انبعاث الطاعة بين الشريعة والقانون

لابد في كل قانون ـ بغض النظر عن كونه إلهيًّا أم وضعيًّا ـ من أن يضع مشرعوه في حسبانهم الضمانات اللازمة لكيفية تطبيقه وامتثاله من قبل الأفراد الخاضعين له، وإلا فلا فائدة تُرتجى من قانون لا توجد إمكانية لفرض أحكامه وتطبيقها، فقانون كهذا لا يعدوا أن يكون حبرًا على ورق.

فالتركيبة المعقدة للنفس البشرية لا تترك لمشرعي القوانين مجالًا لأن يخلُّوا بين الناس ويبن تطبيقهم للقانون، حيث تأبى غريزة حب الذات على الإنسان التضحية طواعية بمصالحه خدمة لمصالح الآخرين، اللهم إلا أولئك الذين يملكون أنفسًا ارتقت إلى مصاف الملائكة، وترفعت عن عبادة “الأنا”، فصارت تنظر لمصالح الآخرين بنفس المنظار الذي تنظر فيه لمصالحها، ونماذج كهذه نادرة في مجتمعاتنا البشرية ندرة الكبريت الأحمر، هذا من ناحية الصعوبة التي تنشأ من ذات الإنسان فيما لو أريد التخلية بينه وبين القانون ليطبقه طواعية.

أما السعي إلى إيجاد أناس أو إيصالهم إلى ذلك المستوى الراقي الذي يطيعون فيه القانون لأنه قانون، بغض النظر عن الضغوطات الخارجية، فهذا ما أخفقت القوانين الوضعية في تحقيقه، ولم تجد له أثرًا إلا في القوانين الإلهية كما سيأتي.

إذًا، لا بد للقانون مهما كان من وسيلة يضمن من خلالها الانقياد له والانصياع لأحكامه، عليه؛ نسأل عن ماهية تلك الوسيلة التي ينبعث الناس منها نحو طاعة القوانين؟ إن هذا الأمر يختلف في واقعه بين كل من القانون الوضعي والقانون الإلهي، وهذا الاختلاف ناشئ من الاختلاف في الهدف الذي شرع من أجله كل من القانونين مورد المقارنة.

فالقانون الوضعي إنما شُرع لتنظيم سلوك الفرد، ووضع القواعد التي تحدد علاقته بالآخرين فحسب، في حين يهدف القانون الإلهي إلى تنظيم سلوك الفرد وترتيب حدود علاقاته بكل من ربه ونفسه، وغيره، وهذا الهدف يتطلب وسيلة غير تلك التي يحتاجها القانون الوضعي لضمان الامتثال.

إن الوسيلة الوحيدة التي يضمن القانون الوضعي من خلالها الانقياد لأحكامه هي العقوبة، أو ما يُعبر عنه بالاصطلاح القانوني بـ”الإلزام”، وهو أحد ركني القاعدة القانونية، والذي يُشكل إلى جانب العمومية عنصري القاعدة القانونية الأساسيين، الذين يمكن من خلال توافرهما فيها أن تعد من القواعد القانونية، وإلا فلو تخلف أحد هذين العنصرين ـ العمومية والإلزام ـ عن القاعدة لانتفت عنها الصفة القانونية، ولخرجت عن عموم تعريف القاعدة القانونية وشموله لها.

فالقانون الوضعي إذًا يعتبر العقوبة الوسيلة الوحيدة التي تضمن لأحكامه التطبيق، فيترتب على ذلك القول بأنه فيما لو قُدر أن ارتفعت العقوبة المترتبة على مخالفة القانون الوضعي لكان مورد اختراق الناس جميعًا، فالقانون الذي يتحايل الناس بكافة الوسائل المتاحة لديهم في سبيل القفز فوقه، وتجاوز فقراته عن أن تطالهم في عين الوقت الذي يفرض فيه أقسى عقوباته بحق مخالفيه، يكون من باب أولى موردًا لاختراق الجميع لأحكامه فيما لو ارتفعت العقوبات المترتبة على مخالفته.

إن هذا ـ إنْ دلَّ على شيء ـ فإنما يدُل على مدى الإخفاق الذي مُنيت به القوانين الوضعية في سبيل جعل موادها مورد قبول الناس جميعًا، ومقدار إخفاقها في تركيز قواعدها في أذهانهم، واعتبار الناس إياها وسيلة مُثلى لتنظيم حياتهم وحل مشاكلهم، فيكون الباعث إذًا والمنطلق الذي ينطلق منه الناس في امتثالهم للقوانين الوضعية هو خوفهم من الوقوع تحت طائلة العقوبة.

أما القوانين الإلهية فهي ـ وإن اتَّحدت مع القوانين الوضعية في اتخاذها من العقوبة وسيلة من وسائل حماية أحكامها ـ إلا أنها لم تعتبر العقوبة الوسيلة الوحيدة والمثلى التي تضمن لأحكامها الحماية والامتثال من جانب من يخضعون لها، بل اعتبرت العقوبة واحدة من وسائل عدة تضمن لها تحقيق ما تصبوا إليه في هذا المجال “الطاعة والامتثال”، فالخطوة الأولى التي باشرت القوانين الإلهية في تنفيذها كيما تجعل من قواعدها موردًا لاحترام الناس جميعًا هي السعي الجاد في توعية الناس بقدسية هذه القوانين وصحتها؛ إذ أنها صادرة من الحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، وتعريف الإنسان بالغرض الذي شرعت لأجله، ألا وهو تنظيم حياة الإنسان في علاقاته الثلاثة ـ مع نفسه وربه وغيره ـ والأخذ بيده نحو مدارج الكمال؛ لكي يرقى المجتمع الإسلامي إلى المنزلة التي يكون فيها أفضل من الملائكة، ويأخذ فيها دوره كخليفة لله تعالى في الأرض.

وبما أن الغرض والفائدة التي تُرجى من تشريع القوانين الإلهية تعود بالنفع أولًا وآخرًا على الإنسان ذاته، فيعي عندها بأنه بمخالفته لهذه القوانين إنما أقدم على مخالفة ما فيه مصلحته، لقد أخذت هذه المرحلة “مرحلة التوعية” فترة طويلة من تاريخ الرسالات السماوية؛ فالدين الإسلامي مثلًا لم يقدم على تحريم الخمر والعاقبة على شربها فور مجيئه، إنما سعى أولًا لتركيز ضرورة تركها؛ لما تحمله من مضار للإنسان، في أذهان الناس؛ ليقلع الناس عنها بإراداتهم، فحرم الصلاة في حالة كون الإنسان مخمورًا، فامتنع بهذه الخطوة ـ{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ـ أناس كثيرون عن تعاطيها؛ إذ أن تعاطيها سيُسَبِّب لهم الحرج في الوقت الذي تجب عليهم الصلاة خمسة أوقات يوميًّا، بعدها انتقل الإسلام إلى مرحلة أخرى، وهي بيان الضرر الذي ينجم عن تناول الخمر ـ {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ـ لتؤثر هذه الخطوة أثرها في عقول الناس؛ إذ تعي مقدار الحرص الذي يحمله هذا القانون على صحة وسلامة هذا الإنسان.

وبتحقق هذا الهدف؛ يشرع الإسلام بالتحريم وفرض العقوبة على من لا ينساق إلا بلغة الخوف، وإن كان القانون إنما شرعت أحكامه لمصلحة ذلك الإنسان ذاته، فكانت العقوبة إذًا مرحلة متأخرة جاءت بها الشريعة الإسلامية بعد أن تمكنت تلك الشريعة من تركيز أهميتها في أذهان البشر، وما في مخالفتها من سيء الأثر على حياتهم.

فهذه هي النشأة التي نشأ عليها الإنسان المسلم، فالدافع الذي يدفعه بناء على ذلك لإطاعة القانون الإسلامي ليس هو دافع الخوف، إنما هو اعتقاده بكون هذا القانون يحمل في طياته للإنسان المصلحة والخير والسعادة، فطاعته لهذا القانون يجب أن تكون نابعة من صميم ذاته، فلا يمتثل خوفًا.

والتاريخ خير أمين، ينقل لنا ثمار هذا الأسلوب الذي اتبعه الإسلام لضمان امتثال أوامره، فالحالات التي قام الإسلام بالمعاقبة فيها تُعد بالأصابع، وأكثر تلك الحالات كانت بناء على طلب المخالف تنفيذ العقوبة في حقِّه؛ كي يذهب إلى ربه خاليًا من الذنب.

وخير دليل على أن الإسلام لم يكن قد جعل من العقوبة الوسيلة الوحيدة لضمان امتثاله؛ هو أنك تجد الإسلام يحاول ما أمكنه ذلك درء العقوبات بشتى الوسائل ـ (ادرءوا الحدود بالشبهات) [رواه ابن عدي في الكامل، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (258)] ـ في الوقت الذي تجد فيه تهافتًا من جانب المخالفين أنفسهم بضرورة إجراء العقوبة اللازمة في حقهم؛ كنتيجة لما اقترفت أيديهم من مخالفات للأحكام الشرعية.

من هنا نجد الفرق بين كل من القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، ففي الوقت الذي يتحايل فيه الناس على القانون ما توفرت لهم الفرص كيما يتمكنوا من تجاوز قواعده والقفز فوقها، نجد امتثالًا منقطع النظير لأحكام الشريعة الإسلامية، رغم أنها منحاة عن المنزلة التي تتمكن من خلالها فرض العقوبات وإنزالها بحق المخالفين.