كمبدأ عام يلتزم الطبيب بتبصير مرضاه في العقد الطبي، ومتى أخل بالتزامه هذا نهضت مسؤوليته هذا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية في قرارٍ لها صدر في 20/9/1997 جاء فيه:

(إن كل عدم تبصير وحذاقة من الطبيب يثير مسؤوليته)(1). لكن ما هو أساس هذه لمسؤولية؟ كي نحدد أساس مسؤولية الطبيب عن عدم تبصير مرضاه لابد أن نبين فيما إذا كان التزام الطبيب بالتبصير التزاماً بوسيلة أم التزاماً بنتيجة ؟! وإذا كنا في كثير من موضوعات المسؤولية نستطيع أن نعرف مسبقاً طبيعة التزام المدين فيها وهل هو التزام بنتيجة (بغاية) أم التزام بوسيلة (بعناية) إلا أنه في مسؤولية الأطباء فان المسألة ليست بهذه السهولة إذ أن التزام الطبيب من حيث الأصل هو التزام ببذل عناية لا تحقيق غاية، هذا ما أكدته تعليمات السلوك المهني للأطباء في العراق(2). كما أكده قرار قضائي لمحكمة النقض الفرنسية الصادر في 20/6/1980 الذي جاء فيه ما يأتي: (لا يلتزم الطبيب بأن يشفي المريض بل أن يعالجه ليس بأي علاج بل بكل عناية وانتباه وفقاً للأصول العلمية الثابتة)(3).

كما ويمكن القول أن شفاء المريض لا يقع على عاتق الطبيب وحده بل يتوقف على عوامل واعتبارات لا تخضع دائماً لسلطان الطبيب أو الجراح كمناعة الجسم ودرجة استعداده للمرض وحالته من حيث الوراثة والمناعة وإصابته بأمراض أخرى، فضلاً عن قصور العلوم الطبية التي قد تقف عاجزة عن علاج الكثير من الأمراض. وفي كثير من الحالات لا يفعل الطبيب أكثر من تخفيف الألم أو تأجيل المصير المحتوم. من هذا، ومن خلال تطرقنا إلى حالتي التبصير المشدد والمخفف يمكننا التوصل إلى النتيجة الآتية باعتبارها أساساً لمسؤولية الطبيب عن عدم تبصير المريض:

في الحالات التي يلتزم فيها الأطباء بتشديد التبصير تجاه المرضى كحالة التجارب الطبية، وعمليات استقطاع الأعضاء البشرية وزرعها وعمليات التجميل غير العلاجية، والإجهاض غير العلاجي، نجد من الضروري عد التزام الطبيب بتبصير الخاضع لهذه الأعمال الطبية التزاماً بنتيجة وذلك لأنها تنطوي على مخاطر بالغة على صحة الإنسان وأغلبها يخلو من الغاية العلاجية، فالتزام الطبيب بالتبصير هو التزام بنتيجة إلا أن النشاط الذي يبذله في التبصير لتحقيق النتيجة ما هو إلا مجرد وسيلة، لأنه لم يكن التبصير هو المقصود بذاته، إنما هو وسيلة لضمان حماية المريض وسلامته، فهو وسيلة لهذا الضمان وليس غاية بذاته(4). وعليه إذا لم تتحقق النتيجة نهضت مسؤولية الطبيب تجاه المريض نتيجة لخطئه المفترض، وهذا الخطأ غير قابل لإثبات العكس ومن ثم ليس بامكان الطبيب أن يدرأ عنه المسؤولية إلا بالسبب الأجنبي الذي حال دون تحقيق النتيجة المرجوة من التدخل الطبي. إذاً، إذا أخل الطبيب بالتزامه بالتبصير المشدد في نطاق الأعمال الطبية التي تتطلب ذلك تنهض مسؤوليته على أساس الخطأ المفترض الذي لا يقبل إثبات العكس إلا بالسبب الأجنبي.

أما في الحالات التي يكون فيها المريض مصاباً بأمراض بسيطة أو بأمراض مستعصية لا يرجى شفاؤها، يتطلب ذلك من الطبيب التبصير المخفف وذلك لأن النوع الأول من الأمراض يكون بسيطاً ومن ثم لا داعي لإشغال ذهن المريض بمعلومات وأمور هو في غنى عنها خاصةً وأنه على علم بنوع المرض وأعراضه وآثاره لأنه من الأمور التي تقضي علم الكافة بها، أما في النوع الثاني من الأمراض فان مصارحة المريض بها لا يجدي نفعاً بل قد يكون أثر التبصير سلبياً فيه فما على الطبيب إلا التخفيف بالتبصير تجاه المريض رفعاً لمعنوياته ومراعاةً لحالته النفسية، بهذا نجد من الضروري عد التزام الطبيب بتبصير مرضاه في هذه الفروض التزاماً بوسيلة أو ببذل عناية، فاذا لم يبذل الطبيب العناية اللازمة يكون قد أخطأ تجاه المريض والعناية المطلوبة هي عناية الشخص المعتاد، لكن هنا تبرز مشكلة هي أن معيار الرجل المعتاد لا يأخذ إلا بالظروف الخارجية المحيطة بالفاعل كظرف الزمان والمكان والبعد أو القرب من العمران أو وجود مراكز صحية قريبة، أما الظروف الداخلية فلا يؤخذ بها.

فالأمر في نطاق المسؤولية الطبية يتطلب أكثر من ذلك لأن التخصص يعد عاملاً مهماً في تقدير مسؤولية الطبيب وعليه فمن الضروري أن يؤخذ بنظر الاعتبار مسألة عامل المستوى المهني للطبيب لأن هناك فرقاً بين الطبيب العام والطبيب الأخصائي، إذ لا يتساوى الإثنان في العناية التي تتطلب من كل واحد منهما وبهذا فان المعيار السليم للعناية المطلوبة من الطبيب في تنفيذ التزامه بالتبصير المخفف هو معيار طبيب من مستواه المهني وجد في الظروف الخارجية نفسها التي وجد فيها الطبيب الفاعل(5). استناداً إلى ما تقدم إذا لم يبذل الطبيب العناية اللازمة في التبصير المخفف تجاه المرضى المصابين بأمراض بسيطة أو بأمراض مميتة ولم يقم ببذل الجهود اللازمة للوصول إلى إقناع المريض بالتدخل الطبي لضمان سلامته يكون قد أخطأ وخطؤه هذا لا يفترض في جانبه بل هو خطأ ثابت لكن بامكانه أن ينفي عنه المسؤولية وذلك بأن يثبت أنه قد بذل الجهد والعناية اللازمة منه (عناية الطبيب المعتاد) أو باثباته للسبب الأجنبي أو خطأ المريض ذاته. إذاً متى أخل الطبيب بالتزامه بالتبصير المخفف في نطاق الأعمال الطبية التي تتطلب تخفيفاً بالتبصير تنهض مسؤوليته تجاه المريض على أساس الخطأ الثابت مع الاحتفاظ بحقه في درء المسؤولية عنه باثباته للسبب الأجنبي أو خطأ المريض أو باثباته أنه قد بذل العناية المطلوبة منه.

وبهذا يعد التزام الطبيب بالتبصير تجاه المريض في الحالات التي تتطلب التشديد التزاماً بنتيجة، بينما يعد التزامه بالتبصير في الحالات التي تتطلب التخفيف التزاماً بوسيلة وفي الحالة الأولى يكون أساس مسؤولية الطبيب هو الخطأ المفترض بينما في الحالة الثانية يكون أساس مسؤولية الطبيب هو الخطأ الثابت(6). وتجدر الإشارة في هذا النطاق إلى أن القضاء الأمريكي كان له موقف في هذا المجال فاستندت المحاكم الأمريكية في إقامة مسؤولية الطبيب عن إخلاله بتبصير المريض الى إحدى النظريتين(7).الآتيتين  :

النظرية الأولى نظرية الإكراه البدني، وتقضي هذه النظرية بأن مباشرة الطبيب للعمل الطبي تجاه مرضاه دون تبصيره اياهم يشكل عملاً من أعمال العنف البدني وما يشدد من قسوة هذا العمل هو التباين، وعدم التعادل بين طرفي العقد الطبي، الطبيب (صاحب الخبرة) والمريض (عديم الخبرة في المجال الطبي) وهذا ما قضت به محكمة استئناف كاليفورنيا في قرارٍ لها جاء فيه: (أن للكشف على المريض من قبل طبيبه المختص دون تبصير يشكل ذلك إكراهاً مادياً يستوجب المسؤولية حتى ولو لم يقم المريض باثبات الضرر الذي لحق به)(8). فمن وجهة نظرنا المتواضعة نجد أن إقامة مسؤولية الطبيب عن إخلاله بتبصير المريض على أساس الإكراه البدني اتجاه غير مبرر، فهل يُعد مجرد اخلال الطبيب باعلام مريضه بطبيعة المرض الذي يعاني منه وطبيعة العمل الطبي المزمع تقديمه له إكراهاً بدنياً؟! وكيف يمكن أن تقام مسؤولية الطبيب دون أن يثبت المريض الضرر الذي أصابه من عدم تبصيره ؟! وما هو معيار تطبيق هذه النظرية ؟! كل هذه الأسئلة تضعف من الأساس الذي تقوم عليه هذه النظرية.

أما النظرية الثانية فهي نظرية الإهمال، إذ تؤسس مسؤولية الطبيب وفقاً لهذه النظرية على أساس الإهمال المنسوب إلى الطبيب في عدم تبصيره لمرضاه، ومعيار الإهمال هذا يحدد وفقاً لما هو مطلوب من الطبيب الاعتيادي وما تقتضيه الظروف، وهذه النظرية لاقت تأييداً أكثر من سابقتها على اعتبار أن وصف مسلك الطبيب بعدم تبصير مرضاه بأنه إكراه بدني يعد أمراً غير مقبول من الناحيتين النظرية والعملية لأن مجرد التصريح للطبيب بمزاولة مهنة الطب لا يجعل منه متعدياً على أساس العمد وكان الاولى في تحديد اساس مسؤولية الطبيب عن عدم تبصير مرضاه الاخذ بنظر الاعتبار طبيعة الاعمال الطبية ذاتها فيما إذا كانت تتطلب التشديد او التخفيف بالتبصير.

_________________________

[1]- Dalloz 2002، no 32، P.1379.

2- حيث ذكرت هذه التعليمات في طبيعة المسؤولية الطبية، أن المسؤولية الطبية تجاه المريض هي مسؤولية عناية وليست مسؤولية شفاء.

2- Louis melennec، Op.Cit.، P.34.

4- حتى في نطاق عقد البيع يرى بعض الفقه أن الالتزام بالافضاء للمشتري هو التزام بنتيجة، إلا أنه وسيلة لتحقيق الالتزام بضمان السلامة، أي أنه لم يكن هو النتيجة المقصودة لذاتها، ينظر في هذا الجانب:

– ايمان محمد طاهر عبدالله العبيدي، الالتزام بضمان السلامة في عقد البيع- دراسة تحليلية مقارنة، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون، جامعة الموصل، 2003، ص87.

5- أحمد سليم ضاري الجبوري، التأمين من المسؤولية المدنية في المجال الطبي، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون، جامعة بغداد، 2001، ص23.

6- تجدر الإشارة في هذا المجال الى أنه يمكن الاستناد الى قاعدة المباشر والمتسبب المعروفة في الفقه الإسلامي كأساس لمسؤولية الطبيب عن عدم تبصير مرضاه، لكن في نطاق المسؤولية التقصيرية لا العقدية، واستناداً لهذا يمكن القول أنه في الحالات التي تتطلب التشديد بالتبصير والتي تنطوي على مخاطر فان الضرر بهذه الحالة يكون مؤكداً، فالمسؤولية هنا مباشرة ويضمن الطبيب دائماً سواءً أخطأ أم لم يخطأ، أما في الحالات التي تتطلب التخفيف بالتبصير والتي لا تنطوي على مخاطر فالضرر بهذه الحالة يكون محتملاً والمسؤولية هنا تكون تسبباً فلا يضمن الطبيب إلا بتعديه. للمزيد من التفصيل، ينظر: أ. أكرم محمود حسين، أساس مسؤولية المنتج المدنية، بحث منشور في مجلة الرافدين للحقوق، العدد 6، السنة 1999، ص79 ومابعدها.

7- ينظر تفصيلاً: د. مصطفى عبد الحميد عدوي، حق المريض في قبول او رفض العلاج- دراسة مقارنة، دون مكان طبع، القاهرة، 2000، ص54-56.

8- أشار إليه: د. مصطفى عبد الحميد عدوي، المصدر السابق، ص55.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .