بحث قانوني حول الأطر القانونية للمفاهيم الاقتصادية

مقال حول: بحث قانوني حول الأطر القانونية للمفاهيم الاقتصادية

الإطار القانوني للمفاهميم الاقتصادية

مقدمة:
تعتبر القاعدة القانونية مرآة عاكسة للمجتمع الذي تطبق فيه؛ فهي تعكس الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية.

إلا أنه و لما كانت ظروف المجتمع، السالف ذكرها مجتمعة تتغير باستمرار و تشهد تحولات متلاحقة، فإن القاعدة القانونية وحتى تتحقق الغاية المتوخاة منها، و التي هي تنظيم العلاقات المتشابكة، التي تفرزها المعاملات الإنسانية، يتعين أن تستجيب باستمرار للتحولات التي يشهدها المجتمع في شتى المناحي. [1]

و بناء على ما تقدم، فإن القول بأن القواعد العامة المنصوص عليها في القانون المدني قادرة على تأطير الظواهر المستجدة التي عرفها مجتمع اليوم لن يصمد أمام النقد الموضوعي.

و في هذا السياق يأتي موضوعنا ليتناول بالدرس و التحليل، قدر الإمكان، التحولات المفاهيمية التي أفرزتها ضرورة تأطير الظواهر المستجدة داخل المجتمع خصوصا مع تطور الصناعةو التجارة.

و إذا كانت هيمنة القانون المدني جاءت لتتلاءم مع الثورة العقارية، فإن تركيز مجتمع اليوم على التجارة أفرز هيمنة القانون التجاري الذي عرف بدوره تحولا نحو قانون الأعمال[2] وصولا إلى ما أصبح يصطلح عليه بالقانون الاقتصادي، و هذه التحولات مست بدون شك محيط المقاولة المغربية، باعتبارها نواة الاقتصاد الوطني، فأثرت فيها و تأثرت بها و إن اختلفت درجة التأثير و التأثر.

و المقاولة بمجرد ما تتأسس و تبدأ في ممارسة نشاطها تصبح مرتبطة بعلاقات متشابكة مع مختلف الفاعلين الاقتصاديين؛ [3] و هذه العلاقات كلها مؤطرة بقواعد قانونية قد تستدعي مواكبة المستجدات إعادة النظر فيها.

و لذلك فإن التحولات التي عرفتها و تعرفها المفاهيم القانونية المؤطرة لمحيط المقاولة، و التي تضمنتها و تتضمنها التعديلات التشريعية المتلاحقة، يتعين أن تراعي المصالح المشروعة و المترتبة عن العلاقات التي تربط المقاولة بمحيطها؛ و بعبارة أخرى فإن أي تحول في المفاهيم القانونية السائدة يجب أن يراعي المصالح المذكورة، لا أن يحصل هذا التحول في المفاهيم بعيدا عن المؤثرات الاقتصادية، و استجابة لنظريات مستوردة و التي قد لا تتلاءم مع خصوصيات المقاولة المغربية.

لهذه الاعتبارات يكتسي موضوع هذا العرض أهمية قصوى على عدة مستويات؛ فعلى المستوى الاقتصادي ستمكننا دراسة الموضوع، في مرحلة أولى من معرفة مدى خدمة النظريات التقليدية من جهة و المفاهيم القانونية الجديدة من جهة أخرى للاقتصاد الوطني، لنخلص في مرحلة لاحقة لمعرفة تأثير المفاهيم الجديدة على الواقع الاقتصادي للمقاولة المغربية و كذا طبيعة التوجه الاقتصادي الذي تنهجه الدولة.

و على المستوى الاجتماعي، سنتمكن من خلال هذه الدراسة من الوقوف على مدى عدالة أو مصداقية هذه المفاهيم الجديدة و كذا فعاليتها من أجل تحقيق التنمية المنشودة، ومن جهة ثانية الوقوف على مصدر هذه المفاهيم من خلال تحديد مصدر القواعد القانونية التي تتضمنها، فيما إذا كانت نابعة من روح المجتمع المغربي أم أنها مستوردة من تشريعات أخرى.

أما على المستوى القانوني، فإن دراسة من هذا النوع ستجعلنا نلامس الخطوط العريضة للسياسة التشريعية التي نهجها و ينهجها المشرع المغربي لتحقيق الفعالية في مجال الأعمال و المقاولات، كل ذلك من خلال الوقوف على مدى توفير المناخ الملائم للمقاولة باعتبارها نواة الاقتصاد الوطني حتى تساهم في تحقيق الأهداف الاقتصادية المسطرة.

هذا، و ستتجلى لنا أهمية الموضوع أكثر من خلال الوقوف و لو بشكل مقتضب على المحطات التاريخية للتحولات المتحدث عنها؛ و في هذا الصدد نشير إلى أنه كانت السيادة في البداية للقانون المدني، الذي تميز و لايزال بالبطء و بالشكلية، إلا أن ظهور التجارة و تطورها أدى إلى ضرورة إيجاد قواعد قانونية خاصة تستجيب لخصوصيات النشاط التجاري المتمثلة على الخصوص في السرعة و الائتمان، فبرز القانون التجاري. و لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه ونتيجة لكون المجتمعات و أنشطتها بالتبعية لا تكف عن التطور خصوصا في المجال التجاري، و بالتالي ظهرت تحولات مهمة بظهور أنشطة تجارية جديدة تستدعي قواعد قانونية خاصة تشكل استثناء من القواعد العامة في القانون التجاري لنصبح بذلك أمام استثناء من الاستثناء.

كل ذلك نتج عنه، كما سلف الذكر، تحول في المفاهيم المؤطرة من قريب أوبعيد لمحيط المقاولة في محاولة لتهيئ المناخ الملائم لهذه الأخيرة لتقوم بالدور المنوط بها باعتبارها نواة الاقتصاد الوطني.

و بقدر ما يكتسي الموضوع من أهمية كبرى، فإنه يطرح إشكاليات من قبيل التساؤل عن مكانة التعديلات التشريعية المتلاحقة بالمغرب من الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي المحلي و الذي تشكل المقاولة جزءا منه؟ و مدى التوافق بين هذه التعديلات و بين التركيبية الداخلية للمجتمع المغربي بما في ذلك خصوصيات الصناعة و التجارة و الاقتصاد المغربي بشكل عام؟ [4]

ثم ما مدى قدرة المقاولة المغربية على استيعاب التحولات الحديثة المهيمنة على محيطها الدولي خصوصا في ظل الثورة التكنولوجية؟

و بالرغم من أهمية هذه الإشكاليات فإننا لن نتعرض لها لكوننا لا نريد الدخول في العلاقة الجدلية بين الاقتصاد و القانون باعتباره يشكل موضوعا مستقلا، و إنما سنركز على إشكاليتين أساسيتين؛ ماهي الأسباب الكامنة وراء خروج المشرع المغربي عن النظريات التقليدية في محاولة لتأسيس مفاهيم جديدة؟ و إلى أي حد تستجيب هذه المفاهيم الجديدة للمصالح المشروعة لكل من المقاولة و المستهلك و الاقتصاد الوطني ككل؟

هذا، و يمكن معالجة الموضوع من خلال عدة تصاميم من قبيل تقسيمه إلى شقين يخصص الأول منهما للحديث عن طبيعة هذه المفاهيم الجديدة ويتناول الثاني أثرها على المبادىء العامة، إلا أن هذا التقسيم الكلاسيكي لا يفي بالإشكالية المطروحة على اعتبار أنه يسلط الضوء على الموضوع من زاوية قانونية فقط و لا يمكننا من النفاذ إلى المصالح المتعارضة الكامنة وراء بروز هذه المفاهيم الجديدة؛ لذا سنتناول الموضوع من خلال التصميم الآتي:

المبحث الأول: المفاهيم الجديدة المؤطرة للمقاولة كمؤسسة
المبحث الثاني: المفاهيم الجديدة المؤطرة لعلاقة المقاولة بمحيطها الاقتصادي

المفاهيم المؤطرة لتأسيس المقاولة
المفاهيم المؤطرة للمقاولة – المبحث الأول:
ظلت المقاولة، سواء الفردية أو الجماعية، خاضعة لمقتضيات القانون المدني، إلا أن إفرازات الثورة الصناعية و تطور التجارة فرضا انسجام القواعد القانونية المؤطرة للمقاولة؛ هذا الأخير الذي مافتىء يشهد تحولات عديدة و في وقت قياسي، مما يجعل القاعدة القانونية السابقة عاجزة عن تأطير كل التحولات المستجدة، و بالتالي حصل تغير في القواعد و النظريات القانونية التقليدية. و هو ما سنحاول الوقوف عليه من خلال إبراز هذه التحولات ابتداء من تأسيس المقاولة، ثم في حياتها، وصولا إلى نهايتها.

و لما كانت المقاولة هي نواة الاقتصاد الوطني، فإن الملاحظ أن أغلب التشريعات، بما في ذلك التشريع المغربي، أصبحت تراهن قدر الإمكان على الإبقاء على المقاولة. و هنا نجد أنفسنا أمام مجموعة تساؤلات؛ فما هي هذه المفاهيم الجديدة؟ و أين يتجلى فيها هاجس حماية المقاولة؟ و إلى أي حد توفق المشرع المغربي في تفعيل هذه المفاهيم الجديدة بشكل يحقق مصلحة الاقتصاد الوطني؟

المطلب الأول: المفاهيم المؤطرة لتأسيس المقاولة
لما كان القانون التجاري تطغى عليه العملية بالمقارنة مع القانون المدني، على اعتبار أن الأول لا يولي اهتماما كبيرا بالمبادىء العامة لأنه يبحث فقط عن إيجاد وسائل و آليات ملائمة للتجار لإنجاح عملياتهم التجارية؛ كان طبيعيا أن نكون أمام تحولات مفاهيمية على مستوى القواعد القانونية المتعلقة بالمقاولة. [1]

فإذا كان القانون المدني يهتم من خلال النظرية العامة للالتزامات بكيفية انعقاد العقود و تنفيذها و انقضائها، فإن نفس الشيء يصدق على قانون الأعمال، لكن هذا الأخير يعطي حلولا مختلفة عن تلك المعروفة في القانون المدني، و يستعمل تقنيات خاصة.

و هكذا فالتحولات المفاهيمية المتحدث عنها أعلاه تظهر على عدة مستويات، إن كان ذلك فيما يتعلق بالأهلية، أ الكراء التجاري، قواعد الإثبات، رسملة الفوائد، وكذا البطلان و الإبطال، مبدأ سلطان الإرادة، نظرية الظاهر، و ما إلى ذالك من التحولات الأخرى.

فعلى مستوى الأهلية يظهر أن الطابع الغالب في قانون الأعمال هو عدم إيلاء الأهلية اهتماما كبيرا؛ ذلك أن القاصر يمكن أن يكون شريكا بل و مؤسسا في بعض الشركات، فالأهلية تتطلب فقط في المؤسسين و لا تتطلب في الشركاء إلا في شركات معينة، و التي يترتب على اشتراك الشخص فيها اكتساب صفة تاجر.

و هذه نقطة إيجابية تحتسب للمشرع المغربي على اعتبار أن عدم تطلب الأهلية في بعض الحالات التي تكون فيها مسؤولية الشريك محدودة، يمكن من جمع رؤوس المال للقيام بإنجاز مشاريع كبرى.

كما أن الكراء التجاري بدوره يجسد التحول الذي نحاول إبرازه، بحيث أنه إذا كان الكراء المدني ينتهي مبدئيا بانتهاء مدته إذا كان العقد محدد المدة، و بسلوك مسطرة الإفراغ إذا كان العقد غير محدد المدة. [2] فإن بيئة الأعمال أفرزت حلولا أخرى، و هو ما يتجلى من خلال ظهير 24 ماي 1955 حيث حدد المشرع مدة معينة(سنتين بالنسبة للعقد الكتابي و أربع سنوات بالنسبة للعقد الشفوي) يتكون بعدها الحق في الكراء لفائدة المكتري رغما عن إرادة المكري، فيسوغ للمكتري أن يتخلى بعد ذلك عن حقه أو يوليه للغير طبقا للفصل 37 من ذات الظهير المذكور، و في حالة تعنت المكتري و إصراره على الإفراغ فقد خوله المشرع الحق في تعويض يساوي قيمة الأصل التجاري علاوة عن مصاريف التنقل.

وهكذا فإن تنصيص المشرع على الحق في الكراء من شأنه أن يحافظ على الأصل التجاري و بالتالي المحافظة على وحدة إنتاجية و مناصب شغل كل ذلك خدمة للاقتصاد الوطني.

و إذا كان النشاط التجاري يتميز بالسرعة و الائتمان، فإن قواعد الإثبات الموجودة في القانون المدني لا شك أنها غدت تعرقل السير العادي للتجارة، مما أدى إلى خلق قواعد جديدة في هذا الإطار، فأصبحنا أمام حرية الإثبات في الميدان التجاري، [3] و دائما في نفس الإطار-الإثبات- و بالضبط فيما يخص كشف الحساب كدليل يقدم إلى القضاء بناسبة النزاعات التي تثور بين البنك و زبنائه، فإن الأمر عرف تدرجا من قبل القضاء، من عدم قبول كشف الحساب كدليل استنادا إلى القاعدة التي تقول بعدم قبول الدليل الذي يصنعه مقدمه، إلى قبول مشروط بكون النزاع قائما بين البنك وزبون تاجر، وصولا إلى الاعتراف التشريعي الصريح بالقيمة الإثباتية لكشف الحساب مع التعديل الأخير للقانون البنكي.

و على مستوى التقادم ثبت أن طول مدة التقادم المنصوص عليها في ق.ل.ع تضر باستقرار المعاملات، و بالتالي تم إقرار مدد قصيرة للتقادم تتراوح ما بين خمسي سنوات و ستة أشهر. [4]

كما أن رسملة الفوائد في المجال التجاري عرفت بدورها تحولا، وبشكل تدريجي، من عدم قبول رسملة الفوائد في المجال المدني، [5] إلى إمكان قبول رسملتها بشكل عام في المجال التجاري، [6]

إلى أن أصبح بالإمكان رسملة هذه الفوائد في المجال البنكي كل ثلاثة أشهر طبقا للمادة 794 من مدونة التجارة. [7]

وفيما يتعلق بالبطلان و الإبطال، فالملاحظ أنه إذا كانت النظرية العامة تذهب في اتجاه سريان البطلان بأثر رجعي، فإن قانون الأعمال أعطى مفهوما جديدا للبطلان يجعله لا يسري إلا على المستقبل، [8] كما أن المشرع حصر أسباب البطلان في مخالفة المقتضيات ذات الأهمية مع فسح المجال لتصحيحها و نص على آجال لتقادم دعوى البطلان من خلال المادتين 337 و 338 من قانون 17-95 المتعلق بشركة المساهمة.

الملاحظ هنا أن إمكانية إصلاح سبب البطلان في هذا المجال تنم عن وعي المشرع بمصلحة الشركة و الشركاء و الاقتصاد الوطني التي تستوجب توفير حظوظ البقاء للمقاولة، لأن التشبت بالقاعدة الأصلية القاضية بالبطلان بقوة القانون يعني الحكم على منشأة اقتصادية بالزوال و تعطيل الاستثمار. [9]

كما أن إفراز البيئة الاقتصادية لما اصطلح عليه بالشركة ذات المسؤولية المحدودة قد شكل ثورة على المفاهيم التقليدية و اندحارا لمفهوم العقد[10]؛ فهذه الشركة تجاوزت مفهوم نية المشاركة على اعتبار أنه لا يمكن تصور شريك يشترك مع ذاته، و تجاوزت كذلك مبدأ وحدة الذمة المالية المنصوص عليه في الفصل 1241 من ق.ل.ع. [11]

و إذا كان إقدام المشرع على الأخذ بالشركة ذات المسؤولية المحدودة ذات الرجل الوحيد يمكن من خلق شخص معنوي مستقل عن مؤسسه، فإن التساؤل الذي يطرح هو إلى أي مدى ترقى عقلية المقاول المغربي إلى مستوى الفصل بين ذمته المالية وذمة الشركة فيلتزم بمسك محاسبة خاصة بالشركة؟ ربما لن يحتاج الأمر إلى دليل للقول بخلاف ذلك، إذ غالبا ما يتم الخلط بين أموال الشركة و أموال الشريك، لذا نجد المؤسسات البنكية تطلب كفالة المسير كضمان بالإضافة إلى الضمان الذي تمثله أموال الشركة، وبالتالي يتم الخروج عن الغاية المتوخاة من قبل المشرع.

و إذا كان المبدأ في القانون المدني أن العقد لا يلزم إلا من كان طرفا فيه إذا كانت مقتضيات العقد لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا باتفاق جميع الأطراف فإنه في ميدان قانون الأعمال يكفي أن تتوفر الأغلبية لتعديل مقتضيات العقد. [12]

و يمكن أن نسجل تحولا آخر في المفاهيم يتجسد في نظرية الظاهر؛ فإذا كان الأصل في القانون المدني أن يعمل بالحقيقة إذا كانت مخالفة للظاهر، فإنه في ميدان الأعمال تتم التضحية بالحقيقة إذا لم يكن يعكسها الظاهر؛ و مثال ذلك كون المشرع يضفي صفة تاجر على الممنوعين من ممارسة التجارة، (المادة 11 من م.ت).

من خلال ما سبق، يظهر أن المشرع لا يقدس المبادىء القانونية العامة، بل يخرج عنها كلما اقتضى الأمر ذلك تماشيا مع التوجه الليبرالي الذي ينهجه المغرب؛ حيث نجده-المشرع- ينص على أن شركة المساهمة هي الشريعة العامة بالنسبة لباقي الشركات، و هو ما ينم عن وفاء المشرع المغربي لخياره الاقتصادي، إذ لا يخفى عن الجميع أن شركة المساهمة أداة ممتازة من أدوات الليبرالية الاقتصادية، و باعتبار المغرب اختار النظام الليبرالي الاقتصادي في جميع جوانب سياسته، بالإضافة إلى أن تبرير إصلاح قانون الشركات يجد أساسه في مواكبة النهج الليبرالي و تفعيل قانون الخوصصة، و إعداد نسيج المقاولات المغربية لمسايرة التزاماتها للمقتضيات العالمية المترتبة عن اتفاقيات الكات والشراكة مع الاتحاد الأوربي. فإنه و انسجاما مع نفس الوضع كان على المشرع المغربي إبداع تطبيقات لشركة المساهمة بصورة ملائمة لأنواع المقاولات حسب أهميتها بناء على معايير اقتصادية و اجتماعية و تقنية و قانونية تميز بين الصغيرة و المتوسطة منها. [13]

و يمكن القول بأن المشرع يجب أن تكون له رؤية واضحة، فاختيار المغرب للنهج الليبرالي يستلزم منه أن يعمل على تأهيل المقاولة المغربية من خلال توحيد الإطار القانوني السالف ذكره على اعتباره الخيار الذي ينسجم مع التصور الليبرالي، لتكون بذلك المقاولة في مستوى هذا التحدي.

هذا، وإذا كان ما تقدم يبين لنا بجلاء مجموعة من التحولات- وليس كلها- التي تعكس تطورا في فلسفة المشرع، فإن التحول ذاته نلمسه في الانتقال من نظام الإفلاس إلى نظام صعوبات المقاولة.

_________________________________

المفاهيم المتولدة عن التطور التكنولوجي – المطلب الثاني:
نتج عن التطور التكنولوجي ظهور وسائل جديدة للتعاقد، ترتب عنها تغير في مجموعة من المفاهيم القانونية حتى تستجيب لخصوصيات الظاهرة الجديدة، هذه التحولات التي شملت على الخصوص الإثبات، التوقيع، و ظهور مؤسسة جديدة اصطلح عليها مؤسسة المصادقة الالكترونية.

فعلى مستوى الإثبات، إذا كانت القاعدة العامة المنصوص عليها في قانون الالتزامات و العقود، تقضي بأن الدليل الكتابي ينتج من ورقة رسمية أو عرفية وبالتالي فهناك إقصاء للوثيقة الالكترونية التي تعتبر إشارات ضوئية(الفصل 417 من ق.ل.ع)، و الورقة العرفية دليل على تاريخها فقط في مواجهة الأطراف (الفصل 425 من ق.ل.ع )، و ضرورة توقيع الورقة العرفية باليد لكي يعتد بها قانونا (الفصل 426 من ق.ل.ع )، و أن النسخة المشهود بمطابقتها للأصل من طرف الموظف المختص لها نفس القوة القانونية التي للأصل ( الفصل 440 من ق.ل.ع )، و اشتراط الكتابة للإثبات إذا تجاوزت قيمة الالتزام 250 درهما ( الفصل 443 من ق.ل .ع ).

و لما كانت القواعد المذكورة أصبحت كلها تشكل عراقيل أمام التجارة الالكترونية على اعتبار أن هذه الأخيرة تعتمد على آليات و ميكانيزمات تتجاوز القواعد التقليدية مما فرض تحولا في المفاهيم، و هو ما حدى بالمشرع المغربي إلى مواكبة التشريعات الحديثة في هذا المجال، من خلال مشروع قانون رقم 53-05 يتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية، غير من خلال مادته الخامسة كل المفاهيم الواردة في الفصول السابق ذكرها من ق.ل.ع [1].

وهكذا أصبح الدليل الكتابي يشمل كذلك الشارات الضوئية أو الرموز ذات الدلالة الواضحة كيفما كانت طريقة إرسالها، كما أن مفهوم التوقيع لم يعد يقتصر على التوقيع باليد بل أصبح يشمل كذلك التوقيع الالكتروني، هذا الأخير الذي ستصبح له نفس القيمة القانونية للتوقيع العادي، ومن جهة أخرى أصبح من الممكن إثبات الالتزامات ت بجميع وسائل الإثبات بما شهادة الشهود، متى لم تتجاوز عشرة آلاف درهم، أما إذا تجاوزت هذه القيمة فيلزم إثباتها كتابة أو بشكل الكتروني.

و نفس السياق متع المشرع – من خلال المشروع المذكور – كل محرر مذيل بالتوقيع الالكتروني المؤمن[2] بنفس قوة الإثبات التي يتمتع بها المحرر المصادق على صحة توقيعه و المذيل بتاريخ تابت (الورقة الرسمية).

و إذا كان المشرع قد ساوى بين التوقيع الالكتروني المؤمن و الوثيقة الرسمية، بحيث أعطاه حجية قاطعة في مواجهة الغير لكونه ثابت التاريخ،فأن الإشكال يطرح حول إمكانية الطعن في التوقيع المؤمن على اعتبار أن الورقة الرسمية لا يطعن فيها إلا بالزور طبقا للقواعد العامة.

و في نفس السياق نجد المشرع المغربي –من خلال المشروع السالف ذكره – قد استحدث هيئة جديدة تقوم بدور الموثقين و العدول و الموظفين المخولين صلاحية المصادقة على الوثائق، حيث

جعل الوظيفة الرئيسية لهذه الأخيرة تتمثل في التعريف بين الأطراف و التأكد من نسبة الإمضاءات الالكترونية إليهم، فتقدم على ضوء ذلك شهادة الكترونية مؤمنة، يمكن اعتمادها أمام القضاء في حالة وقوع نزاع بين أطراف العلاقة التعاقدية بواسطة الانترنت، خاصة و أن المشرع يفرض عليها الاحتفاظ بأرشيف الكتروني.

و لما كانت مؤسسة المصادقة الالكترونية تقوم بدور جد خطير، فإن ذلك استوجب من المشرع الدقة في تنظيمها، ولذلك خصص لها حيزا كبيرا في المشروع المذكر؛ حيث اشترط في كل من يرغب في ممارسة مهنة مؤسسة المصادقة مجموعة من الشروط من أهمها أن يكون مقدم الخدمة معتمد من لدن السلطة الحكومية، وأن يتخذ شكل شركة يوجد مقرها الاجتماعي بالمغرب، و المشرع لم يحدد شكل الشركة على عكس ما قام به بالنسبة لبعض الأنشطة الخاضعة لمراقبة الدولة. إضافة ضرورة كون طالب الاعتماد على دراية بالمنظومة العامة للتشفير،و أن يتوفر على الكفاءات البشرية المؤهلة لتقديم خدمات المصادق الالكترونية، علاوة على التوفر على نظام سلامة قادر على اتقاء تزوير الشهادات الالكترونية و المحافظة على جميع المعلومات المتعلقة بالشهادة الالكترونية.

و لتفادي إمكانية حصول تعاقد بين طرفين أحدهما ناقص الأهلية على اعتبار التعاقد بواسطة وسائل الاتصال عن بعد يتم بين غائبين، فقد ألزم المشرع مؤسسات المصادقة الالكترونية من توافر الأهلية في الشخص الذي سلمت له الشهادة الالكترونية عن طريق إدلائه بوثيقة الهوية الرسمية قبل تمكينه من الاستفادة من خدماتها.

و نظرا لخطورة الدور المنوط بمؤسسات المصادقة، فقد ألزمها المشرع بأن تبرم عقد تأمين لتغطية أخطائها المهنية.

و نظرا لهيمنة المواقع الوهمية على شبكة الانترنت، فإن الاعتماد على مؤسسة المصادقة الالكترونية سيمكن من تفادي الاحتيال و التدليس، و بالتالي من شأنه أن يشجع الأفراد على التعامل بواسطة الانترنت، و يتيح للمقاولة فرصة لخلق مواقع تجارية على الشبكة للبحث عن مستهلكين جدد.

و إذا كان ما ذكر يتعلق بمؤسسات المصادقة الالكترونية المعتمدة بالمغرب، فإنه يمكن التساؤل عن القوة الإلزامية لشهادة المصادقة التي تقدمها مؤسسات معتمدة خارج المغرب، وفي هذا نجد المشرع من خلال المشروع السالف ذكره، قرر لشهادة الحجية المسلمة من مؤسسة مصادقة معتمدة بالخارج نفس حجية للشهادة المسلمة من مؤسسة معتمدة داخل المغرب، و لكن شرط أن يكون هناك اتفاق متعدد الأطراف يكون المغرب طرفا فيه أو اتفاق ثنائي يتعلق بالاعتراف المتبادل بين المغرب و بلد إقامة مقدم الخدمة( المادة 22 من المشروع المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية).

و لماكان المشرع المغربي بتنظيمه لمؤسسات المصادقة الالكترونية قد أحدث تحولا في المفاهيم من مؤسسة العدول و الموثقين إلى موثقين في الشبكة متوخيا في ذلك تحقيق الفعالية للقاعدة القانونية بدل تقديس المبادىء التقليدية، كل ذلك من أجل توفير المناخ الملائم للمقاولة ودمجها في محيطها الاقتصادي و التكنولوجي، فإن الأمر ليس بهذه البساطة، فالواقع المغربي يبين استفحال الأمية المعلوماتية[3] ، على اعتبار أن أغلبية المغاربة لم يتعودوا بعد على ثقافة التعاقد عن بعد، إضافة إلى كون المقولات المغربية تعتمد على الطرق التقليدية سواء في الإنتاج أو في تصريف هذا الأخير، فإن السؤال الذي يطرح ذاته هو هل المشرع المغربي توخى من خلال هذه التحولات في المفاهيم حماية المقاولة المغربية أم الأجنبية؟

خاتمة:
إذا كانت المقاولة هي نواة الاقتصاد، بحيث أن جميع التغيرات الاقتصادية التي لأفرزها عالم الأعمال ترجع إلى المقاولة، و هو استدعى من المشرع أن يكرس هذه التحولات في قالب قانوني ضاربا عرض الحائط المبادىء القانونية التقليدية حتى لا يحصل صرخ بين الاقتصاد و القانون، بل سير كل من هذين العنصرين في خط متوازي، فإن المقاولات ليست من درجة واحدة؛ فهناك مقاولات كبرى لها من الموارد البشرية و التقنية و المالية و التكنولوجية ما يسمح لها بتبني سياسة هجومية من أجل اكتساح أسواق جديدة الوطنية منها و الأجنبية، و في مقابل ذلك هناك مقاولات متوسطة و صغرى تعني من المديونية و ضعف الإمكانيات و انعدام التنظيم و هي المهيمنة على النسيج الاقتصادي المغربي، و بذلك فإن المفاهيم الجديدة التي أفرزها تطور الواقع الاقتصادي و كرسها المشرع من خلال التعديلات المتلاحقة لا تغدو أن تكون في صالح المقاولات الكبرى ليس إلا.

أمام هذا أصبح المغرب، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى إرادة سياسية حقيقية تمكن المقاولات الصغرى و المتوسطة المشكلة للنسيج الاقتصادي الوطني من الاستفادة من التحولات التشريعية في أفق تأهيل نفسها لتطوير قدرتها التنافسية

لائحة المراجع:
الكتب:
امحمد لفروجي- العقود البنكية بين مدونة التجارة و القانون البنكي- مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء- الطبعة الثانية 2001
خالد مداوي-حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع- الطبعة الأولى 2005
محمد بن أحمد بونبات- الجديد في كراء الأماكن المعدة للسكن أو الاستعمال المهني-المطبعة و الوراقة الوطنية- مراكش- الطبعة الثانية 2000 .
محمد كرام – محاضرات في مساطر صعوبات المقاولة – جامعة القاضي عياض كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية مراكش – السنة الجامعية 2005-2006
فؤاد معلال- شرح القانون التجاري المغربي الجديد- دار النشر غ.م- الطبعة الثانية2001 .

الأطروحات:
خالد مداوي-حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع- الطبعة الأولى 2005
المجلات:
أحمد الشيخ قاسم – دور التحكيم التجاري الدولي – مجلة المحاكم المغربية – العدد65 – يناير- أبريل 1992
المختار بكور- الشركة الفردية ذات المسؤولية المحدودة من شريك وحيد إصلاح أم بدعة- المجلة المغربية للقانون و السياسة و الاقتصاد- العدد 35
محمد الادريسي العلمي المشيشي- خصائص الشركات التجارية في التشريع الجديد- مجلة المحاكم المغربية- العدد 80 –السنة 2000 .
Ouverages :
4Yves GUYON- Droit des affaires-Edition Economica- 7eme édition 1992- Tome 1

مختلفات:
لطيفة وراوي، سعاد عيساوي، سهام عمرني، أحمد الميلي- نظام الوقاية من صعوبات المقاولة-عرض في مادة المقاولات التجارية – جامعة محمد الأول كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية – السنة الجامعية 2004-2005

الفهرس:
مقدمة
المبحث الأول: المفاهيم الجديدة المؤطرة للمقاولة
المطلب الأول: المفاهيم المؤطرة لتأسيس المقاولة
المطلب الثاني: هاجس المحافظة على المقاولة
المبحث الثاني:المفاهيم الجديدة المتولدة عن التطور الصناعي و التكنولوجي
المطلب الأول: المفاهيم المتولدة عن التطور الصناعي
المطلب الثاني:المفاهيم المتولدة عن التطور التكنولوجي
خاتمة
________________________________

نذكر من بين هذه التحولات العقد التجاري في مقابل العقد التجاري وبروز نوع جديد من الحقوق اصطلح عليه الحقوق المعنوية………… [1]
2 نقلا عن أستاذتنا فاتحة مشماشي في إحدى محاضراتها
2 تتجلى هذه العلاقات أساسا في كون المقاولة تشكل موردا لخزينة الدولة(الضرائب) و وحدة إنتاجية لتلبية حاجيات الاستهلاك و وحدة للتشغيل وتوفير مناصب شغل جديدة و بالتالي فهي ترفع من قيمة الناتج القومي. بعبارة أخرى فالمقاولة بمثابة ذلك المكانيزم الذي سيمكن من تحقيق الأهداف المسطرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
3كما أن نشاط المقاولة يتوقف من جهة على الأخذ بعين الاعتبار عنصرا مهما و هو المستهلك باعتباره الحلقة الأخيرة في المسلسل الاقتصادي ومن جهة أخرى على ضرورة تأهيلها حتى يتسنى لها مواكبة التحديات و الإكراهات التي تفرضها هيمنة المعلوميات.
3 و هو التساؤل الذي يجد مشروعيته إذا علمنا أن معظم المقاولات المشكلة لنسيجنا الاقتصادي يطبعها عدم الوعي بضرورة العمل على رفع مستواها من حيث القدرات الإنتاجية و التقنية.
راجع خالد مداوي-حقوق الملكية الصناعية في القانون الجديد رقم 97-17 –دار القلم للطباعة و النشر و التوزيع- الطبعة الأولى 2005 –ص 11 و ما بعدها.

4Yves GUYON- Droit des affaires-Edition Economica- 7eme édition 1992- Tome 1- P 7
5 للتوسيع أكثر راجع محمد بن أحمد بونبات- الجديد في كراء الأماكن المعدة للسكن أو الاستعمال المهني-المطبعة و الوراقة الوطنية- مراكش- الطبعة الثانية 2000 –ص 39 و ما بعدها.
6 المادة 334 من مدونة التجارة.
7 فالأصل في المادة التجارية هو أن مدة التقادم هي خمس سنوات إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك من قبيل ما نصت عليه295 من مدونة التجارة بخصوص تقادم الدعوى الصرفية.
8 و في ذلك ينص الفصل 874 من ق.ل.ع على مايلي ” يكون باطلا بين كل الناس اشتراط كون الفوائد غير المدفوعة تضم في آخر كل عام إلى رأس المال الأصلي لتصبح هي نفسها منتجة للفوائد.”
9 جاء في الفصل 873 من ق.ل.ع “…..و يسوغ في الشؤون التجارية احتساب الفوائد بالشهر و لكن لا يجوز اعتبارها من راس المال المنتج للفوائد حتى في الحسابات الجارية إلا بعد انتهاء كل نصف سنة”
10قانون 15-95 بمثابة مدونة التجارة منشورة بالجريدة الرسمية المؤرخة 3 إكتوبر1996 عدد 4418 صفحة 2187 .
11و في هذا الصدد تنص المادة 346 من قانون شركة المساهمة على ما يلي “كل شركة حكم ببطلانها تحل بقوة القانون دون أثر رجعي و تتم تصفيتها، و يكون لهذا البطلان تجاه الشركة نفس آثار الحل المنطوق به قضاء”
قانون شركة المساهمة منشور بالجريدة الرسمية عدد
12 فؤاد معلال- شرح القانون التجاري المغربي الجديد- دار النشر غ.م- الطبعة الثانية2001 –ص 248 .
12 المختار بكور- الشركة الفردية ذات المسؤولية المحدودة من شريك وحيد إصلاح أم بدعة- المجلة المغربية للقانون و السياسة و الاقتصاد- العدد 35 –ص 214 و مابعدها.
13 ينص الفصل 1241 من ق.ل.ع على مايلي “أموال المدين ضمان عام لدائنيه و يوزع ثمنها عليهم بنسبة دين كل واحد منهم ما لم توجد بينهم أسباب قانونية للأولوية”
15 حالة تعديل النظام الأساسي يتطلب الأمر فقط موافقة الأغلبية، فتسبح الأقلية ملزمة بموقف الأغلبية ولو لم تكن راضية بذلك.
16 محمد الادريسي العلمي المشيشي- خصائص الشركات التجارية في التشريع الجديد- مجلة المحاكم المغربية- العدد 80 –السنة 2000-ص 1 .
33 لإشارة لن نتحدث عن إشكالية العقود النموذجية لكونها كانت محل موضوع سابق.
33 التوقيع المؤمن الذي يتم إنشاؤه بشكل كانت معه هوية الموقع مؤكدة، و يشترط في التوقيع لكي مؤمنا أن يكون خاصا بالموقع،و أن يتم لإنشاؤه بوسائل يمكن للموقع الاحتفاظ بها تحت مرابته الخاصة، و أن تضمن – هذه الوسائل – للمحرر الموضوع عليه التوقيع علاقة تمكن كشف إي تغيير يلق بالمحرر المذكور، ثم أن يثبت بواسطة آلية مؤمنة لإنشاء التوقيع الالكتروني المتبة صلاحيتها بشهادة المطابقة. طبقا للمادة 6 من مشروع القانون المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية.
34نقلا عن أستاذنا عبد الكريم غالي في إحدى محاضراته.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.