مبدأ استقلال السلطة القضائية و ضمانات حق التقاضي في العراق

الدكتور منذر الفضل

أكاديمي وخبير قانوني – السويد

عضو لجنة كتابة الدستور العراقي عام 2005

عضو الجمعية الوطنية العراقية عام 2005

مقدمة

Introduction

يعتبر مبدأ استقلال السلطة القضائية من المبادئ المهمة والحيوية التي تتعلق بحقوق الإنسان ومنها حقه في التقاضي و حقه في ضمان المحاكمة العلنية العادلة وحقه في التعويض وحقه في توكيل محام وحقه في طلب العفو وغيرها من الحقوق الأساسية التي تكفلها الدساتير و القوانين , و هو يتعلق كذلك بنزاهة القاضي في تحقيق العدل والعدالة .لآن السلطة المختصة في تطبيق القانون هي السلطة القضائية ممثلة في المحاكم حيث أن وظيفة المحاكم هي تطبيق القانون وتحقيق العدالة إذ لا يكفي تطبيق القانون وحدة دون الوصول إلى الغرض الأساس منه وهو العدل ( المساواة ) والعدالة ( الانصاف ). و مما يتعلق بذلك ضرورة تنفيذ القانون والأحكام القضائية من السلطات المختصة بصورة سليمة .

وقد عرف هذا المبدأ منذ القدم , أي منذ الشرائع العراقية القديمة وفي العصر الفرعوني و في الحضارة اليونانية القديمة و اهتم به القانون الروماني وكذلك في الشريعة الإسلامية , حيث تدل الوقائع العديدة في الإسلام على دور القاضي العادل في تأدية وظيفته بصورة مستقلة وعلى تطبيق القانون بالتساوي بين البشر , لا فرق بين قوي وضعيف , غني وفقير , حاكم أو محكوم , لاعتبارات شرعية ودينية وأخلاقية .بل أن العديد من الناس كانوا يرفضون تولي منصب القضاء لخطورة هذا المنصب وأهميته في المجتمع لأيمانهم بوجود جزاء أخروي ودنيوي شديدين على من يخل بواجبات هذه الوظيفة ونذكر مثلا أن المنصور قام بتعذيب الأمام الفقيه أبو حنيفة وحبسه وجلدة ثم دس السم له لأنه رفض تولى منصب القضاء وهو العالم الورع الزاهد والعفيف الذي شكل مدرسة فقهية كبيرة معروفة .

و يشترط في القاضي شروطا عديدة يجب توفرها والتحقق منها وهي شروط ليست سهلة لضمان استقلال القضاء وعدم التدخل في شؤونه و إحقاق الحق بين الناس . وهذه الشروط منصوص عليها في كتب الفقه وفي القوانين الوضعية .ولا نعتقد بصواب الرأي القائل عدم جواز تولي المرأة للقضاء ونعتقد أن للمرأة الحق الكامل في العمل وبصورة متساوية مع الرجل وفي تولي الوظائف والمناصب دون تمييز بين الجنسين وفقا للشريعة الإسلامية و للمواثيق الدولية والدستور والقوانين الوطنية.ولغرض بيان بعض مظاهر مبدأ استقلال السلطة القضائية بوجهه عام والإشارة إلى جانب من الانتهاكات الخطيرة التي حصلت زمن النظام السابق في العراق ضد السلطة القضائية وفي مرحلة ما بعد تحرير العراق من الدكتاتورية سنوزع البحث على قسمين :

خطة البحث

القسم الأول – مبدأ استقلال السلطة القضائية

القسم القاني – ضمانات حق التقاضي في العراق

القسم الأول

مبدأ استقلال السلطة القضائية

أولا – مبدأ استقلال السلطة القضائية في المجتمع المدني ( دولة المؤسسات الدستورية )

لاشك أن فكرة المجتمع المدني ترتبط بقوة بنظام الدولة السياسي وأسلوب الحكم , وهذا المجتمع يقوم على المشاركة الواسعة الاختيارية في السلطة و على التعددية السياسية والقومية والدينية والمذهبية والديمقراطية وكذلك تحريم الطرق غير القانونية في المشاركة السياسية . ومن مظاهر هذا المجتمع احترام حقوق الإنسان وتسخير الثروات لخدمته و التكافؤ في فرص العمل والتعليم وتحريم التمييز بين الجنسين ومنع التمييز العرقي أو الديني أو في المعتقد وتفعيل دور القانون وتطبيقه بالتساوي بين البشر وكذلك منع كل أشكال الاستبداد في السلطة على أساس أنها وسيلة لخدمة الإنسان وليس لاضطهاده .ولذلك تكفل التشريعات في المجتمع المدني كل الحقوق والحريات للإنسان ضمن الضوابط القانونية المشروعة. ففي ظل المجتمع المدني تخضع الدولة و الحكام والمحكومين للقانون تنفيذا لمبدأ المساواة وتتحدد أدوار ومهام مؤسسات الدولة والمجتمع وفقا للدستور و للنظام القانوني.

أي أن مؤسسات المجتمع المذكور تتضمن مؤسسات تطوعية سياسية و اقتصادية واجتماعية وثقافية تظهر وتنظم إبداعات الأفراد وتطورها دون أي إجبار أو إكراه على أحد ودون تدخل من الدولة. بل أن واجب الدولة هو في حماية وتطوير ودعم فاعلية هذه المؤسسات و لهذا لا يوجد أحد فوق القانون. و يتم تداول السلطة سلميا ومن خلال الانتخابات الحرة طبقا لعلاقة ثابتة بين مؤسسات الحكم ومؤسسات المجتمع الحرة سالفة الذكر .والغاية من القانون تنظيم الدولة والمجتمع وتنظيم قواعد السلوك ووضع الجزاء على من يخالفه لان المجتمع لاي مكن ان يكون بلا قانون ولا قانون بلا دولة او سلطة تصدره وترعى سلطته القضائية تطبيقه.

و من الطبيعي أن الجزاء القانوني يتمثل في أشكاله المعروفة وهي الجزاء المدني والجزاء العقابي والجزاء التأديبي. وفي المجتمع المدني لابد من وجود الفصل بين السلطات ( السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية ) إلى جانب وجود محكمة دستورية عليا او محكمة اتحادية تتحدد مهامها بقانون . وفي المجتمع المدني يجري توظيف القضاء لخدمة الإنسان إذ أن لكل شخص حق ثابت في التقاضي ولا قيمة للقانون إذا لم يحقق العدل والعدالة في المجتمع.

ثانيا – مبدأ استقلال السلطة القضائية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يلي 🙁 ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء أخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم …..), وهذا يعني أهمية مراعاة حقوق البشر وبخلاف ذلك فان الإنسان يتمرد بقوة غير محسوبة النتائج ضد الظلم والطغيان .وخير ضمان للحصول على الحقوق عند حصول النزاع من القضاء ووفقا للقانون.

ولما كان مبدأ استقلال القضاء من المبادئ المهمة والحيوية في الدولة والمجتمع فان الدليل على هذه الأهمية هو أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقواعد الدولية الأخرى وكذلك الدساتير الوطنية التي نصت عليه وعلى حصانة القاضي الدستورية والقانونية , و على ضمانات التقاضي والمساواة أمام القضاء والحق في المعاملة الحسنه وقواعد أخرى مهمة متعلقة بهذا الأمر مثل مبدأ الفصل بين السلطات … فكيف يمكن لشخص أن يستعيد حقه بدون قضاء عادل يتمتع بالحصانة ومستقل في حكمة يساوي بين القوي والضعيف وبين القريب والبعيد لا يخضع لأي تأثير من أي مسؤول أو طرف ؟

ونستطيع القول أن هيبة القضاء وقوته من هيبة الدولة وقوتها, فإذا ضعف القضاء ضعفت الدولة لأنها ستقوم على الباطل والظلم و يبرز عندئذ طغيان الفرد ويلحق المجتمع الشلل من الحكم المطلق ويصاب المجتمع بخلل كبير , كما أن هيبة الدولة وقوتها من هيبة وقوة القضاء و حريته في تطبيق القانون واحترام قواعده من الحكام والمحكومين .

لذلك فأن مبدأ استقلال القضاء له صلة وطيدة بالحقوق المدنية للإنسان الثابتة في العهود الدولية التي التزمت بها الدول الموقعة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعلى الاتفاقيات الأخرى .

كما لابد من الإشارة إلى بعض القواعد الأساسية التي ننطلق منها في رسم ما هو المقصود بهذا المبدأ الدولي و الوطني , أي المحدد في العهود الدولية والدساتير الوطنية للدول .

فقد نصت المادة الثامنة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على انه ( لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لأنصافه عن أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون ) . ولا شك أن هذه الحقوق الأساسية معروفة مثل حق الإنسان في حياته والدفاع عنها وحقه في سلامة بدنه وكيانه الاعتباري وحقه في المحافظة على أمواله وحقه في إثبات براءته من التهمة المنسوبة له وغيرها .. كما نصت المادة التاسعة على انه ( لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا ).كما نصت المادة العاشرة على مبدأ المساواة إذ جاء مايلي ( لكل إنسان الحق , على قدم المساواة التامة مع الآخرين , في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وآيه تهمة جنائية توجه إليه).

وجاء أيضا في المادة 14 من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية و السياسية ما يلي:

((1- جميع الأشخاص متساوين أمام القضاء .ولكل فرد الحق , عند النظر في أية تهمة جنائية ضده أو في حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية , في محاكمة عادلة وعلنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون ………

2- لكل فرد متهم بتهم جنائية الحق في أن يعتبر بريئا ما لم تثبت إدانته طبقا للقانون . ))

ثم أضافت المادة فقرات أخرى تخص ضمانات المتهم في الحصول على محاكمة عادلة من مرحلة القبض على الشخص والتحقيق معه إلى مرحلة إصدار الحكم وإذا حصلت الإدانة وجب أن تنفذ العقوبة علية بما يتناسب والقيمة العليا للبشر فللحبس أو للسجن قواعد و أسس ومعايير دولية لا يجوز الإخلال بها ولآن فلسفة العقاب في الأنظمة التي تحترم القانون وتلتزم بالمعايير الدولية ليست تدمير الإنسان و إنما إصلاحه لأنه قيمة عليا.

وفي نطاق المبادئ الدولية العليا في هذا الميدان يذكر عادة جملة نذكر منها هي :

1- أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته

2- وان للمتهم الحق في توكيل محام

3-وان للمواطن الحق في الحصول على مساعدة الدولة

4-و أن جميع المواطنين متساوون في الحقوق

5- عدم جواز القبض على أي شخص أو توقيفه إلا بمقتضى القانون

6- عدم جواز منع المواطن من التقاضي ومراجعة المحاكم أو إجباره على مراجعة محكمة غير مختصة

وفيما يخص مبدأ استقلال القضاء فان الدساتير بوجه عام تنص على اسس مهمة هي :

1-القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون , ولا يجوز لآية سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة. وهذا يشير إلى أن نظام الحكم يجب أن لا يتدخل في شؤون القضاء أو تطبيق القانون من المحاكم , وبعبارة أخرى أن السلطتين التشريعية والتنفيذية أو غيرهما من الأجهزة – كالحزب – لا يحق لهما التدخل في مراحل العملية القضائية وتترك القضاء في ممارسة وظيفته لتطبيق القانون بحرية واستقلالية وبعيدا عن أي تأثير أو تدخلات خارجية أو ضغوط للتأثير على مجرى العدالة والانحراف نحو الظلم وعدم المساواة في تطبيق القانون ..

2-أن القضاة غير قابلين للعزل إلا وفقا للقانون .

3-القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم .

4-المحاكم مستقلة كل الاستقلال , تجاه جميع السلطات , في تحقيق الدعاوى والحكم فيها

وهذه القواعد العامة الأساسية موجودة حتى في دساتير الدول التي تقوم على حكم الفرد التي يغيب فيها حكم المؤسسات الدستورية أي الدول التي لا تقييم وزنا و احتراما للقانون الذي شرعته .ذلك لآن العبرة ليس في النص عليها و إنما في الاحترام الطوعي لها وفي خضوع الحكام والمحكومين لها .

كما يراد بمبدأ استقلال القضاء أن القاضي يحكم بما تمليه علية القواعد الموضوعية للقانون لتحقيق العدل والعدالة ويساوي بين القوي والضعيف , الغني والفقير , وعلى القاضي – طبقا للقانون – أن يتنحى عن منصة القضاء إذا وجد انه سوف لن يتمكن من ذلك في القضية المعروضة علية .. ونشير هنا إلى أن مما يتعلق بذلك هو ضرورة وجود الضمانات القانونية والمعايير العادلة والاستقلالية في اتخاذ الإجراءات القانونية في جميع المراحل أي منذ لحظة الاشتباه و الاتهام والتحقيق و المحاكمة وإصدار الحكم حتى مرحلة تنفيذ ه . وبالتالي لا يجوز لوزير العدل أو لآي مسؤول في الحزب والدولة أو لآي طرف من السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية التدخل في هذه المراحل من اجل ضمان تطبيق القانون بصورة سليمة و إيصال الحقوق إلى أصحابها بصورة صحيحة ولكي يؤدي المسؤول في الشرطة والمحقق والقاضي وغيرهم أدوارهم بحرية ونزاهة في تحقيق العدل و العدالة .

ثالثا – مبدأ استقلال القضاء في الدستور العراقي لسنه 1925 ( القانون الأساسي)

صدر القانون الأساسي العراقي في 21 آذار من عام 1925وقد عدل مرتين أولهما في 92 تموز 1925 وثانيهما في 27 تشرين الأول 1943 وقد تضمن القانون المذكور مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث , وفيما يخص السلطة القضائية فقد نصت عليه أحكام الباب الخامس منه , فالمادة 58 نصت على أن ( الحاكم ) ويراد به القاضي يعين بإرادة ملكية ولا يجوز عزلة إلا في الأحوال المصرحة في القانون المخصص ( ويراد به قانون السلطة القضائية ). والمحاكم على أصناف وهي المحاكم المدنية والمحاكم الدينية والمحاكم الخصوصية. وجاء في المادة 71 منه مايلي ( المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها ) وفي المادة 72 ( يجب أن تجري جميع المحاكمات علنا , إلا إذا وجد سبب من الأسباب المبينة قانونا في جواز عقد جلسات المجلس سرا ويجوز نشر أحكام المحاكم والمرافعات , إلا ما يعود منها إلى الجلسات السرية وتصدر كافة الأحكام بأسم الملك ).

كما تضمن القانون جملة من المبادئ العليا التي تضمن استقلال وهيبته القضاء في العراق ونذكر منها مثلا ما نص علية من انشأ محكمة عليا للبت بالأمور المتعلقة بتفسير القوانين وموافقتها للقانون الأساسي , إضافة إلى محاكمة الوزراء وأعضاء مجلس الأمة المتهمين بجرائم سياسية أو بجرائم تتعلق بوظائفهم. وقد عكس القانون الأساسي صورة واضحة لدولة المؤسسات القانونية آنذاك بما يكشف عن ضمان حق التقاضي واحترام السلطة القضائية.

رابعا – مبدأ استقلال السلطة القضائية في الدستور العراقي لعام 1970 المعدل

كانت السلطة التشريعية في زمن النظام الدكتاتوري هو مجلس قيادة الثورة , ففي 16 تموز من عام 1970 صدر الدستور العراقي المؤقت ونص في الباب الثالث منه على الحقوق والواجبات الاساسية ومنها مبدأ ان المتهم برئ حتى تثبت ادانته في محاكمة قانونية ( المادة 20 فقرة أ ) ونص ايضا على حق الدفاع المقدس للمتهم في جميع مراحل التحقيق والمحكمة وبأن جلسات المحاكمة علنية الا اذا قررت المحكمة جعلها سرية ومنعت المادة 20 منه ممارسة التعذيب او القبض على احد او توقيفه او حبسة او تفتيشه الا وفقا للقانون كما خصص الفصل الخامس من الباب الرابع للقضاء واورد ماتين فقط للسلطة القضائية !! تضمنت مبادئ دولية معروفة وهي :

· القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون.
· حق التقاضي مكفول لجميع المواطنين.
· يحدد القانون طريقة تشكيل المحاكم ودرجاتها واختصاصاتها وشروط تعيين الحكام والقضاة ونقلهم وترفيعهم ومقاضاتهم وإحالتهم على التقاعد.
· يحدد القانون وظائف الادعاء العام وأجهزته وشروط تعيين المدعين العامين ونوابهم وأصول نقلهم وترفيعهم ومقاضاتهم وإحالتهم على التقاعد.

وللأسف فان القضاء العراقي في زمن حكم البعث ودكتاتورية صدام عاش في محنة كبيرة وتعرض الى الاساءه والتدخلات والتسيس وفقد استقلاليته مما أثر على كثير من أحكامه ولم يحترم دستور ولا قانون في ظل شريعة قانون القوة .

خامسا – مبدأ استقلال السلطة القضائية في مشروع دستور عام 1990
على اثر انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988 , برزت دعوات في العراق للاستفادة من تجربة الحروب المدمرة والسعي إلى تأسيس قواعد المجتمع المدني ودولة القانون وإصدار دستور دائم للبلاد . وفعلا جرت ندوات متعددة لمناقشة واعداد الدراسات حول الدستور المؤقت لعام 1970 لغرض تجاوز الصيغة المؤقتة وإصدار الدستور الدائم الذي يفعل المؤسسات والقانون .ومحاولة تجاوز أخطاء الماضي .

وكان كاتب هذه السطور ممن وقع عليهم الاختيار لبيان ملاحظاته حول التصورات القانونية لعراق ما بعد كارثة الحرب من أجل بناء عراق تعددي وديمقراطي قائم على احترام حقوق الإنسان والمؤسسات الدستورية في ندوة عقدت في كلية الحقوق بجامعة بغداد عام 1988 , غير أن هذه المناقشات كانت عبارة عن غطاء أخفى النظام وراءه جريمة احتلال دولة الكويت في 2 أب من عام 1990 واستعاض النظام عن الدستور الدائم برفع كلمة ( المؤقت ) من دستور عام 1970.

 

ولو رجعنا إلى مشروع الدستور المذكور لوجدنا أن المادة 60 تنص على استقلال السلطة القضائية وان الحق في التقاضي مضمون لجميع المواطنين وان تنفيذ القانون يكون من السلطة العامة للدولة وان المواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات وغيرها من الأسس.

ولكن – كما هو معلوم – ليس العبرة في وجود النصوص المذكورة و إنما في تطبيقها , حيث أن من المعلوم للجميع حصلت انتهاكات خطيرة للمبادئ الدولية والدستورية في هذا الميدان بصورة لم يسبق لها نظير في تاريخ العراق و لا في تاريخ المنطقة ويمكن القول أن النظام القضائي في العراق في ظل عهد صدام هو (( نظام بلا عدالة ولا عدل )) لا بل كان بمثابة شريعة غاب في ظل حكم أسوء من النازية في اوربا والتي اندحرت عام 1945 .

خامسا- مبدأ استقلال السلطة القضائية في الدستور العراقي لعام 2005

خصص الدستور العراقي النافذ للسلطة القضائية ومبادئها الاساسية نص المادة 19 والتي تضمنت سلسلة من الاسس الجوهرية التي لا يمكن للدولة المدنية ان لا تعتمد عليها حيث جاء في المادة المذكورة مايلي :

(( المادة (19):
اولاً: القضاء مستقل لاسلطان عليه لغير القانون .
ثانياً: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة .
ثالثاً: التقاضي حق مصون ومكفول للجميع .
رابعاً: حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة .
خامساً: المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، ولا يحاكم المتهم عن التهمة ذاتها مرة أخرى بعد الافراج عنه إلا اذا ظهرت ادلة جديدة .
سادساً: لكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الاجراءات القضائية والادارية .
سابعاً: جلسات المحاكم علنية إلا اذا قررت المحكمة جعلها سرية .
ثامناً: العقوبة شخصية .
تاسعاً: ليس للقوانين اثر رجعي ما لم يُنص على خلاف ذلك، ولايشمل هذا الاستثناء قوانين الضرائب والرسوم .
عاشراً : لا يسري القانون الجزائي بأثر رجعي إلا إذا كان اصلح للمتهم .
حادي عشر: تنتدب المحكمة محامياً للدفاع عن المتهم بجناية أو جنحة لمن ليس له محامٍ يدافع عنه وعلى نفقة الدولة .
ثاني عشر :
أـ يحظر الحجز.
ب ـ لا يجوز الحبس أو التوقيف في غير الاماكن المخصصة لذلك وفقا لقوانين السجون المشمولة بالرعاية الصحية والاجتماعية والخاضعة لسلطات الدولة .
ثالث عشر: تعرض اوراق التحقيق الابتدائي على القاضي المختص خلال مدة لاتتجاوز اربعا وعشرين ساعة من حين القبض على المتهم ولايجوز تمديدها الا مرة واحدة وللمدة ذاتها .)).

القسم الثاني

إهدار حق التقاضي في العراق في ظل حكم البعث المقبور

( نظام قضائي بلا عدل ولا عدالة)

ليس من السهل التعرض لجميع حالات الانتهاكات الخطيرة ضد السلطة القضائية في العراق في ظل نظام صدام في هذه السطور لان الموضوع يحتاج إلى المزيد من الدراسات والتفصيل ولهذا لابد من الإشارة بإيجاز للبعض منها .ولعل من ابرز مظاهر انهيار مبدأ استقلال السلطة القضائية في العراق وبصورة تكشف عن تدخل خطير في شؤون القضاء بحيث اصبح القضاء مجرد نظام متآكل بلا عدالة ولا عدل ما يلي :

أولا – تسيس القضاء

والسؤال المطروح هل يجوز تسيس القضاء ؟ وهل هناك علاقة بين العقيدة السياسية للقاضي أو للمحقق وبين عملية تطبيق القانون ؟ وما هو المقصود بالقضاء الملتزم ؟ وهل أن القاضي الملتزم بالعقيدة السياسية يحكم بما تملية عقيدته أم بما تمليه قواعد القانون المجردة ؟

أن القاعدة القانونية تتميز بخصائص هي : أن القاعدة القانونية قاعدة سلوك أي تنظيم ما هو كائن وما يجب أن يكون علية سلوك الأشخاص في المجتمع ولهذا يضع القانون القواعد التقويمية لا التقريرية , أي أن الواقع الاجتماعي ينظم ويطور ويجري نقله و تقويمه بالنص القانوني في حين أن قانون الجاذبية الأرضية قاعدة مقررة للواقع تتحقق بموجبها دائما أمثال تلك الظواهر عند توافر أسبابها. فالقاعدة التقويمية هي قواعد السلوك التي يرسمها القانون. والخاصية الثانية أن القاعدة القانونية قاعدة عامة مجردة وان الخاصية الثالثة إنها قاعدة موجه إلى الجميع ثم إنها قاعدة ملزمة لوجود الجزاء على من يخالفها.

أما عملية الفصل بين الخصومات فيجب أن تنطلق من القواعد القانونية الموضوعية و لعل من ابلغ الأخطاء المنافية للديانات و القوانين والأخلاق أن يتأثر القاضي بعقيدته السياسية أو أن يكون قاضيا مسيسا أو أن تقوم الدولة بتسيس القضاء أو أن يفسر القانون وفق معتقدات القاضي السياسية أو أن يتأثر بآرائه ومعتقداته الشخصية أو بمذهبة في التحقيق أو الاستجواب أو المحاكمة أو عند تنفيذ الأحكام . إذ لا يجوز أصلا تسيس القضاء ونعتقد أن فكرة ما يسمى ب القضاء الملتزم بفكر الثورة أو بالعقيدة القومية – الاشتراكية أو بأي فكر سياسي أخر إنما هي تخريب للقضاء و إضرار بليغ بقواعد العدل والعدالة ويضر بهيبة الدولة و أسس المجتمع .فللقضاء هيبة ومنزلة كبيرة في نفوس البشر ونزاهته و استقلاليته من أهم الأمور لتحقيق السلام و الأمن الاجتماعي .

كما لا يجوز شرعا وقانونا ومن الناحية الأخلاقية والمهنية أن ينحاز القاضي إلى طرف على حساب أخر وكل الدعوات التي كانت تنادي بانحياز القاضي نحو فكر الثورة هي إخلال بالدستور وخرق واضح لقواعده وخرق للاتفاقيات والمعاهدات الدولية . وللأسف فان هذه الدعوات انتشرت وشاعت في العراق وهي تسيء للديمقراطية و للعراق ولشعبة ولتاريخه.

أما عن الوضع في ظل حكومة كردستان فهو افضل بكثير من ذلك حيث أن مبدأ استقلال السلطة القضائية يحظى باحترام من السلطتين التشريعية والتنفيذية في ظل الفيدرالية قياسا إلى ما هو علية الحال في باقي المناطق التي تحت السلطة المركزية .لان حكومة إقليم كردستان أوجدت مؤسسات دستورية ناشئة وفتية سيكون لها مستقبل افضل في ضوء الفيدرالية المطبقة الآن و التي هي من الحقوق الثابتة و المشروعة للشعب الكوردي … ونأمل دعم القضاء وتطويره وضمان استقلاليته .

ثانيا – التمييز بين الجنسين في شغل منصب القضاء

رغم سقوط النظام الدكتاتوري في العراق منذ عام 2003 , الا انه ما يزال هناك تمييز بين الذكور والإناث في تولي منصب القضاء ودون أي سند شرعي أو قانوني . إذ لا يوجد في الفقه الإسلامي ولا في الشريعة الإسلامية أي نص يمنع المرأة من تولي منصب القضاء ,وكل الدعوات التي تنادي بإنقاص دور المرأة والتشكيك في دورها لتولي وظيفة القضاء هي دعوات باطلة لا يوجد أي سند لها بل أن الدساتير العراقية والقوانين النافذة نصت على مبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات .

وللأسف لم تحتل المرأة دورها الطبيعي في المجتمع العراقي وبخاصة في المجال الحقوقي إذ لا توجد قاضية واحدة في مرحلة الاستئناف أو في محكمة التمييز او المحكمة الاتحادية العليا منذ تأسيس الدولة العراقية وانحصر دور المرأة في مجال محدود جدا في نطاق القضاء وهو خلل كبير في. ولذلك نعتقد أن تعطيل دور المرأة في مجال القضاء هو عمل مخالف للدستور والقانون و إخلال بمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات .

ثالثا – أنواع القضاء ومدى شرعية القضاء الاستثنائي والقضاء السياسي ؟

يرتبط النظام القضائي ارتباطا وثيقا بطبيعة النظام السياسي القائم . فالنظام السياسي الذي يقوم على أساس دولة القانون أي الدولة التي تنهض على أساس المؤسسات الدستورية مثل الفصل بين السلطات وهي (( السلطة التشريعية في صورة برلمان منتخب من الشعب بانتخابات حرة ونزيهة )) ثم السلطة القضائية التي تطبق القانون بحرية ودون تدخل من أحد , وكذلك السلطة التنفيذية ثم وجود محكمة دستورية عليا تراقب تطبيق القانون وشرعية وتصحح الإجراءات التي تقوم بها جميع أجهزة الدولة. و مثل هذه الدولة لا يوجد فيها قضاء خاص أو قضاء استثنائي أو حتى محاكم عسكرية , و إنما هناك قضاء مدني ينسجم مع أسس المجتمع المدني وعادة يكون إلى جانب المحكمة الدستورية العليا ( محكمة التمييز ثم محاكم الاستئناف ثم المحاكم العادية مثل البداءه ومحكمة العمل ومحكمة الأحوال الشخصية وغيرها من المحاكم المتخصصة حسب القضايا وموضوعات النزاع بين الأشخاص.

أما في الدول ذات الأنظمة الشمولية في الحكم والتي تقوم على تأليه الحاكم الفرد وعلى عبادة الشخصية فهي تنهض على أسس عسكرة السلطة وهدم أسس المجتمع المدني و على وحدة السلطات وعلى انحياز القاضي للعقيدة الشمولية كما في العراق في ظل حكم الطغيان الذي ولى الى غير رجعة, فان القضاء ينقسم عادة إلى الأنواع التالية وهي :

النوع الأول – القضاء السياسي مثل محكمة الثورة أو محكمة أمن الدولة أو آيه تسمية أخرى بحجة أن القضايا التي تحال أليها تمس أمن الثورة و الدولة ولهذا توصف بأنها خطيرة .ومثل هذه المحاكم الخطيرة تفتقد لكل المعايير الدولية في المحاكمة ومنها بخاصة فقدانها إلى مبدأاستقلال القضاء .ولهذا نحن ضد وجود مثل هذا النوع من أنواع المحاكم لعوامل عديدة وان وجودها يتناقض واحترام حقوق الإنسان الأساسية ومنها حقه في التقاضي والمحاكمة العادلة ونقف بقوة ضدها . .

النوع الثاني – القضاء العسكري والمحاكم الخاصة الأخرى وهي في الغالب تدار من أشخاص , بعضهم , لا يحمل حتى شهادة العلم بالقانون وتفتقد إلى المعايير الدولية والوطنية للتقاضي وان وجودها مخالف لأسس دولة المؤسسات الدستورية و لا توجد مثل هذه المحاكم في العديد من الدول التي تعرف قيمة القانون وتفهم معنى الاحترام الطوعي له من الحكام والمحكومين .ومثل هذا النوع لا يمكن أن تتوفر فيها ضمانات لاحترام مبدأ استقلال القضاء أو حرية تطبيق القانون أو لحصانة القاضي .

النوع الثالث – القضاء العادي وهو القضاء المدني وهو الجهة صاحبة الولاية العامة ويشمل اختصاصها القضايا المدنية والتجارية والأحوال الشخصية و المواد الجنائية و الذي يتألف من درجات متعددة تأتي في المرتبة الأولى منه المحكمة الاتحادية العليا او المحكمة الدستورية ومحكمة التمييز ثم محكمة الاستئناف ثم المحاكم الأدنى درجة .

ونعتقد بأنه لا يمكن الإقرار بوجود احترام لمبدأ الاستقلال في السلطة القضائية أو الحديث عن حريتها في تأدية وظيفتها لتطبيق القانون بحرية وأمانة و نزاهة مع الحصانة الفعلية المنصوص عليها في الدستور والقانون في ظل دول تقوم على نظام سياسي لا يعترف بوجود المؤسسات الدستورية و مقومات المجتمع المدني لعدم وجود مبدأ الفصل بين السلطات و لأسباب أخرى كثيرة , كما كان في العراق.إبان فترة حكم الدكتاتورية .

رابعا – علاقة مبدأ استقلال القضاء بدولة المؤسسات الدستورية (دولة القانون )

ليس هناك من شك بوجود العلاقة الوطيدة بين هذا المبدأ الحيوي و بين دولة المؤسسات الدستورية التي يكون فيها لكل مؤسسة دستورية واجبات محددة و واضحة في الدستور والقوانين المختصة لا يمكن أن تتجاوزها أو أن تخالفها وإلا تعرضت إلى المسؤولية القانونية .

ففي دولة القانون لا يوجد إلا قانون واحد يخضع له الجميع ويطبق بالتساوي ولا يستثنى منه أحد ويستطيع أي متضرر في حقه أن يحصل علية من خلال إقامة الدعوى العادية أمام المحكمة المختصة للحصول عليه مهما كانت صفة الخصم أو قوته أو درجته أو منصبة , وهو ما يعزز دور القانون وينمي المجتمع ويطوره ويدفع باتجاه الاحترام الطوعي للقانون ويعزز مكانه الدولة ومؤسساتها في المجتمع ويسهم في تحقيق الأمن الاجتماعي والعدالة إذ لا يجوز خلق معايير مزدوجة في تطبيق القانون , بينما لاحظنا في ظل حكم النظام الدكتاتوري – من خلال قضايا عديدة أصدرت فيها المحاكم العراقية أحكامها – أن بإمكان وزير أو حتى ممن هو اقل درجة أن يعطل القانون بل و يعطل نصوص الدستور بحجة وجود الظروف الاستثنائية أي ظرف الحرب وهو ما أساء للدولة العراقية وخلق حالة من الفوضى في بلد يفترض أن يكون الرائد في احترام القانون لتأريخه المعروف ولحضارته العريقة وللقوانين التي نشأت على أرضه منذ مئات السنين .

كما نشير أن العديد من الدول العربية وغير العربية توجد فيها محكمة دستورية عليا تراقب تطبيق القانون ويمكن الطعن أمامها بعدم شرعية أي قانون وتستطيع تصحيح الإجراءات أو القرارات الصادرة من أجهزة الدولة , مثل لبنان والكويت و في السودان ومصر وفي دول أخرى مثل السويد وفرنسا وغيرها , وهذه المحكمة هي ضمانه مهمة ومؤشر مهم على وجود المؤسسات الدستورية وعلى بناء مقومات المجتمع المدني ودولة القانون , فالحروب والمعارك لن تحقق إلا الخراب و الماسي وتبديد الثروات بينما يفترض أن توظف الثروات لخدمة وسعادة الإنسان .

خامسا – أدلة كثيرة تكشف عن انتهاكات ضد مبدأ استقلال القضاء

لاشك أن هناك دلائل كثيرة حصلت في ظل النظام الدكتاتوري تكشف عن التدخل في عمل السلطة القضائية وعدم استقلالها في تطبيق القانون ووجود تجاوزات مخالفة للقانون وللدستور والدليل على ذلك هو صدور قرارات من مجلس قيادة الثورة المقبور تعاقب كل من يتدخل بعمل القاضي ولا يمكن إصدار مثل هذه القرارات إذا لم تكن هناك مشكلة حقيقية خطيرة في إهدار حق المواطن في التقاضي. وقد أشارت إلى هذا أيضا ليس فقط منظمة العفو الدولية والمنظمات الحكومية الأخرى في تقارير متعددة , وانما لمسنا ذلك من خلال ما ذكره العديد من القضاة ممن هم في محكمة التمييز الموقرة و الاستئناف ودرجات المحاكم الأخرى وكذلك المحامين ( القضاء الواقف ) وقد بلغ هذا التدخل حده الأقصى في مراكز الشرطة أثناء التوقيف للاستجواب دون أية ضمانات قانونية .

سادسا – التدخل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بعمل القضاء

جرت العادة في العراق في ظل فترة الدكتاتورية (1968-2003 ) على خرق المبادئ الأساسية الخاصة باستقلال القضاء وقد صارت عملية تدخل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية من الأمور الخطيرة و انعدم أي وجود للمعايير الدولية المتعارف عليها في المحاكمات وصار المحكوم بالإعدام يستبدل بشخص أخر من مستشفى الأمراض العقلية تحت طائلة النفوذ والرشوة التي شجعها النظام . كما أن الأجهزة الأمنية اعتبرها حامية للنظام وهي أمنه وفوق القانون والقضاء فانهار مبدأ استقلال السلطة القضائية بشكل غير مسبوق.هذا فضلا عن انتشار ظاهرة الاعدامات خارج نطاق القانون أي بدون محاكمة والإعدام الفوري وهناك شواهد كثيرة على ذلك.

ومما يتعلق بذلك اتسعت بصورة خطيرة ظاهرة نتشار الاعتقالات التعسفية والاحتجاز والتوقيف دون أي دور للقضاء في ذلك,هذا إلى جانب شيوع ابشع وسائل التعذيب وانتزاع الاعترافات من المتهمين والإدلاء بشهادات ضد أنفسهم وهو ما يتعارض مع القواعد الدستورية والمعايير الدولية في هذا الشأن, ومن المعلوم أن هذه السلطات مارست عملها بعيدا عن أي قانون أو حتى ضابط أخلاقي.

ومن جهة ثانية فقد حصلت في ظل النظام المقبور العديد من الوقائع تكشف عن أن بالإمكان تعطيل عمل القضاء بأمر من الوزير , مثل وزير الدفاع أو من ديوان رئاسة الجمهورية فيمتنع القضاء من النظر في القضية .ومن مظاهر تدخل السلطة التشريعية ( مجلس قيادة الثورة ) هو قرار المجلس في منع المحاكم من النظر في إيه قضية تخص مطاردة الشرطة أو مفارز الانضباط العسكري للهاربين من الخدمة العسكرية وقتلهم بسبب الهروب ومنع المحاكم من النظر في إيه قضية تخص حالات الدهس خارج مناطق عبور المشاة المخصصة.

سابعا – انعدام الحق في محاكمة عادلة للمتهم

لم يحترم مطلقا النظام الدكتاتوري , طيلة فترة حكمه الاسود في العراق , المعايير الدولية المتعارف عليها في ضمان الحق للشخص في محاكمة عادلة فالشخص في العراق متهم حتى يثبت العكس بينما يقضي المبدأ الدولي والدستوري أن المتهم بريء حتى يثبت العكس أي إلى أن تثبت إدانته طبقا إلى محاكمة عادلة تتوافر فيها ضمانات قانونية في المحاكمة ومنها الدفاع وهذا ما نصت عليه المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ثامنا – محنة القضاء العراقي منذ عام 2003 وحتى الان

أن القضاء العراقي ومن خلال متابعتنا لمجريات الأمور يمر بمحنة كبيرة , ومحنته تتجسد في كثرة التدخلات من هذا وذاك وفي ممارسة سياسة الطعن والتشكيك والتشهير ضده من خلال وسائل الاعلام من كل من هب ودب وهي سياسة مرفوضة يجب وقفها وضرورة تعزيز هيبة القضاء العراقي وإحترامه وبخاصة مجلس القضاء الاعلى ومحكمة التمييز والمحكمة الاتحادية العليا فضلا عن القضاة في المحاكم الاخرى .

فالقضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون والقانون فقط . غير ان ما نقرأه ونشاهده ونسمعه من اساءات تمس هيبة القضاء العراقي ونزاهته تثير الشجون والأحزان والقلق رغم زوال الدكتاتورية منذ عام 2003, لهذا يجب ان تتوقف العديد من مواقع الأنترنيت والصحف وغيرها من وسائل الاعلام عن مثل هذه السياسة التي تضر بالقضاء وبسمعته وشفافيته , ونأمل من السلطة القضائية ان تلاحق كل من يسئ لها وفقا للقانون كما نتمنى من الحكومة القادمة ان تعالج هذه القضية الحساسة.

ومن جهة إخرى نوضح بأن مبدأ الفصل بين السلطات هو مبدأ دستوري يجب إحترامه , ولهذا لا يجوز لأي مسؤول او سياسي او طرف حكومي او كتلة سياسية القيام بتفسير الدستور او القانون حسب الاهواء والمصالح فاذا جاء تفسير السلطة القضائية خلافا لمصالحه صار يشكك ويطعن بموقف القضاء وبتفسير المحكمة الاتحادية العليا للنصوص او عند بيان رأيها القانوني .

فالسلطة القضائية هي المرجعية في تطبيق القانون وفي تفسيره حيث تتولى المحكمة الاتحادية العليا هذا الدور والتي تمارس أيضا دورا ضمنيا لما تقوم به المحكمة الدستورية في الدول التي نصت دساتيرها على وجود المحكمة الدستورية في حين تقوم المحكمة الاتحادية العليا في العراق بدور مزدوج , ولم تشأ اللجنة الدستورية عام 2005 ان تذكر في الدستور على وجود محكمة دستورية ما دامت المحكمة الاتحادية العليا تتولى هذه المهام التي حددها الدستور في المواد 92 و93 و 94 سالفة الذكر .

ونشير هنا الى تعرض عشرات القضاة العراقيين في مختلف مناطق العراق – عدا كوردستان بسبب الامن والاستقرار في الاقليم – الى الاغتيالات , كما تعرض الكثير من القضاة الى التهديد او الاساءة وهو أمر غير مقبول ولا يمكن السكوت عليه وتتحمل الحكومة ووسائل الاعلام مسؤولية كبيرة في هذا المجال لحماية القضاء وتخفيف ما يمر به من محنة أضرت بهيبته وشككت في نزاهته واساءت لسمعته وهو حالة خطيرة تضر بمستقبل العراق وببناء الديمقراطية ودولة القانون المراد بناؤها في ضوء المؤسسات التي نص عليها الدستور العراقي لعام 2005 .

يقول الفيلسوف والمفكر الانجليزي جون لوك : (( يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون , أي عند إنتهاك القانون , وإلحاق الأذى بالأخرين – فقرة 202 في الحكم المدني)).

لقد ولت سلطة الطغيان في العراق فمتى تبدأ سلطة القانون ؟

توصيات :

1- ضرورة وضع ضمانات تحترم المعايير الدولية لحقوق الإنسان وإلغاء السجون الخاصة والسرية و إحلال المحاكمة العلنية بكل شفافية ووفقا للدستور والقانون .

2- تشكيل لجان قانونية متخصصة لدراسة واقع التشريعات العراقية و واقع القضاء والتحقيق لغرض إعداد صورة جاهزة للعراق الجديد ( عراق المؤسسات الدستورية والمجتمع المدني القائم على احترام القانون واحترام حقوق الإنسان ).

3– تحديد الأشخاص المسؤولين عن انتهاكات الدستور و القانون واهدار حق التقاضي واحالتهم إلى المحاكم لمحاسبتهم حسب القانون.

4- تعويض جميع المتضررين من العراقيين الذين انتهكت حقوقهم طبقا لقواعد المسؤولية القانونية المعروفة ووفقا لأحكام القضاء.

5- دعم الإجراءات القانونية وتعزيز دور القانون والقضاء في منطقة كردستان العراق والعمل على إصلاح النظام القانوني في كردستان بتشكيل لجان قانونية رفيعة المستوى تسعى لإصلاح وتعديل وإلغاء القوانين التي تتناقض والفيدرالية في كردستان وتتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومع الالتزامات الدولية سواء تلك النصوص المذكورة في قانون العقوبات النافذ أم في قانون الأحوال الشخصية أم في غيرها من القوانين..التي يجب إعادة النظر فيها.

6 – تعديل دور المرأة الحقوقي في قانون الأحوال الشخصية و إلغاء التمييز بين الجنسين في تولي منصب القضاء .

7- ضرورة احترام السلطة القضائية وعدم السماح لاي طرف من التشكيك في نزاهة القضاء او قدراته او احكامه ومحاسبة اي شخص يمارس هذا التشكيك وفقا للقانون .

هوامش :

– انظر مجموعه تقارير متعددة من منظمة العفو الدولية منها مثلا :

Secret detention of Kuwaitis and third – country nationals – London 1993-

State cruelty:Branding, amputation and the death penalty – April 1996-

Trture in Iraq 1982-1984 April 1985-

Evidence of torture in Iraq – 1981-

Victims of Systematic repression in Iraq- November 1999-

– انظر القرار رقم 59 في 4 حزيران 1994 الخاص بقطع اليد عن جرائم السرقات والذي يعاقب بالإعدام إذا كانت من شخص يحمل السلاح أو نشأ عن الجريمة موت شخص.

– انظر القرار رقم 92 في 21 تموز 1994 الخاص بقطع اليد عن جرائم التزوير.

– انظر القرار الخاص بالوشم بعد قطع اليد رقم 109 في 18 أب 1994 .

– انظر القرار رقم 115 في 25 أب من عام 1994 الخاص بقطع الأذن عن الهروب من الخدمة العسكرية.وانظر القرار رقم 117 في 1994 الخاص بمنع إزالة الوشم .

– انظر القرار الخاص بقطع اللسان لمن يرتكب فعل الشتيمة ضد الرئيس صدام أو عائلته

– تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان – القاهرة 1987- حقوق الإنسان في العراق

– الدكتور إمام عبد الفتاح إمام – الطاغية – 1994

– الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948

– الدستور العراقي لسنه 1990

– الدستور العراقي ( القانون الأساسي ) 1925

– الدكتور مصطفى الأنصاري – الرقابة على دستورية القوانين – العراق – أوراق قانونية – العدد الأول السنه الأولى 1999