البحث التمهيدي في القانون الجنائي

إذا كان البحث التمهيدي مدونا في الفصول (80 إلى 83 ق م ج) فإن له تاريخا حافلا بالأحداث، وتجدر الإشارة إليها لتوضيح الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس. ذلك أن قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي لم يتكلم مطلقا عن هذا النوع من الإجراء ولم تكن هناك إلا حالتان يعمل في إطارهما ضابط الشرطة القضائية، هما حالة التلبس والانتداب القضائي.

وهكذا كان إذا وصل خبر إلى علم ضابط الشرطة القضائية، كان عليه أن يمتنع عن إجراء أي بحث في موضوع جريمة لم تبق تحت طائلة التلبس بل يخبر بها حينا وكيل الدولة وهذا الأخير كان يكلف قاضي التحقيق بإجراء البحث الذي يصدر انتدابا قضائيا لفائدة ضباط الشرطة حتى أصبحت مكاتب قضاة التحقيق غاصة بالقضايا، وكون هذا الوضع حالة اضطرت وكلاء الدولة من قبل طلب قضاة التحقيق أن يأمروا ضابط الشرطة القضائية بإجراء ما كان يسمى بالبحث الرسمي، وبعد مرور أعوام أخذ ضباط الشرطة القضائية يبادرون إلى البحث في قضايا معينة داخل الإطار دون إذن مسبق من النيابة العامة في حين وجدت هذه الأخيرة الأمر مناسبة للتفرغ إلى ما هو أهم، وهكذا ولد البحث التمهيدي.

ولما جاء تعديل قانون الإجراءات الجنائية وصدر قانون المسطرة الجنائية الفرنسي وجد الباب مفتوحا لجعل حد لهذا الوضع الذي خلقه كل من اجتهاد النيابة العامة والشرطة على السواء، فأحدث إطار ثالث إلى جانب إطار التلبس والانتداب القضائي، وأصبح له وجود قانوني معين.

كما أن قانون المسطرة المغربي المنبثق عن القانون الفرنسي أخذ بعين الاعتبار تجارب الدولة الفرنسية لما جرت عليه العادة في بلادنا من التطبيق الفعلي إبان الحماية لبعض النصوص الفرنسية وبالخصوص الجنائية منها، ولا سيما أمام المحاكم العصرية آنذاك، ولهذا جاءت الفصول 80 إلى 83 متشابهة على حد بعيد مع الفصول 75 إلى 78 من قانون المسطرة الفرنسي.

وإذا كان لوجود هذه النصوص أثر علي سير البحث عموما فإنه من الناحية العملية يقلص دور ضباط الشرطة القضائية فلم يترك لهم الباب مفتوحا للتدخل كما هو الحال بالنسبة لحالات التلبس بل جعل اختصاصهم موقوفا على تطبيق تعليمات النيابة العامة دون أي تجاوز وأن يطلبوا تعليمات إضافية إذا ارتأوا أن ذلك مفيدا للبحث، وهذه الحالة الأولى.

أما الحالة الثانية فهي التي يعمل فيها ضابط الشرطة القضائية تلقائيا أي مبادرة من مصلحته، وفي هذه الحالة لا يحق له استعمال السلطات الواسعة التي يخولها له التلبس، من جملتها التفتيش والحجز، ومنع الشهود من مغادرة المكان أو طلب ذوي الخبرة.

وهكذا فلم يبق له إلا أن يستمع إلى الأشخاص قصد التأكد من وجود عناصر الجريمة التي يبحث في شأنها وذلك بتلقي الشكايات والوشايات أو مبادرة منه على أن يتوفر على معلومات تمكنه من التدخل، وعلى كل حال فإن إخبار وكيل الملك بسرعة أمر يلزمه القانون أخذا بما جاء في الفقرة الثانية من الفصل 80 ق م ج وترجه هذه العمليات إلى نظر رئيس النيابة العامة.

أما إذا ارتأى ضابط الشرطة القضائية أن يجري تفتيشا في أحد المساكن فإن الفصل 81 يسمح بذلك شريطة أن يحصل على إذن مكتوب من صاحب البيت، وبخط يده وإن كان لا يحسن الكتابة فإن ذلك يشار إليه في المحضر.

وفي حالة ما إذا رفض الشخص إعطاء الإذن بتفتيش بيته فإن ضابط الشرطة القضائية كان لا يقف مكتوف الأيدي في ظل المحاكم الإقليمية، حيث كان بوسعه أن يخبر وكيل الملك حينا، وكان وكلاء الملك يصدرون أمرا بإجراء التحقيق فيمكن لضابط الشرطة القضائية الاتصال بقاضي البحث ويحصل منه على انتداب قضائي لأجراء التفتيش.

إلا أن الإجراءات الانتقالية تركت هذا الأمر ممكنا في ميدان الجنايات حيث يوجد قاضي التحقيق على مستوى محاكم الاستئناف، أما فيما يتعلق بالجنح فإن المحاكم الابتدائية لا تتوفر على قضاة التحقيق بل يرجع الأمر إلى رئيس المحكمة الذي يمكنه أن يباشر متابعة البحث بنفسه أو أن ينتدب لذلك أحد ضباط الشرطة القضائية ولكن في انتظار وصول الملف إلى يد القاضي فإن وقتا طويلا سيضيع على الشرطة وبالتالي فإن التفتيش لن تكون له فائدة أو أية نتيجة إيجابية إذا اتخذ القرار في شأنه متأخرا.

كما تجدر الإشارة إلى أن وكلاء الملك في المحاكم الابتدائية أصبحوا يسلمون لضباط الشرطة القضائية إذنا بإجراء التفتيش في مثل هذه الحالات، ولكن السند القانوني الذي يرتكزون عليه غير موجود نظرا لمون النصوص الانتقالية لا تحتوي على ذلك زيادة على كون الحجة التي يبررون بها في هذا الشأن غير مقنعة، وعلى كل حال فإن الإذن الذي يصدرونه إلى الشرطة هو حل نرجو أن تحدث في شأنه نصوص تشريعية نظرا لوجود العلاقات الطيبة منذ القدم بين ضباط الشرطة القضائية وممثلي النيابة العامة أضف إلى ذلك أن إصدار مثل هذه التعليمات لا تحملنا أية مسؤولية ولهذا يمكن اللجوء إلى هذا التدبير كلما وجدت هناك فرصة لذلك.

أما الحراسة النظرية فإنها ممكنة وسوف نتحدث عنها في درس خاص بها نظرا لما يكتسيه هذا الإجراء من خطورة على حرية المواطنين وعلى ضباط الشرطة القضائية أنفسهم على السواء لأن الشطط في استعمال هذا الحق يعرض المسطرة للإبطال كما سنرى، ويعرض ضباط الشرطة القضائية للمتابعة الجنائية.

وزيادة على هذا فإن حق طلب ذوي الخبرة ومنع الشهود من مغادرة المكان غير ممكن في البحث التمهيدي كما هو الشأن في حاله التلبس