عقد المحاماة يبحث عن حماية قضائية

تباشَرَ كثيرٌ من المحامين بإنشاء الهيئة السعودية للمحامين، حيث ستسهم بالرقي في كل ما يتعلق بمهنة المحاماة، وتزامناً مع بداية عملها تجدر الإشارة إلى إحدى العقبات الهامة التي تعترض عمل المحامين، وتبرز هذه العقبة عند وجود نزاع بين المحامي وموكله يصل إلى القضاء فتذهب بعض المحاكم إلى التوصيف الفقهي لعقد المحاماة الذي يتضمن دفعة مقدمة ودفعة أخيرة بعد تحقق الثمرة – وهو العقد السائد لأعمال المحاماة المتعلقة بالترافع – بأنه عقد جعالة يجوز لكل واحد من طرفيه فسخه متى شاء، وللمحامي أجرة المثل عن عمله السابق، وحينها لا يكون لعقد المحاماة المبرم بين المحامي وموكله أي قيمة، والواقع أن هذا التوصيف الفقهي مجانب للصواب؛ فعقد المحاماة من العقود المستحدثة التي لم تكن معروفة عند الفقهاء المتقدمين، وله أحكام وخصائص تباين أحكام وخصائص العقود المذكورة في كتب الفقه المتقدمة، وعليه فلا يلحق بالجعالة ولا بغيره من العقود المعروفة عند الفقهاء المتقدمين، ولا تطبق شرائطها عليه، بل يعتبر عقداً جديداً مستقلاً يُقرر له من الأحكام الفقهية ما يتناسب مع خصائصه وموضوعه، حيث اتسم عصرنا الحاضر بالتقدم في كافة الجوانب الصناعية والاقتصادية والتجارية وغيرها، ومن ذلك التقدم والتطور في المعاملات المالية، والعقود المرتبطة بها، فظهرت أنواع كثيرة من المعاملات والعقود لم تكن موجودة في السابق، ومن هذه العقود عقد المحاماة، وقد واكب المنظم السعودي هذا التقدم والتطور، فأصدر نظام المحاماة ولائحته التنفيذية بأحكام مستقلة عن العقود المالية المعروفة في كتب الفقه المتقدمة، وتعامل الناس وفقاً لما ورد في هذا النظام من أحكام.

وعليه فيمكن معرفة خصائص هذا العقد وموضوعه من مواد نظام المحاماة ولائحته التنفيذية، ومن أعراف عقود المحاماة وتعاملات المحامين وموكليهم، وقد قررت المادة السابعة والعشرون من نظام المحاماة أن على الموكل دفع كامل الأتعاب المتفق عليها إذا قام بفسخ عقد المحاماة بسبب غير مشروع. وتبعاً لهذه المادة فقد أخذت عقود المحاماة بهذا المبدأ وتعامل المحامون وموكلوهم على هذا الأساس، واستقرت به الأعراف، وبهذا المبدأ حُفظت الحقوق كافة، حيث حُفظ حق المحامي بعدم تمكين موكله من فسخ العقد دون مبرر مشروع لا سيما إذا كان المحامي قد بذل الكثير من الجهود والأموال واستثمر خبراته وطاقاته للوصول إلى الغاية التي يطمح إليها الموكل في عقده، وبه أيضاً حُفظ حق الموكل عند وجود سبب مشروع يقتضي الفسخ، وهذا هو العدل الذي ترتضيه الشريعة الغراء والطريق الأمثل لحفظ حقوق العباد.

وعلى فرض التسليم بوجوب إلحاق العقد محل النزاع بأحد العقود المعروفة في كتب الفقه المتقدمة فإنه من الخطأ إلحاقه بعقد الجعالة، فعقد الجعالة عقد جائز، أما عقد المحاماة الذي يتعامل الناس به اليوم فعقد لازم، يدل لذلك نظام المحاماة الذي ألزم الموكل بدفع كامل الأتعاب المتفق عليها إذا قام بفسخ عقد المحاماة بسبب غير مشروع، ولو كان العقد جائزاً لما ألزمه بدفع باقي الأتعاب، ويدل على لزومه إرادة أطراف عقد المحاماة، إذ لو قيل لأحد الأطراف أن العقد جائز لكل واحد فسخه في أي وقت شاء لما أقدموا عليه، وإرادة الأطراف في العقود المالية محل اعتبار ما لم تخالف شيئاً من الشرع.

ومما يدل على الخطأ في توصيف عقد المحاماة بأنه جعالة أن كثيراً من عقود المحاماة تتضمن التزام الموكل بدفع مقدم أتعاب ويقوم الموكل بدفعها فعلاً قبل شروع المحامي في عمله، ولا يمكن أن يكون في عقد الجعالة مقدم أتعاب.

بناء على ما سبق وعلى فرض التسليم بوجوب إلحاق عقد المحاماة بأحد العقود المعروفة في كتب الفقه المتقدمة، فإن الأقرب إلحاقه بعقد الوكالة بعوض أو بأجرة، وهو أحد صور عقد الإجارة اللازمة، جاء في القوانين الفقهية لابن جزي (ص216): «تجوز الوكالة بأجرة وبغير أجرة، فإن كانت بأجرة فحكمها حكم الإجارات»، بل قرر الفقهاء أن الوكالة متى ما تعلق بها حق للوكيل فإنها تكون إجارة لازمة، جاء في تبصرة الحكام لابن فرحون (1/181): «وإذا تعلق بالوكالة حق للوكيل مثل أن يكون بعوض فإنها تكون إجارة، فلا يمكن الموكل من عزل الوكيل»، ومثله ما جاء في حاشية ابن عابدين (4/416) ودرر الحكام (3/658-659) ومواهب الجليل (5/188)، بل ذهب القرافي إلى ما هو أبعد من ذلك، فقرر أن الأصل في العقود أنها لازمة ولا تنتقل إلى الجواز إلا باستثناء، فقال: «اعلم أن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن العقد إنما شُرع لتحصيل المقصود من المعقود عليه، ودفع الحاجات، فيُناسب ذلك اللزوم دفعاً للحاجة، وتحصيلاً للمقصود» [الفروق (4/13)]، والأصل فيما ذكره القرافي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، فكل عقد خرج من اللزوم إلى الجواز افتقر إلى دليل يخرجه من عموم الأمر في الآية، لما يترتب على عدم الوفاء بالعقود من أضرار على طرفيه أو أحدهما.

ولا يخفى أن الأنظمة المعمول بها في هذا البلد المبارك ومنها نظام المحاماة داخلة في أحكام السياسة الشرعية التي يقوم بها ولي الأمر لتنظيم أمور الرعية، والقاعدة الشرعية في ذلك أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، والأصل فيها وجوب السمع والطاعة، وقد نصت المادة الثامنة والأربعون من النظام الأساسي للحكم على أن: «تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقاً لما دلّ عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة»، وقد نظم نظام المحاماة ولائحته التنفيذية العلاقة ما بين المحامي وموكله، وآلية تحديد الأتعاب، وكان ذلك في المادتين السادسة والعشرين والسابعة والعشرين، فقد جاء في المادة السادسة والعشرين ما نصه: «تحدد أتعاب المحامي وطريقة دفعها باتفاق يعقده مع موكله»، كما قررت المادة السابعة والعشرون أن على الموكل دفع كامل الأتعاب المتفق عليها إذا قام بفسخ عقد المحاماة بسبب غير مشروع، والمتوجه عند إصدار أي حكم بين المحامي وموكله أن يكون مبنياً على إعمال مواد نظام المحاماة ومن ضمنها هاتان المادتان،

ولن تألو الهيئة السعودية للمحامين جهداً في تقديم كل ما يخدم مهنة المحاماة، والمؤمل معالجة هذه العقبة وغيرها من العقبات التي تعترض عمل المحامين وتذليلها وحماية عقد المحاماة وضمان تنفيذه قضائياً.

فهد بن علي الحسون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت