الأحكام القضائية بين العاطفة والمنطق/للقاضي إدريس حسن خلف

تؤدي الاراء يضمنها القاضي حكمة رسالته المثالية في خدمة العدالة عندما تكون بمثابة تخطيط بياني يمثل تماماً الرحلة الطويلة التي طاف خلالها في نواحي الفكر والمنطق حتى انتهى الى مطافه الأخير بالوصول للهدف المنشود(الحقيقة ) فإذا التزم القاضي هذا المنهج في كتابة أسباب حكمه فإنه – حتى ولو اخطأ في النتائج التي وصل اليها فأن العدالة لايستعصي عليها تتبع خطواته السابقة لاكتشاف النقطة التي فقد عندها طريقه الى الحقيقية ومما يؤسف له ان اقل القليل من الاحكام هو ما يصح ان نسميه صورة امينة لاطرادات القاضي الفكرية مرحلة بعد مرحلة إذ قلما يستطيع القاضي ان يفصح- حتى بينه وبين نفسه –عن الدوافع الحقيقية التي انتهت به الى الحكم الذي اصدره فالمفروض في الحكم ان يكون نتيجة لعملية منطقية خالصة اجريت في جو هادئ من الموضوعية والتجريد وبنيت على مجموعة من الحقائق والمسلمات وما تؤدي اليه النتائج اما حقيقة ما يحدث فلا يمكن الا ان تكون مختلفة عن ذلك جداً إذ لاجدال في ان القضاة والمحكمين بحسبانهم بشراً لايستطيعون الفكاك من القوى السحرية الخفية التي لاتفتأ ان تلعب دورها الحاسم في تكوين ارائهم وعطائهم فنفس القاضي اي النفس البشرية ليست معصومة من القوى التي تجذبها الى هنا تارة تدفعها الى هناك تارة اخرى وهذه القوى إنسانية وان لم تكن منطقية دائماً فهي تدفع الى التهافت لقبول نتائج معينة

كما تدفع به الى مقاومة الاستسلام لدواعي المنطق في قبول نتائج اخرى معينة فكيف يجوز لنا ان نتوقع من الحكم ان يمثل تمثيلاً صادقاَ الدوافع التي ادت بالتقاضي اليه ونحن نتجاهل الأثر الخفي لانطباعاته العاطفية تلك الانطباعات التي لايتسنى لقاضٍ ان يتحرر من اثرها عليه وتوجيهها لرأيه مهما كان نصيبه من الحصانة والمنعة وبالرغم مما يتردد دائماً من ان الرأي ما هو الامجرد قياس بمقاييس المنطق وانه نتاج أسباب يمكن ان تؤدي الى قرارات بعينها لايمكن للمنطق ان يؤدي الا اليها وبالرغم من كل ما يمكن ان يقال في هذا المعنى نظرياً فكثيراً ما يحدث ان يعكس القاضي العملية فلا يبدأ بالأسباب لينتهي الى النتائج بل يبدأ بالنتائج ثم يبحث لها عن الأسباب التي تلائم الوصول اليها وقانون المرافعات الايطالي يشجع القاضي على إتباع هذا المنهج الشاذ بما يفرضه على القاضي من النطق بالحكم عند غلق باب المرافعة مع السماح له ببعضة ايام إضافية يكتب فيها أسباب الحكم الذي اصدره ولما كانت الغاية الاساسية للقضاء هي ضمان الحمايةالقانونية للناس كافة على السواء وإذا كانت قوانين المرافعات هي التي تنظم طرق التقاضي وإجراءاته وكيفية إصدار الأحكام فقد عنت جميعها سواء في الدول العربية ام في غيرها بموجب ايراد الحجج الواقعية والقانونية التي تؤدي للحكم ولم يفت ذلك على المشرع العراقي فنصت المادة (162) مرافعات على واجب المحكمة في ان تذكر في حكمها الأوجه التي حملتها على قبول او رد الادعاءات والدفوع التي اوردتها الخصوم والمواد القانونية التي استند اليها .

لقد قيل في وصف الاختلافات السيكولوجية بين المحامي والقاضي في ان الأول يبدأ عمله من نقطة الانتهاء التي هي ان موكله على حق ومن هذه النقطة ينطلق بحثاً عن الحجج والاسباب الكفيلة بتأييد رأيه اما القاضي فأنه يسير نحو الأسباب والحجج المقدمة اليه في الدعوى وينتهي من ذلك الى تكوين فكرة معينة عن وجه الحق واين يكون منذ اللحظة التي يكون فيها هذه الفكرة بروح تلتمس الإنسانية التي تؤيد هذه الفكرة ليضمنها حكمه وقد يكون هذا التفريق سليماً من الناحية العملية فان الفارق بينهما لايكون ابداً على هذا الوضوح إذ يحدث احياناً ان يتجه القاضي الى نفس الاطراد العكسي فيحاول تسخير المنطق لايجاد المسوغات العقلية للقرار الذي يكون قد وصل اليه بالفعل عن طريق شعوره لاعقله فالمحامي والقاضي اذا يشتركان في هذه الحالة في توقع بلوغ الدعوى مداها بإثبات الفكرة المعنية التي قد بدء عملهما بالوصول اليها .

اما المحامي فقد وصل الى هذه الفكرة المعينة عن طريق موكله في الدعوى اما في حالة القاضي فانه يصل الى هذه الفكرة الثابتة المعينة عن طريق بديهة غامضة اشبه ماتكون بتنبؤات المنجمين وهذه البديهة هي التي يسمونها الشعور بالعدالة ان القضاة العدول يعتمدون على سلامة حكمهم الشعوري على النتائج التي تكشف عنها مجريات المحاكمة ولا يلجأون الى تلمس الحكم في ذوات انفسهم فهم عندما يستقر قرارهم على اتجاه معين يؤسسون احكامهم على عقيدة راسخة لايشعرون معها بالحاجة الى حشد اسباب حكمهم بالعبارات البليغة والمسوغات القانونية القوية اذ يرون ان ذلك من ضروب الترف الفكري التي يلجأ اليها من يجد وقته فراغاً يستطيع ان يشغله بالإشادة والإسهاب انني اعتقد ان اصعب منحة يمر بها القاضي الحر الضمير هي تلك التي تواجهه عندما ينبئه قلبه وضميره بوجه الحق والعدالة في القضية ولكنه يعجز في الوقت نفسه عن الوصول الى المسوغات المقنعة التي تؤيد رأيه بين الادلة المقدمة في الدعوى

وفي مثل هذه الحالات يحتاج القاضي الى شئ من موهبة المحامي اذ يصبح حكمه اشبه شئ بمذكرة يمليها عليه ضميره للدفاع عن موكل معنوي هو الحق وكما يقال ان الحكم العادل ليس دائماً احسن الاحكام تسبيباً وبمفهوم المخالفة فان الحكم الجيد التسبيب ليس هو دائماً الحكم العادل وكثيراً ما يدل الحكم الموجز المختصر على ان القاضي كان من الاقتناع برأيه بحيث لم يحفل كثيراً ببذل الجهد في كتابة الاسباب علماً انه يمكن القول من ناحية اخرى ان الحكم المسهب المنسق قد ينم احياناً عن رغبة القاضي في اخفاء حقيقة حيرته وارتكابه فيحاول ان يخفي ذلك عن نفسه وعن الناس لمايضفيه على حكمه من براعة الاسباب ودقة المنطق . لقد قيل ان فرط الذكاء نقيصة في القاضي وان ماتقدم محل نظر فهناك من يرى ان خير القضاة هو من سمت الناحية الانسانية فيه شكوكه الفكرية التي يشير اليها حدة ذكائه ان بداهة العدالة هي صفة مطبوعة في النفس ولا علاقة لها بالخبرة القضائية الفنية المكتسبة وهذه البداهة تمكن القاضي بمجرد الاستماع الى الدعوى من الاحساس بالناحية التي يقف فيها الحق وهذه البداهة ضرورية للقاضي ضرورة الإذن الموسيقية للموسيقى وإذا انعدمت هذه الحاسة فما من ذكاء مهما سما ولا تحصيل مهما عظم يستطيع ان يعوض هذا النقص .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت