التقاضي في بيئة الإنترنت

1- في الطبيعة الخاصة للإنترنت

الإنترنت لا تعترف بالحدود الجغرافية ، فالمكان والزمان عنصران غالبا ما لا يكون لهما أي اثر في انشطة تبادل المعلومات والعلاقات الناشئة في بيئة الإنترنت ، وللإنترنت سمات وخصائص ذات اثر على البناء القانوني والعلاقات القانونية ، فهي واسطة اتصال تنقل فيها المعلومات على شكل حزم ، توجه الى عنوان افتراضي لا صلة له بالمكان بوجه عام ، وليس ثمة طريق اتصال محدد من نقطة الى نقطة ، انما انتقال عشوائي يتخير بذكاء افضل الطرق واقصرها للوصول الى مقصده النهائي ،

هذه الحزمة تحمل معلومة او رسالة بريد الكتروني او برنامجا او طلبا او غير ذلك ، وليس ثمة سيطرة مركزية لاحد على الإنترنت ، انها بيئة مملوكة لكافة الافراد والمؤسسات وليست مملوكة لاحد ، وليس ثمة اطار تقني او قانوني او تنظيمي يسيطر مركزيا على الإنترنت بل ان اداراتها والتحكم بها انما تحكمه طبائعها الذاتية وواقع ( حركة السير ) لملايين الاتصالات التي تتم في نفس الوقت

2- في اثر التقنية على القانون وفي مدى انسجام بعض الدعوات الدولية لحد ادنى من التنظيم القانوني لتقنية المعلومات مع واقع النظام القانوني العربي

ان التقنية العالية احدثت منذ نهاية الستينات اثارا واسعة على العلاقات القانونية والتصرفات القانونية اوجدت وخلقت فروعا وموضوعات قانونية استلزمت موجات متلاحقة من التشريعات ، وذلك في ثمانية حقول ، امن المعلومات – جرائم الكمبيوتر والإنترنت – ومسائل الخصوصية وحماية الحياة الخاصة ،

ومسائل الملكية الفكرية للمصنفات الرقمية كالبرمجيات والدوائر المتكاملة وقواعد البيانات واسماء نطاقات وعناوين الإنترنت وحماية محتوى مواقع المعلوماتية ، وكذلك في حقول المعايير والمقاييس التقنية ، وفي حقل قواعد الاثبات والاجراءات الجنائية وما تبعها من مسائل الاختصاص والقانون الواجب التطبيق ، وفي حقل وسائل الدفع الالكتروني والخدمات المصرفية الالكترونية ، وتثير الان اوسع تحدياتها في حقل التجارة الالكترونية والحكومة الالكترونية التي مثلت الاطار الجامع لحركة التشريع المتصل بتقنية المعلومات ،

وقد كان من اهم انتقادات الفقهاء بشان التدابير التشريعية لمسائل تقنية المعلومات ان التدخل قد تم في كل موضوع على حده واستقلال عن غيره ، ولهذا دعا هؤلاء الى تاطير فرع قانوني جديد هو قانون الكمبيوتر ، لكن ومن حيث لم يتوقع احد ، جاءت التجارة الالكترونية لتخلق الحاجة الى ايجاد تنظيم شمولي للمسائل القانونية المتصلة بتقنية المعلومات في كافة فروعها ،

فالتجارة الالكترونية اظهرت الاهمية للتدخل التشريعي لتنظيم مسائل الخصوصية وامن المعلومات والحجية القانونية للمستخرجات ذات الطبيعة الالكترونية ومسائل الملكية الفكرية واسماء النطاقات وعلاقتها بالعلامات التجارية ومسائل التوثق والتعريف الشخصي والتواقيع الرقمية والتشفير ومعايير الخدمات التقنية ومواصفاتها والتنظيم القانوني لسوق الخدمات التقنية ومسائل الضرائب اضافة الى مسائل الحق في الوصل للمعلومات التي اثارتها بشكل رئيس فكرة الحكومة الالكترونية وبقية فروع قانون الكمبيوتر ذات العلاقة .

وانطلاقا من هذه الحقيقة علينا ان ندرك كدول عربية الاختلاف فيما بين الواقع الدولي وواقع انظمتنا القانونية في تعاملهما مع مسائل تقنية المعلومات ، وصحيح ان هناك شبه اجماع عالمي على وجوب ان يكون التدخل التشريعي في التجارة الالكترونية بحدوده الدنيا وهذا ما عبرت عنه الرئاسة الامريكية في عام 1997 عند اطلاق اطار التجارة الالكترونية وهو ما تبناه خبراء الاتحاد الاوروبي في مؤتمراتهم وهو ما تبناه المؤتمر العالمي لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 1998 ،

لكن لهذه الجهات ان تتبنى هذا الموقف لان نظمها القانونية عرفت عشرات التشريعات في حقل تقنية المعلومات قبل التجارة الالكترونية ، ولان نظمها منذ مطلع السبعينات عرفت حزمة تشريعات لا تزال اخذة في النماء والتطور في حقل جرائم الكمبيوتر وامن المعلومات وحجية مستخرجات الحاسوب والمواصفات والمعايير التقنية والملكية الفكرية والخصوصية وقواعد نقل وتبادل البيانات ووسائل الدفع الالكتروني وحماية المستهلك وغيرها ، لكن مجتمعاتنا لم تعرف مثل هذه التشريعات ولم تتقاطع مع موجات التشريع العالمية في هذا الميدان ، اضف الى ذلك ان ثمة عشرات الاتفاقيات الدولية والثنائية في حقل حماية البيانات ونقلها وفي حقل الحماية الجنائية من الانشطة الجرمية في عالم المعلومات ،

نحن لسنا طرفا فيها وليس بين دولنا العربية حد ادنى من مثل هذا التعاون .

لهذا لا يصلح معنا كدول عربية تبني وجهة النظر التي تطالب بحد ادنى من التدخل التشريعي دون تقييم هذه الدعوى ، فهي صحيحة للغير وليست صحيحة لنا ببساطة لانهم انجزوا وينجزون مئات التشريعات والاطر القانونية في هذا الحقل ونحن بعد لم نقف على أي من موجات التشريع هذه ، ولهذا فان الدول العربية مدعوة لوقفة اكثر شمولية ودقة في ارساء تنظيم تشريعي شمولي لافرازات عصر المعلومات

ومن هنا تجدو بان استراتيجيتنا العربية هي بناء الـ E- Law ، أي بناء النظام القانوني المتوائم مع العصر الالكتروني ، وهي برايي وسيلة حقيقة لانتاج معارفنا القانونية الخاصة والكف عن سياسات استهلاك معارف الاخرين سيما وان شرائعنا السماوية وحركة تعاملنا مع التاريخ تدعونا لان نكون نحن لا ان نكون مستهلكين لخيارات الاخرين.

3- في الحاجة الى اداء قانوني وقضائي عربي يساير تحديات العصر الرقمي

اثارت البيئة الرقمية جملة من التحديات والمشكلات القانونية التي تطلبت وتتطلب تنظيما قانونيا في جانب منها لعدم تعرض القوانين القائمة في الدول العربية لتنظيمها او تتطلب اعادة تقييم للقواعد القائمة لتتوائم مع الطبيعة الخاصة لتطبيقات العصر الرقمي ،

وومن ابرز التحديات القانونية في هذا الحقل تحديات التعاقد بالطرق الالكترونية Contracting by Electronic Means ، وتحديات وقانونية الدليل evidential value ، وفي اطارها يظهر الموضوع الاهم ، التواقيع الرقمية Digital Signature بجوانبه الموضعية والاجرائية ، ويرتبط به موضوع التشفير Cryptography ويتصل بالاثبات مسالة الموقف القانوني من الرّسائل الإلكترونيةِ Legal Recognition of Electronic Messages ، وتحديات انظمة الدفع الالكتروني والمال الالكتروني والبنوك الالكترونية electronic money and electronic banking Payment systems ، وتتصل هذه التحديات بمفهوم النقود الالكترونية ، الحوالات الالكترونية ، وآليات الدفع النقدي الالكتروني . وتحديات المسؤولية القانونية للجهات الوسيطة في انشطة الخدمات والمنتجات الالكترونية Liability of on-line intermediaries ، ومسؤولية جهات التوثيق واصدار الشهادات Certificate authorities. وتحديات التنظيم القانوني للبنية التحتية Infrastructure ، وتتعلق بالتنظيم القانوني لخدمات الاتصال وتزويد خدمة الإنترنت وجهات الاشراف على الاعمال الالكترونية في الدولة المزودة لحلولها وروابطها ، وما يتصل بهذا التنظيم من معايير ومواصفات وقواعد قانونية ومسؤوليات قانونية .

وتحديات حماية المستهلكِ وتنفيذِ القانونِ Consumer protection and law enforcement وتحديات الملكية الفكرية Intellectual property في بيئة التجارةِ إلكترونيةِ، وتحديدا العلاقة بين حماية العلامات التجارية واسماء النطاقات ، الى جانب حماية محتوى مواقع التجارة الالكترونية من المواد المكتوبة والمرئية والمسموعة طبعا اضافة الى حماية برمجيات التجارة الالكترونية وحلولها التقنية خاصة تلك التي يجري تنزيلها عن الموقع بصورة رقمية . و

مسائل امن المعلومات IT Security المتصلة بانماط اختراق مواقع التجارة الالكترونية ونظمها ومتطلبات امن الشبكات من مختلف صور جرائم الكمبيوتر والانترنت. وتحديات مسائل الخصوصية Privacy و الضرائب Taxation و الجمارك والتعريفة Customs وتنظيم مسائل التسليم المادي للمنتجات المبيعة على الخط :- و تحديات الاختصاص والولاية القضائية Jurisdiction والقانون الواجب التطبيق Applicable Law، وتحديات فعالية النظام القضائي في هذه البيئة وادواته الملائمة لضمان السرعة وسلامة المخرجات ،

اضف الى ذلك كله ، ان جوهر المشكلة ليس مجرد التشريع ، بل سلامة الاطار التشريعي وملاءمته من جهة ، وآليات انفاذه على نحو فاعل وملائم دون خلاق معيقات او ردود فعل سلبية من قبل المخاطبين باحكام هذه القوانين كما حصل عربيا في حقل انفاذ تشريعات الملكية الفكرية على قطاع البرمجيات ، مع ما يستتبع ذلك من احتياجات البحث و الدراسة والتدريب والتاهيل لكافة الجهات ذات العلاقة بالنظام القانوني والقضائي ، وتطوير ادوات امتلاك المعرفة القانونية وتوظيف وسائل اتمتة المحتوى والحلول القانونية والقضائية ( المعلوماتية القانونية ) .

4- منازعات البيئة الرقمية وتحديات الاختصاص القضائي والقانون الواجب التطبيق

يتوقع في البيئة الرقمية – وهو ما حصل فعلا في الاعوام الخمسة المنصرمة – ظهور المنازعات بخصوص الاخلال بشروط التعاقد ، او الحاق الضرر بالغير او الاعتداء على العلامات والأسماء التجارية للغير او منازعات بخصوص تنفيذ العقد والتسليم المادي للبضائع ، ومن الوجهة العملية وبتحليل الحالات القضائية التي نظرت امام القضاء المقارن في اوروبا وامريكا ظهر ان غالبية المنازعات تتصل بمسائل الملكية الفكرية ومسائل التعويض عن الضرر جراء المنتجات المعيبة او الاخفاق في تقديم الخدمة بشكل صحيح .

ومشكلة منازعات التجارة الالكترونية تكمن في ان الغالب في علاقاتها القانونية انها تتم بين اطراف تختلف جنسياتهم واماكن اقامتهم وتتعلق بموقع لا يعلم مكانه ولا مكان الجهة التي تديره ولا وموقع الخادم (السيرفر ) الخاص به ، كما ان القانون الواجب التطبيق ايضا لا يكون محددا بوضوح ، وحتى في حال الاتفاق عليه بين المتعاقدين عبر العقد الالكتروني تثار مدى صحة مثل هذا الشرط في ضوء حقيقة ان المستخدم قد لا يكون قد قرأ العقد وهو بالتاكيد لم يناقشه وربما يقع هذا العقد وفق بعض النظم القانونية ضمن مفهوم عقد الاذعان ،

اضافة الى ان ثمة العديد من النظم القانونية لا تتضمن للان تشريعات منظمة لمسائل تقنية المعلومات ، فما هو القانون الواجب التطبيق على منازعات التجارة الالكترونية ، ومن هي المحكمة المختصة ، وما مدى حجية احكام المحاكم الاجنبية ومدى قابليتها للتنفيذ في اقليم آخر ، ثم ما هي انجع الوسائل لفض منازعات التجارة الالكترونية ؟؟