنه صدر من مواطن تحت وطأة شئ مما تقدم أو التهديد بشيء منه يهدر ولا يعول عليه ” .

ولقد تضمنت هذه المادة التزامين أساسيين:-
أولا : التزام إيجابي ،يتمثل في وجوب معاملة كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان وعدم المساس بها بأي حال من الأحوال وإن كان ذلك الالتزام غير محدود ومبهما ويحيط به الغموض إلا أنه قد ترك أمر التحديد للقانون .
ثانيا : التزام سلبي بالامتناع عن إيذاء المحبوس أو مقيد الحرية بدنيا أو معنويا.

وكذلك فقد انطوت ذات المادة على ضمانتين مهمتين هما :-

الضمانة الأولى :

تتمثل في عدم جواز إيداع المحبوس أو مقيد الحرية في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون ، ومن ثم عدم جواز استخدام معسكرات الجيش أو فرق الأمن أو أي جهة أخرى كأماكن لإيداع المعتقلين أو المحتجزين.

الضمانة الثانية :

وهى ضمانة تتمثل فى بطلان الاعتراف أو الأقوال التي قد يدلى بها أي شخص تم اعتقاله وإيذاؤه بدنيا أو عقليا لانتزاع ذلك الاعتراف أو تلك الأقوال منه وهى ضمانة وركيزة أساسية في شرعية المحاكمات التي لابد أن تبنى على الوقائع الحقيقية وليست المنزوعة تحت التهديد والبطش .

ذلك الأمر الذي حدا بمحكمة أمن الدولة العليا طوارئ إلى التأكيد على ما يلى[1]: ” وحيث إنه لا يفوت المحكمة أن تشير إلى أنها وقد برأت المتهمين فإنها تشجب أي عمل يخرج على القانون أو يحيد عن النظام العام ، فإذا كان الدفاع عن مصالح مصر والذود عن كرامتها حقا لكل مصري ، بل واجبا عليه ، فإن هذا مشروط بالا يقع بالمخالفة لأحكام القانون أو يتردى في المساس بأمن الوطن والمواطن ، أو ينقلب إلى تهديد لأسس ، أو ينحدر إلى تعريض النظام الاجتماعي للخطر “.

ج – المادة ( 57 ) من الدستور :
لقد نصت المادة ( 57 ) من الدستور المصري على أن :-
” كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء ” .

وبقراءة هذه المادة يتضح لنا أن المشرع الدستوري قد وضع ضمانة أشد قوة لحرية المواطن إذ جعل الاعتداء على الحرية الشخصية جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية عنها بالتقادم وذلك حرصا منه على ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم ، حيث اعتبر الاعتداء على هذه الحريات ضمن مصاف الجرائم ، وشدد عليها حيث يكون المتهم بهذه الجريمة في وضع أسوأ من وضع أي مجرم آخر مهما كانت جسامة جريمته

ولقد حرص المشرع الدستوري على ضرورة تعويض المضرور من هذه الجريمة ؛ حيث جعل حقه في الدعوى المدنية لا يسقط بالتقادم ،فيجوز لكل من اعتدى على حقه في الحرية الشخصية والأمان الشخصي أن يقيم دعواه المدنية طالبا التعويض الجابر لكافة الأضرار المادية والأدبية التي أصابته من جراء هذه الجريمة وكذلك حرصا على ضمان وصول التعويض للمضرور، وقد وضع المشرع الدستوري التزاما على عاتق الدولة بضمان التعويض العادل لمن وقع عليه الاعتداء .

د – المواد ( 66 ، 67 ) من الدستور :
فى بداية الباب الرابع وتحت عنوان ” سيادة القانون ” جاء نص المادة 66 من الدستور وقد نصت على ان “العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون” .

ولقد قننت تلك المادة مبدأ شرعية المحاكمات الجنائية وشرعية تدخل السلطة للحد من الحرية الشخصية وتقييدها ، وأكدت على أنه لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي نفاذا للقانون ومن ثم فلا يجوز تقييد حرية أي مواطن إلا بناء على حكم قضائي مستندا إلى قانون صادر من الجهة التشريعية المختصة . وكذلك نصت هذه المادة على مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي والأثر الفوري المباشر له .

أما المادة ( 67 ) والتي جاءت تحت العنوان نفسه وقد نصت على أن ” المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه وكل متهم في جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه” .

ولقد أبرزت تلك المادة أسس مبدأ الشرعية الجنائية ، حين أكدت على أن كل متهم يجب أن تفترض براءته كأصل عام أما إدانته فلا تثبت إلا إذا قام الدليل على ذلك ، ونظرا لأن العقوبات الجنائية في الجنايات قد تصل إلى الإعدام أو تقييد الحرية مدى الحياة فقد كفل المشرع الدستوري لكل متهم في جناية أن يكون له على سبيل الوجوب محام يتولى الدفاع عنه ؛ الأمر الذي يؤكد على أن المشرع الدستوري المصري قد ضيق مجالات تقييد الحرية الشخصية وجعلها في أضيق الحدود وبشروط خاصة .

هـ المادة ( 71 ) من الدستور :
عددت المادة ( 71 ) صراحة أهم الضمانات التي لابد من توافرها لكل من تسلب حريته أو يقبض عليه ، فله أن يبلغ بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فورا ، ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذي ينظمه القانون ، ويجب إعلانه على وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه ، وله ولغيره التظلم أمام القضاء من الإجراء الذي قيد حريته الشخصية ، وينظم القانون حق التظلم بما يكفل الفصل فيه خلال مدة محددة ، وإلا وجب الإفراج حتما .

وقد تضمنت هذه المادة العديد من الضمانات على النحو التالي :-

1-ضرورة إبلاغ كل من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فورا .

2-للمقبوض عليه حق الاتصال بمن يرى الاستعانة به .

3-ضرورة إعلانه بالتهم المنسوبة إليه.

4-حق التظلم للمقبوض عليه ولغيره .

5-ترك الدستور للقانون تحديد مدة الفصل في هذا التظلم .

6-وضع المشرع بهذه المادة ضمانة هامة تعد من أهم الضمانات لحرية المواطنين ، لكنها تعد من النصوص المهجورة من الناحية العملية ، والتي تنص على وجوب الإفراج الحتمي عن كل مواطن قبض عليه أو اعتقل ولم تتوافر له الضمانات الخمس السابقة .

ثانيـا : الضمـانـات القانـونـية

لقد تضمن قانون العقوبات المصري العديد من الجزاءات الرادعة على الأفعال التي يترتب عليها المساس بحرية الإنسان دون مقتضى وكذلك اشتمل أيضا قانون الإجراءات الجنائية على العديد من القواعد الإجرائية التي تضمن الحفاظ على حرية الإنسان وعدم تقييدها إلا بناء على توافر خطورة ما تستوجب إيداع صاحبها السجن وتقييد حريته.

أ- الضمانات الواردة بقانون الإجراءات الجنائية :

تضمن قانون الإجراءات الجنائية العديد من الضمانات التي تكفل للمعتقل أو المحبوس احتياطيا أو المحكوم عليه الحفاظ على كرامته وعلى سلامة جسده ، نذكر منها :

1- عدم جواز القبض على الأشخاص إلا في حالة التلبس بجناية أو جنحة يعاقب عليها بالحبس مده تزيد على ثلاثة اشهر مع وجود دلائل كافية على اتهامه ( م 34 ) .

2- ضرورة سماع أقوال المتهم المقبوض عليه في خلال 24 ساعة وإذا لم يأتى بما يبرئه فعلى مأمور الضبط القضائي إرساله إلى النيابة العامة المختصة والتى ينبغي عليها استجوابه في ظرف 24 ساعة أخرى ثم تأمر بالإفراج عنه أو حبسه احتياطيا ( م 36 ) .

3- عدم جواز القبض على أي إنسان أو حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة بذلك قانونا كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا ( م 40 ) .

4- عدم جواز حبس أي إنسان إلا في السجون المخصصة لذلك ( م 141 ) ؛ ومن ثم فان ما يحدث من رجال مباحث أمن الدولة الذين يقومون بحبس واعتقال الأفراد بفرق الأمن المركزي أو في مقار مباحث أمن الدولة أو أقسام الشرطة فهو غير جائز قانونا .

5- عدم جواز قبول أي إنسان في السجن إلا بأمر موقع عليه من السلطة المختصة وعلى مأمور السجن عدم إبقائه بالسجن بعد المدة المحددة بهذا الأمر ( م 41/2 ) لذلك يلجأ ضباط مباحث أمن الدولة إلى فكرة الاعتقال المتكرر أو التسكين أو التخزين تفاديا لهذه المادة .

6- الرقابة والتفتيش : منحت المادة ( 42 ) من قانون الإجراءات الجنائية لكل من أعضاء النيابة العامة ورؤساء ووكلاء المحاكم الابتدائية والاستئنافية زيارة السجون العامة والمركزية الموجودة في دوائر اختصاصهم والتأكد من عدم وجود محبوس بصفة غير قانونية ، والإطلاع على دفاتر السجن وعلى أوامر القبض والحبس وأن يأخذوا صورا منها وأن يتصلوا بأي محبوس ويسمعوا منه أي شكوى يريد أن يبديها لهم وعلى مديري وموظفي السجون أن يقدموا لهم كل مساعدة لحصولهم على المعلومات التي يطلبونها.

ورغم أهمية هذه المادة إلا أنها من المواد المهجورة أيضا ، فالواقع لم يثبت انتقال النيابة العامة إلى التفتيش على السجون إلا في أحوال نادرة جدا وهى حالات وقوع جرائم القتل أو الوفاة .

7- الحق في تقديم الشكوى لكل مسجون سواء شفهيا أو كتابياً إلى مأمور السجن و يطلب منه تبليغها للنيابة العامة وعلى مأمور السجن قبولها وتبليغها في الحال وإثباتها في سجل معد لذلك في السجن .م (43/1) ، وهو ما لا يحدث في الواقع حيث لا يوجد هذا الدفتر من الأساس في أي سجن من السجون .

8- لكل من علم بوجود محبوس بصفة غير قانونية أو في محل غير مخصص للحبس أن يخطر أحد أعضاء النيابة العامة وعليه بمجرد علمه أن ينتقل فورا إلى المحل الموجود به المحبوس وأن يقوم بإجراء التحقيق وأن يأمر بالإفراج عن المحبوس بصفة غير قانونية وعليه أن يحرر محضرا بذلك ( م 43/2 ) .

9- عدم جواز إيداع السجين إلا في السجون المعدة لذلك بناء على أمر يصدر من النيابة العامة وذلك في حالة تنفيذ الأحكام القضائية ( م 478 ) .

ب -الضمانات الواردة بقانون العقوبات .

جرم قانون العقوبات المصري الصادر برقم 58 لسنة 1937 القبض على الأشخاص بدون وجه حق وذلك في العديد من مواده القانونية وكذلك جرم أيضا قيام أي فرد بإعارة محل للحبس .

1- تجريم القبض والحبس دون وجه حق .

جرمت المادة ( 280 ) من قانون العقوبات القبض على الأشخاص أو حبسهم بدون أمر من الحكام المختصين بذلك وفى غير الأحوال التي تصرح فيها القوانين واللوائح بالقبض على ذوى الشبهة إذ نصت هذه المادة على أن ” كل من قبض على أي شخص أو حبسه أو حجزه بدون أمر من أحد الحكام المختصين بذلك وفى غير الأحوال التي تصرح فيها القوانين بالقبض على ذوى الشبهة يعاقب بالحبس أو بغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه “. وبذلك تكون المادة سالفة الذكر – قد تعرضت بالتجريم لإجراء القبض على أي شخص أو حبسه دون أمر من السلطة المختصة بذلك وهى النيابة العامة أو قاضى التحقيق .

ولكننا نجد الجزاء المترتب على ذلك غير متناسب مع طبيعة الجرم ؛فالاعتداء على حرية الأشخاص والقبض عليهم وتقييد حريتهم لفترة قد تطول أو تقصر بما قد يتعرض له خلالها من انتهاك لحقوقه وحرمة جسده لابد يقابله جزاء رادع فعال، إذ قد ينتهي القاضي إلى استعمال الرأفة والنزول إلى الحد الأدنى من العقوبة أو الاكتفاء بالتغريم ، ذلك الأمر منتقد ومردود عليه .

2- تجريم إعارة محل للحبس أو الحجز .

جرم قانون العقوبات أيضا مجرد إعارة مكان للحبس أو لحجز الأشخاص فيه وبشرط أن يكون ذلك الحبس أو الحجز غير جائز قانونا ، وذلك ما نصت عليه المادة (281 ) من قانون العقوبات بأن “يعاقب أيضا بالحبس مدة لا تزيد على سنتين كل شخص أعار محلا للحبس أو الحجز غير الجائزين مع علمه بذلك “.

ولقد خطا المشرع خطوه متقدمة عندما شدد العقوبة وجعل الحبس وجوبيا في هذه الحالة وإن كان وضع حدا أدنى لها وهو سنتان فقط ، لكنه جعل الحبس وجوبيا في هذه الحالة ولم يأخذ بالتغريم فيها . ومن الواضح أن المشرع في هذه الحالة قد تناقض مع النص الوارد بالمادة ( 280 ) إذ قد ينتهي إلى إدانة القائم بالقبض أو الحجز أو الحبس بالغرامة وهو الفاعل الأصلي بينما ينتهي إلى حبس من أعار المحل لعملية الحبس ، فإذا كان القائم بالقبض أو الحبس أو الحجز دون أمر السلطات المختصة يعتبر هو الفاعل الأصلي والذي تنم فعلته على خطورة إجرامية أشد من ذلك الذي أعار المحل للحبس فكان ينبغي تشديد العقوبة عليه بما يتلاءم مع طبيعة الجرم .

3- تجريم استعمال القسوة من الموظف العام أو أعمال السخرة .

وضعت المادة (129) من قانون العقوبات ضمانة أخرى غاية في الأهمية – ون كانت من النصوص المهجورة بالقانون – ذلك عندما جرمت قيام الموظف باستعمال القسوة مع الناس اعتمادا على وظيفته بحيث إنه أخل بشرفهم أو أحدث آلاماً بأبدانهم ، وجعلت العقوبة على هذه الجريمة الحبس مدة لا تزيد على سنة أو غرامه لاتزيد على مائتي جنيه وهى عقوبة غير رادعة ولا تتناسب مع فداحة الجرم الذي قد يصل إلى الإخلال بالشرف والاعتبار ، ذلك فضلا عن إمكانية تطبيق المواد ( 240 ، 241 ، 242 ، 243 ) عقوبات ، الخاصة بجريمة الضرب أو الجرح حسب الأحوال أما المادة ( 131 ) من قانون العقوبات والتي أثمت قيام الموظف العام باستخدام أشخاص في غير الأعمال التي جمعوا لها فقد امتدت إلى أعمال السخرة واستغلال الأفراد جبرا عنهم لإرضاء رغبات رجال السلطة في الأعمال الخاصة بهم .

4- تجريم الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية .

ولقد جرم قانون العقوبات الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية وذلك في المادة ( 123 ) فجرى نص الفقرة الثانية من المادة ( 123 ) على أنه ” يعاقب بالحبس ـ كل موظف عمومي امتنع عمدا عن تنفيذ حكم أو أمر مما يذكر بعد مضى ثمانية أيام من إنذاره على يد محضر إذا كان تنفيذ الحكم أو الأمر داخلا في اختصاص الموظف ” . ومن ثم فإن امتناع وزير الداخلية وضباط السجون وضباط مباحث أمن الدولة عن تنفيذ أحكام محكمة أمن الدولة طوارئ في التظلمات من أوامر الاعتقال يدخل ضمن دائرة التأثيم بمقتضى المادة ( 123 ) إذ أن تلك المحكمة تعد سلطة قضائية وفقا لقانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958 وتعديلاته وأن الأحكام الصادرة عنها تعد – وفق مضمونها والسلطة المصدرة لها وأخذا بالمعيار الشكلي – أحكاما قضائية بالمعنى الفني واجبة التنفيذ .

وعلى ذلك فإن لجوء وزارة الداخلية إلى إبقاء الأفراد المفرج عنهم -بموجب الأحكام القضائية الصادرة من محاكم أمن الدولة بناء على تظلمهم فترة ما – داخل مقار مباحث أمن الدولة أو فرق الأمن أو أي مكان آخر يستوجب مساءلتها ، وذلك عملا بالمادة ( 123 ) سالفة الذكر.

ولكن .. وبعد كل هذه الترسانة الضخمة من النصوص التى تشكل _ من الناحية النظرية- مجموعة من الضمانات الدستورية والتشريعية لحماية واحترام السلطة القضائية وتنفيذ أحكام القضاء، خاصة فيما يتصل بحماية وكفالة الحريات العامة ، فكيف كان الحال – من الناحية الواقعية- بشأن إعمال تلك النصوص ومدى احترامها من قبل السلطة التنفيذية فى مصر ؟ هذا ما نسعى إلى رصده فيما يلي :

المبحث الأول

موقف السلطة التنفيذية من أحكام

القضاء المتصلة بالحريات العامة

أولا:انتهاك أحكام القضاء الخاصة بالإفراج عن طريق الاعتــقال المتكــرر

يشكل الاعتقال المتكرر في مصر ظاهرة من أخطر الظواهر الماسة بحق الإنسان في الحرية الشخصية وفى

ضمان نفاذ الأحكام القضائية الصادرة بالإفراج أو البراءة ويطلق عليها – من قبل ضباط المباحث – مصطلح “التسكين ” أو ” التخزين ” ولبيان هذه الظاهرة ينبغي أولا التعرض لمعناها ومضمونها وأهميتها لرجل السلطة القائم على أمر الاعتقال، ثم نتعرض لبيان أماكن التسكين أو التخزين وما يتعرض له المعتقل أو المحتجز من انتهاك لحقوقه الأساسية .

أ – ظاهرة الاعتقال المتكرر أو التخزين .

ابتكرت السلطات الأمنية هذه الطريقة بغرض التحايل على أحكام القضاء الصادرة بالإفراج عن المعتقلين ، فهذا الأسلوب باختصار هو اعتقال الفرد عملا بقانون الطوارئ فيتقدم ذلك الفرد بعمل تظلم وفقا لقانون الطوارئ وتعديلاته خلال ثلاثين يوما ويتم تحديد جلسة لنظر هذا التظلم أمام محكمة أمن الدولة ولا تجد المحكمة أمامها أي مستند أو دليل على صحة الاعتقال ومن ثم تقضى بالإفراج عن المعتقل ، إلا أن وزير الداخلية يستخدم حقه -بشكل تلقائي – في شأن جميع المعتقلين وذلك بالاعتراض على أحكام الإفراج .

ثم يتحدد للمعتقل –المفرج عنه من قبل القضاء- جلسة أخرى لنظر الاعتراض المقدم من وزير الداخلية، وذلك أمام ذات المحكمة خلال خمسة عشر يوما ، ولا تجد المحكمة أمامها أي شيء يدل على صحة الاعتقال ومن ثم تقضى المحكمة مرة أخرى برفض اعتراض وزير الداخلية وتأييد قرار الإفراج .

ورغم هذا ، فلا يتم الإفراج فعليا عن المعتقل إنما يتم خروجه على الورق فقط حيث ينقل المعتقل من السجن الموجود به إلى أي مكان آخر مثل أقسام الشرطة أو مقار مباحث أمن الدولة – سواء الرئيسية بمبنى وزارة الداخلية أو بالمحافظات أو بفرق الأمن ( معسكرات الأمن المركزي التابعة للقوات المسلحة) – ويبقى المعتقل في أحد هذه الأماكن يوما أو أكثر إلى أن يصدر قرار جديد بالاعتقال .. وتتكرر هذه المأساة مرة أخرى إلى أن تصل فى بعض الحالات إلى عشرات المرات دون أن يفرج عنه يوما واحدا وذلك بالمخالفة للدستور والقانون وقانون الطوارئ ذاته وإهدارا لقدسية الأحكام القضائية، حيث تتذرع السلطات الأمنية في ذلك بأن المعتقل قد تم الإفراج عنه وعاود مره أخرى مزاولة نشاطه الإجرامي أو الإرهابي ولذلك تم اعتقاله مرة أخرى .

وفى حقيقة الأمر والواقع أن المعتقل لم يخرج على الإطلاق ، وإنما تم الإفراج عنه على الأوراق فقط ، ويطلق رجال الأمن على ذلك الأمر لفظ ” التسكين ” وهو الفترة الواقعة بين الإفراج على الورق وإعادة الاعتقال مرة أخرى . أما السجناء فيطلقون عليها مسمى ” التخزين ” بمعنى أنه مخزن إلى أن يتم اعتقاله مرة أخرى .

ب – مدى شرعية الاعتقال المتكرر .

لاشك أن الاعتقال المتكرر، بهذه الصورة سالفة الذكر ،يعتبر مخالفة واضحة لأحكام الدستور ولكل من قانونا لإجراءات الجنائية وقانون العقوبات وقانون الطوارئ ، وتتجلى أهم ملامح تلك المخالفة فى :

1- إهدار قدسية الأحكام القضائية الصادرة بالإفراج عن المعتقلين والاعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات وتجاوز السلطة التنفيذية لسلطاتها بتدخلها في صميم أعمال السلطة القضائية وانتهاك مبدأ سيادة القانون ومبدأ استقلال السلطة القضائية .

2- عدم ضمان توافر الشروط القانونية في المكان الذي يمكث فيه المعتقل فترة التخزين أو التسكين خاصة وقد يتعرض للعديد من انتهاكات حقوق الإنسان خلالها .

3- إساءة استخدام السلطة الممنوحة لوزير الداخلية بناء على قانون الطوارئ في اعتقال المواطنين وإعادة اعتقالهم كلما حصلوا على أحكام قضائية بالإفراج .

4- إهدار الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم الجنائية والعسكرية ببراءة المتهمين وذلك باعتقالهم بعد صدورها أو بعد انقضاء فترة السجن المحكوم بها .

5- مخالفة ظاهرة الاعتقال المتكرر لالتزامات مصر الدولية وعلى وجه الخصوص المادة الرابعة في فقرتها الثانية من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .

6- عدم تمكن الجهات الرقابية مثل النيابة العامة من فرض سيطرتها وإشرافها على أماكن التخزين التي دائما ما تحاط بسياج من السرية .

ج – التسكين أو التخزين في السجون المصرية .

يتم التسكين أو التخزين في السجون المصرية بطرق مختلفة لا ضابط لها، إذ تتم وفق أهواء ضباط مباحث

أمن الدولة وقد ذكرنا أن المقصود بالتسكين أو التخزين هنا هو إبقاء المعتقل المفرج عنه بناء على تظلم وبناء على حكم محكمة أمن الدولة ” طوارئ ” أو حكم المحكمة العسكرية بالبراءة فترة ما إلى حين صدور قرار جديد بالاعتقال . وتتراوح ما بين يوم أو أكثر يتم نقل المعتقل خلالها إلى مكان آخر غير مكان حجزه الذي أمضي فيه فترة اعتقاله قبل قرار الإفراج عنه انتظارا لصدور قرار جديد بالاعتقال . ويختلف هذا المكان باختلاف السجن المودع فيه المعتقل .

وينقسم التسكين هنا إلى نوعين ، تسكين عام ، تسكين خاص .

** التسكين العام : هو انتقال المعتقل من السجن المودع فيه إلى مكان آخر ؛ إلى أن يصدر قرار جديد بالاعتقال وإعادته مرة أخرى إلى السجن ذاته ولا ينتقل المعتقل من هذا السجن إلا في حالة الإفراج الفعلي عنه أو في حالة موته أو مرضه الشديد .

** التسكين الخاص : هو انتقال المعتقل من السجن المودع فيه إلى مكان آخر أثناء فترة التخزين إلى أن يصدر قرار جديد بالاعتقال ويرحل المعتقل إلى سجن آخر غير الذي كان مودعا فيه من قبل .

ويختلف مكان التسكين تبعا لاختلاف السجن ، حيث يتم التسكين العام في عدة سجون هي :

1- سجن الوادي الجديد : يتم التخزين في فرق أمن الوادي الجديد بالخارجة فترة ما ثم يعاد المعتقل إلى سجن الوادي الجديد مرة أخرى بعد قضاء فترة التخزين .

2- سجن وادي النطرون 1 ، 2 : يتم التخزين في قسم شرطة مدينة السادات أو قسم شرطة منوف أو قسم شرطة

3- سجن دمنهور : يتم التخزين في فرق أمن دمنهور ثم يعاد المعتقل إلى السجن ذاته مرة أخرى بعد قضاء فترة التخزين .

أما التسكين الخاص فيتم في سجون أخرى هي :

1- سجن أبى زعبل الصناعي : يتم تخزين المعتقلين في عدة أماكن إذ يتم ترحيل كل المعتقلين الحاصلين على قرارات وأحكام بالإفراج إلى مقر مباحث أمن الدولة بشبرا الخيمة أو قسم شرطة قليوب أو الخانكة ثم إعادتهم إلى السجن مرة أخرى إذا كانوا من أبناء محافظة أسيوط فقط أما فيما عداهم فيتم ترحيلهم إلى سجون أخرى .

2- سجن الفيوم : يتم التخزين في هذا السجن عن طريق ترحيل المعتقلين إلى محافظاتهم على أقسام الشرطة يودعون بها فترة ما إلى أن يصدر قرار بالاعتقال فيتم ترحيلهم إلى سجن آخر .

3- سجن استقبال طره : يتم التخزين عن طريق ترحيل المعتقلين إلى أقسام الشرطة التابعين لها ثم بعد صدور قرار اعتقال جديد يرحلون إلى سجون أخرى وكذلك المعتقلين الموجودين بمستشفى ليمان طره. وهناك سجون أخرى مثل سجن المنيا وأسيوط وشبين الكوم وطنطا تم تفريغها تماما من المعتقلين وجعلها قاصرة على تنفيذ الأحكام والحبس الاحتياطي على ذمة القضايا، أما سجن الحضرة فتم تفريغه لإعادة بنائه مرة أخرى .

وفى فترة التخزين هذه يتم منع الزيارة الأهالى عن وخاصة في الأيام الأولى منها ولا يسمح للمعتقل بشراء مأكولات أو أدوية على نفقته وغالبا ما يتعرض المعتقل خلال فترة التخزين إلى انتهاكات جسيمة إذ يتم ضربهم أثناء خروجهم من السجن وجعلهم معصوبي الأعين ويسيرون في شكل قاطرة ويتم الاعتداء عليهم من الجنود والضباط ، وهو ما يحدث في سجن الوادي الجديد على وجه الخصوص .

ويعتبر التخزين بهذا الوصف من أشد الإجراءات التي تتخذها وزارة الداخلية بالمخالفة للقوانين والدستور ؛ إذ لا توجد ضوابط تحكمها بل تخضع لأهواء وإرادة ضباط أمن الدولة ونزعاتهم الفردية الجامحة التي تستخدم السلطة في انتهاك حقوق الإنسان والمعتقل .

فعلى سبيل المثال حالة المعتقل فتحي صابر محمد دسوقي صدر ضده (26) قرار بالاعتقال وصدر لصالحه 25 حكما قضائيا بالإفراج من محكمة أمن الدولة بناء على تظلماته التى تقدم بها وتم تخزينه (25) مرة في أماكن مختلفة ولم يفرج عنه على الإطلاق منذ اعتقاله وحتى الآن ، ويمكن أن نتبين ذلك من واقع شهادة اعتقاله التي حصل عليها مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء والواردة بتاريخ 15/5/1999 ومن واقع سجلات مصلحة السجون وبيانها على النحو التالي :-

المعتقل : فتحي صابر محمد دسوقي ([2])

عدد
تاريخ الإفراج
تاريخ الاعتقال الفارق الزمني

20/2/1990
أول قرار اعتقال

1
14/4/1990
21/11/1990
سبعة أشهر تقريبا

2
17/1/1991
20/2/1991
33 يوما

3
15/4/1991
22/4/1991
7 أيام

4
6/6/1991
8/6/1991
48 ساعة

5
9/7/1991
18/7/1991
9 أيام

6
29/8/1991
9/9/1991
10 أيام

7
29/9/1991
24/10/1991
25 يوما

8
11/1/1992
13/1/1992
48 ساعة

9
9/3/1992
24/3/1992
15 يوما

10
29/4/1992
6/5/1992
7 أيام

11
3/6/1992
16/6/1992
13 يوما

12
15/7/1992
28/7/1992
13 يوما

13
10/10/1992
17/10/1992
7 أيام

14
1/11/1992
10/11/1992
10 أيام

15
18/2/1993
26/2/1993
8 أيام

16
22/3/1993
22/3/1993
ذات اليوم

17
13/7/1993
23/7/1993
10 أيام

18
25/12/1993
1/1/1994
6 أيام

19
27/4/1994
7/5/1994
11 يوما

20
5/6/1994
19/6/1994
14 يوما

21
27/10/1994
1/11/1994
4 أيام

22
5/1/1995
15/1/1995
10 أيام

23
28/8/1995
30/8/1995
48 ساعة

24
16/8/1998
24/8/1998
7 أيام

25
20/3/1999
26/3/1999
6 أيام

وبالنظر إلى الخانة المظللة بالجدول الموضح أعلاه يتبين أن المذكور قد حصل على حكم بالإفراح بتاريخ 22/3/1993 إلا أن قرارا باعتقاله قد صدر له باليوم ذاته ، وهذا الأمر الذى يدل على مدى استهزاء السلطة التنفيذية – ممثلة فى وزارة الداخلية – بتنفيذ هذه الأحكام ، ومن ناحية أخري نستخلص من هذا الأمر مدى إهدار ضمانات ومبررات قرار الاعتقال وسوء استخدام قانون الطوارئ ، خاصة وانه ليس من المتصور منطقيا أو عمليا أن تتوافر في الشخص دواعي ومبررات الاعتقال في ذات اليوم الذي تقرر فيه المحكمة عدم توافر هذه المبررات خاصة وهو لا يزال في حوزة الجهات المعنية باعتقاله !!.

وفى هذا الشان نستعرض فيما يلي بعض الأمثلة التي تؤكد انتشار هذه الظاهرة :

المعتقل : جمال محمد صابر

عدد
تاريخ الإفراج
تاريخ الاعتقال الفارق الزمني

6/5/1990
أول قرار اعتقال

1
19/8/1990
12/3/1991

2
8/7/1991
19/2/1992

3
29/9/1992
10/10/1992

4
2/2/1993
5/2/1993

5
26/7/1993
6/8/1993

6
23/10/1993
1/11/1993

7
2/2/1994
2/2/1994
ذات اليوم

8
17/5/1994
24/5/1995

9
2/10/1996
9/10/1996

10
18/12/1996
23/12/1996

المعتقل : خالد بغدادي يوسف هاشم

عدد
تاريخ الإفراج
تاريخ الاعتقال الفارق الزمني

24/1/1993
أول قرار اعتقال

1
25/2/1993
28/2/1993

2
6/5/1993
6/5/1993
ذات اليوم

3
16/11/1993
19/11/1993

4
5/6/1994
7/6/1994

5
4/12/1994
16/12/1994

6
27/4/1995
27/4/1995
ذات اليوم

7
26/7/1997
29/7/1997

المعتقل : مجدي جوهري عفيفى

عدد
تاريخ الإفراج
تاريخ الاعتقال الفارق الزمني

6/6/1991
أول قرار اعتقال

1
29/8/1991
4/9/1991

2
14/11/1991
21/11/1991

3
23/1/1992
31/1/1992

4
5/5/1992
13/5/1992

26/8/1992
5/9/1992

6
10/10/1992
14/10/1992

7
8/11/1992
17/11/1992

8
18/1/1993
18/1/1993
ذات اليوم

9
7/5/1994
14/5/1994

10
29/10/1995
11/11/1995

المعتقل : عصام فهمي محمد بدر

عدد
تاريخ الإفراج
تاريخ الاعتقال الفارق الزمني

27/6/1992
أول قرار اعتقال

1
17/10/1992
24/10/1992

2
10/5/1993
10/5/1993
ذات اليوم

3
4/4/1994
14/4/1994

4
22/2/1995
28/2/1995

5
4/5/1995
7/5/1995

6
12/6/1995
17/6/1995

7
28/8/1995
31/8/1995

8
9/6/1998
17/6/1998

9
29/10/1998
مفرج عنه

ثانيا : الأحكام القضائية الصادرة بالإفراج فى الطعون القضائية [3]- التظلمات – ضد قرارات الاعتقال الصادرة من وزير الداخلية.

لما كان المشرع قد وضع وحدد حصرا المبررات التى تعطى السلطة التنفيذية الحق فى اعتقال أي مواطن كما رسم لمن وقع عليه قرار الاعتقال مسلكا قانونيا لتمكينه من التظلم من هذا القرار كما حدد له المحكمة المختصة بنظر هذا التظلمات وهى محكمة امن الدولة العليا طوارئ ، وحدد أيضا موعدا ينقضي به حق السلطة التنفيذية فى الاعتراض على قرارات هذه المحكمة وهو خمسة عشر يوما من تاريخ صدور الحكم ، فقد حرص مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء على تقديم العديد من الطعون القضائية ” التظلمات ” وبناء على رغبة ذوى الشان من المعتقلين وأسرهم وقد بلغ إجمالي هذه الطعون منذ نهاية شهر أغسطس 2000 وحتى كتابة هذه السطور 257 تظلما حصل فيها المركز على 129 حكما بالإفراج اعترضت عليهما وزارة الداخلية فى المواعيد المقررة إلا أن المحكمة أيدت هذه الأحكام مرة أخرى .

ومن الجدير بالذكر أن جميع هذه الأحكام لم تنفذها وزارة الداخلية فعليا بل قامت وتقوم فى هذا الشان بنقل المفرج عنه إلى أقرب مركز شرطة أو فرقة أمن أو أى مكان احتجاز آخر تابع لها ثم تعاود اعتقاله مرة أخرى وبموجب قرار اعتقال جديد مستغلة العمل بقانون الطوارئ ، مهدرة بذلك أحكاما قضائية صريحة ، ومخلة فى الوقت ذاته بمقتضيات استخدام قانون الطوارئ والالتزام بالمبررات التى وضعها المشرع شرطا لاستخدام هذه السلطة .

ثالثا : الأحكام القضائية الصادرة بالإفراج -من واقع شهادات الاعتقال- و لم تنفذ[4] .

فضلا عن الطعون التى تقدم بها المركز للتظلم من قرارات الاعتقال أمام محكمة أمن الدولة العليا طوارئ فهناك أيضا العديد من التظلمات التى تقدمت بها أسر المعتقلين والتى حصل فيها بعض المعتقلين على أحكام بالإفراج ، نورد منها عدد ( 1416 ) حكم قضائي بالإفراج استخلصها المركز من واقع ( 211 ) شهادات اعتقال ، وهى أيضا أحكاما قضائية لم تنفذها وزارة الداخلية .

رابعا: إهدار تنفيذ الأحكام القضائية بفتح السجون المغلقة والحق فى الزيارة.

على خلاف ما تقضي به أحكام الدستور والقوانين من ضرورة احترام وكفالة حق السجناء وغيرهم من المحتجزين في الاتصال بالعالم الخارجي ، فقد دأبت وزارة الداخلية على انتهاك هذا الحق سواء بشكل تام كإغلاق بعض السجون وعزلها عن العالم الخارجي ، أو بشكل جزئي بفرض قيود مشددة على حق تلقي الزيارات والاتصال بالعالم الخارجي .

وتتذرع وزارة الداخلية في ذلك بنص المادة 42 من القانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون التي تنص على أنه : ” يجوز أن تمنع الزيارة منعا مطلقا أو مقيدا – بالنسبة إلى الظروف -أوقاتا معينة ، وذلك لأسباب صحية أو متعلقة بالأمن “.

وترتيبا على ذلك أصبح هناك أربعة سجون مغلقة ومعزولة تماما عن العالم الخارجي منذ عدة سنوات، وهي سجون: الفيوم العمومي وشديد الحراسة بطره وليمان أبي زعبل واستقبال طره .

وتعني ظاهرة السجون المغلقة ، فرض حالة من الحصار الأمني والعزلة الشديدة على بعض السجون ، بحيث تنقطع تماما الصلة بين المودعين داخلها وبين العالم الخارجي ، فتتحول تلك السجون بمن فيها إلى كهف موحش يغلفه شبح الصمت ولا يعلم أحد ما يجري بداخله من انتهاكات جسيمة لأبسط حقوق الإنسان والحريات الأساسية المقررة للمسجونين والمعتقلين .

وتعتبر ظاهرة السجون المغلقة واحدة ضمن ظواهر عديدة تحدث كل يوم ، وتنتهك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، دون أن يكون وراءها سبب مقنع أو ذريعة مقبولة ، وإذا أردنا أن نضع أيدينا على موطن الداء وسبب البلاء نجد أنفسنا دوما أمام تفسير واحد ووحيد هو ” دواعي الأمن ” . وذلك بالاستناد إلى نص المادة 42 من قانون تنظيم السجون. فعلى سبيل المثال ، أصدر وزير الداخلية يوم 26/12/1993 القرار رقم 549 لسنة 1993 بمنع الزيارة عن جميع المسجونين المودعين بالسجن شديد الحراسة بطره .

ولقد جاء في تسبيب قرار المنع ما يلي : ” نظرا للظروف الأمنية التي تمر بها البلاد وتصاعد نشاط الجماعات المتطرفة ([5]) وفي مواجهة احتمال صدور تكليفات من قيادات التطرف المودعة بالسجون لعناصرها بالخارج لارتكاب عمليات عدائية تجاه المنشآت والمرافق وبعض الشخصيات العامة ورجال الشرطة .. تقرر منع الزيارة عن المعتقلين لنشاطهم المتطرف بسجن شديد الحراسة بطره ـ لدواعي الأمن إعمالا للمادة 42 من قانون تنظيم السجون التي تجيز منع الزيارة منعا مطلقا أو مقيدا بالنسبة إلى الظروف وفي أوقات معينة ، وذلك لأسباب صحية أو متعلقة بالأمن ” . وتحت هذا الزعم وتلك الذريعة ارتفع عدد السجون المغلقة.

وفيما يلي قائمة بأهم تلك السجون :

م
السجن
تاريخ

المنع والسبب
الوضع

الحالي

1
شديد الحراسة بطره
26/12/1993 لدواعي الأمن
مغلق

2
ليمان أبي زعبل
يناير 1996 دواعي الأمن
مغلق

3
استقبال طره
سبتمبر 1994/ دواعي الأمن
مغلق

4
الفيوم العمومي
ديسمبر 1997 دواعي الأمن
السماح بالزيارة منذ 15 يناير2000

ولقد أصدرت وزارة الداخلية القرار الإداري رقم 556 لسنة 1999 بتاريخ23/7/1999، وقد نص على الآتي ([6]) : ” بعد الاطلاع على القانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون والقوانين المعدلة له ، والقرار الوزاري رقم 79 لسنة 1961 باللائحة الداخلية للسجون والقرارات المعدلة له .. ولدواعي الأمن لتتابع توافر معلومات عن استهداف السجون في المرحلة الحالية . قرر : مادة (1) تمنع الزيارة لمدة ثلاثة أشهر عن سجون ” استقبال طره ـ شديد الحراسة بطره ـ القسم الثالث ” شديد الحراسة ” بليمان أبي زعبل ـ العناصر المتطرفة بسجن الفيوم العمومي . مادة (2) يعمل هذا القرار من تاريخ صدوره ” .

ومن الجدير بالذكر ، أن مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء قام برفع عدة دعاوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري للمطالبة بإلغاء قرار وزير الداخلية بمنع الزيارة وفض السلك أثناء الزيارة لبعض السجون مفتوحة للزيارة ، وذلك تأسيسا على مخالفة قرار المنع للدستور المصري وللمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان التي صادقت عليها الحكومة المصرية .

وقد حصل المركز خلال عام 2000 على 57 حكما قضائيا من محكمة القضاء الإداري بفتح سجون الفيوم ( 27 حكما) وليمان أبى زعبل (حكم واحد ) و شديد الحراسة بطره(18 حكما ) واستقبال طره ( 2 ) للزيارة وفض السلك لسجون الوادي الجديد ( 5 ) ودمنهور (3 ) ووادي النطرون (1) وبذلك يصل مجمل الدعاوى التى حصل المركز فيها على أحكام قضائية الى 84 حكم قضائيا وجميعها لم ينفذ ؛ فضلا عن عشرات الدعاوى الأخرى التي ما تزال قيد التداول بالمحاكم .

وقد أكدت حيثيات تلك الأحكام الجديدة على وقف تنفيذ قرارات وزير الداخلية بإغلاق السجون ، والتي كان آخرها القرار رقم 556 لسنة 1999 بمنع الزيارة لمدة ثلاثة أشهر عن السجون الثلاثة ، كما أكدت تلك الأحكام حرص المشرع على ضمان احترام آدمية الإنسان وكرامته وعدم المساس به ماديا أو معنويا ، فجعل للمحكوم عليه بأي عقوبة الحق في الزيارة وهو حق مزدوج مقرر للمحكوم عليه ولذويه ولأي منهم أن يطلب هذه الزيارة .. وأنه استثناء من الأصل السالف بيانه يجوز للجهة الإدارية أن تمنع زيارة المسجون لأسباب صحية أو أمنية ، إلا أن هذا المنع الاستثنائي لا يكون مطلقا أو غير محدد مدة معينة ، و إنما هو منع من الزيارة في أوقات معينة ولأسباب تتعلق بالأمن والصحة .

كما أكدت تلك الأحكام أن الإطلاق الوارد في النص مقيد في حقيقة الأمر بالوقت ، فضلا عن قيام موجباته ، ومن ثم لا يجوز القول بان نص المادة 42 من قانون السجون يجيز منع الزيارة عن المحكوم عليه منعا مطلقا طالما وجدت أسباب أمنية ، بل يجب أن تمارس هذه السلطة في أوقات معينة فقط وليس في كل الأوقات وبصفة دائمة تستغرق فترة وجود المسجون أو المعتقل في محبسه . وأوضحت الأحكام أن القول بغير ذلك يشكل إهدارا لآدمية المسجون وإيذاء معنويا له وحرمانه من حق طبيعي مقرر له ولذويه ، ولا يمكن أن يكون ذلك هدف المشرع من نص المادة 42 التي جاءت استثناء من الأصل العام ” .

ولقد أظهرت هذه الأحكام عدم شرعية مسلك الجهة الإدارية بالتحايل على القانون بإصدار قرارات إدارية متعاقبة بمنع الزيارة لمدة ثلاثة أشهر عن السجون المغلقة .. فأعادت التأكيد على أن تتابع القرارات الإدارية بمنع الزيارة لمدة معينة تلو الأخرى دون أصل زمني وذلك بسبب تتابع تحذيرات الجهات الأمنية من استهداف العناصر الإرهابية لبعض السجون . أشبه بالحرمان الدائم من الزيارة الذي حرص المشرع على عدم جوازه للاعتبارات الدستورية و القانونية التي من أجلها قرر لذوي المسجون الحق في زيارته.

وقد رحب مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء بالقرار الصادر عن وزارة الداخلية يوم 15 يناير2000 قرار بفتح سجن الفيوم العمومي للزيارة بعد أكثر من ثلاث سنوات قضاها السجناء والمعتقلون السياسيون المودعون داخله في حالة عزلة كاملة عن العالم الخارجي ..

ومع ذلك لم تبادر وزارة الداخلية بتدعيم تلك الخطوة الإيجابية والتي طال انتظارها ، بتنفيذ جميع الأحكام والسماح للمسجونين والمعتقلين المودعين بسجن شديد الحراسة بطره وليمان أبى زعبل بتلقي الزيارات احتراما للدستور والقانون ولقدسية أحكام القضاء ، خاصة وأن الأسباب الأمنية التي تتذرع بها وزارة الداخلية لإغلاق تلك السجون ليست مبررا كافيا لإغلاقها ، وذلك لأنه لها أن تتجنب الأضرار والمخاطر المترتبة على فتح السجون بوضع الإجراءات والضوابط الكفيلة بمراعاة الجانب الأمني .

واذا كانت أحكام القضاء الإداري قد استقرت على :

” أن تهديد بعض الخارجين على القانون بتنفيذ بعض العمليات الإرهابية لا يخول للإدارة منع الزيارة عن السجون بصفة دائمة ، و إنما على الإدارة أن تقرر المنع لمدة محددة تتخذ خلالها من الإجراءات والاحتياطات ما يمكنها من كفالة الحقوق التي حرص الدستور والقانون على النص عليها دون أن تصل تلك الإجراءات والاحتياطات إلى حد الحرمان الدائم بتتابع المدد التي تمنع الزيارة خلالها واتصالها ببعضها ، ومن ثم فإن القرار المطعون فيه يكون بحسب الظاهر من الأوراق مشوبا بمخالفة المشروعية ويتوافر بذلك ركن الجدية في طلب وقف التنفيذ ” ..

إلا أن وزارة الداخلية قد دأبت على تجاهل تنفيذ 96 حكما قضائيا[7] من محاكم جلس الدولة صدرت بوقف قرار وزير الداخلية بمنع الزيارة وإزالة السلك عن سجن شديد الحراسة والفيوم وليمان أبى زعبل والوادي الجديد واستقبال طره ودمنهور ووادي النطرون ، وذلك بالمخالفة لنصوص الدستور والقانون ولالتزامات مصر الدولية بمواثيق حقوق الإنسان ، ولم تقم إلا بتنفيذ الحكم الصادر فى الدعوى رقم 6301 لسنة 51 ق لصالح أسر ثمانية سجناء بسجن شديد الحراسة بطره ؛

وذلك بعد أن قام مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء بإقامة جنحة مباشرة ضد القائمين على إدارة هذا السجن للامتناع عن تنفيذ حكم قضائي وبمقتضى المادة رقم 123 من قانون العقوبات المصري ، فقامت وزارة الداخلية بإرسال خطاب إلى المركز باستعدادها لتنفيذ الحكم السالف ذكره وتم بالفعل السماح بالزيارة بحضور محام عن المركز ونائب مأمور السجن ولم تستغرق الزيارة سوى خمس دقائق وأغلق السجن بعدها من جديد .

المبحث الثاني

آثار تعطيل وإهدار الأحكام القضائية

لاشك فى أن الإصرار علي رفض تنفيذ الأحكام الصادرة من القضاء الإداري يعد خروجا علي الدستور و تعطيلا لأحكامه ، فإذا كان الدستور قد أكد علي مبدا الفصل بين السلطات ، و علي عدم جواز تحصين القرارات الإدارية من رقابة القضاء ، فإن الإصرار علي عدم تنفيذ الأحكام القضائية الواجبة التنفيذ يكون أمرا مخالفا للدستور والقانون ؛ إذ ما الذي يبقي للقضاء الإداري من سلطة أو ولاية أو احترام إذا ما بلغ التطاول عليها حد إنكار اختصاصها فيما يقضي به ، وأي جدوي من إقامة نظام القضاء الإداري بقضائه المستعجل إذا نازعته الحكومة أو نازع الأفراد والهيئات في شرعية ما يصدره من أحكام وفي وجوب تنفيذها !! .

ولا يقتصر عدم تنفيذ مثل هذه الأحكام على إهدار الأحكام القضائية فحسب ، بل إنه قد يتسبب في أضرار بالغة سواء لأهل المعتقل أو المعتقل ذاته ، ففي حالة المعتقل سامي محمد عثمان غزال قد أدي عدم تنفيذ هذه الأحكام إلى تدهور حالته الصحية – كان مصاب بمرضا الدرن الرئوي – حتى توفى داخل معتقله وهذا ما توضحه شهادة الاعتقال التالية :-

المعتقل : سامي محمد عثمان غزال

عدد
تاريخ الإفراج
تاريخ الاعتقال الفارق الزمني

28/3/1995
أول قرار اعتقال

1
30/7/1995
7/8/1995

2
27/11/1995
2/12/1995

3
1/12/1997
8/12/1997

4
3/7/1999
12/7/1999

5
28/9/1999
1/10/1999

6
19/1/2000
21/1/2000

توفى إلى رحمة الله في 10/2/2000

واذا كان قد ثبت أن امتناع السلطة التنفيذية أو تعطيلها لأحكام القضاء يجسد إهدارا للسلطة القضائية وأحكام الدستور وكل القيم الديموقراطية ، فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد ، حيث تعتبر قرارات الاعتقال غير المشروعة وتلك المتعارضة مع أحكام القضاء بمثابة قرارات معيبة وخاطئة وغير مستنده إلى أى أساس قانوني، وترتب بذلك مسئولية قانونية تستوجب التعويض المناسب عن الأضرار الناشئة عنها ، ومما لا شك فيه أن هذه التعويضات تمثل إهدارا لموارد الدولة والتي هي فى الأساس حق للمواطنين وبدلا من ان توجه موارد الدولة لحماية وأمن المواطنين وتوفير العيش الكريم لهم، فإذا بها تستخدم لتعويض المواطنين عن قرارات الإدارة غير المشروعة والمتعسفة .

وفى إطار تأكيد ذلك الإهدار قام مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء بحصر وتجميع معظم الأحكام القضائية الصادرة بالتعويض عن قرارات اعتقال خاطئة وفى الفترة ما بين عام 1971 وحتى تاريخ صدور هذه الدراسة وقد وصل عدد هذه الأحكام إلى 1110 حكما قضائيا احتوت علي 1620 قرار اعتقال وبلغ إجمالي التعويض فيها ( 5917664.5 ) وقد استخلصنا منها البيان التالي [8]:-

المتوسط
الحد الأدنى للتعويض
الحد الأقصى للتعويض
عدد قرارات الاعتقال
عدد القضايا
أجمالي المبالغ
السنة

3000
3000
3000
1
1
3000
1971

3077
1000
11000
13
13
40000
1977

صفر
صفر
صفر
1
صفر
صفر
1979

1200
1000
3000
8
8
12000
1980

2135
500
30000
408
393
839050
1981

1215
200
3500
41
32
38900
1982

760
300
1000
8
5
3800
1983

2166
1000
3000
7
3
6500
1984

1541
500
3209.5
7
5
7709.5
1985

1300
500
2000
16
5
6500
1986

1410
200
14000
81
49
69100
1987

5348
200
30000
62
37
197900
1988

2673
100
33000
111
73
195150
1989

8315
500
25500
31
19
158000
1990

10593
500
25500
34
24
254250
1991

12725
1000
22500
64
52
661750
1992

10530
500
20000
154
108
1137280
1993

8376
500
17000
189
134
1130800
1994

8401
500
16000
155
79
663750
1995

6307
800
21000
79
35
220775
1996

5310
1000
14000
55
19
100900
1997

3343
1000
6000
63
8
26750
1998

13475
4150
24000

8
107800
1999

1620
1110
5917664.5
الإجمالي

ولا يخفى أن عدم الالتزام بتنفيذ الأحكام من جانب النظام يمثل انتهاكا للشرعية الدستورية وهذه سابقة خطيرة حيث تضرب الدولة أسوا المثل للمتقاضين بالتهرب من تنفيذ الأحكام ، والأخطر من هذا أن يشيع بين الناس منهج اللاشرعية بمعني أن يستقر الإحساس لدي الناس بأن الشرعية لا قيمة لها ما دامت السلطة العليا في البلاد لا تقيم لها وزنا ، فتسري العدوى في المؤسسات والمصالح ، ويصبح الاستهتار بالشرعية نموذجا للتعامل في مصر ، الأمر الذي ينشر الإحساس بأنه لا قيمة للدستور أو القانون أو القضاء وتتحول سلطات الدولة ومواد الدستور ونصوص القانون إلي حطام .

ومما لاشك فيه أن عدم تنفيذ الأحكام يزعزع الثقة فيها من جانب المواطنين .فإذا كان المواطن الذي يلجأ إلي القضاء اقتضاء لحقه ، ثم يفاجأ بان الحكم الصادر لصالحه ليس له أي قدسية أو احترام ، يفقد الثقة فى اللجوء الى القضاء ، فليس له ومن فى حالته من المواطنين سوى العودة إلي عصور الهمجية من جديد لاقتضاء حقوقهم ، حيث يلجأون إلي القوة لنيل حقوقهم ويتحول المجتمع بعد ذلك إلي غابة الغلبة فيها للأقوى .

ولاشك في أن أحد أهم آثار إهدار الأحكام القضائية علي الوطن يتمثل في فتح الباب علي مصراعيه لمناقشة الأحكام القضائية وفقا للنوازع والأهواء بما يترتب علي ذلك من فوضي عارمة . وليست هناك كارثة أفظع من كارثة ضياع هيبة القضاء صوت الحق والعدل والإنصاف . وليس هناك أخطر من أن يجد بعض المسئولين حرجا من الخضوع لأحكام القضاء فيقدمونها قربانا علي مذابح مصالحهم الذاتية أو الحزبية .

كما لا يخفى أن ظاهرة امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها لها آثار مدمرة ؛ ذلك لأن أي قاعدة قانونية أو تنظيم قضائي يفقد سبب وجوده اذا لم يكن فعالا فإذا كان القضاء يضع حدا للمنازعة عندما يصدر حكما نهائيا ، فانه يتعين تنفيذ هذا الحكم ، وإلا تصدر الأحكام إذا كان في الإمكان تجاهلها وعدم إصدار حكم بتنفيذها !!.

وترتيبا علي ذلك ؛ تكون السلطة القضائية في مصر قد فقدت قدرا كبيرا من استقلالها ، بسبب السلطات بالغة الاتساع التي تتمتع بها السلطة التنفيذية من جهة ، وبسبب تبعية السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية من جهة أخري ، وهو ما يهدم أساس كل نظام ديموقراطي، وينذر بقدوم رياح الاستبداد العاتية.

السابق
المرفقات

——————————————————————————–

[1] ( من حكم محكمة أمن الدولة العليا ” طوارئ ” الصادر في الجناية المقيدة برقم 2830 لسنة 1986 جنايات عابدين والمقيدة برقم كلى 198 لسنة 1986 كلى وسط القاهرة بجلسة 11/2/1990) .

[2]) المذكور وفقا للمعلومات التي حصل عليها من ذويه ما زال معتقلا وحتى تاريخه وقد حصل على إفراجات أخرى خلال هذه الفترة .

[3] مرفق رقم (1) بيان تفصيلي بالطعون القضائية التى أقامها المركز ضد قرارات الاعتقال وحكمت فيها المحكمة بالإفراج ولم تنفذ هذه الأحكام

[4] مرفق رقم (2) ” بيان تفصيلي بأحكام الإفراج التى لم تنفذ ومن واقع شهادات الاعتقال “

([5]) بداية من عام 1993 شهدت عمليات العنف السياسي التي ترتكبها الجماعات الإسلامية المتطرفة ، وبخاصة