بحث قانوني مميز حول المسؤولية الجزائية للطبيب و الأشكال الجديدة للجرائم

مقال حول: بحث قانوني مميز حول المسؤولية الجزائية للطبيب و الأشكال الجديدة للجرائم

دراسة وبحث قانوني فريد عن المسؤولية الجزائية للطبيب و الأشكال الجديدة للجرائم

من إعداد:
الأستاذ: بوصيدة فيصل

تمهيد:

لا يستغني الإنسان في هذا العصر عن خدمات الطب نظراً لزيادة الأمراض و انتشارها، و الطبيب بصفته إنسانا معرض لوقوع أخطاء ذات نتائج فادحة على صحة المرضى و على حياتهم ، سواء بسبب إهمالـــه أو قلة تركيزه أو بسبب ضعف تكوينه. و قد يمارس الطبيب فضلا عن ذلك بعض الأفعال المحظورة جنائيـــــــــا مما يختص بارتكابه الطبيب دون سواه.

تجدر الإشارة في هذا التمهيد إلى أن الطبيب بحكم مهنته حين يمارس الجراحة أو التحاليل على أجسام المرضى فإنه يكون تحت سبب تبرير و بالتالي لا يعتبر قانونا مرتكبا لجريمة الإضرار بالسلامة الجسدية (اعتداء على جسد الإنسان)، أما العلة في الإباحة فهي أن الإضرار الذي يحدثه الطبيب هو من أجل تحقيق مصلحة الشخص المعالج، أو رضاؤه كما يرى بعض الفقهاء إ، أو انتفاء القصد الجرمي كما يرى فريق آخر.

إن سبب التبرير ينعدم في حالة الخطأ الطبي و بالتالي يخرج الفعل من الإباحة إلى الجريمة.

و في هذه الحالة الأخيرة تثور المسؤولية الجزائية للطبيب و هو ما يستدعي تحديد قائمة الأفعال المحظورة على الطبيب نظرا لسيادة مبدأ الشرعية في المجال الجزائي، و كذلك تحديد أسس هذه المسؤولية أو معيارها.

1-الجرائم العمدية:

أ‌-إفشاء السر المهني: لقد أدى انتشار الوعي الصحي لدى الأفراد إلى قيام بعضهم بإجراء فحوص دورية للتعرف على وضعهم الصحي. و بالتالي نشأ عن هذا الوضع تحمل الأطباء لأسرار هؤلاء، و التهاون في هذا الأمر قد يرتب مسؤولية جزائية للطبيب بسبب إفشائه لتلك الأسرار.إن الفعل مجرم بشكل واضح من خلال المادة 301 من قانون العقوبات ( أمر رقم 66-156 مؤرخ في 8 جوان 1966 معدل و متمم لا سيما بموجب قانون رقم 06-23 مؤرخ في 20 ديسمبر 2006) و يلاحظ على هذا النص أنه يشمل جميع الأطباء سواء كانوا تابعين للقطاع العم ( موظفين) أو الخاص ( أصحاب مهن) كما أنه تميز فضلا عن ذلك بإعفاء الأطباء من العقاب عندما يبلغون عما يقع من جرائم الإجهاض فقط أو في حالة قيامهم بالشهادة على ذلك أمام القضاء، و في هذا الشأن يتميز القانون الجزائري عن بعض القوانين التي لم تنص على هذين الأمرين[1].

إن الخطأ قد ينتفي رغم إفشاء السر الطبي، فالسر الطبي الذي يلتزم به الطبيب يتمثل في كل ما وصل إلى علمه من خلال نشاطه المهني. فالسر لا يقتصر على ما أفضاه المريض إلى الطبيب، بل يشمل كل ما توصل إليه الطبيب عن طريق الأجهزة الحديثة والاستنتاج الشخصي. ويستوي في السر الطبي الذي يجب على الطبيب المحافظة عليه أن يكون أمراً مُشرِّفاً للمريض، أو أمراً مُخجِلاً له؛ فالسرُ سرٌ لذاته بصرف النظر عن موضوعه وهو ما يرتب المسؤولية الجزائية بشرط وحيد هو توفر القصد الجنائي المتمثل في العمد فهذه الجريمة لا تقوم بمجرد الإهمال أو عدم اتخاذ الحيطة. على عكس المسؤولية المدنية بسبب إفشاء السر التي تترتب سواء توفر العمد أو مجرد الإهمال من جانب الطبيب.

يتبين من خلال القانون المقارن أن السر المهني لا ينطبق على حالة ما إذا كان الإفشاء مقصوداً به الإبلاغ عن وفاة أو بقصد التبليغ عن مرضٍ سارٍ أو مُعدٍ.إذا كان الإفشاء بقصد دفع الطبيب لاتهام موجه إليه، من المريض أو أهله.أو إذا وافق صاحب السر كتابة على إفشائه.أو إذا صدر له أمر بذلك عن جهة قضائية.

ب‌-التقارير الطبية الكاذبة : تتعدد صور السلوك الخاطئ للأطباء بتعدد أوجه النشاط الطبي ومن هذه الصور تحرير تقارير طبية كاذبة ، فالتقارير الطبية تعكس– في جوهرها – الحالة المرضية لمريض معين ( وجود أو عدم وجود عاهة أو مرض أو حمل) والإجراءات الطبية والتشخيص والمعالجة التي تتعلق به( لا سيما تحديد سبب وجود المرض أو العاهة)؛ كما قد تتعلق بالحالة الصحية أو العمرية لشخص ما؛ أو تتصل ببيان أسباب وفاة شخص بعينه، إن تحرير شهادات طبية مخالفة للحقيقة من قبل الطبيب يعد تزويرا ( من الجرائم الملحقة بالتزوير) حسب المادة 226 من قانون العقوبات.

ج‌- جريمة الرشوة واستغلال النفوذ: حسب المادة السابقة و الخاصة بجنحة الإدلاء بتقارير طبية كاذبة، فإن الجاني يعاقب بعقوبة تلك الجنحة ما لم يكون الفعل إحدى الجرائم المنصوص عليها في المواد من 126 إلى 134 و التي تتعلق بجريمتي الرشوة واستغلال النفوذ، و بالرجوع إلى نصوص هذه المواد نجدها تنطبق على الطبيب سواء كموظف أو كخبير أو كصاحب مهنة. إن كتابة تقرير طبي مزور قد تقترن بجريمة رشوة؛ وهنا يستحق الطبيب – ومَنْ في حكمه – العقوبة المقررة للجريمة الأشد طبقاً للقواعد العامة المقررة بشأن الارتباط بالجرائم[2]؛ و هي القاعدة التي أكدتها المادة المذكورة أعلاه.

د‌-الإجهاض: عندما يتم هذا الإجهاض بمعرفة الأطباء و في غير الحالات المذكورة في المادة 308 ق .ع و التي تنص على أنه: ” لا عقوبة على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة إنقاذ حياة الأم من الخطر متى أجراه طبيب أو جراح في غير خفاء و بعد إبلاغ السلطات الإدارية”، ففي الحالات الأخرى يطبق نص المادة 306 ، و في حالة الاعتياد من الطبيب على ممارسة هذه الجريمة فإن عقوبة الحبس تضاعف ، بينما إذا أفضى الإجهاض إلى موت المرأة فإن العقوبة تصل إلى الحد الأقصى من السجن و هو 20 سنة، و ذلك حسب مقتضيات المواد 304 و 305 ق.ع.

ه‌-القتل بدافع الشفقة: يثير القتل بدافع الشفقة قضية حرية الإنسان في التصرف في حقه في الحياة، فهل يحق له التصرف في روحه، إن هذا الأمر لا أساس له في الشريعة الإسلامية، واعتبر الفقهاء أن التخلص من الحياة بدعوى أن المريض ميؤوس من شفائه ما هو إلا صورة من صور قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأن هذه الدعوى ليس لها مستند شرعي، بينما خلص الفقهاء في هذا العصر أنه لا يجوز للطبيب أن يمتنع عن استعمال أجهزة الإنعاش الصناعي بالنسبة إلى المريض الميؤوس من شفائه، ما دام أنه حي، لم تنته حياته بعد، وإن أقدم الطبيب على ذلك، وامتنع عن علاج المريض، فإنه يعد قاتلاً له قتلاً متعمداً بطريق الترك، متى ترتبت الوفاة على ذلك.

2-الجرائم غير العمدية:

أ‌-القتل أو الجرح الخطأ: تدل اتجاهات القانون والقضاء الحديثة في شأن المسؤولية الجزائية عن الجرائم الطبية غير العمدية أن الخطأ يقاس بمعيار الطبيب المعتاد الذي يوجد في الظروف الخارجية ذاتها التي أحاطت بالطبيب المخطئ. ولمساءلة الطبيب يجب أن يؤول الخطأ الطبي إلى نتيجة يعاقب على تحققها القانون، والمتمثلة إما في إزهاق روح المريض أو المساس بسلامة جسمه، على أن ترتبط هذه النتيجة مع الخطأ بعلاقة أو رابطة سببية.

و يمكن تقسيم معيار الخطأ الذي استقر عليه القضاء في تحديد مسئولية الطبيب إلى ثلاثة معايير:

الأول: تقدير سلوك الطبيب على ضوء سلوك طبيب آخر من نفس المستوى فمعيار خطأ طبيب التدريب يختلف عن الأخصائي عن الأستاذ وهكذا.

الثاني: الظروف الخارجية التي تحيط بالعمل الطبي، وتوافر الإمكانيات من عدمه (الوحدة الريفية تختلف عن العيادة عن المستشفى المجهز) ومدى وجوب التدخل السريع.

الثالث: مدى اتفاق العمل الطبي مع تقاليد المهنة والأصول العلمية المستقرة.

إن المسؤولية الجزائية الناجمة عن الخطأ الطبي إذا كان الفعل يشكل جريمة خطئية (قتل أو جرح أو عاهة مستديمة، ….) تتمثل في توفر الخطأ الجنائي الذي له عدة صور تتمثل في: الإهمال والرعونة وعدم الاحتراز وعدم مراعاة القوانين والقرارات واللوائح والأنظمة.

3-الأشكال الجديدة للجرائم:

بالإضافة إلى الصور السابقة للجريمة، لقد استجدت أنواع جديدة من الجرائم تنتظر من المشرع تبيين أحكامها بدقة خاصة و هي تتعلق بالطبيب بشكل أساسي، و هي جريمة بيع أعضاء الإنسان و المتاجرة فيهــــــا. و هي نوع من الجرائم المستحدثة و تتميز بأنها من أنواع الجريمة المنظمة في غالب الأحيان، بحيث تكون عابرة للأوطان و الدول و بالتالي فهي تنطبق عليها نصف مواصفات الجريمة المنظمة و الجريمة العابرة للأوطان، خاصة من حيث دقتها و استعمالها للتقنية و اعتمادها على التكتم و السرية، كما أن ضحاياها متعددون و قد ترتبط أحيانا بجرائم أخرى كالقتل و الخطف و الإجهاض.

يمكن القول أن هذه الجريمة تختلف جوهريا عن الجرائم التقليدية، و التي أصبح يطلق عليها الجرائم المستجدة و التي تم تعريفها كالتالي: ” هي الجرائم المخطط لها و التي استفاد المجرمون عند تنفيذها من معطيات العلم الحديث كجرائم الإرهاب و جرائم الحاسوب و جرائم التزوير و غيرها…”[3].

إن جريمة بيع أعضاء جسد الإنسان و التي لها وجود في الجزائر كما يتبين من خلال المصادر الإعلامية المختلفة، هي نوع من الجرائم المستجدة حيث لم يكن في الزمن الماضي بالإمكان بيع هذه الأعضاء، كل ما وجد هو بيع الإنسان لأخيه الإنسان، فهذه الجريمة من إفرازات التقدم العلمي، أما أشكال هذه الجريمة فهي متعددة:

-فمنها ما يتعلق ببيع الإنسان لأعضائه تحت وطأة الفقر لمن يحتاجون إليها من الأغنياء الذين هم مستعدون لدفع المبالغ الطائلة نظير الاستفادة من هذه الأعضاء.

-و منها ما يتعلق ببعض الخاطفين الذين يختطفون الأطفال و المشردين و المختلين عقليا ليقوموا بفصل بعض أعضائهم و بيعها( مثل العين و الكلية).

-و منها ما يتعلق بأطباء يملكون بنوكا للأعضاء التي سبق أن اشتروها من زبائنهم ليقوموا ببيعها لزبائن آخرين.

-و منها ما يتعلق باستغلال الأطفال الذين يولدون بصورة غير شرعية ببيعهم كما تباع السيارات التالفة ليستفاد مما يصلح فيها من قطع غيار.

-و منها ما يتعلق بنبش القبور و استخراج الجثث منها بغية فصل الأعضاء و الاستفادة منها ما دام الحصول عليها بالمال غير ممكن.

فيتبين من خلال هذه النماذج التي تبقى قابلة للابتكار و التطوير أنها تتم بمعرفة بعض المختصين الذين يسهل عليهم التعامل مع هذه الأعضاء التي درسوا خصائصها الفيزيزلوجية و العصبية و هم في الغالب من الأطباء و الجراحين، و هم الذين توصلوا بعلمهم على معرفة كيفية زراعة تلك الأعضاء – كل ذلك بإذن الله جلت قدرته تقدست عظمته – بل مازال العلم يبحث عن زراعة الأعضاء التي لم يتوصل إلى زراعتها بعد كزراعة الدماغ ، بل إن الأمر لا يتوقف عند هؤلاء الأطباء فقط بل قد يصل الأمر على حد أن تقوم به مؤسسات استشفائية استثمارية خاصة عن طريق الاستثمار في أعضاء اللقطاء كما حدث في مصر مما أثار غضب و استياء البرلمان المصري إلى حد أن وصفوا هذا الأمر بجريمة العصر.

يمكن القول عن هذه الجريمة أنها تتم خلاف للقوانين و الأنظمة التي تنظم عمليات نقل و زرع الأعضاء، حيث أصبحت كثير من الدول تصدر قوانين في هذا المجال، أما حيث لا يوجد مثل هذا القانون فإن جرائم بيع أعضاء جسد الإنسان تصبح ظاهرة معقدة خاصة من الجانب القانوني الجنائي حيث يصعب إيجاد القالب الإجرامي الذي يتم تكييف الجريمة طبقا له، و من ذا المنطلق ندعو المشرع إلى تحديد صور هذه الجريمة وفقا للدراسات الأمنية و السوسيولوجية و الشرعية التي يجب أن تسبق هذا التحديد.

خاتمة

يبدو من خلال هذا العرض أن قانون العقوبات قد خص الطبيب بعدد من التجريمات بخصوص الجرائم التي تقع في حقل الطب و بمعرفة الأطباء، و بديهي أن المسؤولية الجزائية للطبيب تتوفر بتوفر صفة الطبيب أما في حالة تخلفها فنكون أمام جرائم بأوصاف أخرى، فهذه الجرائم هي من نوع الجرائم التي تتضمن شروطا مفترضة بالإضافة إلى الأركان العامة لأي جريمة و هي الركن الشرعي و الركن المادي و الركن المعنوي، أما بالنسبـة للمسؤوليـــــة الجزائيــــة فهي نفسها التي يخضع لها كل المجرمين من حيث وجوب توفر الإدراك و العلم و انعدام موانع المسؤولية كالجنون مثلا إمكانية إسناد الفعل إلى الطبيب و ليس إلى عوامل خارجية، و كل ذلك يخضع لمبدإ الاقتناع الشخصي للقاضي الجزائي الذي يخضع بدوره على ضوابط معينة تتعلق أساسا بمعقولية التسبيب و منطقيته.

[1] د. عادل العاني ، ورقة بعنوان” المسؤولية الجزائية للطبيب عن إفشاء السر الطبي” مقدمة في: ندوة”حقوق المرضى والمسؤولية عن الأخطاء الطبية” التي نظمتها كلية الحقوق بسلطنة عمان – مسقط في الفترة من 10-12/3/1427هـ الموافق 9-11/4/2006م

[2] د. محمود صالح العادلي، ورقة بعنوان “المسؤولية الجنائية عن التقارير الطبية الكاذبة”، مقدمة في: ندوة”حقوق المرضى والمسؤولية عن الأخطاء الطبية” التي نظمتها كلية الحقوق بسلطنة عمان – مسقط في الفترة من 10-12/3/1427هـ الموافق 9-11/4/2006م
[3] نقيب. ناصر بن مانع بن علي آل بهيان الحكيم، جريمة بيع أعضاء جسد الإنسان، بحث منشور على موقع دهشة الإلكتروني.

شارك المقالة

1 تعليق

  1. موضوع مهم شكرا على نشر العلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.