المصادر الموضوعية للقانون الدولي الانساني

المحامية / منال داود العكيدي
يستمد القانون الدولي الانساني مصادره الموضوعية من الثقافة والأخلاق والدين , فالثقافة : هي جملة معارف مكتسبة, التي يتلقاها المرء منذ لحظة ولادته حتى وفاته ، ولا تقتصر الثقافة على كونها شخصية او فردية وانما تعتمد ايضا على التراكم الثقافي اي العادات والتقاليد السائدة في مجتمع ما ويمكن أن نطلق عليها أسم العقلية الاجتماعية , ويتلقاها كل فرد أثناء طفولته عبر عملية التنشئة الاجتماعية في نطاق الأسرة والمدرسة والمجتمع وكل ذلك يدخل في مكونات ثقافته الفردية بالإضافة إلى مكونات شخصية أخرى مثل السفر, القراءة, التجربة, الاختلاط بالآخرين ومن الطبيعي أن تتأثر قواعد القانون الدولي الإنساني بالجانب الفردي والجانب المجتمعي من الثقافة .

فمن ناحية الثقافة الفردية : نجد الجنود المثقفين والمتعلمين قادرين على تفهم العدو ومعاملة جنده ومواطنيه بروح أكثر إنسانية من الجنود الأميين هذا من جهة, ومن جهة اخرى فإنه تتوفر في الجنود المثقفين من دون غيرهم امكانية الاطلاع على القواعد الأساسية للقانون الدولي وقد أدركت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف أهمية إدخال أحكام القانون الدولي الإنساني في الثقافة العامة الوطنية على مستوى الجامعات والمدارس الثانوية العسكرية والعامة, فضمنت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 مادة تقضي بذلك, كما أنها أخذت تصدر مجلة دورية بعدة لغات تحمل عنوان (النشر) وذلك بغية نشر الثقافة الدولية الإنسانية على أوسع نطاق , قبل الحرب وأثنائها, وخاصة لدى من تضعهم وظائفهم أو ظروفهم في تماس مباشر مع العدو.

ومن ناحية الثقافة المجتمعية : نجد أن بعض المجتمعات أكثر مسالمة من غيرها, وبعضها الآخر أكثر عدوانية , وذلك حسب العقلية الاجتماعية للأمة ، ويمكن في هذا المجال أن نذكر مثلا أن المجتمع الصيني قد اخترع البارود منذ القرن السابع للميلاد, لكنه اقتصر في استخدامه على الأسهم والألعاب النارية, ولم يستخدمه كسلاح متفجر أبداً, لأن الثقافة الصينية المتأثرة بمبادئ الكونفوشيوسية كانت تمنع اللجوء إلى القتل, وظل الأمر كذلك إلى أن انتقل سر البارود إلى أوروبا, عن طريق الرحالة الإيطالي المعروف ماركو بولو, حيث تم استخدام البارود كسلاح متفجر في المدافع والبنادق منذ أوا ئل القرن الرابع عشر.

وتعتبر الاخلاق المصدر الثاني من المصادر الموضوعية للقانون الدولي الانساني ويمكن تعريف الأخلاق على انها : العلم الذي يبحث في قواعد سلوك البشر, بعضهم تجاه بعض , وهكذا فالأخلاق أمر مقصور على الانسان من دون سائر الكائنات الاخرى وقد تقودهم إلى القيام بتصرفات تخالف تلك التي تدفعهم إليها غرائزهم, على عكس الحيوانات التي تتصرف دوماً حسب غرائزها حتى إذا بدت لنا تصرفاتها ذات هدف خيري أو إيجابي أو أخلاقي بالمقياس البشري .

والمبادئ الأخلاقية يمكن اعتبارها مصادر لكثير من القواعد القانونية وخاصة في مجال القانون الدولي الإنساني , ومن ذلك مثلا عدم الاعتداء, إعطاء الأمان لمن يطلبه, احترام الوعد, منع النهب , منع الاغتصاب وغيرها . وتتجسد المبادئ الاخلاقية في التشريعات الشرقية القديمة مثل قانون أورنمو السومري , وقانون :حمورابي البابلي , وكذلك التشريعات الهندية والصينية القديمة .

فنجد مثلا قانون مانو الذي كان سائداً في الهند حوالي العام 1000 ق.م قد أوجب : على المحارب أن لا يقتل عدواً استسلم, ولا أسير حرب, ولا عدواً نائماً أو أعزل, ولا شخصاً مُسالماً غير مُحارب, ولا عدواً مشتبكاً مع خصم آخر، فهذه النواحي ماهي الا تعبير عن حس أخلاقي يتمثل في منع الغدر, ووجوب التمييز بين المحاربين وغير المحاربين, والمقاتلين وغير المقاتلين, وهي أهم أسس القانون الدولي الإنساني الحالية وفي الحضارة الأوروبية نجد أن روح الفروسية التي سادت البلدان الأوروبية خلال مرحلة القرون الوسطى قد أمرت بمثل هذه المبادئ ايضا مثل حماية النساء, إغاثة الملهوف, عدم مهاجمة الفارس الذي يسقط عن فرسه, الكف عن مقاتلة الخصم الذي ينكسر سيفه في يده وغيرها حتى أن بعض فقهاء القانون الدولي والباحثين فيه اعتبروا مبادئ الفروسية مصدراً رئيساً من مصادر القانون الدولي الإنساني .

وكان لنجاح الثورتين الأمريكية 1776, والفرنسية 1789 تأثير ضخم في تطوير الأساس الأخلاقي للقانون الدولي الإنساني حيث كتب أحد القادة الفرنسيين مصوراً الأخلاقيات التي يتمتع بها جنده بقوله : (هل هناك قائد أو مقاتل لا يرغب في أن يصفق له خصمه وهو يقاتل, وأن يحترمه بعد أن ينتصر عليه؟ لقد رأيت فرنسيين يزورون أعداءهم الجرحى ويدفئونهم بمعاطفهم, وقد باركت القدر الذي منحني فرصة قيادة مثل هؤلاء الرجال ).

ومن جهة اخرى فقد كانت الآراء الفلسفية التي نادى بها كل من روسو ومونتسكيو في فرنسا , وايمريك فاتيل في سويسرا , وبنيامين فرانكلن في أمريكا أثر كبير في تدعيم الأساس الأخلاقي للقانون الدولي الإنساني, وقد استلهم منها البروفيسور ليبر حين وضع مسودة التعليمات الموجهة لضباط الولايات المتحدة الأمريكية أبان الحرب الأهلية عام 1863 وهي التعليمات التي دخلت بعد ذلك في صلب القانون الدولي الإنساني عبر النص المُسمى (اللائحة المتعلقة بقوانين الحرب البرية وأعرافها), والذي يشكل مُلحقاً لاتفاقية لاهاي الثانية لعام 1899, والرابعة لعام 1907.

أما الأساس الأخلاقي لقانون جنيف فهو يقوم على مبدأ الإنسانية, ومبدأ الإنسانية يقوم على أساس الأخلاق العامة للمجتمع الدولي , بل إن فكرة قانون الصليب الأحمر بكاملها, ليست أكثر من تكريس لمبدأ احترام الفرد الإنساني وكرامته الشخصية, وهو من أهم المبادئ الأخلاقية على الإطلاق وتأتي أهمية المبادئ الأخلاقية من حيث انه يمكن أن نستلهم منها الحل للمسائل التي لا ينص عليها القانون الوضعي بشكل صريح.

اما المصدر الموضوعي الثالث للقانون الدولي الانساني فهو الدين الذي يمكن تعريفه على انه : مجموعة من الشعائر المتصلة بعقيدة معينة في مجال تحديد صلة الإنسان الروحية بالله . والأديان المعروفة اليوم هي إما سماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام), وإما فلسفية إصلاحية كالبراهمانية والبوذية والكونفوشيوسية والشنتوية. وجميع هذه الديانات تقريبا كانت مصدراً غنياً لقواعد القانون الدولي الإنساني المعروفة اليوم, إما بنصوصها المباشرة, كما هي الحال في بعض آيات القران الكريم مثل (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) , وإما بشكل غير مباشر عن طريق التصرفات المثالية والأخلاقية التي تأمر بها هذه الديانات كقاعدة الكف عن قتل من يلوذ بالمعابد.