الوضع الراهن والخطوات القادمة لعملية وضع الدستور الليبي الدائم

د. عبد الرازق المرتضي

أولا: الوضع الراهن :

مازلنا في بداية مهام إعداد الدستور الدائم، أهم ركائز بناء الدولة الديمقراطية المنشودة، اواللبنة الأولى فيه وأبرز مهام المرحلة الإنتقالية الصعبة التي نعيشها.

لقدعاد مؤتمرنا الوطني بعد عدة شهور و طول نقاش وإنتظار ليؤكد ما ورد في الإعلان الدستوري المؤقت حول اسس تشكيل آداة إعدادالدستورالدائم : الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور. فلنترك الناحية الفارغة من الكأس ولنلتزم بالوثائق الإنتقالية بحالتها الراهنة حتى الإنتهاء من إعداد الدستور الدائم ، وبعد ذلك فليتنافس المتنافسون. هذا ما تفرضه المصلحة الوطنية ومصلحة الثورة لاسيما وأنه في أحكام هذه الوثائق ، وفيما يتعلق بإعداد الدستور ومقارنة بأفضل ممارسات الدول، ما يؤمن بلوغ الغاية وبناء الدولة المنشودة.

لقد بينت أحكام الإعلان الدستوري المؤقت( بعد آخر تعديل لنص المادة 30 فى 5. 7. 2012م) الخطوط العامة لإعداد دستور دائم. ونستعرض فيمايلي هذه الأحكام بإيجاز وإتجاهاتها على ضوء ممارسات وتجارب الدول الاخرى ، ولاسيما اكثرها قربا منا من حيث الأوضاع والظروف : دول الربيع العربي المجاورة، وكذلك تراثنا الدستوري.

1-تبني أسلوب “الجمعية ‏التأسيسية المنتخبة المقرونة بالاستفتاء”:

قضى الإعلان بإنشاء“هيئة تأسيسية لصياغة الدستور”. ورغم ما آثارته هذه التسمية وما زالت تثيره من لبس فإنها لا تنال من مهام الهيئة كهيئة تأسيسية تتجاوزمهامها “الصياغة” إلى “صناعة” الدستور، وهذا ما تظهره بوضوح أحكام الإعلان كما سيرد بيانها. لقد سميت الهيئة صراحة “بالهيئة التأسيسية”، وأنيط بها تناول مسائل تتعلق “بصياغة” وكذلك”صنع” الدستور ، و تم تبني الإنتخاب في إختيار أعضائها ، وذلك مالا يتصور في لجنة صياغة فنية صرفة، كما تم التأكيد على تشكيلها على غرار لجنة الستين ، وهي لجنة تناولت صنع وكذلك صياغة دستور 1951 من خلال لجان فنية تابعة لها.

ويتبع ‏ الصياغة اعتماد مشروع الدستور من قبل نفس الهيئة ثم عرضه على الشعب في استفتاء عام “الاستفتاء ‏الدستوري”، و لا يصبح الدستور نافذاً إلا بعد موافقة الشعب عليه.‏‎ ‎و بهذا تبنى الإعلان أسلوب “الجمعية ‏التأسيسية المنتخبة المقرونة بالاستفتاء”،حيث يكون الشعب قد شارك في وضع الدستور على مرحلتين، ‏حيث ينتخب أعضاء هيئة تأسيسية التي تباشر مهمة وضع الدستور، و بذلك يضع الشعب الدستور بطريق ‏غير مباشر، ثم يوافق على ذلك الدستور من خلال الإستفتاء‎.‎‏ ‏

وبهذه طريقة وضعت دساتير دول متقدمة عديدة كالولايات المتحدة الأمريكية كماوضعت فرنسا معظم دساتيرها بهذه الطريقة.

واتبع نفس الاسلوب في دول الجوار مع إختلافات شملت التسمية والإختصاصات وشروط إختيار الأعضاء.

وفي تراثنا الدستوري تم إعداد دستور استقلال ليبيا لسنة 1951 من خلال ” جمعية وطنية تأسيسية” سميت “بلجنة الستين”. وكانت توصيات لجنة تحضيرية سميت “بلجنة الواحد و ‏العشرين” مدخلا لتحديد معاييرإختيار هذه الجمعية التي بدورها شكلت “لجنة الدستور”، ومن داخلها شكلت “لجنة العمل” التي قامت بوضع الدستور مسترشدةً بأحكام دساتير دول عديدة ‏و بآراء خبرات قانونية عربية و دولية رفيعة.

وتوصف طريقة الجمعية التأسيسية المنتخبة بأنها أفضل الطرق وأكثرها ديمقراطية في وضع الدستور حيث وبمقتضاها يضع الدستور نواب الأمة وحدهم ، وهو ما يؤكد أن الأمة مصدر السلطات.

2-إختيار الإنتخاب( الإقتراع الحر المباشر) كطريقة لإختيار أعضاء هذه الهيئة:

تتفاوت ممارسات الدول بشأن طريقة إختيار أعضاء الهيئات أوالجمعيات التأسيسية ، عن طريق الإنتخاب ، بمساعدة اورقابة دولية (نيبال، كمبوديا، اوغندا…). وقد يتبع التمثيل الجغرافي ( تيمور الشرقية في ظل الإدارة الإنتقالية للأمم المتحدة حيث صوتت كل ولاية لانتخاب ممثل واحد في الجمعية وتم اختيار بقية الاعضاء على مستوى الدولة على اساس التمثيل النسبلي). واتبعت بعض الدول طريقة تجمع بين الانتخاب والتعيين (نيبال، اوغندا…). وفي بعض الحالات أعترف للسلطة التشريعية الشرعية القائمة بدور الجمعية التأسيسية (جنوب افريقيا، البرازيل…).

و في دول الجوار أستبعدت تونس أسلوب التعيين، وأعتمدت الإنتخاب وما زال المجلس التأسيسي و منذ إنتخابه في 23 اكتوبر 2011 يواصل أعمال إعداد الدستور.وكانت مصروللأسف دون ذلك ، وتنقل الينا الفضائيات كل يوم كيف أن اعمال إعداد الدستور المصري الجديد وطريق إختيار “لجنته” مازالت مصدر ازمات واختلافات سياسية ومثار جدل وتحفظات بل وطعون وأحكام قضائية منذ أن أصدر المجلس العسكري الإعلان الدستوري، وأناط بالاعضاء المنتخبين في مجلسي الشعب والشورى “إنتخاب” لجنة تأسيسية من مئة عضو. وأعتبر ذلك داخل مصروخارجها مخالفا للمبادئ والقواعد الدستورية المستقرة حيث ليس للمجالس التشريعية وحدها وضع دستور هوالسلطة الاسمى التي تخلق السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وفي تراثنا الدستوري ، في ليبيا الإستقلال لوحظ صعوبة إجراء الإنتخابات في الظروف القائمة في البلاد حينئذ، وتم الإتفاق على إختيار اعضاء اللجنة بآلية خاصة” بالمناسبةAd Hoc” :من قبل قيادات سياسية وإحتماعية ودينية من مختلف المناطق، كانت محل ثقة الجميع

وفي ليبيا اليوم ، قضى الإعلان الدستوري المؤقت، وكما سلف القول، بإعتماد الإنتخاب كبديل للتعيين.وانتهى المؤتمر في 6 فبراير2013، بعد مناقشات تناولت ما سمي بإشكالية المادة 30 ، بتأكيد ما ورد في الإعلان وأسلوب الإنتخاب .

ويصعب على مستوى المبادئ على كل من يتطلع للديمقراطية كآلية لتداول السلطة أن يعترض على الإنتخاب ، أي إرادة الشعب- مصدر السلطات- كآلية لاختيار أعضاء الهيئة. فاللانتخاب عمق ديمقراطى راسخ بالإضافة لانه يعطي الهيئة شرعية، وإستقلالية تبعدها عن الخضوع للأهواء السياسية والفئوية الضيقة وما قد تقود اليه من انتاج دستور تحكمه رؤى سياسية ضيقة تأخذ به بعيدا عن الإستحقاقات الوطنية ومقتضيات التوافق الوطني الشامل التي سادت اعمال اعداد الدستوروأشتدت وما زالت تشتد المطالبة بها في دول الجوار،دول ثورات الربيع العربي .

وكانت عودة المؤتمربعد شهور لأحكام الإعلان الدستوري وأسلوب الإنتخاب والتخلي في نهاية المطاف عن فكرة التعيين ومازالت محل رضاء عام، وأعتبر من أهم “إنجازات”المؤتمر وأكثرها تجسيدا لتوافق وطني عام تبلور خلال كثير من ندوات الحوار واستطلاعات الرأي.

وتكشف مساوئ التعيين في الوضع الليبي الراهن خاصة عن صحة العودة لأحكام الإعلان التي من الواضح انها تجسد التوافق الوطني. فإذا كانت مكونات للشعب الليبي قد اعترضت على التعيين ورأت أوساط أخرى أنه الأكثر ملاءمة لجهاز “يتولى مهام فنية” ، فإن العودة للناخبين وصناديق الإقتراع لايمكن الا ان يكون محل ترحيب جميع هذه المكونات. وعلى ضوء آداء مؤتمرنا الوطني طيلة الشهور الماضية يصعب تصور توصله لتوافق عام حول معاييروضوابط شفافة في “تعيين” أعضاء الهيئة، وإن اعتبرت فنية صرفة. وستؤثر الأحزاب داخل المؤتمر وقوائمها وبرامجها وتحالفاتها وتكتلاتها في تشكيل الهيئة وبالتالي أعمالها وتحولها إلى مجرد لجنة تقنن وتخضع لمواقف قوى سياسية بعينها على حساب غيرها، وليست هيئة تأسيسية كما اراد الاعلان الدستوري وكما يجب أن تكون. والنتيجة إبتعاد المنتج النهائي، الدستور الدائم، عن تجسيد التوافق الوطني الشامل المنشود، الذي ساد ويسود اعمال إعداد الدساتيرفي مجمل دول العالم.

ثانيا: الخطوات القادمة :

لا تؤمن أحكام الإعلان الدستوري المؤقت كما سلف بيانها ولوحدها الإنتهاء من صنع وصياغة دستور دائم، و تحتاج إلى إجراءات ‏تتناول كثير من التفاصيل الهامة، و الشيطان كما جاء في رواية ‏‏”دان براون”، يكمن في التفاصيل: ‏

إن على المؤتمراليوم تدارك الزمن والتعجيل بتحديد الإطار القانوني اللازم وإنجاز الترتيبات العملية ذات العلاقة وفق خارطة طريق وجدول زمني محدد ، ويشمل ذلك:

1- تحديد ضوابط تشكيل الهيئة:

وتتصل ضوابط تشكيل الهيئات التأسيسية في ممارسات الدول بعدد أعضاء الهيئة، وبشكل خاص بشروط عضويتها.

لقد حدد الإعلان الدستوري عدد أعضاء الهيئة قاضيا بأن تتكون من ستين عضوا على غرار لجنة الستين التى شكلت لإعداد دستور إستقلال ليبيا عام 1951م

ونشير إلى أن ممارسات الدول تظهر تباين مواقفها بشأن هذا العد بين 25 عضواً إلى عدة مئات من الأعضاء. وتحدد الدول هذا العدد على نحويكفل تمثيل كافة افراد ومكونات المجتمع وعلى ضوء أوضاعها الجغرافية والسياسية والإجتماعية: على سبيل المثال 88 عضوا في تيمور الشرقية،601 عضوا في نيبال،299-389 عضوا في الهند…

وفي دول الجوار حدد هذا العدد بـ (100) عضوا في مصر،و(217) عضوا في تونس. وأناط الإعلان الدستوري المؤقت بالمؤتمر تحديد معايير وضوابط إنتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية . وتشير ممارسات الدول إلى أن هذه المعاير تقوم على مراعاة الأوضاع الجغرافية /السياسية وأوضاع الأقليات والمرأة، او ما يسمى بالفئات الأولى بالرعاية، والخبرة الفنية والتخصص. وفي مصر قضت المادة الثالثة من القانون رقم 79 لسنة 2012، والخاص بمعايير انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية بأن “يراعى في تشكيل الجمعية، قدر الإمكان، تمثيل كافة أطياف المجتمع” والمراد الأطياف السياسية و الأكاديمية والحقوقية وغيرها من مكونات المجتمع.

كما تشيرهذه الممارسات إلى إستبعاد بعض التنظيمات والأفراد كأعضاء في الجمعيات التأسيسية بل وحتى كناخبين. وفي أثيوبيا لم يسمح لأعضاء الحزب الحاكم السابق “حزب العمل الأثيوبي “بالتصويت في انتخاب الجمعية التأسيسية. وغير بعيد عن ليبيا برزت إجراءات “حماية الثورة” أو ما سمي “بالعزل السياسي” ومنع قرار انتخاب المجلس التأسيسي التونسي مسئولين سابقين من الترشح وكذلك من التصويت (القرار رقم 35 الصادر في 10 مايو2011). وانتقد هذا الإجراء “الإقصائي” وخاصة التوسع فيه ليشمل قطاعات مهمة من المواطنيين، وتم التراجع عنه بعد تهديدات بمقاطعة الانتخابات ،وذلك ما شهدته العراق.

وفي التراث الدستوري الليبي نذكر بأن معاييروضوابط اختيارأعضاء “الجمعية الوطنية التأسيسية”لدستور 1951 قد حددت بناء عل توصيات لجنة تحضيرية سميت “بلجنة الواحد والعشرين”.

وانتهى الإعلان الدستوري المؤقت الى عدد من الضوابط قاضيا بأن تتكون الهيئة “على غرار لجنة الستين التي شكلت لإعداد دستور استقلال ليبيا عام 1951م”، ومن غير أعضاء المؤتمر وبما يكفل تمثيل مكونات المجتمع الليبي ذات الخصوصية الثقافية واللغوية.

ومع ذلك ما زالت هناك حاجة لتفصيل الضوابط والمعايير وهذا ما انيط بالمؤتمرطبقا للإعلان الدستوري المؤقت ، وهو التحدي الآني والهام الذي يواجهه .إن عليه إستكمال الضوابط المحددة في الإعلان الدستوري كما سلف بيانها، بضوابط سائدة في ممارسات الدول تراعي طبيعة مهام الهيئات التأسيسية وما تتطلبه من تخصص وشمولية بعيدة عن الإستقطاب الأيديولوجى والسياسي، واساليب الحشد والتعبئة السائدة في المجالس النيابية. إن الأمر يتعلق بمهام تأسيسية تسموعلى مهام هذه المجالس وتحكمها، وتختلف شروط عضويتهما وتقتضي في الأعضاء حيدة ومسؤولية وطنية بعيدة عن حسابات الدوائر الانتخابية الضيقة. كل ذلك حتى يجسد تشكيل الهيئة وحدةً وتوافقاً وطنياً والإستعداد لقبول حلول يرضى عنها الكافة. فالدستور لا يصاغ من قبل أومن أجل أغلبية اليوم، السياسية أوالاجتماعية أوالجغرافية، لينتهي بتبني نظام سياسي يعطي هذه الأغلبية الظرفية القول الفصل في شؤون البلاد لسنوات وآجيال قادمة. ويبدأ تحقيق هذا الوفاق من أداة وضع الدستور، والتي يجب أن تضم كفاءات تتحلى بسعة الأفق والاستعداد للحوار وقبول الحلول التوفيقية، وأن تمثل حقيقة كافة أنحاء البلاد ومختلف مكونات المجتمع.

وما أحوج ليبيا اليوم لتناول كثير من الأمور الرئيسية والمعقدة التي تتضمنها أحكام الدستور، من خلال هيئة مستقلة ومتفرغة كالهيئة التأسيسية شريطة أن تتوفر في أعضائها الحيدة والقدرة على وضع الدستور ، من خلال قرارات فرض الإعلان الدستوري صدورها بأغلبية خاصة” ثلثي الأعضاء زائد واحد”. واعتمدت في الجمعية الوطنية التأسيسية لدستور 1951 ذات الأغلبية، وجاء في الاعمال التحضيرية لهذا الدستور أن مقتضيات ضمان توافق وطني شامل وتجنب تهميش أي منطقة من المناطق الثلاث كانت وراء تجاوز اغلبية ثلثي الأعضاء بصوت واحد.. بذلك يتم إعداد دستور توافقي لجميع الليبيين ، وتستبعد مخاطر الهيمنة السياسية والتيارات والأجندات الخاصة أو حتى الاستبداد التي تنجم عن الخلط بين السلطات، التأسيسة والتشريعية والحكومية.

ولايقل اهمية عن تحديد معايير وضوابط إنتخاب أعضاء الهيئة تحديد نظام الإنتخاب. لقد أختار الإعلان الدستورى المؤقت ” الاقتراع الحر المباشر” كطريقة لاختيار أعضاء الهيئة التأسيسية ، ويبقى تحديد كثير من التفاصيل الهامة في مقدمتها وبالإضافة إلى تفعيل المفوضية العليا للإنتخابات بما يكفل توازنا في تشكيلها بعيدا عن الإستقطاب السياسي، تحديد نظام الإنتخاب وقواعده في قانون خاص ( تحديد المراحل الأساسية للعملية الإنتخابية ، و شروط وضوابط الترشح لعضوية الهيئة والقدرات الفنية والمهنية المطلوبة، ووضع المرأة والأقليات وغيرها من الفئات الأولى بالرعاية ، والاعلان عن شروط الترشح وفتح باب الترشح، وشروط وضوابط ذلك ، والجهة المختصة وفحص أوراق الترشيح، و تحديد نسبة عدد الأصوات الواجب الحصول عليها للفوز بعضوية الهيئة، وهل يكتفى فى هذه الحالة بالأغلبية المطلقة أم ستكون هناك أغلبية خاصة؟ وما الحل إذا لم يحصل عدد من المرشحين على الأغلبية المطلوبة؟ وهل ستجرى إعادة للعملية الانتخابية بين هؤلاء المرشحين؟ أم سيتم استبعادهم وفتح باب الترشيح لآخرين غيرهم؟ وما هى نسبة الأصوات المشترطة للفوز فى حالة الإعادة؟ وهل ستظل هى ذات النسبة المشترطة ابتداء أم يكتفى بالحصول على أعلى الأصوات أيا كانت نسبتها؟)

ويكتسي تحديد نظام الإنتخاب، الفردي أو القوائم، أهمية حيوية. فمن المعروف أن نظام الانتخاب الفردي يقوم على «حقيقة»معرفة الناخبين للمرشح ولهم فرصة محاسبته، و شرعية المرشح وقوته مستمدة من الناخبين مباشرة وليس من حزب بعينه ، وبذلك يتمتع بعد إنتخابه بدرجة أكبر من الاستقلال فى الرأى، وتلكم امور هامة في تشكيل هيئة تأسيسية.

بينما يقوم نظام القوائم على «افتراض» وجود أحزاب قوية ، بأطر ومواقف وتاريخ ومسؤولية في إطار ممارسات وحياة سياسية طبيعية . وفي غياب ذلك يتضمن محاذير جدية وقد ينتهي بتحويل الهيئة من هيئة يُفترض فيها الحياد وغَلَبة الطابع الفني إلى جماعةٍ تسيطر عليها، تكوينا وبالتالي عملا، النزعات السياسية و الاتفاقات والأهداف الحزبية.

ولايخفى أن المشهد الحزبى الليبي ما زال هشاً وإطاره الدستوري والقانوني “الإنتقالي” غير متكامل، والناخبين دون تجربة سياسية وحزبية تذكر. لقد كشف السيد أدريان بيلت في الفصل ‏السابع من كتابه عند تناول ما يسميه بصناعة الدستور “دستور 1951″ كيف أنه لم يُسمَح قط ‏للشعب الليبي حتى ذلك الوقت باكتساب أي تجربة عملية في حكم نفسه بنفسه. و من الواضح أن ‏فرص هذا الاكتساب قد نسفت بالكامل طيلة العقود السابقة حيث تمت مصادرة الرأي السياسي ‏الآخر بل تم إدراجه ضمن أشد الجرائم خطورةً ، جريمة الخيانة الوطنية؛ “من تحزب خان”.‏

وشهدت مرحلة الثورة ظهور العديد من الأحزاب ، ولكن حداثة التجربة لا تسمح بوجود تقاليد مستقرة وبرامج وممارسات واضحة. وإذا كانت الحياة الحزبية الصحيحة ليست مجرد برامج تعلن وحملات إنتخابية فإنه يلاحظ على مستوى هذه البرامج نفسها كثير من التداخل والتشابه ، وكثيرا ما كررت في التصريحات والحملات الانتخابية المحدودة التي عايشناها شعارات عامة قل أن يختلف الناس بشأنها ، بل و برزت إختلافات شخصية على حساب الإختلافات الفكرية على البرامج والتوجهات.

3- ممارسة الهيئة لمهامها ومرجعياتها:

أ-المهام :

تقتضي فعالية وشرعية الجمعيات أوالهيئات الدستورية توفر عناصر أساسية تشمل وضوح مهامها ووجود مجموعة محددة من القواعد والإجراءات. وتختلف ممارسات الدول بشأن هذه المهام، وتعتمد المواقف على الإطار العام لإعداد الدستور.

وقد تتجاوز هذه المهام صياغة وإقرار الدستور لتشمل مهام تشريعية/حكومية متصلة بتنظيم الدولة (ليبيا والهند عقب إستقلالهما، نيبال، تونس بعد الثورة حيث انيطت بالمجلس التأسيسي مهمة الإعداد لإنتخابات تمهد لتشكيل حكومة دائمة).على أن العديد من الممارسات تحصر مهام الهيئة اوالجمعية في أعمال إعداد الدستور، وهذا ما جاء في الإعلان الدستوري المؤقت عندما أناط بالهيئة التأسيسية مهام صياغة وإعتماد الدستور وترك للمؤتمرالمهام التشريعية والحكومية.

و تعد الصياغة المسؤولية الرئيسية للهيئة وفقا لتسميتها ذاتها ويضاف اليها، طبقا للإعلان، إعتماد مشروع الدستور.

وتحصربعض ممارسات الدول مهمة الهيئة في صياغة مسودة الدستور،ثم يحال إلى هيئة أخرى للتصديق عليها.وفي العراق قامت الجمعية بإعداد مسودة الدستور ثم قدمتها إلى المؤتمر الوطني الإنتقالي للتصديق. وفي جنوب أفريقيا كان يتوجب تقديم مسودة الدستور إلى المحكمة الدستورية للتصديق ثم توقيع رئيس الدولة عليه.

وتتضمن ممارسات أخرى إجراءات إضافية في حالة عدم توصل الجمعية إلى قرار بشأن مسودة الدستور.

كما قد يشترط إجراء إستفتاء، وهذا ما ذهب إليه الإعلان الدستوري حيث يطرح مشروع الدستور للإستفتاء عليه”بنعم أولا”خلال ثلاثين يوما من تاريخ اعتماده. فإن وافق الشعب على المشروع باغلبية ثلثي المقترعين تصادق الهيئة علي اعتباره دستورا للبلاد ، وإذا لم تتم الموافقة عليه تقوم الهيئة بإعادة صياغته وطرحه مرة أخرى للإستفتاء.

هذا ما قضى به الأعلان الدستوري المؤقت، على أن الإستفتاء قد يكون مجرد إجراءٍ شكلي، ‏و ذلك ما عليه الحال في كثير من الدول النامية حيث تكون الكلمة الأولى و الأخيرة لمن يضع مشروع ‏الدستور. و تتجه بعض ممارسات الدول إلى تناول الإستفتاء بقانون خاص يفرض انقضاء فترة زمنية ‏معقولة بين إعداد مشروع الدستور و الإستفتاء عليه، و يحدد طبيعة هذا الإستفتاء و كيفية عرض مشروع ‏الدستور على الشعب.

ب-المرجعيات والتراث الدستوري:

شهدت تونس اول عملية وضع دستور في دول الربيع العربي تتم دون تأثيرات حاكم مطلق او قوى استعمارية….. وساد في تونس وبعدها مصر تجنب الخوض في قضايا مثيرة للإنقسام والعودة للتراث الدستوري ، لذات نصوص الدساتير السابقة، بشأن مسائل رئيسية عديدة. ويفرضه علم التاريخ ‏و مقتضيات تمكيننا كأحفاد من الحصول على معرفة من أسلافنا العودة لتراثنا الدستوري. لقد قِيل بأن تاريخ الشعوب يُقرَأ من خلال دساتيرها، و سجلت انجازات ‏الآباء صفحات مشرقة من تاريخنا حافلةٍ بالقيم الوطنية الراقية و بسعة الأفق و الاستعداد للحوار و قبول ‏الحلول التوفيقية. و تُوِّجت جهودهم بالتوصل في زمن قياسي لدستوراعتبر من ‏أكثر الوثائق الدستورية تكاملاً و تقدماً، و هو الذي تبنى منذ ما يزيد عن نصف قرن، و لأول مرة في ‏الدول المستقلة، أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.‏

لقد درس هذا التراث شاهدٌ من أهله، حضر و ساهم بفعالية و حكمة في ولادة الدولة الليبية ‏الدستورية الأولى، و هو الهولندي، السيد أدريان بيلت/ مندوب الأمم المتحدة في ليبيا، في كتاب نشر سنة ‏‏1970‏‎ ‎و اشتمل على (1016) صفحة موزعة على (9) فصول، و حمل عنوان:‏ استقلال ليبيا و الأمم المتحدة: حالة تصفية استعمار مخططةLibyan Independence and the United Nations: A case of planned ‎Decolonization

و أُرفِق بـالكتاب “114″ وثيقة تناولت جوانب عديدة ذات أهمية للجهود الليبية الراهنة المتعلقة بإعداد ‏الدستور. و لا يتوفر هذا الكتاب في المكتبات التجارية و إن توفر في بعض المكتبات الجامعية. و ‏يتضمن عدة وقائع و شهادات تاريخية هامة حول ولادة الدولة الليبية الدستورية الأولى منذ ‏‎ 21‎نوفمبر‎ 1949 ‎منذ أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم ‏‎289 (IV)‎‏ القاضي باستقلال ‏ليبيا، كأول دولة تحصل على استقلالها من خلال الأمم المتحدة، وحتى تشكيل الجمعية التأسيسية الوطنية على النحو السالف بيانه، و تتويج اعمالها بصدور الدستور في 7 أكتوبر 1951‏، بل وحتى صدور قانون ‏الانتخاب في 6 نوفمبر 1951و تنفيذه و تشُكِّيل البرلمان و اجتماعه لأول مرة في 25 مارس 1952، أي بعد شهرين فقط من ‏إعلان الاستقلال في 24 ديسمبر1951.‏

( نص القرار على ألا يتأخر هذا ‏الاستقلال عن أوّل يناير ‏‎ 1952 –‎واضِعاً الآباء المؤسسين أمام تحدٍ زمني كبير. و تنفيذاً لهذا القرار تم ‏التنظيم الإداري لمهام بناء الدولة و إعداد الدستور، فقد عينت الجمعية في 10 ديسمبر ‏السيد أدريان بلت مندوباً للأمم المتحدة في ليبيا، و تم تشكيل مجلس يقدم له المشورة سمي بمجلس الأمم ‏المتحدة الخاص بليبيا؛ “مجلس العشر”. و قد ضم المجلس ممثلين عن ست دول و ثلاثة ممثلين عن ‏المناطق الرئيسية و ممثّل عن الأقليّات، عينهم المندوب بعد استشارة السلطات الإداريّة و الشخصيّات ‏القياديّة و ممثّلي الأحزاب السياسيّة و المنظّمات). ‏

و تظهر تفاصيل مداولات الجمعية و طرق آدائها لمهامها، كما تناولتها وثائق الأمم المتحدة ‏و سردها كتاب السيد أدريان بيلت، قدرات الآباء المؤسسين على بناء دولة حديثة يحكمها دستور توافقي رغم محدودية ‏الزمن المتاح و ضخامة التحديات. و يبقى للأحفاد وللهيئة دراسة التاريخ و النظر في استخلاص الدروس والأحكام من أعمال و تجارب ثرية قدّمت ‏درساً متميزاً في التسوية السياسية.

جـ- المشاركة الشعبية في العملية الدستورية:

تعد الآليات التي تضمن مشاركة كافة المواطنيين والشفافية أمرا بالغ الأهمية في ممارسات الدول لضمان التوافق المنشود وزيادة شعور المواطنيين بأنهم الملاك الحقيقيين للدستورورضاهم التدريجي بالمنتج النهائي. وتتضمن تلك الآليات عادة التغطية الإعلامية والحملات التثقيفية والتوعية وإستقبال الاراء والتوصيات الشفوية والتحريرية للمواطنيين وغيرها من الوسائل.

وتظهر الممارسات الحديثة في دول الجوارضعف هذه المشاركة و الدور الطاغي للهيئات التأسيسية ليس على صياغة الدستورفحسب بل على صنعه أيضا . ويعود ذلك في جانب منه الى أن الجداول الزمنية المقررة لم توّفر فرص إجراء مشاورات علنية واسعة، ويخشى أن ينفذ صبرنا والا يسمح الجدول الزمني الليبي ايضا بمشاركة شعبية فعالة مشابهة لما حدث في عدة دول مثل أوغندا و جنوب أفريقيا.

د-الإستعانة بخبرات قانونية خارجية:

اجهت ممارسات بعض الدول إلى الإستعانة بخبرات قانونية خارجية لمساعدة الهيئات التأسيسية في عملها، وهذا ما حدث عند إعداد دستور 1951 وكذلك في دول عديدة أخرى(مثل: الهند، إرتيريا، كمبوديا، تيمور الشرقية، افغانستان….). وفي ليبيا اليوم تظهر الحاجة للاستفادة من الأمم المتحدة بتجاربها القديمة والحديثة في تقديم المساعدات الدستورية. وكما استفاد الآباء سنة 1951 من المنظمة في إطار جمعيتها العامة، فإن على الهيئة التأسيسية القادمة السعي للإستفادة الأمثل، وبآليات واضحة ومحددة، من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا التي أنشأها مجلس الأمن.

هــ- الإطار الزمني لأعمال الهيئة:

لقد تم تجاوز العديد من الآجال المحددة في الإعلان الدستوري المؤقت. وفيما يخص الهيئة، قضى التعديل بأن عليها الإنتهاء من صياغة وإعتماد مشروع الدستور في مدة لاتتجاوز 4 أشهر من إنعقاد إجتماعها الأول. وتتتفاوت ممارسات الدول بهذا الشأن: وإذا كانت هذه المدة قد حددت بـشهور في بعض الممارسات (3 اشهرفي كمبوديا وتيمور الشرقية…)، فإنها وصلت إلى سنوات في ممارسات أخرى ( سنة في تونس وسنتين في جنوب افريقيا ونيبال، وثلاث سنوات في أريتريا…). و من الواضح على ضوء الظروف الليبية ومهام الهيئة أنها وضعت امام تحدي زمني كبير. ومع ذلك تظهر السوابق أن الإطار الزمني، الذي يتأثر غالبا بالظروف الأمنية، لم تتم مراعاته كما سبق تحديده، وأتيح للجمعيات والهيئات التأسيسية في حالات عديدة وبسهولة الحصول على مدد اضافية.

وتختلف ممارسات الدول حول وضع الهيئات التأسيسية بعد إقرار الدستور، هل تحول إلى سلطة تشريعية؟ وهذا ما حدث في تيمور الشرقية، وفي جنوب افريقيا حيث تم تحويل الجمعية التأسيسية جزئيا إلى سلطة تشريعية، ام يتم حلها؟ تجنبا لتضارب مصالح قد ينتج عن الإقرار لها مسبقا بصلاحيات تشريعية مما قد يدفعها إلى الإنفراد ، خلال صياغة الدستور، بتحديد صلاحياتها المستقبلية.

4- طريقة قيام الهيئة التأسيسية بمهامها:

تشير ممارسات الدول إلى أن الجمعيات التأسيسية تستخدم آليات مختلفة لتعزيز تنظيمها وضمان كفاءة ومرونة أنشطتها وطرق عملها وغالبا ما يتم تقسيمها إلى لجان يتراوح عددها بين اربع وثماني لجان يتولى كل منها صياغة موضوع معين من موضوعات الدستور. ومن السائد أن يتضمن تنظيم الهيئة رئاسة تختارها وهيئة مكتب وأمانة فنية رفيعة وباحثين أكفاء.

ومما يتصل بتنظيم أعمال الهيئة قواعد وإجراءات التصويت بشأن الصياغات والتوصيات المختلفة، وهي قواعد تكتسي أهمية خاصة في مجمل ممارسات الدول. ويستدعي إعداد الدستورالعمل بعيدا عن الأساليب التقليدية السائدة في الهيئات التشريعية لصالح أغلبية خاصة ، وهذا ما قضى به الإعلان الدستوري، والسعي لتوافق يتعين أن يكون في مقدمة منهج عمل وقواعد إجراءات هيئة مكلفة بإعداد دستور يمثل الحامى والضامن لحقوق الجميع. ومما يمليه إعمال هذا المبدأ، الإيمان المسبق بوجود الآخر واكتشافه والتعرف على ما يريد “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” فبذلك يحل التواصل والتقارب وتحقيق المصلحة الوطنية المشتركة محل التنافر ونزعة الانكفاء والإقصاء.