مشروعية استخدام القوة بشأن حق تقرير المصير و علاقته بالإرهاب الدولي

د. سيد رمضان عبد الباقي إسماعيل إدارة البحوث والدراسات – وزارة المالية-مصر
ملخص:

استقر حق تقرير المصير كقاعدة قانونية آمرة في القانون الدولي، وأُعطيت الشعوب الحق في الحصول على ذلك الحق من خلال الوسائل السلمية، فإن لم تجدي تلك الوسائل فمن حقها استخدام القوة لتقرير مصيرها، وقد غدت المقاومة لتحرير الأوطان استثناءً ثالثًا على مبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة إضافة إلى الاستثنائين الآخرين وهما: الدفاع الشرعي، وما يتخذه مجلس الأمن استنادًا إلى أحكام الفصل السابع.

وهكذا وُضع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها في إطاره العملي والقانوني، بحيث لم يعد مبدًأ من مبادئ القانون الدولي فقط، بل أيضًا حقًا يجب ممارسته عبر حركات التحرر الوطني.

وأن الإرهاب الدولي مصطلح سياسي ليس له أي محددات قانونية، ووفقًا لمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص فإن الإرهاب في حاجة إلى تحديد، وهذا ما يشكل عقبة كأداء أمام اعتبار الإرهاب جريمة قائمة بذاتها.

وما زال الجدل قائمًا قديمًا وحديثًا حول المقاومة والإرهاب، وكثيراً ما يخلط مفهوم الإرهاب بأنشطة حركات التحرر؛ مما يستلزم التمييز بينهما احترامًا للأنشطة التي تساهم في تقرير مصير الشعوب واستقلالها، وعدم السماح للدول والأنظمة المستعمرة ان تتذرع بمواجهة الإرهاب في القضاء على هذه الحركات وإبادتها.

وهذا ما بحثته في هذه الدراسة والتي تم تقسيمها إلى ثلاثة فصول: بحثت في الفصل الأول حق تقرير المصير والتطور التاريخي له، ومفهومه، ومفهوم حركات التحرر الوطني، وبحثت كذلك موضوع الإرهاب .

وبحثت في الفصل الثاني: مشروعية استخدام القوة من أجل نيل حق تقرير المصير، ومشروعية حركات التحرر الوطني والأسس القانونية التي قامت عليها مشروعية تلك الحركات.

وبحثت في الفصل الثالث: التمييز بين الإرهاب والحق في تقرير المصير، فبحثت الأسباب التي أدت للخلط بين المفهومين، وبحثت كذلك في معايير التمييز بين الإرهاب والحق في تقرير المصير.

ثم انتهيت إلى خاتمة للبحث وأهم المصادر والمراجع.

Summary:

The right of self-determination Settled as a legal norm of jus cogens in international law, The peoples right to get it right through peaceful means, If renewal of those means, the right to use force in self-determination.

And the resistance to liberate the homeland except III the principle of non-use of force in international relations as enshrined in the Charter of the United Nations in addition to the other two exceptions: self-defence, the Security Council based on Chapter VII.

The principle of the right of peoples to self-determination in its practical and legal, so it is no longer a principle of international law, but also must be exercised through national liberation movements.

And that international terrorism is a political term that does not have any legal parameters, and the controversy still exists about the resistance and terrorism; usually confuse terrorism activities of the liberation movements, requiring the distinction respecting activities that contribute to the self-determination and independence of peoples, and don’t let the colonial regulations States that invoke counter terrorism in the Elimination of these movements and destruction.

This was considered in this study, which was divided into three chapters: chapter I discussed the right of self-determination and the historical development, and understood, the concept of national liberation movements, and also discussed the issue of terrorism, and discussed in chapter II: legality of use of force to achieve self-determination and legitimate national liberation movements and the legal foundations upon which the legitimacy of those transactions, and discussed in chapter III: the distinction between terrorism and the right of self-determination, it examined the reasons for confusion between the two concepts, and looked well in criteria for distinguishing between terrorism and the right of self-determination, and then come to the conclusion of the research the main sources and references.

Keywords:

Legality of use of force on the right of self-determination and its relationship to international terrorism

مقدمة

برزت مسألة لجوء الشعوب الى حركات التحرر الوطني لنيل حقها بتقرير مصيرها، عبر الدور الذي تلعبه حركات التحرر في المجتمع الدولي والمكانة التي تحتلها في القانون الدولي العام.

إن حق الشعوب في المساواة أخذ ردحًا طويلًا من الزمن إلى أن أُقر كأحد الحقوق الأساسية الجماعية للشعوب والتي بدونها لا يمكن الحديث عن أي حقوق للإنسان أو للشعوب، إذ أن من أهم النتائج التي ترتبت على حق الشعوب في المساواة هو الحق في تقرير المصير، إذ أنه لا يحق لشعب أن يحكم أو يستعبد شعب آخر، وقد تطور هذا الحق إلى أن أصبح أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي([1]).

إن عودة قضية حركات التحرر الوطني على الساحة الدولية من جديد متعلقة بشكل مباشر بالمتغيرات التي حصلت في هذا المجتمع، وذلك من جراء تغير موازين القوى على الساحة الدولية، ولا زال الصراع قائمًا بين قوى التحرر والحركات الثورية في العالم وبين قوى الاستكبار والاستعمار العالمية، وإن تغيرت بعض المسميات والمصطلحات، ولكن بقية أهداف تلك الدول من السيطرة على مقدرات الشعوب كما هي مع تغير الطرق والأساليب.

إن تغيير ميزان القوى الدولية لابد له وأن ينعكس على كل القضايا المرتبطة بهذا الصراع، وخاصةً على القانون الدولي العام، كما برز مؤخراً خطاب يطرح إشكالية العلاقة بين المقاومة والإرهاب، فما هي أهداف هذا الخطاب؟ ولماذا الآن؟

وقد ثار الجدل الفقهي حول مشروعية استخدام القوة من أجل نيل حق تقرير المصير، إذا لم يتم نيله بالطرق السلمية، وأصبح مقاتلي حروب التحرير محل حماية القانون الدولي الإنساني بالرغم من تحريم استخدام القوة في القانون الدولي أو التهديد باستخدامها.

وألقى حق تقرير المصير بثقله على الحياة القانونية والسياسية الدولية وأصبح يشكل محور العلاقات القانونية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية في حالتي السلم أو الحرب،إلا أن مصطلحًا آخر بدأ يطل علينا في خضم الأحداث والتطورات الدولية، وإن لم يكن هذا المصطلح حديثًا إلا أنه في غياب محددات واضحة لهذا المصطلح فإنه يتغير تفسيره واستخدامه من زمان لآخر ومن مكان لآخر ألا وهو “الإرهاب”.

وقد حاولت- وما زالت تحاول- الدول صاحبة النفوذ والقوة في المجتمع الدولي أن تحجم من ذلك الحق، بل وتسعى إلى وضع كل عقبة في وجه الشعوب لتقرير مصيرها، وقد وجدت في الحرب على الإرهاب ضالتها، فأخذت تخلط عن عمد بين الإرهاب ومقاومة الشعوب لتقرير مصيرها، ووصم حركات التحرر الوطني بأنها تمارس الإرهاب، وذلك بغية وقف كل سعي للشعوب لتقرير مصيرها، ومما زاد الأمر تعقيدًا أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في نيويورك وواشنطن؛ حيث إن واشنطن أعلنت ما عرف “الحرب ضد الإرهاب” والتي كان لها الأثر الكارثي على مجمل القانون الدولي، وتأثر تبعًا لذلك النضال من أجل نيل حق تقرير المصير، حتى كادت أن تصله وصمة الإرهاب أو هي قد وصلته بالفعل.

كذلك ظهور تنظيمات عديدة انتهجت استخدام القوة لتحقيق أهدافها بشكل رئيسي ” كتنظيم القاعدة” و” تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” وما تمارسه من أعمال يستند إليها المجتمع الدولي لتصنيفها ككيانات إرهابية، وأنشأ بناءً على ذلك تحالفًا دوليًا لمحاربة ذلك التنظيم، وأصبحت تلك الحرب الدولية على تنظيم الدولة مطية لدول إقليمية ودولية للوقوف في وجه الشعوب ومصادرة حقها في تقرير مصيرها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل حاولت بعض السياسات الأمريكية والغربية أن تربط بين الإرهاب في صورته السائدة وبين الإسلام، والإسلام برئ من كل ذلك.

كل ذلك ألقى بظلاله كي يكون دافعًا لنا لسبر أغوار هذه المفاهيم من الناحية القانونية المجردة في محاولة للوصول إلى تفهم الحدود التي يدور فيها كل من حق تقرير المصير وكذلك الإرهاب، إضافة إلى الأسباب التي أدت إلى الخلط بين المفهومين والمعايير التي يتم البناء عليها للتمييز بينهما، حتى يمكن لنا تحديد المعايير القانونية في ذلك وهل توجد بينها علاقة أم هي مجرد آراء سياسية لا علاقة لها بالقانون الدولي، ومن ثم يجب وضعها في هذا الإطار والتعاطي معها وفقًا لذلك، وفقًا لما تقدم فإننا نقسم هذا البحث إلى ثلاثة فصول:

الفصل الأول: حق تقرير المصير والإرهاب وفقًا لأحكام القانون الدولي.

الفصل الثاني: مشروعية استخدام القوة لنيل حق تقرير المصير.

الفصل الثالث: التمييز بين الأرهاب والحق في تقرير المصير.

ثم انتهينا إلى خاتمة وبعض التوصيات التي تساهم في حل تلك الإشكالية للتمييز بين حق الشعوب في تقرير مصيرها، وبين أعمال الإرهاب المُجرمة دوليًا.

الفصل الأول

حق تقرير المصير والإرهاب وفقًا لأحكام القانون الدولي

إن القانون الدولي قد تأثر بالأحداث والتطورات التي يمر بها المجتمع الدولي، وهذا هو حال القواعد القانونية بشكل عام فهي تنشأ لتنظم مجتمعًا معينًا في وقت معين، ومما لا شك فيه أن القانون الدولي يتأثر بالتفاعلات السياسية والاقتصادية والتي تسود المجتمع. وقد كان من أهم التطورات السياسية التي ألقت بظلالها على المجتمع الدولي هو انهيار المعسكر الاشتراكي وتفرد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في هذا الكون، وإن هذا الحدث في حد ذاته لا يعني شيئًا بالنسبة للقانون من الناحية المجردة، ولكن تحاول الولايات المتحدة أن تستغل المركز السياسي الذي تتمتع لإحداث نتائج قانونية، ولم تكن الولايات المتحدة لتستغل هذا المركز السياسي لولا أحداث معينة وبظروف معينة أعطتها الذريعة لإحداث هذه النتائج القانونية.

وترتيبًا على ذلك عاد مرة أخرى الحديث عن “الإرهاب”، و”العنف”، بعد أن تصور كثيرون أن الظاهرة دخلت فى دائرة “الأفول” ودخل مصطلح “الارهاب”– والمقابل له فى اللغة الانجليزية كلمة “Terrorism” إلى دائرة الضوء، وكان من جراء حجم الخسائر المادية والمعنوية والبشرية التى منيت بها الولايات المتحدة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام2011، أن ظهر رد الفعل الأمريكى موازياً لما واجهته هذه الدولة الكبرى فى محنة عصيبة لم تشهدها من قبل، فأعلنت الحرب على الارهاب، وأذاعت أنه لابد من العمل تحت مظلة “التحالف من أجل الأرهاب”.

وبدأت الحرب الدولية على الإرهاب، وتداعت الأحداث والسلوك الدولى بقيادة الولايات المتحدة، حيث امتد الحديث حول الارهاب إلى كل ما يبدو أنه يتعارض مع المصلحة الأمريكية والغرب وإسرائيل، وقد اتضح ذلك من خلال ذلك التداخل بين ما يسمى بالارهاب، وبين الحق فى مقاومة المحتل الغاصب للأرض والشعب والثروات، ولعل من أبرز محاولات الدول الكبرى لاستغلال هذه الأحداث هو إزالة التفرقة بين النضال من أجل حق تقرير المصير كحق مشروع وبين الاستخدام غير المشروع للقوة، هذا على الرغم من أن القانون الدولي قد رسخ الحق في تقرير المصير كحق قانوني له أصوله وجذوره وكذلك مفهومه ومحدداته.

ومن ثم فإنه من الأهمية إيضاح هذه الحدود بين “الإرهاب” الذى يتسم باللامشروعية فى عمومه، وبين حق “المقاومة” والذى يتميز بمشروعيته وفق القانون الدولى والتاريخ الإنسانى، ولإيضاح حدود هذه العلاقة يمكن تناول عدة نقاط هامة، وذلك بإبراز مفهوم حق تقرير المصير مع وجوب تحديد معالم الإرهاب الدولي والتمييز بينه وبين المقاومة المسلحة المشروعة.

المبحث الأول: حق تقرير المصير في القانون الدولي

أولًا: التطور التاريخي لحق تقرير المصير في القانون الدولي:

إن الحق في تقرير المصير يعني: أن يكون لكل شعب السلطة العليا في تقرير مصيره دون تدخل أجنبي، ولهذا الحق جوانب داخلية وأخرى دولية([2]).

وقد ظل حق تقرير المصير مبدأ نظريًا لفترة طويلة من الزمن إذ نادى به العديد من المفكرين والفلاسفة، وكان من أهم المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية عام 1789 م، وقد برز الحق في تقرير المصير كمبدأ سياسي ثم تطور إلى أن فرضته الظروف والأوضاع الدولية كحق قانوني([3]).

وقد كان من أهم العوامل التي أدت إلى الإبقاء على مبدأ حق تقرير المصير خارج نطاق قواعد القانون الدولي هي السياسات الاستعمارية التي مارستها الدول الأوروبية بما كان لها من سيطرة سياسية واستراتيجية وكذلك قانونية على المجتمع الدولي، وكانت تقوم بمعالجة موضوعات القانون الدولي من خلال وجهة نظرها ومن خلال معطياتها باعتبارها دولًا استعمارية ،وهي توزيع الأقاليم المكتشفة أو الصالحة لاستعمار تلك الدول واكتساب السيادة على المستعمرات([4]).

وبالرغم من قوة الدفع التي أحرزها حق تقرير المصير أثناء الحرب العالمية الأولى إلا أن عهد عصبة الأمم لم يشر صراحة إلى مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها وإن اعترفت به النصوص ضمنًا من خلال نصها على نظام الانتداب ووضع الأقليات([5]).

ولم تقر اللجنة القانونية الخاصة التي شكلتها العصبة عام 1920 لبحث النزاع بين السويد وفنلندا حول “جزر آلاند” مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها وذهبت إلى أنه ليس من مبادئ القانون الدولي الوضعي([6])

ومنذ الحرب العالمية الثانية فان مبدأ تقرير المصير بدأ يشق طريقه كأحد مبادئ القانون الدولي، ورسخ وجوده كأحد قواعد القانون الدولي الآمرة، وذلك من خلال التطور القانوني لهذا المبدأ، فقد وجد مكانه في تصريح الأطلنطي الذي أعلنه الرئيس الأمريكي روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل في 14 أغسطس سنة 1941 م والذي جاء فيه أنهما لا يسعيان إلى أي توسع إقليمي ويحترمان حق الشعوب في اختيار نظم الحكم التي تروق لها، كما أنه ورد في كافة التصريحات التي صدرت بعد ذلك إذ أشار إليه تصريح الأمم المتحدة عام 1942 م، وتصريح موسكو عام 1943م ، وفي مؤتمر دومبرتون أوكس في عام 1944 م وفي مؤتمر يالتا في فبراير عام 1945م، وكان ذلك بمثابة المقدمات التي أرست مبدأ حق تقرير المصير كحق قانوني ملزم وليس مبدأً سياسيًا والتي تم تتويجها بإقرار ميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرانسسكو عام1945 م([7]).

ويكتسب هذا التطور أهمية قصوى في القانون الدولي العام حيث انه شرّع لحركات التحرر باللجوء الى القوة المسلحة كأسلوب من أجل تحقيق أهدافها، كحالة مستقلة في القانون الدولي العام، كما هو الحال مع حق الدفاع عن النفس (المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة) وحق استعمال القوة من قبل مجلس الأمن (الفصل السابع)، وقد أصبح هذا الحق حقاً أساسياً في القانون الدولي وله القوة الإلزامية القصوى. ويبرز ذلك من خلال:

1- ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية وخاصةً الفقرة الثانية من المادة الأولى من الميثاق التي تحدد من أهداف منظمة الأمم المتحدة تطوير العلاقات والصداقة بين الدول:( إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام، والمادة 55 منه والتي أكدت على هذا النص بنص مماثل، وقد نصت الفقرة الأولى من المادة الأولى من العهدين الدوليين والمتعلقان بحقوق الانسان والذين على أن كل الشعوب لها الحق في تقرير مصيرها.

2- في ممارسات الأمم المتحدة، هناك الكثير من القرارات التي اتخذتها المنظمة الدولية واعتمدت بشكل شبه إجماع، ونذكر منها قرار 1514 عام 1960 وكذلك قرار 3103 عام 1978، الذي اعتبر أن كفاح الشعوب لتقرير مصيرها هو كفاح مشروع يتفق مع مبادئ القانون الدولي العام.

3- قرارات وممارسات المنظمات الإقليمية، والمؤتمرات الدولية نذكر من اهمها إعلان الجزائر،الذي أعلن عن الإعلان العالمي لحق الشعوب وذلك عام 1976.

4- قرارات محكمة العدل الدولية التي أكدت على هذا المبدأ في أكثر من حكم نذكر منها قضية ناميبيا وقضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة الأميركية، والفتوى الخاصة بالصحراء الغربية التي أصدرتها عام 1975م ، والتي أكد في كل منها على أنه حق للشعوب، وكما أن الفتوى الخاصة بالجدار العازل الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة قد أكدت على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وفي العديد من المواقع في حيثيات القرار المذكور([8])، فالمحكمة لم تؤكد فقط على هذا المبدأ بل اعتبرته حقاً من القواعد الآمرة من قواعد القانون الدولي العام.

وبالرغم من أن حركات التحرر الوطني كما سبق وأشرنا بأنها قديمة جدًا إلا إن اعتبار النزاع الذي تخوضه حركات التحرر نزاعًا دوليًا جاء متأخرًا في القانون الدولي العام .

فيما بعد تطور القانون الدولي بشكل سريع في حماية حركات التحرر حيث أنه لم يكتفِ بالاعتراف بحق الشعوب بتقرير مصيرها، وإنما أيضًا حرّم انتهاك هذا الحق وذلك بعد أن اعتبر القرار 3103 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1972 بأن كل محاولة لقمع حق الشعوب بتقرير مصيرها تعتبر أمرًا يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي العام ، وقد أكد المشروع المتعلق بمسؤوليات الدول الذي اتخذته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة في مادته التاسعة عشرة أن انتهاك حق الشعوب في تقرير مصيرها جريمة دولية.

ثانيًا: مفهوم حق تقرير المصير:

يبرز مفهوم حق تقرير المصير من خلال التطورات والظروف التي مر بها ، إذ إن حق الشعوب في تقرير مصيرها يعني أن: لجميع الشعوب حقًا ثابتًا في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومركزها الدولي دون تدخل أجنبي([9]).

وكثيراً ما يتم الخلط بين مفهوم الإرهاب بأنشطة حركات التحرر مما يستلزم التمييز بينهما احترامًا للأنشطة التي تساهم في تقرير مصير الشعوب واستقلالها، وعدم السماح للدول والأنظمة المستعمرة ان تتذرع بمواجهة الإرهاب في القضاء على هذه الحركات وإبادتها، والتاريخ حافل بالمجازر التي نفذتها الدول الاستعمارية وراح ضحيتها آلاف المقاومين ونشطاء حركات التحرر([10]).

وقد ثار الخلاف بوجه خاص بالنسبة إلى الأعمال التى تمارسها جماعات التحرير أثناء الحرب وما إذا كانت تعتبر إرهابًا أو جريمة حرب، وقد كان هذا الخلاف أحد الدوافع نحو العجز عن الوصول إلى تعريف عام للإرهاب فى مشروع عقد اتفاقية عامة للإرهاب بواسطة الأمم المتحدة.

هذا وتبدو مشكلة التمييز عسيرة في بعض المواقف تجاه حركات التحرر والمقاومة، فالذين يؤيدون هذه الحركات يرون أن أنشطتها كافة لاسيما تلك التي تتسم بالعنف تعد وسيلة مشروعة لانتزاع حقوق الشعوب ونيل مطالبها، بينما يرى الجانب الآخر ان أنشطة هذه الحركات حتى تلك التي لا تتسم بالعنف غير مشروعة وأعمالًا إرهابية، إزاء ذلك نجد أنه من المناسب البحث في مفهوم حركات التحرر أو المقاومة.

1- مفهوم حركات التحرر الوطني:

من الصعب وضع تعريف جامع لمفهوم حركات التحرر الوطني، غير أن بعض الفقهاء سعى في هذا المجال؛ حيث إن الدكتور صلاح الدين عامر ذهب إلى القول بأن اعمال المقاومة الشعبية المسلحة هي:( عمليات القتال التى تقوم بها عناصر وطنية من غير أفراد القوات المسلحة النظامية دفاعًا عن المصالح الوطنية أو القومية ضد قوى أجنبية سواء كانت تلك العناصر تعمل في إطار تنظيم يخضع لإشراف وتوجيه سلطة قانونية أو واقعية، أو كانت تعمل بناءً على مبادرتها الخاصة، وسواء باشرت هذا النشاط فوق الإقليم الوطني أو من قواعد خارج هذا الإقليم )([11]).

غير أن من الفقهاء من وضع عناصر معينة مميزة لحركات التحرر الوطني عن غيرها من الحركات الانفصالية أو الإرهابية, ومن هذه العناصر([12]):

أن الهدف من حركات التحرير الوطني هو تحقيق التحرر .
2- وجود الأراضي الداخلية أو الخارجية التي تسمح للحركات أن تباشر عملياتها العسكرية بمعنى أن توجد مناطق محررة تقيم عليها مؤسساتها الإدارية والتعليمية والعسكرية.

3- أن يتعاطف الشعب مع حركات التحرير والمقاومة وتلقى دعمًا وتأييدًا واسعًا من المواطنين .

4- يجب أن تتسم أهداف حركات التحرير بدافع وطني يتجاوب ويتلائم مع المصلحة الوطنية العليا، وهوما يميز حركات التحرير عن الأعمال التي تستهدف مصلحة خاصة لبعض الفئات من المواطنين، أو تتنافس أو تتناحر للسيطرة على السلطة، أو فرض فلسفة معينة، أو الحرب من أجل انفصال إقليم معين أو جزء من الدولة, وقد أباح االقانون الدولي لرجال المقاومة اللجوء إلى كل الوسائل الممكنه لانهاك قوات الإحتلال، ومنها بطبيعة الحال الحق في استخدام العنف كما يمكن أن تكون المقاومة مدنية لاعسكرية.

إن حق تقرير المصير لا ينطوي على الجانب السياسي فقط بل يشمل الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولكن إذا أخذناه بالمفهوم الضيق فهو يعني إقامة دولة مستقلة ذات سيادة أي أنه يعبر عن الجانب السياسي لهذا الحق المتمثل في حق الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية في أن تنال استقلالها([13])، ووفقًا لذلك فإن مفهوم حق تقرير المصير يستوجب:

أولا: وجود شعوب واقعة تحت السيطرة الاستعمارية، أي وجود شعوب خاضعة لاستعمار أجنبي وسيطرته واستغلاله.

ثانيًا: تمكين تلك الشعوب من التعبير الحر حول مستقبلها، بحيث يمكنها أن تتحد أو تندمج مع دولة أخرى مستقلة، أو أن تحصل على استقلالها الخاص، أو أي مركز ترتضيه لنفسها([14]).

وقد ذهب رأي آخر إلى اشتراط أن يكون هناك حالة احتلال فعلي ووجود قوات الاحتلال داخل الأراضي المحتلة، وأن يقوم بأعمال المقاومة أفراد من الشعب المحتلة أراضيه، وأن تتم عملية المقاومة ضد قوات الاحتلال العسكرية، وأن تكون أعمال المقاومة داخل حدود الأراضي المحتلة وليس خارجها([15]).

لكن هذا الشرط الأخير قد لا يتوفر إذا ما تمت عملية المقاومة خارج حدود الأرض المحتلة، إذ يمكن أن تنتقل المقاومة إلى خارج الإقليم المحتل نظرًا لإجراءات القمع أوالمتابعة التي يعتمدها الاحتلال في المطاردة والتقصي حول أفراد المقاومة أينما كانوا، وهذا قد يؤدي إلى القيام بعمليات خارج الوطن ضد المنشآت أو مصالح المحتل([16]).

وثمة صلة وثيقة بين حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي ومبدأ تساوي الشعوب في الحقوق فكلاهما تشكلان قاعدة واحدة من قواعد القانون الدولي، وهذا ما جاء في تقرير اللجنة الفرعية حول الفقرة الثانية من المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة “مبدأ تساوي الشعوب في الحقوق ومبدأ تقرير المصير هما عنصران مكونان لقاعدة واحدة([17]).

2- الجماعات التي تتمتع بحق تقرير المصير:

إن الإطار القانوني لحق تقرير المصير من حيث مفهومه ومن حيث ممارسته قد رسمته الأحداث والتطورات الدولية أكثر مما رسمته النصوص الدولية، أي أن العرف الدولي لعب دورًا هامًا في هذا المجال، ومن ضمن الإشكاليات التي تثور بشأن حق تقرير المصير هي ماهية الجماعات التي تتمتع بحق تقرير المصير، فالجدل الفقهي يدور بين اصطلاحين لكل منهما مفهومه وهما (الأمة) و(الشعب) وقد ثار هذا الجدل نتيجة لاستخدام نصين لكل من الاصطلاحين للإشارة إلى حق تقرير المصير، وكانت البداية في عهد عصبة الأمم في المادة 22 والتي نصت على: “إن بعض الجماعات التي كانت تتبع الدولة العثمانية فيما مضى قد بلغت من الرقي والتقدم ليستطاع معها الاعتراف بها أممًا مستقلة” .

كما أن ميثاق الأمم المتحدة قد أشار إلى حق تقرير المصير في المادة1/2 والتي نصت على: ” ضرورة إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أسس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وأن يكون لكل منها تقرير مصيرها”

وعلى ضوء ذلك فإننا إذا أخذنا ما ورد في عهد عصبة الأمم وكذلك ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة يمكن القول أن تعريف الأمم هي([18]): “الدول في عهد العصبة؛ حيث تم الربط بين الاعتراف وبين الأمم المستقلة، فإن هذا يعني بلا شك الدول فإنها هي التي تتصف بالاستقلال وهذا يعني اكتسابها للشخصية القانونية عن غيرها من الكيانات الأخرى، وكذلك فإن الدول تكتمل شخصيتها القانونية الدولية بالاعتراف بها.

وهذا ما يذكره ميثاق الأمم المتحدة “إنما العلاقات الودية بين الأمم” وهذا خطاب موجه للدول القائمة أن تقوم هذه العلاقات الدولية بين الدول على أسس من المساواة مع الشعوب والكيانات الأخرى التي لم تحصل على استقلالها، وكذلك حقها في تقرير مصيرها.

وعلى ذلك فإن الأمم هي الدول وهذا ما تؤكده كل من الأمم المتحدة وكذلك عصبة الأمم بعضوية كل منها هي للدول فقط المكتملة السيادة.

أما الشعوب فهي الجماعات البشرية من الجنسين والتي تتميز عن غيرها بروابط مشتركة من وحدة المصير، ويقطنون إقليم معين، وتعمل من أجل نيل حق تقرير المصير، وهذا ما يمكن استخلاصه من خلال التجربة الدولية في التعاطي مع حق تقرير المصير، أما مفهوم الشعب الذي يكون له الحق في تقرير المصير فهو: أفراد الجماعة الإقليمية الذين يرتبطون بمجموعة من الروابط العامة من تاريخ ولغة وتقاليد وعادات مشتركة، ويتطلعون إلى مصير ومستقبل واحد([19]).

وبالرغم من أن مبدأ حق تقرير المصير مبدأ دولي؛ إلا أنه لا يتعلق بدول كاملة السيادة فحسب، بل يتعلق بالشعوب والأمم، فالإعلان الوارد في المادة الأولى الفقرة الثانية “تساوي حقوق الشعوب بصفتها شعوبًا يثبت لها الحق في تقرير المصير، ويظل كامنًا فيها، وهي المخاطبة بهذا الحق، ويمنحها حقوقًا أخرى أهمها الحق في النضال من أجل نيل هذا الحق، وحقها في تحديد وضعها دون تدخل أجنبي، ويفرض التزامات على الدول باحترام هذا الحق”([20])أ

المبحث الثاني: الإرهاب الدولي

إن ظاهرة الإرهاب الدولي ظاهرة قديمة يعود ظهورها إلى القرن الثامن عشر، مع بداية ظهور الثورات والانتفاضات الشعبية، وبالتحديد في القانون المتعلق بالإرهاب الصادر في 1794 كوسيلة لمحاربة القائمين بالثورة الفرنسية؛ حيث كان هذا المصطلح يعني كل عمل إجرامي يرتكب ضد الثورة بعد ظهور الجمهورية الأولى أو ما عُرف بالدولة اليعقوبية وأجهزتها الحاكمة([21]).

وتخبرنا الأحداث التاريخية عن وقوع تجاوزات للجماهير تحت تأثير الحماسة الوطنية حين تحولت أعمال الرعب كرد فعل تلقائي على حكم إرهابي، انتهى في الأخير بسقوط روبسبير “Robespierre“ الذي أُعدم بعد محاكمته في ساحة الثورة، باعتباره إرهابيًا فكان بذلك أول استعمال للمصطلح في اللغة الفرنسية([22]).

أولًا: إشكالية وضع تعريف محدد لمفهوم للإرهاب:

كلمة إرهاب من مصدر أرهب، يرهب، إرهابًا، و فعله المجرد رهب، والإرهاب الخوف والخشية، والوجل، كلمات متقاربة تدل كلها على الخوف([23]).

و قد جاء في مقاييس اللغة لأحمد بن فارس، رهبت الشيء رهبًا و رهب، و رهبة، والترهب هو التعبد، ومن باب الإرهاب كذلك قدح الإبل عن الحوض([24]).

أما إذا رجعنا إلى أصل الكلمة بمفهوم الرعب والقسوة والعنف، نجدها تنحدر من اللغة اللاتينية ثم انتقلت إلى لغات أخرى فيما بعد؛ إذ أن الإرهاب بمعنى Terrorisme ظهر بعد الثورة الفرنسية بدءًا من عامي 1792 و 1794، وهي مشتقة من كلمة Terreur المشتقة بدورها من أصل لاتيني هو Terrèrأو Tersèreبمعنى جعله يرتعد ويرتجف، كما أن فعل Terroriser في قاموس المنهل هي روع، و جاء تصريفها ترويع و الإرهابيين Terroristes([25]).

ونلاحظ أن التعريف اللغوي يختلف من حيث المعنى بالنسبة لكلمة إرهاب من اللغة العربية إلى الأجنبية ، فإذا كانت كلمة إرهاب تفيد الهلع، والفزع والرعب والترويع في اللغة الفرنسية مثلًا، فهي تحمل معنى الخوف المصاحب للتقديس والتعبد والانبهار والخشوع، كما جاء في قوله تعالى: “ويدعوننا رغبًا ورهبًا” ([26]).

ووفقا للمعجم القانوني بلاك BLACK فإن الرهبة Terreur تُعرف بأنها: ذعر أو رعب أو فزع أو حالة ذهنية تسببها خشية من خوف وقوع ضرر جراء حادث أو مظهر مُعاد أو متوعد، أو هي خوف يسببه ظهور خطر الإرهاب Terrorisme([27]).

ومن خلال ما سبق يبدو أن هناك سوء استعمال، أو ربما خطأ في إطلاق كلمة إرهاب على تلك التعريفات المتداولة في الدارسات العربية، لأن هناك فرق مهم يتجلى في لفظ الكلمة ومعانيها لغويًا بين العربية واللغات الأجنبية، ويتمثل ذلك من الناحية اللغوية بين ما يدخل في دائرة الإرهاب بمعناه الصحيح الذي يعني حالات الخشوع والرهبة والخوف المصحوب بالتقديس والإعجاب الشديد والانبهار بالشيء، وما يحدث في النفس من تأثير وجداني؛ حتى وإن سببته مؤثرات روحية أو مادية، وهذا ما يطلق عليه لغويًا “إرهابًا” في مقابل ما يمكن إدخاله في دائرة أخرى، والتي تعني لفظًا ومعنًا الرعب، العنف، الاضطراب، البطش، و الهلع بالمفهوم الغربي، وهذا ما نستطيع أن نطلق عليه “إرعابًا” وليس “إرهابًا([28]).

فالإرعاب أو الإرهاب بمعناه العام هو ذلك التخويف، والتفزيع الصادر عن نزعة عدوانية، وهو يساوي دائما البطش، كما يتمثل في أساليب اتخذها الاستعمار كوسيلة لبسط نفوذه على البلاد التي يريد احتلالها([29]).

وبالمفهوم الاصطلاحي البسيط البعيد عن الأغراض والأبعاد السياسية، يظهر من الناحية العملية أن الإرهاب في مفهومه العام هو تنفيذ عمل يتسم بالعنف يراد منه بث الرعب في المدنيين

أو الأبرياء، وقد كان هذا النوع من الإرهاب واسع الانتشار في دول الغرب، وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة؛ حيث إن المجانين والمرضى النفسانيين، والمجرمين وجماعات المافيا، والمغامرين، واللصوص، كل هؤلاء يلجئون إلى هذه الوسيلة لتحقيق مآربهم وأغراضهم الشخصية فيختطفون الرهائن، ويطالبون بالأموال كفدية ويقومون بالقتل والتنكيل.

وعلى هذا الأساس أصبح مفهوم الإرهاب نسبي ككل المفاهيم المرتبطة بالحياة الاجتماعية والسياسية؛ لذلك يأتي استخدامه مختلفًا بين كاتب وآخر، وبين جهة سياسية وأخرى، بالإضافة إلى كون هذا الاستخدام لا يتبلور عادة سوى في إطار برنامج إعلامي، أو حملة إعلامية هادفة يتوخى من خلالها صاحب المفهوم التأثير على الرأي العام، حتى لو تغلفت المصالح السياسية بكلام يغلب عليه الطابع الإنساني([30]).

وقد تبين في كثير من المناسبات مدى تأثير الإعلام في الرأي العام تحت ضغط الجهات القوية في العالم، فنجد الالتفات إلى ظاهرة الإرهاب لا تكون بالحدة والاهتمام اللازم إلا عندما تُضرب مصالح فاعلة في المجتمع الدولي، وخير دليل على ذلك هو عدم الخوض في موضوع الإرهاب بالقدر الذي كان يجعل الكثير من الحوادث التاريخية تأخذ مسارًا آخرًا، فقد كانت المجموعة الدولية بما تحتويه من منظمات ومؤسسات ودول فاعلة ساكتة على ما يقع من أعمال إجرامية تدميرية في حق شعوب كثيرة، ولم تتفطن إلى هذه الأعمال الإرهابية إلا بعد أحداث ميونيخ بألمانيا سنة 1972 حين تعرض الفريق الإسرائيلي للاغتيال الجماعي من طرف جماعة سبتمبر الأسود الفلسطينية.

هنا فقط انتفضت دول الغرب لمواجهة هذا الخطر، على الرغم من أن الأعمال الإرهابية كانت منتشرة قبل ذلك فيما تقوم به الدول الاستعمارية في بلدان الشعوب المستضعفة من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة في فيتنام واليابان وإسرائيل في فلسطين، وكذلك الشأن لما حدث في 11 سبتمبر 2001، إذ كان العالم في غفلة عن البحث في التصدي الجاد لظاهرة الإرهاب رغم الاتفاقيات الدولية ونصوص الميثاق الأممي التي أدانت الظاهرة بكل مركباتها وأبعادها، إلا أنها لم تنهض هذه النهضة العارمة في وجه ما يسمى بالإرهاب إلا عندما زلزلت أركان الدولة الأمريكية، واخترق التحدي الإرهابي كبرياء البيت الأبيض بإعلان الحرب على الولايات المتحدة من الداخل، فتأهبت الترسانة العالمية للوقوف وقفة صارمة في وجه هذا الشبح ومطاردته إلى أقصى بقاع الأرض، على الرغم من أن الإرهاب كان يضرب و بقوة كثيرًا من أراضي المعمورة ، ومس الكثير من البلدان خاصة في القارة الإفريقية والشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن أرواح الذين سقطوا في تلك الظروف تفوق عدد ضحايا تفجير المركز التجاري بنيويورك، و نفس الشيء بالنسبة لما حدث للشعب الفلسطيني الذي يعاني من أعمال التدمير والتخريب والنهب والخطف وكل ما يشير من معان لمفهوم الإرهاب سواء كان داخليًا أو دوليًا، لكن دون جدوى في إيجاد الحل المتمثل قانونيًا في تسليط العقوبة الفعلية على الفاعل، ما دام معروفًا لدى الرأي العام الدولي، لكن المعطيات السياسية و المصلحية وميزان القوى حال دون ذلك، فهناك نظرة ازدواجية لهذه الظاهرة القديمة الجديدة.

لذا، فإن المقاربات التي توصل إليها الباحثون تشترك في ثلاثة عناصر في تعريف الظاهرة، استعمال العنف، الأهداف السياسية، و نية زرع الخوف في جمهور معين ، تبقى مجرد وجهات نظر غربية قد تتفق أو لا تتفق مع التعاريف العربية مثلًا أو البلدان الإسلامية الأخرى، لأن وجهة نظر الغرب مغايرة لما تراه دول العالم لما هو الإرهاب بصفة عامة([31]).

وعليه، فإن أهم ما يدور حوله النقاش في تحديد مفهوم الإرهاب هو مشكلة التعريف، وأن التعريف قد أصبح مشكلة نظرًا للصعوبة التي تحيط به والتي ترجع إلى العديد من الأسباب التي ترتد في معظمها إلى طبيعة العمل الإرهابي بذاته، واختلاف نظرة الدول له، فما يراه البعض إرهابًا يراه البعض الآخر عملًا مشروعًا، فما يزال تعريف الإرهاب حتى يومنا هذا يمثل مشكلة كبرى أمام الباحثين في هذه الظاهرة، سواء القانونيين أو غيرهم.

وقد تعددت أقوال الباحثين حول الأسباب التي أدت إلى إثارة مثل هذه الصعوبة حول تعريف الإرهاب، والذي يعد الخطوة الأولى على طريق التوصل إلى حل جذري لهذه المشكلة، فالبعض يرجع صعوبة التعريف إلى ممارسات الدول الكبرى، كما أن الارهاب على المستوى الدولي لايعد جريمة في حد ذاته لكنة تسمية أو مظلة ينضوي تحتها عدد من الجرائم المعرفة، في حين يرجع البعض هذه الصعوبة إلى تشعب الارهاب وتعدد أشكاله وأهدافه، وتعدد البواعث والدوافع لارتكاب هذه الجريمة، بينما يفسر البعض ذلك بتعدد الباحثين الذين يدرسون الظاهرة، واختلاف أطرهم المرجعية وتخصصاتهم، وكذلك الاختلاف حول نمط العنف الموصوف بالإرهاب، كما أن الإرهاب أحد أساليب الصراع السياسي الذي يمكن أن تلجأ إليه كل القوى السياسية، فقد استخدمته الثورة الفرنسية بمعنى العدالة، واستخدمه الثوار الشيوعيون في روسيا أثناء الحرب الوطنية هناك، وكذلك عناصر الثورة المضادة لها([32]).

وقد ترتبت عدة نتائج على صعوبة تعريف الإرهاب سواء على المستوى الدولي أو المستوى الوطني من أهمها:

أ) إرجاء بلورة الجهود الدولية المتصلة لوضع اتفاقية عالمية لمكافحة تلك الجرائم.

ب) اختلاط الأمور وتبرير أعمال الإرهاب نفسها باعتبارها إرهابًا مضادًا أو كفاحًا للقضاء على الارهاب.

ج) الانتقائية والعشوائية في وصف الأفراد والجماعات والدول بالإرهاب، وفقًا للأهواء والمصالح السياسية لكل طرف.

د) شيوع القول بأن الإرهابي – في نظر البعض – محارب من أجل الحرية في نظر البعض الآخر.

ه) اختلاط الإرهاب بصور العنف السياسي الأخرى كالجرائم السياسية والحروب بأنواعها، سواء كانت حروبًا تقليدية أو حروب تحرير أو عصابات، وكذلك مع صور الإجرام المنظم والعابر للحدود، ومع العصيان والانقلابات([33]).

ويرى البعض بأن تعريف الإرهاب ذو طابع “فنى” بالدرجة الأولى، وهو ما يتسق مع النظر إلى الإرهاب “كأداة” أو “وسيلة” لتحقيق أهداف شتى معينة؛ ولذلك فإن النظر إلى الإرهاب يجب أن يرتبط بأهدافه وبالأطر المنغمسة فيه، لفهم وتحليل الظاهرة الإرهابية على نحو أفضل، ويطرح بالتالى ثلاثة معايير تساعد على تصنيف الارهاب السياسى هى([34]):

المعيار الأول: الهدف من الفعل الارهابى للتفرقة بين “الإرهاب الثورى” المتجه إلى قوة أجنبية مستعمرة، أو نظام قائم مستبد غير ديموقراطى، وبين “الإرهاب المضاد للثورة” لتكريس السيطرة والنفوذ الأجنبيين أو تدعيم أشكال الديكتاتورية والاستبداد واللامساواة.

المعيار الثانى: هوية الطرف الذى يقوم بالفعل الارهابى للتمييز بين القائم بالفعل الإرهابى (فردًا أو جماعة غير رسمية) وبين القائم بذلك مؤسسة رسمية تابعة لجهاز الدولة أو الدولة نفسها، ومن ثم يمكن التفرقة بين “إرهاب رسمى ومؤسسى”، أو “إرهاب غير رسمى”.

المعيار الثالث: النطاق الذى يتم فيه الفعل الإرهابى، ويمكن الحديث إذن عن “إرهاب وطنى أو محلى” (ينتمى أطرافه كلها إلى مجتمع واحد ودولة واحدة)، وعن “إرهاب دولى” (ينتمى أطرافه إلى أكثر من دولة واحدة وتمتد أصداؤه الى المجتمع الدولى ككل).

وفى ضوء ما سبق فإنه يمكن القول بأن مصطلح “الإرهاب” يسوده بعض الغموض والتداخل بين اجتهادات التعريف به، ومن ثم فهو مصطلح ليس محل استقرار ويحتاج إلى جهد أكاديمى وجهد سياسى من خلال اتفاقيات دولية ملزمة، وفى المعنى الأخير يمكن الاجتهاد بأن الإرهاب هو: ( كل فعل مجرم وليست له أية شرعية، من شأنه تخويف الآخرين سواء باستخدام العنف المسلح أو ما دونه من درجات، بقصد إما لفت النظر إلى مسألة ما يعتنقها أصحاب الفعل أو استخدام الفعل كوسيلة لتحقيق مصالح ضيقة غير مشروعة، يكون من شأنها ترويع الآمنين، وسواء كان ذلك على المستوى الوطني أو الدولي).

الفصل الثاني :مشروعية استخدام القوة في القانون الدولي

من أهم انجازات ميثاق الأمم المتحدة هو تحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية أو التهديد بها إلا في بعض الحالات الاستثنائية والمحددة على سبيل الحصر.

ومن أهم مظاهر استخدام القوة في العصر الحديث هو النضال من أجل نيل حق تقرير المصير، وهذا يثير جدلًا حول مشروعية استخدام القوة بشأن نيل حق تقرير المصير وأسانيده القانونية.

المبحث الأول: الطبيعة القانونية لحق تقرير المصير

بداية لابد من التأكيد على أن الحديث عن المقاومة وعن حركات التحرر الوطني وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها كان لا يمكن ان يحصل لولا وجود الاحتلال والاستيطان ووجود أنظمة عنصرية بطبيعتها، فمبرر وجود حركات التحرر الوطني والمقاومة هو الاحتلال ذاته، فالاحتلال هو الفعل والمقاومة هي ردة فعل؛ لذلك فإن مقاومة الشعب الفلسطيني مثلًا وانطوائه تحت راية حركات التحرر الوطني مرتبطة إرتباطاً مباشراً بالنكبة وبنشوء الكيان الصهيوني، وإذا كانت المقاومة الفلسطينية نشأت قبل النكبة؛ إلا أن نشوء هذا الكيان حول مقاومة الشعب الفلسطيني ليس فقط إلى مقاومة تعمل على تحرير الأرض من الاحتلال؛ إنما أيضًا إلى حركة تحرر وطني تمثل الشعب الفلسطيني بأكمله، وحاملة آماله في بناء دولة فلسطينية عليها.

وعليه فإن حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها باللجوء إلى استعمال القوة المسلحة كأسلوب لتحقيق هذا الحق يعتبر أمرًا طبيعيًا ومشروعًا، وخاصةً بعد أن حرّم القانون الدولي العام الإحتلال والعدوان، وهذا ما جاء به ميثاق الأمم المتحدة في الفقرة الرابعة من المادة الثانية منه التي حرمت ليس فقط استعمال القوة، وإنما ايضًا التهديد بها في العلاقات بين الدول.

وقد أكد على ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2625 والمتعلق بإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول، والذي جاء فيه: “على أنه واجب على كل دولة الامتناع في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي نحو آخر يتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة”، كما أن القرار يعتبر أيضاً أنه: “واجب على كل دولة الامتناع عن التهديد باستعمال القوة واستعمالها لخرق الحدود الدولية القائمة لدولة أخرى”، وفيما يتعلق بالاحتلال اعتبر القرار أنه: “لا يجوز إخضاع إقليم أي دولة للاحتلال العسكري” كما أنه “لا يجوز اكتساب إقليم أي دولة من قبل دولة أخرى”.

وبذلك يكون حق الشعوب في تقرير مصيرها قد أصبح قاعدة آمرة في القانون الدولي، فكل شعوب العالم لجأت في تاريخها إلى المقاومة المسلحة بهدف الدفاع عن بلادها واستقلالها وحريتها، فالمقاومة المسلحة التي تلجأ إليها الشعوب تعتبر جزءًا اساسيًا من الإرث الإنساني العالمي.

إلا أن نضال هذه الشعوب ضد الاستعمار والاحتلال كان ولمدة طويلة يعتبر نزاعًا داخليًا ولا يعتبر صراعًا دوليًا؛ ويعود السبب في ذلك إلى كون الدول الاستعمارية كانت ترفض الاعتراف لهذه الشعوب بحقها في المقاومة؛ لذلك انتظرت الانسانية نهاية الحرب العالمية الثانية حتى ينتزع رجال المقاومة العسكرية حقهم ومكانتهم في القانون الدولي العام، وذلك مع صدور اتفاقيات جنيف عام 1949 وخاصةً في المادة الرابعة فقرة (أ) البند الثاني من الاتفاقية الثالثة التي خُصصت للمقاومة ورجالها([35]).

إن هذا التحول في القانون الدولي العام يعود السبب الأساسي فيه إلى أن بعض الدول الأوروبية الاستعمارية وجدت نفسها تخضع للاحتلال العسكري المباشر لها أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما كانت في الوقت ذاته تستعمر دول وشعوب أخرى.

هذا بالنسبة إلى المقاومة، أما بالنسبة إلى حركات التحرر وحق الشعوب بتقرير مصيرها، فإن هذا الحق في الأساس قديم جداً أكدت عليه الثورة الفرنسية عام 1789، إلا ان التطور الأساسي فيما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها جاء في النضال الذي خاضته هذه الشعوب في القرن الماضي ضدّ الاستعمار، فقد فرض هذا النضال نفسه على صعيد القانون الدولي بإنشاء وضع قانوني خاص لهذا النضال باعتبار النزاع الذي تخوضه حركات التحرر ذا طابع دولي.

وهكذا وُضع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها في إطاره العملي والقانوني، بحيث لم يعد مبدًأ من مبادئ القانون الدولي فقط، بل أيضًا حقًا يجب ممارسته عبر حركات التحرر الوطني.

وقد ثار الجدل حول الطبيعة القانونية لحق تقرير المصير وهل هو حق أم مبدأ؟ علمًا بأن ميثاق الأمم المتحدة أسبغ عليه هاتين الصفتين، وقبل أن نسبر أغوار هذا الحق والصفات التي يحملها يجب أولا أن نحدد الصفات ونرى مدى توافرها في حق تقرير المصير.

فالمبدأ: “هو كل قاعدة تبلغ من العمومية والأهمية ما يجعلها أساسًا للعديد من القواعد التفصيلية المتفرعة عنها”([36]).

أما الحق فهو كما يعرفه فقهاء القانون فإنه: “مصلحة مادية أو معنوية مقررة لشخص قبل آخر يحميها القانون”([37]).

أما من حيث مدى تمتع حق تقرير المصير بأي من هذه الصفات فمن المؤكد أنه قبل الحرب العالمية الأولى لم يكن إلا مبدأ سياسيًا يفتقر إلى الصفة الإلزامية أما بعد الحرب العالمية الأولى وقبل إقراره من ميثاق الأمم المتحدة فإن هناك من يرى أنه كان معترف به كمبدأ عرفي نشأ بالاتفاق بين الدول([38]).

إلا أن الأمر اختلف بعد إقرار ميثاق الأمم المتحدة بشأن القيمة القانونية لحق تقرير المصير، إذ ظل فريق من الفقه يصر على عدم إلزامية حق تقرير المصير وعدم اعتباره حقًا قانونيًا، وذهب فريق آخر إلى اعتباره حقًا قانونيًا ملزمًا ([39]).

وبالنظر إلى تطور حق تقرير المصير ومنذ الإرهاصات الأولى لهذا الحق يمكن ملاحظة التردد الكبير الذي صاحب آراء بعض الدول ذات الأهمية، وأبرز مثال على ذلك المملكة المتحدة على اعتبار أنه غامض يصعب تحديد المقصود به، كما أنه يمس السيادة وعلى ذلك لم تكن لتقبل مبدأ تقرير المصير على أنه مبدأ قانوني وإنما على أنه مبدأ سياسي([40]) .

وشايعها في ذلك جزء من الفقه الدولي نظرًا للاعتبارات السابقة حتى بعد صدور ميثاق الأمم المتحدة، واُعتبر في وجهة نظر هذا الجزء من الفقه على أنه شكل تدخلًا في الشئون الداخلية للدول وهذا ما تحرمه الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة([41]).

ويذهب أنصار هذا الرأي إلى القول بأنه ليس لحق تقرير المصير سوى قيمة سياسية أو أدبية ولا يترتب عليه أي قيمة قانونية ملزمة، إذ أن الميثاق عبر عنه أحيانًا بطبيعة مبدأ وليس حق ؛ وعلى ذلك فإن ما ذكر في الميثاق لم يرد إلا على سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، كما وأن إعمال هذا الحق يقتضي تحديد مضمون أفكار غير قانونية كالشعب أو السكان أو الأمة([42]).

إلا أن غالبية الفقهاء تؤكد على القيمة القانونية الملزمة لحق الشعوب في تقرير مصيرها وكذلك الدول، ويرى هذا الرأي أن هذا الحق قد استقر ويعتبر كأحد المبادئ الأساسية للقانون الدولي المعاصر، وأنه الشرط الأساسي لكافة حقوق الإنسان والحريات الأساسية([43]).

ويذهب هذا الرأي إلى أن الحق في تقرير المصير بإدراجه في ميثاق الأمم المتحدة وبتحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية، وفي الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وانحسار حركة الاستعمار، قد غدا من المبادئ الأساسية للجماعة الدولية ذات الطبيعة القانونية الملزمة ولم يعد مجرد مبدأ سياسي أو أخلاقي، وذلك لوجود الصلة القوية والرابطة المتينة بين هذا الحق وبين الحفاظ على السلم والأمن الدوليين؛ ومن ثم فإن هذا الحق يتمتع بصفة مزدوجة ذات طبيعة قانونية ملزمة وذات بعد سياسي، وهذا لا يُضعف من القوة الإلزامية لهذه الحقوق والمبادئ([44]).

وفي معرض الرد على الرأي الأول الذي لا يرى من هذا المبدأ إلا مبدأ سياسيًا ، فإنه قد ورد في ميثاق الأمم المتحدة، وأن أحكام الميثاق غير قابلة للتجزئة وأن مبدأ تقرير المصير يرتبط أساسًا بمبادئ أخرى أهمها: مساواة الشعوب في الحقوق وهما عنصران يكونان لقاعدة واحدة وهذه القاعدة مرتبطة بقاعدة عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول والشعوب، مما يترتب عليها أن لكل شعب حرية اختيار نظامه السياسي والاقتصادي والثقافي([45]).

كما ويرتبط مبدأ حق تقرير المصير بتحريم اللجوء للقوة أو التهديد باستخدامها والتي تشكل أساس العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، كما ولا يجوز لأي دولة من الدول أن تتذرع بالبعد السياسي لهذا الحق كي تتحلل من الإلزام القانوني مهما كانت مبرراتها التي تستند إليها، وهي مبررات واهية غامضة تحتاج إلى إيضاح، كما أنه لا يعيب المبدأ القانوني أنه في حاجة إلى تفسير في بعض الأحيان وهذه مهمة التفسير في النظام القانوني([46]).

وهذا الدور التفسيري قامت به قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي ينظر إليها على أنها توصيات إلا إنها لا تنشئ تقرير المصير ابتداء، وإنما الذي قرر هذا المبدأ نصوص ميثاق الأمم المتحدة ، وكما أنها يمكن أن تعتبر تفسير رسمي لنصوص الميثاق([47]).

وباعتبار حق تقرير المصير بأنه من القواعد الدولية الآمرة مما يترتب على ذلك:

-1 أن مخالفة قاعدة تقرير المصير يمثل جريمة دولية ([48]) ، إذ أن لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة ذكرت أنه من الجرائم الدولية “الانتهاك الحاد لإلزام دولي ذو أهمية أساسية لحماية حق تقرير المصير مثل تأسيس أو إبقاء الحكم الاستعماري بالقوة”([49]).

-2 كما وأن من حق الشعوب أن تعمل على نيل هذا الحق بكافة السبل السلمية وإذا لم تستطع فلها الحق القانوني في الكفاح المسلح من أجل إعمال هذا الحق([50]).

-3 وإعمالًا لنصوص معاهدة فينا لقانون المعاهدات في المادة (53) فإن أي معاهدة دولية يتم إبرامها مخالفة لحق تقرير المصير فإنها تكون باطلة بطلانًا مطلقًا.

بقي أن نشير أخيرًا أن الاعتراف بشرعية المقاومة وحركات الكفاح المسلح لاتستلزم تبعاً لذلك مشروعية تصرفاتها فقد كفلت الشرائع, والقوانين حق المقاومة, وفرقت بين المقاومة, والإرهاب المتمثل بقتل المدنيين الأبرياء ، فالمقاومة قد تأخذ أشكالاً متعددة منها السلمي, والفكري, ومنها المقاومة المسلحة وفي الأخيرة يجب التقييد بعدم المساس بالثوابت المجمع عليها دولياً في أعمال الكفاح المسلح.

المبحث الثاني: مشروعية استخدام القوة من أجل نيل حق تقرير المصير

أولًا: مشروعية استخدام القوة وفقًا لميثاق الأمم المتحدة:

يتضح من خلال النصوص الواردة في ميثاق الأمم المتحدة أنه تم تحريم استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في نطاق العلاقات الدولية تحريمًا عامًا، وهذا أحدث تغييرًا جوهريًا في مفاهيم القانون الدولي التقليدي الذي كان يسمح باستخدام القوة في تسوية المنازعات بين الدول([51]).

إلا أن هذا التحريم لاستخدام القوة قد وردت عليه عدد من الاستثناءات الواردة على سبيل الحصر وهي:

الدفاع الشرعي: إذ بموجب المادة ( 51 ) من الميثاق احتفظت الدول بحقها في الدفاع عن نفسها إذا تعرضت لأي عدوان، وكذلك التدابير المتخذة من قبل مجلس الأمن وفقًا لأحكام المادة 43 من الميثاق: فقد أجاز الميثاق لمجلس الأمن أن يتخذ من التدابير وبطريق القوات الجوية والبحرية والبرية مايلزم لحفظ السلم والأمن الدوليين.

أما فيما يتعلق بحق تقرير المصير فإن تجربة الأمم المتحدة قد حددت المشروعية لنيل ذلك الحق وفقًا لأسلوبين وهما:

الأول: الطرق السلمية وأبرز طريقة لذلك هي الاستفتاء تحت إشراف جهات محايدة وذلك كالأمم المتحدة لضمان عدم تحريف نتائجها.

الثاني: استخدام القوة من جانب الشعوب للمقاومة المسلحة ضد قوى الاستعمار والتسلط الأجنبي وهي ما تُعرف بحركات التحرر الوطني، إذ أن حركات التحرر الوطني تستند إلى حق الشعب في

استعادة إقليمه المغتصب، وتستمد كيانها من تأمين الجماهير لها، حتى ولو كانت لا تسيطر على

الإقليم أو على جزء منه، فإذا لم يقبل الشعب بالغزو العسكري وأظهر تصميمه بطريقة أو بأخرى على استعادة حريته فإن سيادته حتى ولو جرحت وقيدت ولجأت إلى منفى تظل قائمة ومستمرة من الناحية القانونية”([52]).

أما المبررات القانونية من أجل مشروعية النضال من أجل نيل حق تقرير المصير فإنها تستند إلى عدة مبادئ وأسس قانونية ملزمة في القانون الدولي المعاصر، وعلى ضوءها نالت معظم شعوب العالم استقلالها ومارست سيادتها دون قيود، أما بشأن مشروعية حركات التحرر من أجل نيل حق تقرير المصير فهناك أسانيد قانونية يستند إليها النضال من أجل التحرر الوطني وأبرزها في ذلك هو حق الدفاع الشرعي عن النفس، واستنادًا إلى ميثاق الأمم المتحدة من أنه ليس في هذا الميثاق ما يحول دون حق الدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن نفسها.

وهناك من بحث عن مشروعية النضال من أجل التحرر في إطار القانون كأحد الوسائل المشروعة لاستخدام القوة في إطار القانون الدولي الحديث([53]).

ثانيًا: مشروعية حروب التحرير من أجل نيل حق تقرير المصير:

أيًا كان الاصطلاح الذي يشير إلى حروب التحرير فإن مفهوم حرب التحرير يعني: (النشاط المسلح الذي تقوم به عناصر شعبية في مواجهة سلطة تقوم بغزو أرض الوطن أو احتلاله)([54]).

وقد أخذ الفقه القانوني الدولي يقر بالتفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين، وحتى يستفيد المواطنون

من هذه التفرقة يجب عدم مشاركتهم بالأعمال العدائية ومن ثم عدم الاعتراف بأي حركة مقاومة غير منظمة وتابعة للجيوش الرسمية .

وقد نادى بهذه التفرقة “جان جاك روسو” في كتابه العقد الاجتماعي عام 1762 حيث وضع أساسًا قانونيًا وإنسانيًا للتفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين، إذ قرر أن الحرب هي علاقة دولة بدولة وليست علاقة عداء بين المواطنين المدنيين إلا بصفة عرضية وبوصفهم جنودًا وليس بوصفهم رجالًا أو حتى مواطنين([55]).

إلا أن الإرهاصات التي استتبعت ذلك والتي تمثلت في أهم المحطات الرئيسية وكان أهمها مجموعة التعليمات التي وضعها “فرانسيس ليبير” والتي أصدرتها حكومة الولايات المتحدة عام 1863 لحكم جيوشها في الميدان، وقد فرق ليبير في هذه التعليمات بين الهبة الجماهيرية التلقائية التي يقوم بها الشعب لمواجهة الخطر الأجنبي وبين المقاومة الشعبية المنظمة لمواجهة الاحتلال، فشرع الأولى ولم يشرع الثانية([56]).

وكانت هذه التعليمات أولى النظريات التي تناولت حروب التحرير (المقاومة الشعبية) كما كانت تدعى في حينه بالنظرية التقليدية، وكانت من أهم الموضوعات التي تمت مناقشتها في مؤتمر بروكسل لعام 1874 المقاومة الشعبية، ووضعت مشروعات وتدابير تعترف بحق الشعوب في الهبة الجماهيرية في وجه الغزو الخارجي، وهذا ما دفع الدول الكبرى لرفض المشروع، ولكنه من جانب آخر لم يعترف بحق الشعوب في مواجهة قوات الاحتلال إذا تم احتلال الإقليم ورسخت فيه سلطة الاحتلال([57]).

وإن كان هذا المشروع قد فشل من حيث عدم إقراره إلا أن الدول حاولت اتباع ما جاء به من تعليمات، وكان له أعظم الأثر على إتفاقيتي لاهاي عام 1899 وعام 1907، وقد ظل مبدأ “دي مارتن” الذي جاء في ديباجة اتفاقية 1907 والذي يقضي بأن:( يظل المدنيون والمقاتلون تحت حماية المبادئ العامة للقانون وما يمليه الضمير العام) القاعدة التي اعتمد عليها الفقه في محاولاته توسيع حماية المقاتلين في ظل غياب النصوص القانونية لحمايتهم، وكذلك المدنيين والتي لم تخرج عن الحماية التي نادت بها النظرية التقليدية في حماية المقاتلين.

مشروعية حروب التحرير (المقاومة الشعبية) في ظل اتفاقيات جنيف لعام 1949:

من خلال النصوص الواردة في اتفاقيات جنيف 1949 اختلف الوضع القانوني لأفراد المقاومة العاملين في الإقليم المحتل واعترف لهم بصفة مقاتلين، وبهذا تم الاعتراف بشرعية النضال والكفاح ضد الاحتلال الأجنبي، وهذا ما تضمنته الاتفاقية الثالثة في المادة الرابعة منها، ويمكن التأكيد على أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 م تمثل قواعد عرفية ملزمة للجميع بعد تصديق وانضمام جميع دول العالم إليها وتمثل قواعد قانونية شارعة .

إن أهم ما يميز اتفاقية جنيف هي حماية المقاتلين التي أوجبتها الاتفاقية للمقاتلين في الإقليم المحتل في وجه الاحتلال ومعاملتهم أسرى حرب إذا توافرت في هؤلاء المقاتلين الشروط الأربعة الواردة في الفقرة الثانية من المادة الرابعة وهي:

-1 القيادة المسئولة 2- الشارة المميزة 3- حمل السلاح جهراً 4- الالتزام بقوانين وأعراف الحرب.

ويكون بذلك قد سلم قانون جنيف بالحق في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي إذا توافرت فيها الشروط الأربعة، ولكنه من جانب آخر ربط بين المقاومة المسلحة والغزو أو الاحتلال الأجنبي، وهو في ذلك تشبث بالنظرية التقليدية ولم يعترف بالمقاومة المسلحة ضد السلطات القائمة بالاستعمار، وكانت مثل هذه المقاومة توصف بالحروب الأهلية أو حروب الانفصال.

إن أهم وأبرز التطورات التي تضمنتها اتفاقيات جنيف في هذا الصدد هي الاعتراف والإقرار بحق المقاومة في الإقليم المحتل، وذلك يمنح مقاتلي المقاومة الشعبية سواء من داخل الإقليم المحتل أو من خارج الإقليم المحتل وصف أسرى حرب على أن تتوافر فيهم الشروط الأربعة وانتمائهم لأحد أطراف النزاع.

إلا أنه وفي ظل أحكام اتفاقية جنيف ظهر اتجاهان في الفقه، وقد ظهر ذلك في المادة 25 لإعادة النظر في قانون الحرب المنعقدة في جنيف عام 1957([58]).

الاتجاه الأول : ذو نزعة تقليدية ويرى عدم تشجيع حركات المقاومة مهما كانت الدوافع لها؛ وحجتهم في ذلك هي تحقيق أكبر قدر من الحماية للمواطنين المدنيين، وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل نشاط حركات المقاومة، وكان من هذا الفريق(ماكس هوبر Max Huer) و(والتر شتزل W. Schtzel) ويكتفي هذا الرأي بما جاء في اتفاقيات جنيف.

أما الاتجاه الثاني: وهو يمثل المدرسة التحررية فترى أن المقاومة المسلحة الظاهرة لا يمكن نكرانها من الناحية الواقعية أوالقانونية، وانتقد البعض قسوة الشروط التي وضعتها اتفاقيات جنيف لإضفاء الحماية على أفراد المقاومة ومنحهم صفة “أسير” كما لفتت هذه المدرسة النظر إلى أن حركات المقاومة ستكون هي الغالبة في حروب المستقبل مما يقتضي معه الاعتراف بحق المقاومة دون تحفظات وذلك لأن حركة المقاومة والثورة ضد العدوان إنما هي حق طبيعي([59]).

وقد كان الفقه الاشتراكي أبرز من نظر إلى حركات المقاومة إلى أنها حركات مشروعة وأطلق عليها الحروب الثورية أو حروب التحرر الوطني، ويرى كوشيويكو((Koshewhikow أن حروب المقاومة الشعبية في إقليم محتل تعد متطابقة تمامًا مع القانون الدولي وينبغي النظر إلى أفراد المقاومة كمقاتلين قانونيين، وانتقد شرطي العلامة المميزة وحمل السلاح بشكل ظاهر([60]).

إن هذه الأفكار التي تتمثل في تحريم حرب العدوان ومشروعية حروب التحرر والمقاومة الشعبية على أساس مبدأ تقرير المصير هذه هي مرتكزات النظرية الحديثة لمشروعية حروب التحرير والمقاومة الشعبية، وقد كان لدول العالم الثالث الدور الهام في المساندة لمشروعية حروب التحرر وتأثيرها على المفاهيم الدولية داخل المنظمات الدولية المختلفة كالأمم المتحدة وكذلك الصليب الأحمر([61]).

إلا أن حركات التحرر الوطنية فرضت مفهومًا أوسع بعد الحرب الثانية لحروب التحرير بعد ظهور العديد من حركات التحرر للحصول على حقها في تقرير المصير والتخلص من الاستعمار وغدت تمثل تكتلًا هامًا في المجتمع الدولي استطاع أن يفرض مفاهيمًا وقواعد دولية جديدة تؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها، والذي توج بالقرار 1514 لسنة 1960بإلغاء الاستعمار ومنح الشعوب استقلالها، ومن ثم أخذت المقاومة الشعبية المسلحة من أجل التحرر الوطني ونيل حق تقرير المصير على أنه جزء لا يتجزأ من حروب التحرير وإن كان استخدام الاصطلاحين للدلالة على نفس المفهوم.

النظرية الحديثة حول مشروعية حرب التحرير والمقاومة المسلحة ضد الاحتلال:

إن حق تقرير المصير يطرح مشروعية استخدام القوة كوسيلة لوضع هذا الحق موضع التنفيذ، فحق تقرير المصير اصبح- كما أسلفنا- حقًا قانونيًا دوليًا يستند إلى ميثاق الأم المتحدة والمواثيق الدولية، ما يعني أن لصاحبه الحق في استخدام الوسائل السلمية للحصول على هذا الحق، وإذا عجزت الوسائل السلمية عن تمكين الشعوب الخاضعة للاحتلال من التمتع بحق تقرير المصير يصبح الكفاح المسلح السبيل الوحيد لبلوغ هذا الحق.

وقد جرت مناقشة مشروعية استخدام القوة كأحد وسائل وضع حق التقرير المصير موضع التنفيذ، وذلك في اطار نظرية حروب التحرير الوطنية، فمن حق أي شعب استعادة إقليمه المغتصب بكافة الوسائل المتاحة بما في ذلك الكفاح المسلح من خلال حركات التحرر الوطني، فاذا عجز المجتمع الدولي، وتحديدًا الأمم المتحدة، عن ضمان احترام حق كل شعب في تقرير مصيره ، يصبح من الطبيعي التسليم للشعوب التي تعاني من الاحتلال باستخدام الكفاح المسلح من أجل ممارسة حقها في تقرير المصير.

وهكذا أصبحت حروب التحرير في نظر الغالبية الساحقة مشروعة دوليًا، وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا المفهوم في العديد من القرارات الصادرة عنها منذ العام 1945، ولعل أهم هذه القرارات ذلك الذي صدر في العام 1974 متضمنًا التعريف بالعدوان؛ حيث حرص واضعو التعريف على أن يضمّنوا المادة السابعة منه تحفظًا في صالح حركات التحرير الوطني على درجة كبيرة من الأهمية، فقد نصت هذه المادة على أنه: ( ليس في هذا التعريف، وعلى الأخص ما ورد في المادة الثالثة منه­ التي تضمنت أمثلة بعض حالات العدوان،­ ما يجحف بحق الشعوب التي تخضع لنظم الحكم الاستعمارية أو العنصرية أو أية أشكال أخرى من السيطرة الأجنبية، في الكفاح من أجل تقرير المصير والحرية والاستقلال كما أقرها ميثاق الأمم المتحدة.

وقد تأكد هذا المعنى في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3103 الصادر عام1978، بشأن “المبادئ الأساسية في المركز القانوني للمحاربين الذين يكافحون السيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية”.

من ناحية أخرى، أولى مؤتمر تطوير القانون الدولي الانساني اهتمامًا كبيرًا بالوضع القانوني لحروب التحرير الوطني، وانتهى ذلك المؤتمر إلى إقرار بروتوكولي جنيف الأول والثاني لعام 1977 وأُلحقا باتفاقيات جنيف للعام 1949، وقد اعتبر البروتوكول الأول أن حروب التحرير حروبًا دولية، فنصّت الفقرة الرابعة من المادة الأولى من هذا البروتوكول على: (أن تُعد من قبل الحروب الدولية “المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة) وقد ساهمت منظمات التحرير الوطني التي شاركت في المؤتمر مساهمة فعالة في إدخال حروب التحرير الوطني في إطار الحروب الدولية، ووقعت على البيان الختامي، وكان تمثيلها قد تعدى دور المراقب في المؤتمر ليصبح على نفس مستوى الأطراف السامية المتعاقدة([62]).

وقد أخضع البروتوكول الأول في المادة 1 فقرة 4 بشكل واضح لا لبس فيه حروب التحرير لقواعد القانون الدولي الإنساني آخذًا بعين الاعتبار طبيعة هذه الحرب([63]) ولعل أهم النتائج التي برزت من خلال ذلك هي:

الإقرار بحروب التحرير الوطني كحرب مشروعة ابتداءً تخضع لقواعد القانون الدولي،وهذا يشكل تعزيزًا لحق الشعوب في النضال من أجل حق تقرير المصير.
تطبيق كافة القواعد المتعلقة بالاعتراف بصفة المقاتلين للمناضلين من أجل التحرر الوطني، ومن ثم لهم كافة الحقوق التي يتمتع بها الجنود في الحرب النظامية، ولعل أبرز هذه الحقوق في حالة الأسر الاعتراف بهم كأسرى حرب، و التعامل معهم وفقًا لهذه الصفة بما يتفق مع القانون الدولي الإنساني، وأن انتهاك هذه القواعد يشكل افتئاتًا على قواعد القانون الدولي العام، وخرق هذه الأحكام تشكل جريمة حرب.
هكذا وضع مبدأ حق الشعوب بتقرير مصيرها في إطاره العملي والقانوني، بحيث لم يعد مبدأً من مبادئ القانون الدولي فقط بل أيضًا حقًا يجب ممارسته عبر حركات التحرر الوطني.

يكتسب هذا التطور أهمية قصوى في القانون الدولي العام حيث أنه شرّع لحركات التحرر باللجوء الى القوة المسلحة كأسلوب من أجل تحقيق أهدافها، كحالة مستقلة في القانون الدولي العام، كما هو الحال مع حق الدفاع عن النفس (المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة) وحق استعمال القوة من قبل مجلس الأمن (الفصل السابع)، إن هذا الحق أصبح حقًا أساسيًا في القانون الدولي وله القوة الإلزامية القصوى.

الفصل الثالث: التمييز بين الإرهاب والحق في تقرير مصير

كثيراً ما يخلط مفهوم الإرهاب بأنشطة حركات التحرر مما يستلزم التمييز بينهما احترامًا للأنشطة التي تساهم في تقرير مصير الشعوب واستقلالها، وعدم السماح للدول والأنظمة المستعمرة ان تتذرع بمواجهة الإرهاب في القضاء على هذه الحركات وإبادتها، والتاريخ حافل بالمجازر التي نفذتها الدول الاستعمارية وراح ضحيتها آلاف المقاومين ونشطاء حركات التحرر.

وقد تعرض العديد من الفقهاء لمحاولة التمييز بين الإرهاب والمقاومة، خاصة بعد انتشار التيارات الثورية ضد الاستعمار مع بداية القرن العشرين، واختلفت الرؤى بين الفقه حول هذه التفرقة التي يبدو تأثيرها بالنسبة للدول التي ينتمي إليها كل مفكر.

لذلك كان الاختلاف شديد في الوسط الفقهي بهذا الصدد، كما اختلفت الدول أيضًا في تحديد معيار للتمييز بين الإرهاب والمقاومة، سواء في إطار علاقاتهم الثنائية أو الجماعية، وداخل المنظمات الدولية عند التصدي للتمييز بينهما([64]).

ويرى اتجاه أن معيار التفرقة بين الإرهاب والمقاومة يتمثل في أن القوة التي تستخدم في الإرهاب تكون الغاية منها الحصول على المال أو الابتزاز، ولا يمكن اعتباره كمن يحمل السلاح لرد حق مسلوب، أو وطن محتل، أو تخليص أمة ترزخ تحت الاحتلال، فالثائر صاحب ضمير والإرهابي فاقد الضمير([65]).

ويذهب اتجاه آخر إلى أن ثمة خلاف جوهري حول مفهوم الإرهاب يكمن في جانبه السياسي، فكثيرًا ما يكون للعمل الواحد تفسيران على الأقل، فهو حسب أحد التفسيرين حالة من حالات الإرهاب تجب إدانته ومكافحته على أنه جريمة، وهو في الوقت ذاته حسب التفسير الآخر شكل من أشكال التمرد الوطني والكفاح من أجل حقوق الإنسان والحقوق السياسية والاجتماعية للشعوب والأفراد، وحق تقرير المصير([66]).

وبذلك يكون الهدف من الفعل المنسوب إلى أي جهة من الجهات هو العنصر الأساسي في تحديد مشروعية العمل الإرهابي أو عدم مشروعيته، بالنسبة للهدف نفسه فيما إذا كان مشروعًا أو غير مشروع، لأنه يسقط بالتالي صفة الإرهاب على الأعمال المشروعة حسب القوانين والأعراف الدولية، وبالتالي فإن إرهاب الحركات المناضلة ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، يدخل ضمن ما نسميه بالإرهاب المشروع، فلا يصبح جريمة وإنما أسلوبًا ممكنًا لإخضاع العدو إلى إرادة الشعب

المحتل بتمكينه من الاستقلال، فتسقط صفة الجريمة هنا عن فعل الإرهاب، ويأخذ صورة الإخافة والإرعاب عن زجر العدو لإقناعه بضرورة العدول عن عمليات القمع والاضطهاد للشعب المحتل، أو المعرض للاعتداء، وهنا نكون أمام إرهاب مشروع ضد إرهاب غير مشروع([67]).

وثمة اختلاف كبير في وجهات النظر بين غالبية الدول الغربية وبعض الدول الاستعمارية الأخرى كإسرائيل من جهة، ودول العالم الثالث ومن يدعمونها من جهة أخرى، حول التكييف القانوني لأعمال العنف التي ترتكبها الشعوب خلال حروبها المشروعة من أجل تقرير المصير، فإذا كانت الطائفة الأولى من هذه الدول تعتبر مثل تلك الأعمال أعمالًا إرهابية يجب ملاحقة مرتكبيها ومعاقبتهم، فإن الطائفة الثانية منها تعتبرها – وبحق – أعمال مقاومة مشروعة ولازمة لتحقيق هدفها نحو الاستقلال وتقرير المصير([68]).

المبحث الأول: أسباب الخلط بين الإرهاب والحق في تقرير المصير

وقد تعددت الأسباب التي أدت إلى الخلط بين الإرهاب والحق في تقرير المصير، فمنها:

أولًا: الأسباب السياسية:

حيث إن الدول الكبرى تؤيد فكرة المشروعية عندما تكون رازحة تحت الاحتلال، وترفضها عندما تصبح دولة احتلال([69]).

وهنا لابد من الإشارة إلى أن قضية إيجاد تعريف للإرهاب وتحديد لهذا المصطلح لا يعود إلى عدم قدرة الفقهاء السياسيين أو القانونيين لوضع وتحديد مثل هذا التعريف وإنما يعود بشكل أساسي إلى ممارسات الدول الكبرى، فوفقًا لممارسة الولايات المتحدة فالإرهاب يعني أي عنف مثير للرهبة يرتكب من غير مواطني الولايات المتحدة أو يرتكب ضد أحد مواطنيها([70]) أو ضد إسرائيل حتى لو كان من أحد مواطنيها([71]).

ولكن من جانب آخر فإن ممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والتي تمثل أبشع صور خرق القانون الدولي، وارتكاب كافة جرائم الحرب من اغتيالات وتدمير منازل وإبادة جماعية وعقوبات جماعية وإبعاد وترحيل للسكان المدنيين واستيطان في الأراضي المحتلة، فمثل هذه الجرائم الإسرائيلية كما تراها الولايات المتحدة وإسرائيل لا تمثل إرهابًا.

ومن أمثلة تأثير المصالح على الموقف السياسي للكبار من المقاومة المسلحة، نجد أن بريطانيا لم تعترف بالمقاومة الشعبية في “حرب البوير” في جنوب إفريقيا والولايات المتحدة كذلك في الحرب الأهلية الأمريكية، إلا أنهم اعترفوا بالمقاومة المسلحة للاحتلال النازي؛ حيث اعترفت حكومات الدول الحليفة أيضًا بمشروعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الألماني، وكل من أمريكا والاتحاد السوفياتي – سابقًا-، وبريطانيا بحركة المقاومة الفرنسية المسلحة([72]).

ويتضح من خلال ما سبق أن وصف الأعمال ووسمها بالطابع المشروع أو عدمه، يعود مباشرة إلى ما تفرزه النظرة السياسية ذات المصالح والدوافع الاستغلالية المفروضة من قبل الدول الكبرى المهيمنة، وقد بان ذلك بوضوح عقب أحداث سبتمبر 2001.

ثانيًا: الأسباب القانونية:

قد تمحورت هذه الأسباب حول المواقف التي اُتخذت من قبل هذا الاتجاه، فيما يتعلق أولًا بالعنف كعمل إجرامي، إذ اُعتبر أن كل أفعال القوة هي أفعال عنف تجّرم حتى وإن كانت لغرض المقاومة المسلحة المشروعة، وهو ما يقتضي التفريق الدقيق بين كل وسائل العنف المستخدمة([73]).

وحسب هذا الرأي فانه يجب النظر إلى الأفعال والضحايا دون التركيز على مرتكبي الأفعال وبواعثهم، مهما كان نوعها أو جهتها،وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرًا من أعضاء اللجنة الخاصة بتعريف العدوان عبروا عن رفضهم لاستخدام المقاومة المسلحة لتقرير المصير، واعتبروا ذلك استعمالًا غير مشروع للقوة، في ظل الميثاق الأمم المتحدة، فالولايات المتحدة الأمريكية تعارض فكرة استعمال القوة لتحقيق مبدأ تقرير المصير، وتعتبر أن تصفية الاستعمار ينبغي أن تتم بإجراءات سلمية بدون اللجوء إلى استخدام القوة([74]).

ولكن في المقابل نجدها تستعمل العنف لتقويض حكومات والاستحواذ على مناطق نفوذ عالمية واستغلال ثروات الشعوب والتدخل العسكري وضرب المدن وإلقاء القنابل والصواريخ المدمرة، تحت ذريعة التدخل الإنساني ونشر الحضارة والديمقراطية، وهذا تناقض كبير.

أما الموقف الثاني المتسم بالازدواجية، فكان إزاء الاعتراف الضمني أو الصريح لبعض الدول بإسرائيل، وفي الوقت ذاته الاعتراف بمشروعية قرارات الأمم المتحدة، وترتيبًا على ذلك اعتبرت الأعمال العنيفة التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية ضد المحتل إرهابًا على أساس أنها تصدر ضد سلطة شرعية معترف بها وليس قوة الاحتلال([75]).

أما فيما يتعلق بمشروعية قرارات الأمم المتحدة، يستوجب القبول بمشروعية إسرائيل على جزء من أراضي فلسطين مثل قرار التقسيم، وبالتالي اعتبار كل أعمال العنف على تلك الأراضي والتي تدخل في نطاق السيادة الإسرائيلية أعمالًا إرهابية([76]).

وقد بدا هذا الاتجاه سائدًا في واقع العلاقات الدولية، إذ كان من بين آثاره ربط المقاومة بالإرهاب، وخاصة مقاومة الشعب الفلسطيني، بعد نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة ضغوطها على الدول الغربية وكثير من الدول الإسلامية، لاتخاذ موقف، وبالتالي اتخاذ إجراءات ضد الحركات التي تراها أمريكا إرهابية.

هذه الصورة للإرهاب غير الواضحة وغير المحددة ازدادت تعقيدًا أكثر بعد أحداث 11سبتمبر 2001 لما نجم عن هذه الأحداث من خسائر فادحة في الأرواح البشرية ودمار هائل في مدينة نيويورك المضيفة لمقر الأمم المتحدة وفي مدينة واشنطن([77]).

وفي اليوم التالي للأحداث أكد مجلس الأمن في قراره رقم 1373 على خطورة هذه الأحداث الإرهابية وعلى كونها تشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، مقرًا للولايات المتحدة الأمريكية بحق الدفاع الشرعي في هذا الصدد، مطالبًا الدول الأخرى بالعمل على تقديم مرتكبي هذه الجريمة إلى العدالة، ومن ثم كانت الحرب على أفغانستان تستند في شرعيتها إلى مضمون هذا القرار، وإلى خطاب الرئيس الأمريكي إلى مجلس الأمن الدولي في الثامن من أكتوبر 2001، الذي يبلغه فيه بعزمه على توسيع بلاده مجال عملياتها العسكرية إلى تنظيمات إرهابية ودول أخرى تأوي الإرهاب أو تقصر في مكافحته.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن قرار مجلس الأمن رقم 1373 هذا لم يعرف الإرهاب تعريفًا دقيقًا، ولم يميز بينه وبين الحق المشروع في مقاومة الاحتلال، ومن ثم يبقى التصور الأمريكي له هو الفيصل في تحديد ما يعد إرهابًا من عدمه، وفي تحديد الدول المستهدفة بالإجراءات الأمريكية المتخذة في إطار ما منحها القرار من حق ” الدفاع الشرعي ” عن النفس، وفي إدراج ما تراه من حركات سياسية- ولو كانت حركات تحرر وطني مشروعة وفقًا لقواعد القانون الدولي المستقرة- في قائمة الحركات الإرهابية التي يتعين القضاء عليها، كذلك تجدر الإشارة إلى أن قرار المجلس المذكور في إشارته إلى حق الولايات المتحدة في الدفاع الشرعي عن النفس قد تجاوز ما انتهى إليه الفقه الدولي المعاصر من شروط حالة الدفاع الشرعي، حيث يتعين أن يكون فعل العدوان- الذي يبرر الدفاع — حالًا، وأن يوجه فعل الدفاع إلى مصدر العدوان ذاته، وأن يكون ثمة تناسب بين فعل الدفاع وفعل العدوان([78]).

وقد استندت الولايات المتحدة في حملتها تلك ضد الإرهاب بزعمها على القرار 1373خاصة، الذي أكد على حق الدفاع عن النفس وأغفل في ذات الوقت حق تقرير المصير، وحق المقاومة رغم ترسيخها في ميثاق الأمم المتحدة، والمشروعية التي تكتسيها طبقًا للقانون الدولي.

هذا وبالرغم من القرارات الأخرى والمتعلقة بموضوع الإرهاب الدولي الصادرة عن الجمعية والتي أشارت إلى أن أعمال المقاومة المسلحة التي تخوضها الشعوب وحركات التحرر الوطني ضد السيطرة الاستعمارية والنظم العنصرية تعتبر أعمالًا مشروعة ولا علاقة لها بأعمال الإرهاب الدولي، وبذلك تكون قد أرست الحدود الفاصلة بين ما يعتبر من الأعمال المشروعة في نضال الشعوب وحركات المقاومة في سبيل الحصول على تقرير المصير، وما يعتبر من الأعمال الإرهابية، إلا أن أن القرار 1373 أكد بما لا يدع مجالا للشك تقهقر منظمة الأمم المتحدة، وتراجع

مجلس الأمن إلى نقطة الضعف، باعتباره أصبح وسيلة في يد الدول الكبرى تقرر عبره ما تشاء لتسيير العالم حسب اتجاهاتها ومصالحها، كما يبين القرار أيضًا مدى تراجع النظرة الدولية إلى مبادئ كانت مقدسة في السابق، والتي تمس سيادة وحرية الشعوب الأساسية، فأضحى تقرير المصير ومقاومة الاحتلال من الأمور المسكوت عليها في القرار المشار إليه، ما دامت تقف حائلًا دون تنفيذ مطامع ومصالح الغرب.

وأصبحت الدول الغربية تنظر إلى الإرهاب بعد أحداث 2001 على أنه يعني كل منظمة أو دولة معادية لسياستها الخارجية ومصالحها، وتُكنّ العداء وتعمل من أجل ضرب أي دولة أو منظمة ضد إسرائيل، وعلى رأسها حركات المقاومة التي أدرجت في تلك الخانة السوداء، فالقانون البريطاني مثلا المناهض للإرهاب يسمح باحتجاز كل مشتبه فيه أجنبي بدون أي تحقيق، وذلك يعد خرقًا للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي كندا تم إصدار قانون يفرض على الصحافيين إعطاء مصادر أخبارهم -بطلب من القضاء- تحت طائلة السجن الفوري، وفي ألمانيا أعطيت لمصالح المخابرات الألمانية صلاحية الضبطية القضائية التي تحولت إلى شرطة سياسية والكثير من الصلاحيات أعطيت لمصالح الأمن في الدول الأخرى، من أجل مكافحة ظاهرة لم يتم الإجماع على تحديد مفهومها([79]).

ومما سبق نسطيع القول بأن هذا الخلط الدولي القائم في حقيقته على تضارب المصالح بالدرجة الأولى، والنظرة الاستعلائية والعدوانية بالدرجة الثانية من قبل الغرب إلى ما دونه من شعوب المعمورة، لم يصبح القانون فوق الجميع، وإنما أضحى يكيف ويطبق وفقًا لما تراه وتريد تنفيذه الدول صاحبة النفوذ والهيمنة الدولية.

أما بخصوص الفريق الثاني الذي يضع موازين التفرقة وعدم الخلط بين الأمرين، يتبين ذلك من خلال الدورة 32 التي ناقشت فيها اللجنة الخاصة المعنية بالإرهاب الدولي دراسة أعدتها الأمانة العامة للأمم المتحدة، والتي استغرقت فيها وجهات نظر الدول بالنسبة للأسباب الكامنة وراء ظاهرة الإرهاب، وقد قررت الدراسة أن العديد من الدول أكدت على ضرورة التسليم باستبعاد أعمال المقاومة المسلحة المعترف بمشروعيتها من تعريف الإرهاب الدولي([80]).

ونجد تبرير الحركات المسلحة بأنها تلجأ إلى العنف كضرورة حتمية لم تكن لتضع العنف هدفًا أساسيًا لها، وإنما تعرضها لأعمال القمع والاضطهاد بصوره الإرهابية من طرف النظم الاستعمارية والعنصرية التي تمنعها من تقرير مصيرها، هو السبب الحقيقي في لجوءها إلى اتخاذ سبل العنف لاستيفاء حقوقها([81]).

والتأكيد الصريح على استثناء المقاومة المسلحة للاحتلال من تطبيقات الاتفاقية الدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب يعني أن الاتجاه الذي يرى هذه التفرقة والذي لم يستثن المقاومة المسلحة من الأفعال الإرهابية قد أخطأ، ورأيه مردود أمام صراحة النص، إذ أن المادة 12 من الاتفاقية.

تجدر الإشارة إلى أن حق تقرير المصير يطرح مشروعية استخدام القوة كوسيلة لوضع هذا الحق موضع التنفيذ، فحق تقرير المصير اصبح حقاً قانونياً دولياً يستند الى ميثاق الام المتحدة والمواثيق الدولية، ما يعني ان لصاحبه الحق في استخدام الوسائل السلمية للحصول على هذا الحق، واذا عجزت الوسائل السلمية عن تمكين الشعوب الخاضعة للاحتلال من التمتع بحق تقرير المصير، يصبح الكفاح المسلح السبيل الوحيد لبلوغ هذا الحق، مع التأكيد على أنه لا بد من وضع الحدود الفاصلة بين الأعمال المشروعة وغير المشروعة لتفادي الخلط بين المقاومة والإرهاب، مهما كانت الأسباب والأهداف؛ حيث إن المقاومة والكفاح الذي تخوضه الشعوب لتقرير مصيرها لا يعطيها الحق في الخروج عن نطاق القوانين المعمول بها والقواعد الإنسانية المتعلقة بالحرب والسلم.

المبحث الثاني: معايير التمييز بين الإرهاب والحق في تقرير المصير

لكي نستطيع ضبط مكونات النضال الوطني ضد الاحتلال لا بد أن يكون متضمنًا بعض المحاور، حتى لا ينقلب في نظر البعض إلى عمل إرهابي، وهذه المحاور تتمثل فيما يلي:

-1 إن ميثاق الأمم المتحدة وهو الذي وافقت عليه خمسين دولة في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945 ، انضمت إليه 189 دولة بعد ذلك كأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ يقوم على ركيزة أساسية وهي حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال والحكم العنصري والهيمنة الأجنبية أن

تستخدم كل صور العنف ضد الاحتلال للحصول على استقلالها المشروع([82]).

-2 أن تقع أعمال العنف كما سبقت الإشارة إلى ذلك داخل الأراضي المحتلة بصفة أساسية ولا تقع خارجها إلا إذا استحال تنفيذها بالداخل.

-3 أن تقع أعمال العنف ضد القوات العسكرية أو شبه العسكرية، أو سلطات الإدارة المدنية للاحتلال.

4- ألا توجه أعمال العنف ضد المدنيين والأبرياء والأطراف التي ليس لها أي علاقة بعمليات تحرير الأراضي، مثل السائحين الأجانب([83])، فكل هذه المحاور الأربعة تتضمن عدم الاعتداء على

المواطنين الأبرياء.

فالنضال المسلح ضد الاحتلال أو السيطرة الأجنبية أو العنصرية باعتباره مظهر للحق الثابت في تقرير المصير، هو نضال مشروع من وجهة القانون الدولي، ما دام أعضاء حركة التحرير الوطني يخضعون أنفسهم للقانون الإنساني الدولي، مثلما هو مكرس في قوانين جنيف 1949-1977 ، وعلى عكس ذلك فإن أية مساعدة تقدمها دولة أو دول أخرى لدولة محتلة أو معتدية، هو عمل غير مشروع من أعمال التواطؤ والمشاركة في الجريمة([84]).

وعلى هذا الأساس يمكن وضع معايير للتفرقة بين المقاومة والإرهاب، فمن خلال ما سبق يتضح أنه بالإضافة إلى معيار المشروعية والشرعية للتمييز بين الظاهرتين، وكذا معيار الدوافع والأسباب والأهداف، هناك معايير أخرى مهمة لوضع الحدود الفاصلة بين المقاومة المسلحة المشروعة والإرهاب الدولي الذي لا يعدو أن يكون سوى جريمة من الجرائم الدولية بصورة مختلفة، وتتمثل معايير الفصل بين الوضغين فيما يلي([85]):

أولًا: الاستناد على قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني كمعيار للتفرقة:

بالرجوع إلى مفهومي العنف المشروع الذي تحكمه قوانين الحرب خلال النزاعات المسلحة، في مقابل العنف غير المشروع الذي يتضمن الإرهاب، وللتوضيح أكثر فإن هذا المعيار يعتمد على أمرين:

أ- يتعلق الأمر الأول بوضع الشخص الذي يرتكب أعمال العنف، إذ أن أفراد القوات المسلحة التابعة لطرف في نزاع مسلح لهم الحق في الاشتراك في الأعمال العدائية مباشرة، وهذا الحق غير مكفول لأي أشخاص آخرين، وإذا لجأ هؤلاء الأشخاص إلى العنف رغم ذلك فإنهم ينتهكون القانون ويجوز اعتبار أفعالهم أعمالًا إرهابية.

ب- الأمر الثاني يتعلق بالقواعد المنتظمة لحماية فئات محددة من الأشخاص، والقواعد الخاصة

بأساليب ووسائل الحرب في النزاعات المسلحة، فلكي يكون استخدام العنف مشروعًا في الحرب فلابد أن يلتزم فيه بالقيود التي يفرضها قانون الحرب، وبالتالي فإن أفراد القوات المسلحة الذين يحق لهم قانونًا أن يستخدموا العنف قد يصبحون هم أنفسهم إرهابيين فيما إذا انتهكوا قوانين الحرب.

وإذا أردنا تطبيق هذا المعيار على المقاومة المسلحة فخير نموذج يمثلها في الوقت الحالي المقاومة المسلحة الفلسطينية؛ حيث يمثل أعضاء حركات تحريرها مقاتلون حقيقيون وفق النظم الاتفاقية الموضوعة دوليًا، كما يجسدون بأعمالهم العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي ضوابط قانون

الحرب، وذلك حرّي أن يضفي على هذه الحركات طابع الشرعية القانونية، ويفرقها تفريقًا شاسعًا عما يقوم به أشخاص غير منظمين أو مؤطرين تحت حركات مقاومة، وما يقومون به من أعمال إجرامية ذات أهداف ومصالح ذاتية:.

ثانيًا: المعيار المتعلق بالتناسب، والتفرقة بين الأهداف العسكرية والمدنية:

إن إعطاء الحق في مقاومة الاحتلال ليس مطلقًا، بل إنه يخضع لضوابط كما أشرنا إليه آنفًا، وتلك المقتضيات المتعلقة بقانون الحرب والقانون الدولي الإنساني المطبقان على حركات المقاومة،

وكل ما يتخللها من أعمال عسكرية، لأن انتهاك قواعد القانونين وعدم الامتثال لقيودهما يفقد حق المقاومة شرعيته، فتتحول كل الأعمال الجارية في ظله وبسببه إلى أعمال إرهابية، وذلك عندما يتغاضى أصحاب هذا الحق عن تلك القوانين، أو في حالة تعسفهم في استعمال حقهم ذاك، وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الخلط وصعوبة التمييز بين الأمرين بوضوح ودقة.

وقد قدم أحد الدارسين افتراضين لهذا المعيار وما يرد عليهما من استثناء؛ إذ قامت الفرضية الأولى على عدم اعتبار أفعال العنف المميز الموجه إلى الأهداف العسكرية والمقاتلين إرهابًا، والاستثناء الوارد على هذه الفرضية هو إمكانية أن يصبح الهجوم على الأهداف العسكرية والمقاتلين عند نقطة معينة على قدر من اللاتمييز، كما في الحرب النووية، فيصبح إرهابًا من حيث الأثر إن لم يكن من حيث القصد([86]).

والفرضية الثانية تتمثل في اعتداءات العنف غير المميز و الموجه عمدًا إلى غير المقاتلين، أي إلى المدنيين والأهداف المدنية يعتبر إرهابًا، أما الاستثناء الوارد عليه يتمثل في كون الاعتداء على المدنيين إذا وصل لحد معين من التمييز في اختيار الهدف والوسيلة فهنا لا يعتبر إرهابًا([87]).

وهذا يعني أن أعمال المقاومة المسلحة يمكن توجيهها نحو المدنيين غير الأبرياء، مثل العملاء والجواسيس ممن يتعاملون لصالح الاحتلال، كذلك الأهداف المدنية ذات العلاقة بإدارة الاحتلال والتي تعد غير بريئة أمام المقاومة العسكرية، التي تكون في هذه الحالات أعمالها ذات شرعية ولا تعد إرهابًا.

ثالثًا: معيار النظر إلى العلاقة بين الأطراف المتحاربة وصفة الضحايا:

إذ يعتمد في تحديد صفة الضحايا الذين يقعون نتيجة العمليات العسكرية العدائية بين حركات المقاومة والمستعمرين، أي تحديد ما إذا كانوا عسكريين أو مدنيين، فتكون الأعمال القتالية الموجهة نحو الفئة الأولى مشروعة في حين تكون غير ذلك إذا وجهت عمدًا وبشكل رئيسي ومباشر نحو الفئة الثانية، فتعتبر وفق لذلك إرهابًا([88]).

كما ينبغي الأخذ في الاعتبار وضعية الضحايا بالنسبة للصراع القائم بين الطرفين وعلاقتهم مع المتحاربين، بمعنى آخر: يجب معرفة إن كان هؤلاء الضحايا يتبعون الطرف المعادي بشكل مباشر، أم يتبعون طرفًا ثالثًا، وهنا يجب البحث في علاقة هذا الأخير بالطرفين المتحاربين، فإذا تبين أن الطرف الثالث محايد لا يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع الدائر بينهما، فإن جميع الضحايا المنتمين إليه( الطرف الثالث) وبسبب هذا النزاع، يعتبر نتيجة لأعمال إرهابية غير مشروعة وجهت إليهم من أحد الأطراف المتحاربة، ويتحمل الطرف الجاني مسؤولية هذه الأعمال والنتائج المترتبة عليها.

وحسب هذا الرأي فإذا تبين أن طرفًا ثالثًا ليس في موقف حياد، بل يميل إلى أحد الأطراف المتنازعة بالتأييد أو بتقديم المساعدة والدعم السياسي والعسكري والمادي، فعليه إذن تحمل تبعات موفقة هذا، خاصة فيما إذا اعتبر أحد الطرفين المتحاربين هذا الموقف تصرفًا عدائيًا ومشاركة للطرف الثاني في عدوانه وإرهابه.

وقد ذهب البعض- ونحن معهم- إلى أن هذا الرأي مجانب للصواب حينما يعطي تبريرًا لاستهداف الضحايا المدنيين، لكون أنظمتهم السياسية أو أصحاب القرار عندهم يساندون طرفًا من الأطراف المتحاربة بشتى أنواع الدعم، فيحملون المدنيين الأبرياء أوزار حكوماتهم على أساس أنها تبعات هذا الانحياز، وبالتالي لا يمكن اعتبارهم ضحايا إرهاب، لكن المنطق السليم يقتضي مراعاة جانب الأطراف المتحاربة مهما كانت وضعيتها والأطراف الأخرى، أو موافقتها لأنه وحسب القانون الدولي وقواعد الشرعية فإن المساس بالأبرياء غير المحاربين أو الذين لهم علاقة مباشرة بالنزاع ممن ينتمون لسلطة الاحتلال، أو في تدخل استعماري أو أي عدوان آخر، يعتبر عملًا إجراميًا يخرج من نطاق المقاومة، وإلا أعطينا المبرر حسب هذا الطرح لإسرائيل مثلا لضرب مدنيين عرب في أي مكان من بقاع العالم، ما دامت الدول العربية والإسلامية كلها أو معظمها تؤيد المقاومة وتدعم حركة التحرير الوطنية الفلسطينية، مما يدخلنا في خلط كبير للتمييز بين الأعمال المشروعة للمقاومة وأعمال الانتقام والانتقام المضاد، ولذا فإن ما تقوم به اليوم الولايات المتحدة وإسرائيل مما تدعيانه أنه دفاع شرعي، هو من أعمال الإرهاب من الدرجة الأولى([89]).

رابعًا: المعيار المتعلق بالنظر إلى المسؤولية في الجريمة الدولية:

فمواضع الإباحة للأعمال التي تبدوا أنها إرهابية للوهلة الأولى وقبل التثبيت من مقتضياتها الحقيقية، وفحوى ذلك وبالرجوع إلى القاعدة العامة، فإن الجريمة الدولية تمثل عملا غير مشروع، لكن لا يكفي القول بوقوع مثل هذه الجريمة حدوث الفعل المكون لها لمجرد انطباقه من الناحية الشكلية على النموذج المحرم في النص القانوني المنشأ والمحدد لهذه الجريمة، إذ لابد للوصول إلى هذه النتيجة من التأكد من أن هذا الفعل ينطبق من الناحية الموضوعية مع النص القانوني، وذلك بعدم استغراقه أو دخوله تحت طائلة الاستثناء، فقد يرد على هذا النص فيبيحه في هذه الحالات الاستثنائية رغم بقائه مجرمًا في باقي الحالات التي تحكمها القاعدة العامة([90]).

وهذا يدخل ضمن الاعتبارات القانونية والإنسانية والاجتماعية، التي تضع لكل قاعدة عامة استثناءات تماشيًا مع الظروف والدوافع المحيطة بالفعل المقترف، وأهم مثال على ذلك: فعل القتل الذي يعتبر جريمة في القوانين الداخلية كمبدأ عام مقرر، لكن قد تخرج واقعة القتل كجريمة من صورتها الشكلية المتماشية مع النص القانوني في حالة ورود الفعل ضمن الاستثناءات على تلك القاعدة، فيتنقل بالتالي الفعل من التجريم إلى الإباحة والمشروعية عند القتل دفاعًا عن النفس في إطار الحدود الموضوعة قانونًا، فلا نكون بذلك أمام جريمة قتل رغم أن الفعل ينطبق من الناحية الشكلية على النص القانوني المجرم له([91]).

ونجد أن الأمر نفسه يتكرر بالنسبة لقواعد القانون الدولي، فمثلًا: الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة تنص على حظر استخدام أو التهديد باستعمال القوة في العلاقات الدولية وفيما بين الدول خلافًا لأحكام هذا الميثاق، وهذا يعني من حيث النتيجة أن كل استخدام للقوة أو التهديد باستعمالها يشكل جريمة دولية، وهذا ما يؤدي إلى التأكيد على أن هناك حالات لاستخدام القوة تتم بالتوافق مع أحكام هذا الميثاق، ولا تقع تحت حظر القاعدة العامة الواردة في الفقرة المذكورة، وهذا ما أشارت إليه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة حينما نصت على حق الدول فرادى وجماعات وبالأحرى الشعوب اللجوء إلى استخدام القوة المسلحة في حالة الدفاع المشروع عن النفس إذا تعرضت للعدوان أو الاحتلال العسكري من جانب دولة أو دول أخرى.

ويقع في هذا الميثاق تطبيق حالة الضرورة الملجئة، أو الإكراه بكل أنواعه، و الذي يدفع من خلاله الفاعل دفعًا اضطراريًا دون إنذار مسبق، فلا يجد أمامه أي اختيار سوى دفع الضرر أو الاعتداء الواقع عليه، ويكون ذلك مبررًا قويًا لارتكابه للفعل المّصور للجريمة المعاقب عليه بالنص القانوني والذي يرفع عنه المسؤولية في حالات الإباحة.

وقد طبقت هذه القواعد الاستثنائية ميدانيًا – ولو بصفة نسبية خاصة في ظل المستجدات الدولية – من خلال ما تقوم به حركات التحرير والمقاومة المسلحة التي تضطر في بعض الأحيان إلى ممارسة الإرهاب بمفهومه الإيجابي، والذي يقوم على ضوابط المشروعية في مواجهة الاعتداء أو الاحتلال، مما يؤدي عند الضرورات خاصة العسكرية منها إلى تنفيذ الأعمال الإرهابية في مراحل نضالاتها، أمام ضعف إمكانياتها وعدم مقدرتها الدخول في معارك مفتوحة واسعة مع العدو، أو ربما تحت تأثير حالة الضغوط السياسية والإعلامية الدعائية التي تحتم عليها اللجوء إلى مثل هذه الأساليب لنشر قضيتها العادلة([92]).

ومن ثمة تنبيه المجتمع الدولي والرأي العام العالمي ولفت أنظارهما إليها، وعلى هذا الأساس فإن حركات المقاومة المسلحة تنتفي عنها المسؤولية الجنائية والإكراه المادي والمعنوي بالأعمال الإرهابية خاصة إذا كانت ردًا على عمليات مماثلة سابقة نفذتها سلطات وقوات الاحتلال بحق سكان الأراضي المحتلة، أي عن طريق المعاملة بالمثل([93]).

ويبقى هذا الرأي قابل للنقاش الموضوعي إذا ما أردنا العودة إلى الاتجاه الذي يعطي حق استخدام القوة للحركات التحريرية لكن مع شروط تتعلق بعدم المساس بالأبرياء أو تعريض حياتهم للخطر، وينبغي أن تبتعد حركات المقاومة لتحرير الأوطان عن مثل هذه الأعمال، والتركيز على مقاومة الطرف المعتدي علي أوطانها، ووضع مبدأ التمييز نصب أعينها لا تغفل عنه؛ حتى لا تتذرع الدول المعتدية بذلك لوصم أعمال تلك الحركات بالأعمال الإرهابية.

وأعتقد أن هذا هو الوضع الذي يطرح إشكال الخلط بين الإرهاب والمقاومة وعامل المشروعية وعدم المشروعية، الذي يفرق بين الاتجاهين المميز وغير المميز بين الصورتين، وقد ظل تغليب الكفة الثانية عن الأولى نظرًا لاستئثار الرأي القوي الذي تتزعمه المجموعة الغربية بريادة الولايات المتحدة الأمريكية، مما أدى إلى التأثير في المواقف المتخذة هنا وهناك، عبر مراحل التطور الذي يشهده المجتمع الدولي، وأصبحت المتغيرات الجديدة التي تصب في الاتجاه الذي يفرض تصوره للعالم والذي أخلط المفاهيم وأقلب الموازين بين ما هو مقدس وما هو مدنس، فأتضح بصورة جلية مدى تأثير الإرهاب الدولي على حق تقرير المصير، باعتباره مبدأ مقدسًا بالمقياس الإنساني والحقوقي.

الخاتمة

وبعد، فإن حق تقرير المصير قد استقر كقاعدة قانونية آمرة في القانون الدولي، ووأُعطيت الشعوب الحق في الحصول عل ذلك الحق من خلال الوسائل السلمية، فإن لم تجدي تلك الوسائل فمن حقها استخدام القوة لتقرير مصيرها، وقد غدت المقاومة لتحرير الأوطان استثناءً ثالثًا على مبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة إضافة إلى الاستثنائين الآخرين وهما: الدفاع الشرعي، وما يتخذه مجلس الأمن استنادًا إلى أحكام الفصل السابع.

وهكذا وُضع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها في إطاره العملي والقانوني، بحيث لم يعد مبدًأ من مبادئ القانون الدولي فقط، بل أيضًا حقًا يجب ممارسته عبر حركات التحرر الوطني.

وأن الإرهاب الدولي مصطلح سياسي ليس له أي محددات قانونية، ووفقًا لمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص فإن الإرهاب في حاجة إلى تحديد، وهذا ما يشكل عقبة كأداء أمام اعتبار الإرهاب جريمة قائمة بذاتها.

وما زال الجدل قائمًا قديمًا وحديثًا حول المقاومة والإرهاب، وكثيراً ما يخلط مفهوم الإرهاب بأنشطة حركات التحرر؛ مما يستلزم التمييز بينهما احترامًا للأنشطة التي تساهم في تقرير مصير الشعوب واستقلالها، وعدم السماح للدول والأنظمة المستعمرة ان تتذرع بمواجهة الإرهاب في القضاء على هذه الحركات وإبادتها.

وأن المحاولات لتجريم استخدام القوة بشأن النضال من أجل حق تقرير المصير لا تجد لها أساس قانوني وإن كانت المحاولات والجهود السياسية لذلك مستمرة ولم تتوقف ولكن يجب العمل على توضيح هذه الفوارق بين الاستخدام المشروع والغير مشروع للقوة.

ومن ثم فإنه من الأهمية إيضاح هذه الحدود بين “الإرهاب” الذى يتسم باللامشروعية فى عمومه، وبين حق “المقاومة” والذى يتميز بمشروعيته وفق القانون الدولى والتاريخ الإنسانى.

لابد من جهد أكاديمى وجهد سياسى من خلال اتفاقيات دولية ملزمة لأطراف المجتمع الدولي كافة، ويتم الحشد لها والتوقيع عليها، يتم من خلالها وضع تعريف محدد لمصطلح”الإرهاب” والتمييز بوضوح بينه وبين أعمال حركات التحرر الوطني لتقرير مصير شعوبها.

ولابد من العمل على تخفيف الشروط الأربعة الواردة باتفاقيات جنيف، والمتعلقة بمشروعية حركات التحرر الوطني، واختصارها على قيادة منظمة واحترام قوانين وأعراف الحرب واعتبار هذه المنازعات دولية مهما كانت الظروف والمعطيات وخاصة لمجابهة أوضاع الاستعمار، وكذلك إضفاء الحماية على هؤلاء المقاتلين، وتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني.

([1]) عبد الرحمن أبو النصر، مشروعية استخدام القوة بشأن حق تقرير المصير وعلاقته بالإرهاب الدولي في ضوء القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، مجلة جامعة الأزهر بغزة، سلسلة العلوم الإنسانية 2006 ، المجلد الثامن، العدد الأول، ص 125.

([2]) د. صلاح الدين عامر، قانون التنظيم الدولي، النظرية العامة، دار النهضة العربية الطبعة الثالثة 1987، ص263.

([3]) عبد الرحمن أبو النصر، مرجع سابق، ص 126.

([4]) د. صلاح الدين عامر، مرجع سابق، ص 264.

([5]) د. عائشة راتب، مشروعية المقاومة المسلحة، دراسات في القانون الدولي ، الجمعية المصرية للقانون الدولي القاهرة ، 1970 ، ص 210.

([6]) د. صلاح الدين عامر، مرجع سابق، ص 266.

([7]) انظر في تطور حق تقرير المصير، يوسف محمد القراعين، حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، دار الخليل، عمان، 1983، ص 15 وما بعدها ؛ وانظر د.أحمد رفعت، الإرهاب الدولي في ضوء أحكام القانون الدولي و الاتفاقيات الدولية، و قرارات المم المتحدة، دار النهضة العربية، 1992، ص 512.

([8]) انظر فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأراضي الفلسطينية، والصادر في 9 يوليو 2004 ، ص 56،57 ،119 ، الفقرة 118-120 أنظر موقع المحكمة على شبكة الانترنت

www.icj،cij.org

([9]) د. عمر إسماعيل سعد الله، تقرير المصير السياسي للشعوب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص75.

([10]) عبد الرحمن أبو النصر، مرجع سابق، ص131-132.

([11]) د. صلاح الدين عامر، المقاومة الشعبية المسلحة، القاهرة، 1986، ص 40 -41.

([12]) د. محمد طلعت الغنيمي، المسؤولية الدولية من منظور عصري،1997، ص 38.

([13]) د. صلاح الدين عامر، قانون التنظيم الدولي، مرجع سابق ، ص 263.

([14]) د.عمر إسماعيل سعد الله ،مرجع سابق ، ص 77.

([15]) د.محي الدين عشماوي، الإرهاب وحق المقاومة في القانون الدولي، جريدة الأهرام، 4/11/ 2001.

([16]) كما تنص المادة الرابعة من الفقرة السادسة من اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب عام 1949 ، على أن : “أسرى الحرب بالمعنى المقصود في هذه الاتفاقية هم الأشخاص الذين هم أسرى الحرب، و ينتمون إلى أحد الفئات التالية و يقعون في قبضة العدو : سكان الأراضي غير المحتلة الذين يحملون السلاح من تلقاء أنفسهم دون أن يتوافر لهم الوقت لتشكيل وحدات مسلحة نظامية ، شريطة أن يحملوا السلاح جهرا،عند اقتراب العدو لمقاومته”.

([17]) راجع وثائق الأمم المتحدة المتعلقة بالتنظيم الدولي المجلد السادس ، صفحة.703 /A/ 3/1/1 19

([18]) د.عائشة راتب، المرجع السابق، صفحة 213.

([19]) د.محمد الحسيني مصيلحي ، حقوق الانسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، دار النهضة العربية، 1988، ص 21.

([20]) د.عبد العزيز سرحان، النزاع العربي الإسرائيلي، دار النهضة العربية، 1987، ص 96-97.

([21]) د.عبد الواحد محمد الفار، الجرائم الدولية وسلطة العقاب عليها، دار النهضة العربية، مركز جامعة القاهرة للطباعة و النشر، ط 1، 1996، ص 540.

([22]) تامر إبراهيم الجهماني، مفهوم الإرهاب في القانون الدولي، دراسة قانونية نافذة، دار الكتاب العربي الجزائر، دار حوران سوريا، 2002، ص 16-17.

([23]) توفيق المديني، القضية الفلسطينية أمام حكم التصفية، دمشق، 2008 ، ص 266.

([24]) عبد القادر زهير النقوزي، المفهوم القانوني لجرائم الإرهاب الداخلي والدولي، منشورات الحلبي الحقوقية، ط 1، ص 31.

([25]) تامر إبراهيم الجهماني، المرجع السابق، ص 18؛ وقد جاء تعريف Terreur في قاموس الأكاديمية الفرنسية لعام 1964 رعب وخوف شديد ،اضطراب عنيف، وهذا التعريف تؤكد عليه بعض القواميس الأوروبية القديمة مثل قاموس فورتير Furetiere وقاموس ريشليه Richelet؛

Terreur, très grande peur, politique d’exception et de violence policière, gouverner par la peur, personne ou chose qui donne une très grande peur, voir, le Rousse, plu dictionnaire 1977, p1351.

([26]) سورة الأنبياء، من الآية 90.

([27]) terrorisme, ensemble d’attentats et de sabotages commis par une organisation pour créer un climat d’insécurité et impressionner ou renverser le pouvoir établi .(Voir la rousse) op.cit, 1351.

([28]) هداج رضا، المقاومة والإرهاب في القانون الدولي، رسالة ماجيستير، جامعة الجزائر، كلية الحقوق- بن عكنون، 2009-2010، ص 57.

([29]) محمود زكي شمس، عمر الشامي، الإرهاب الدولي و زيف أمريكا و إسرائيل في ظل قانون العقوبات والقانون الدولي العام، مطبعة الداودي، ط 1، دمشق، 2003، ص 12.

([30]) محمد المجدوب و أحمد سرحان، الإرهاب الدولي في ظل المتغيرات الدولية، منشورات الحلبي الحقوقية، ط 2، 2009 ، ص 65.

([31]) هداج رضا، مرجع سابق، ص 61.

([32])Schlogheck Donna M., “International terrorism: an introduction to concepts and Actors”, 1988, P. 8.

([33]) د . إسماعيل الغزال، الإرهاب والقانون الدولي، بيروت 1990، ص 5؛. د . إمام حسانين خليل، الإرهاب بين التجريم والمشروعية، 2001 ، ص31.

([34]) د. أسامة الغزالى حرب، مرجع سابق، ص 14 : 17 .

([35]) تنص الفقرة الثانية من المادة الراعة من اتفاقيات جنيف على: “2) أفراد المليشيات الأخرى والوحدات المتطوعة الأخرى، بمن فيهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة، الذين ينتمون إلى أحد أطراف النزاع ويعملون داخل أو خارج إقليمهم، حتى لو كان هذا الإقليم محتلاً، على أن تتوفر الشروط التالية في هذه المليشيات أو الوحدات المتطوعة بما فيها حركات المقاومة المنظمة المذكورة: أ – أن يقودها شخص مسئول عن مرؤوسيه. ب- أن تكون لها شارة مميزة محددة يمكن تمييزها من بعد. ج‌- أن تحمل الأسلحة جهراً.

د – أن تلتزم في عملياتها بقوانين الحرب وعاداتها. ويلاحظ هنا إصرار الدول الاستعمارية عند وضع هذه الاتفاقيات على إيراد عبارة حركات المقاومة المنظمة بغية تضييق الخناق على الثورات المسلحة ضد سلطات الاحتلال وقد أكدت المادة (44) من البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف 1949 على ضرورة توافر شرطين وضع إشارة مميزة وحمل السلاح علناً للاستفادة مما يقره القانون الدولي من حماية.

ولا يخفى ما في هذه الشروط من إجحاف بحق المقاومة, والتي يتسم نشاطها غالباً بالسرية كما ان حمل السلاح علناً لم يعد أمرا معقولا في عمليات الحروب الحديثة؛ لذلك وجد الكثيرون ان الشرطين المتعلقين بالشارة المميزة, وحمل السلاح علناً لم يعد يشكلان قيدين واجبي الاحترام, وقد تفهمت المحاكم المنشأة بعد الحرب العالمية الثانية هذه الصعوبات فاتخذت موقفاً لينأ تجاه حركات المقاومة التي لم تلتزم كلياً بهذه الشروط. ؛انظر: أمل يا زجي، الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن ، دار الفكر ، دمشق ، 2002، ص30.

([36]) د.محمد سامي عبد الحميد ، أصول القانون الدولي – القاعدة الدولية ،مؤسسة الثقافة الجامعية، 1980 ط5، ص 167.

([37]) د.أنور سلطان ، المبادئ القانونية العامة ، دار النهضة العربية 1974 ، ص 10.

([38]) د.عمر إسماعيل سعد الله ، المرجع السابق ، ص98؛ د.حسام أحمد محمد هنداوي، حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، المجلة المصرية للقانون الدولي، عدد 47،1991 ، ص 93.

([39]) د.حسام أحمد محمد هنداوي ، مرجع سابق، ص93.

([40]) د.محمد طلعت الغنيمي ، الوسيط في قانون السلام ، منشأة المعارف 1993 ، ص 337.

([41]) د.محمد طلعت الغنيمي ، المرجع السابق ، ص 339.

([42])A.COBBAN, National Self-Determination, Oxford University press, 1945, P.46.

([43]) تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن الإعلان العالمي لحق الشعوب في تقرير المصير والإسراع في منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة من أهمية لضمان حقوق الإنسان ومراعاتها على الوجه الفعال )الوثيقة رقم(A/38/ 447 راجع مجلة الأمم المتحدة، ديسمبر 1983 ، العدد 11 ، ص 82.

([44]) د.عمر إسماعيل سعد الله ، المرجع السابق ، صفحة 103.

([45]) عبد الرحمن أبو النصر، مرجع سابق، ص 136.

([46]) المرجع سابق، ص 136.

([47]) د.محمد طلعت الغنيمي ، المرجع السابق ، ص 339.

([48]) د.جعفر عبد السلام ، من أوراق القضية الفلسطينية ، دار النهضة العربية ، مقال حول حق تقرير المصير.

([49]) الكتاب السنوي للجنة ، الجزء الثاني، عام 1979، ص 134.

([50]) د.حسام هنداوي ، مرجع سابق ، ص 97.

([51]) د.مفيد شهاب، المنظمات الدولية، القاهرة، 1974، ص 217.

([52]) د.طلعت الغنيمي ، المرجع السابق، ص 349.

([53]) د. حامد سلطان ود. عائشة راتب ود. صلاح الدين عامر، القانون الدولي العام، دار النهضة العربية،1987، ط 4، ص 245.

([54]) تقرير مؤتمر الصليب الأحمر الدولي 25 في سنة 1957 حول إعادة قانون الحرب.

([55])Jean Pictet, Development and Principles lf I.H.L.D.I. , Geneva 1985 P22,P23

([56])W.T. Mallison &R.A. Jabri, The Juridical Characteristies of Belligerent Occupation and the Resort to Resistanace by the civilian Population Doctrinal Development and continuity.Geo.Wash.Un.L.R. Jan. 1974, Vol.42, P.192.

([57]) د.صلاح الدين عامر ، المرجع السابق ، ص 168؛ علاء الدين خماسي، مرجع سابق، ص 1.

([58]) علاء الدين خماسي ، المرجع السابق، ص831.

([59]) المرجع السابق ، ص 184.

([60])RABUS, Le Statut juridigue des partisans dans Lesdroit International public, These

de doctorat, Paris, 1967 P.139.

([61]) عبد الرحمن أبو النصر، مرجع سابق، ص 46.

([62]) انظر تفصيلاً حول كافة المقترحات التي تمت مناقشتها في هذه المؤتمرات حول هذا الموضوع علاء الدين خماسي، المرجع السابق، ص 188.

([63])C.A.P. – I.C.R.C Geneva, 1987, p.p 41

([64]) مسعود عبد الرحمن زيدان، الإرهاب في ضوء القانون الدولي، دار الكتب القانونية، ط 2007 ، ص 100.

([65]) نعوم شومسكي، الإرهاب الدولي الأسطورة والواقع، ترجمة صبري لبنى، ط 1990 ، ص 7-9.

([66]) مسعود عبد الرحمن زيدان، المرجع السابق، ص 103.

([67]) هداج رضا، مرجع سابق، ص 135.

([68]) د. محيى الدين عشماوى، المرجع السابق.

([69]) د.محمد المجذوب، المقاومة الشعبية، موقع .www.moqawama.org

([70]) د.عزيز شكري ، المرجع السابق – صفحة 50.

([71]) المرجع السابق ، صفحة 51.

([72]) د.محمد المجذوب، المرجع السابق.

([73]) رجاء الناصر، قراءة في الاتفاقية العربية، موقع: www.lybin humai rights.com.

([74]) د.عمر إسماعيل سعد الله، تقرير المصير السياسي، المرجع سابق، ص 372.

([75]) هداج رضا ، المرجع السابق، ص 140-142.

([76]) رجاء الناصر، المرجع السابق.

([77]) انظر قرار الجمعية العامة الصادر في 12 سبتمبر 2001 / 2 الذي أدان هذه الهجمات، ص 56.

([78]) راجع على سبيل المثال، د. محمد خلف، حق الدفاع الشرعي في القانون الدولي الجنائي: دراسة تأصيلية تحليلية مقارنة، الطبعة الثانية مطابع دار الحقيقة، بني غازي، ص485-497.

([79])Thierry meyssan,11septembre 2001,l’effroyable imposture,Ed cornot, 2002, P.100.

([80]) د. احمد محمد رفعت ، المرجع السابق، ص 138.

([81]) هداج رضا، مرجع سابق، ص 147.

([82]) نبيل لوقا بباوي، الإرهاب صناعة غير إسلامية، دار البباوي النشر، ط 2002 ، ص 61.

([83]) المرجع السابق، ص 62.

([84]) محمد عزيز شكري، المرجع السابق، ص 167.

([85]) هداج رضا، المرجع السابق، ص 151.

([86]) د.هيثم موسى حسن، التفرقة بين الإرهاب الدولي ومقاومة الاحتلال في العلاقات الدولية، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، عين شمس، 1999، ص 362.

([87]) المرجع السابق، ص625.

([88]) فلابد من التميز بين الأعمال الموجهة ضد المدنيين الأبرياء وغير الأبرياء، حسبما ذهب إليه الكثير من الدارسين، وقد ذهب د.احمد أبو الوفا إلى أن استخدام الإرهاب أي كانت نوعيته يعتبر غير مشروع إذا استخدم ضد الأشخاص الأبرياء بغض النظر عن بواعثه ، إلا أن يكون معاملة بالمثل أو ردا على اعتداء قائم؛ هيثم حسن، المرجع السابق، ص 632.

([89]) هداج رضا، المرجع السابق، ص 154.

([90]) هيثم حسن، المرجع السابق، ص 636.

([91]) هيثم حسن، المرجع السباق، ص 626.

([92]) هداج رضا، المرجع السابق، ص 155.

([93]) هيثم حسن، المرجع السابق، ص 627- 628.