الاستصحاب كلمة ترجع في اصل معناها اللغوي إلى الصحبة والملازمة، وكل شيء لازم شيئاً فقد استصحبه، فيقال استصحبت الكتاب في سفري، أي جعلته مصاحباً لي، ومن هنا قيل: استصحاب الحال أي التمسك بما كان ثابتاً(1). والاستصحاب في اصطلاح العلماء لا يخرج في الجملة عن هذا المعنى، فهو عبارة عن إبقاء الحال على ما كان عليه حتى يقوم الدليل على خلافه، ويعرفه ابن قيم بأنه استدامة إثبات ما كان ثابتاً، أو نفي ما كان منفياً، أي بقاء الحكم القائم – نفياً أو إثباتاً – حتى يقوم دليل على تغيير الحالة(2). ومعناه ان ما ثبت في الزمن الماضي، فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، ما لم يوجد ما يغيره، فيقال الحكم الفلاني قد كان فيما مضى، وكلما كان فيما مضى ولم يظن عدمه فهو مظنون البقاء، فهو – أي الاستصحاب – بقاء كل شيء على ما كان حتى يثبت خلافه، ولذلك نقول لمن ادعى ان فلاناً قد حل دمه بردة أو زنى: عهدناه بريئاً من كل ذلك، فهو على السلامة حتى يصح الدليل على ما تدعيه.

وكذلك نقول لمن ادعى أن فلاناً العدل قد فسق،وان فلاناً الفاسق قد تعدل، أو ان فلاناً الحي قد مات، وهكذا كل شيء، إننا على ما كنا عليه حتى يثبت خلافه، ومثل ذلك المشروبات المسكره، إذ قرر الشارع الحكيم انها محرمة الا إذا تبدلت صفتها بزوال صفة الاسكار، كأن يتحول الخمر – وهي حرام – إلى خل، أو يتحول عصير العنب – وهو حلال – إلى خمر(3). ومن ناحية أخرى، فإن كل ما علم عدمه، وحصل الشك في وجوده؛ فإنه يحكم بعدمه؛ استصحاباً لذلك العدم السابق، حتى يقوم الدليل على وجوده، ومثال ذلك من اشترى شيئاً على إنه سليم من العيوب، ثم ادعى وجود عيب في المبيع، واراد رده بهذا العيب، واختلف مع البائع في وجود العيب عند البائع أو حدوثه عند المشتري، فالعبرة بما يقول به البائع النافي للعيب، لأن الأصل سلامة العين المبيعة من العيوب، حتى يثبت المشتري دعواه بالبينة(4).

والاستصحاب هو احد الأدلة التي يلجأ اليها المجتهد لبيان حكم الشرع في مسألة لم يرد في شأنها نص يدل على الإباحة أو التحريم، إذ ان مصادر الأحكام الشرعية – كما هو معلوم – هي الكتاب والسنة ثم الإجماع والقياس، هذه المصادر الأربعة الأساسية المتفق عليها عند جمهور الفقهاء. وهي التي نصت عليها الآية الكريمة، بقوله عز وجل: (( يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا )) (5). فإن سئل الفقيه عن حادثة فإنه يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس. فإن لم يجده، أخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان الحكم السابق ثابتاً بدليله، ثم طرأ التردد في زواله، فإن المجتهد يستصحب الأصل، وهو بقاء الحكم السابق، فيعمل به استصحاباً للحال، وان كان العكس، أي ان الحكم لم يكن ثابتاً. ثم طرأ التردد في ثبوته، فيعمل بالأصل وهو استصحاب عدم الثبوت، ذلك ان الاستصحاب لا ينشيء حكماً جديداً كغيره من الأدلة، ولكنه يفيد استدامة الحكم السابق الثابت بدليله(6).

ولاستصحاب الحال أنواع مختلفة، وينبني على اساسها كثير من العبادات والمعاملات في المسائل المدنية والتجارية والجنائية، إلا أن ما يعنينا هو تطبيقه في مجال الإجراءات الجنائية، إذ يؤكد الفقه الإسلامي ان استصحاب “البراءة الأصلية” يقوم من خلال الاستصحاب بحكم العقل ( وهو أحد أنواع الاستصحاب ) (7). حيث خلق الله سبحانه وتعالى عباده على هذه البراءة الأصلية، وان ذمة العبد بريئة عن التكليف بالواجب، أو الانتهاء عن المحرمات قبل بعثة الرسل ببيان تلك التكاليف، لذا نستصحب تلك البراءة حتى يرد التكليف الشرعي، ومن ثم فالإنسان حر في أفعاله وتصرفاته حيث لا يوجد في الشرع ما يعارض أو يناقض هذا السلوك، فالإنسان المؤمن غير مقيد إلا بما أنزل الله سبحانه من تكاليف شرعية، وكل ما هو خارج إطار هذه التكاليف يصح القول بأن الإنسان في دائرة البراءة الأصلية، وبعبارة أخرى فإن كل إيجاب أو تحريم مجهول لم يقم عليه دليل فلا أثر له على سلوك الإنسان، وليس الإنسان ملزماً بالاحتياط من ناحيته والتقيد به، استنادا إلى أصالة البراءة في الإنسان والتي تعد من الأصول العملية في الفقه الإسلامي(8).

ومن امثلة البراءة الأصلية التي تقوم على الاستصحاب بحكم العقل، الحكم ببراءة الذمة من التكاليف والحقوق حتى يقوم الدليل على شغل الذمة بها، فإذا أوجب النص الشرعي خمس صلوات، فالسادسة – وان لم يرد النص بنفيها – غير واجبة وذلك بمقتضى البراءة الأصلية، ومثل ذلك الصغير الذي لم يبلغ تكون ذمته بريئة حتى يثبت البلوغ، وكذلك براءة ذمة الإنسان من الحقوق، وبراءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات(9). وعند تطبيق استصحاب البراءة الأصلية في مجال الإجراءات الجنائية، يقودنا إلى النتيجة ذاتها، وهي انه ما دامت البراءة ثابتة، فإنها تظل كذلك إلى ان يثبت ما ينفيها، وهي لا تنتفي إلا بالحكم القضائي البات، وعلى ذلك فهو اصل مستصحب ومستمر، فإذا ما ادعى شخص بأن زيداً قتل أخاه، ولم يكن عنده أي دليل يثبت صحة دعواه، حكم القاضي ببراءة زيد استصحاباً للحكم الأصلي وهو براءة الإنسان عن كل ما ينسب اليه حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك.

_____________________

1- محمد ابي بكر عبدالقادر الرازي، “مختار الصحاح”، المركز العربي للثقافة والعلوم، بيروت، بدون تاريخ، ص226.

2- شمس الدين محمد بن ابي بكر ( ابن قيم الجوزية )، “أعلام الموقعين عن رب العالمين”، ج1، مطبعة السعادة، القاهرة، 1389هـ، ص339.

3- الحافظ ابو محمد علي بن حزم الاندلسي الظاهري، “الأحكام في أصول الإحكام”، ج5، مطبعة الخانجي، القاهرة، 1347هـ، ص3.

4- يوسف قاسم، “البراءة الاصلية”، المرجع السابق، ص16.

5- سورة النساء، الآية رقم (59)

6- انظر في ذلك: البراءة الأصلية ودائرة الحلال والحرام، كتاب نحو فقه جديد، والمنشور على الموقع الإسلامي ((اسلامك كول)) على الانترنت: www.islamiccall.org http//:

– وكذلك بنفس المعنى: يوسف قاسم، البراءة الأصلية، المرجع السابق، ص20-21.

7- إذ اختلف الفقهاء في أنواع الاستصحاب والعمل بها، منها ( استصحاب العموم حتى يرد ما يدل على الخصوص، واستصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه، واستصحاب الاجماع في محل الخلاف، استصحاب الإباحة الأصلية، واستصحاب البراءة الأصلية). إلا أن استصحاب البراءة الأصلية متفق على العمل به بين الفقهاء ولا يوجد بشأنه خلاف وبرهانه: العلم بعدم الدليل، إذ علمنا يقيناً انه لا يوجد دليل يناقض هذه البراءة أو يدل على ما يخالفها.

انظر في أنواع الاستصحاب: ابو حامد محمد الغزالي، “المستصفي من علم الأصول”، ج1، المطبعة الاميرية، القاهرة، 1322هـ، ص218.

وكذلك: يوسف قاسم، البراءة الأصلية، المرجع السابق، ص16-19.

8- انظر في تفصيل ذلك:

الأصول العملية، بحوث علم الأصول، والمنشورة على الموقع الإسلامي ( أنباء ) على الانترنت:

http//: annba.net/data/books

9- انظر بهذا المعنى:

محمد سليم العوا، “أصول النظام الجنائي الإسلامي”، دار المعارف، القاهرة، 1979، ص191.

المؤلف : رائد احمد محمد
الكتاب أو المصدر : البراءة في القانون الجنائي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .