ملخص أطروحة دكتوراه علوم في الحقوق تخصص قانون دولي عام بعنوان:

العدالة الانتقالية كمصدر لتعزيز الحماية الدولية المعيارية لحقوق الإنسان

كلية الحقوق والعلوم السياسية. جامعة محمد خيضر- بسكرة. الجزائر

إعداد الطالبة الباحثة: سامية يتوجي

Abstract Ph.D. thesis Specialized in International Law entitled: Transitional Justice as a source to enhance the International Normative Protection of Human Rights

Samia Yattoudji, Faculty of Law and Political Science – University of Mohamed KHIDER – Algeria

Thesis Summary:

The frameworks of the enhancement of TJ for the International Normative Protection of Human Rights are reflected in the facts that through their judicial and non-judicial mechanisms, they succeed in strengthening the rule of law and combating impunity. Any significant progress in one or more of these Commissions and the right to the truth, or initiating preparatory procedures for reforms in the most important institutions in transitioning states such as security, justice and prisons sectors, by linking them to the right of non-repetition. As well as linking individuals and groups human rights to the right to criminal and civil redress- would not only provide satisfaction and ensure on the national and societal peace and stability, but also restore and strengthen confidence in state’ institutions and the implemented mechanisms and procedures to deal with the past. In addition to the enforcement at the international and national levels in order to move forward without forgetting or taking lessons from what had happened.

Keywords: Human rights violations, Post-conflict States, Transitional Justice (TJ), International Normative Protection of Human Rights, Criminal Accountability, Truth and Reconciliation Commissions, Institutional Reform.

الملخص العام:

إن أطر تعزيز العدالة الانتقالية للحماية الدولية المعيارية لحقوق الإنسان، تتمثل في كونها تنجح، من خلال آلياتها القضائية وغير القضائية ذات الطبيعة العقابية أو التصالحية على السواء، في دعم حماية حقوق الإنسان وتكريس مبدأ سيادة القانون ومكافحة إفلات الجناة من العقاب وترسيخ الديمقراطية، ومن شأن أي تقدم ملحوظ في واحدة أو أكثر من هذه الأطر الأساسية للعدالة الانتقالية والتعامل مع ماضي الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، مثل إدراك الصلة بين لجان الحقيقة والمصالحة والحق في المعرفة، أو بدء إجراءات تمهيدية للإصلاح في القطاعات المؤسسية الهامة في الدولة كالأمن والقضاء والسجون وربطها بالحق في منح ضمانات كافية بعدم التكرار، أو الاعتراف بأن تقديم مختلف أشكال الجبر الكافي لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من أفراد وجماعات يُمَكنهم من حقهم في الإنتصاف الجنائي والمدني، أن يساهم في توفير الرضا لأفراد المُجتمع الانتقالي ويضمن السلم والاستقرار الوطني لدول ما بعد النزاع، ويعيد الثقة من جديد في مؤسسات الدولة، ويُفعل الآليات والإجراءات القانونية التي يتم إنفاذها على المستويين الدولي والوطني من أجل المضي قُدما دون نسيان ما حدث أو أخذ العبرة منه.

الكلمات المفتاحية: انتهاكات حقوق الإنسان، دول ما بعد النزاع، العدالة الانتقالية، معايير حماية حقوق الإنسان، المحاسبة الجزائية، برامج الجبر، لجان الحقيقة والمصالحة، الإصلاح المؤسسي.

معلومات عامة:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقشت الباحثة: سامية يتوجي، تحت إشراف الأستاذ الدكتور/ عز الدين كيحل، متن أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه علوم في الحقوق تخصص: قانون دولي عام، الموسومة بـ: العدالة الانتقالية كمصدر لتعزيز الحماية الدولية المعيارية لحقوق الإنسان. وذلك يوم الخميس الموافق لـ:31/01/2019، بقاعة المناقشات الطابق الأول، في كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر- بسكرة (دولة الجزائر)، أمام لجنة المناقشة المكونة من السادة الأساتذة الآتية أسماؤهم:

أ. د عبد الحليــــــــم بن مشري أستـــــــــــاذ التعليم العالي رئيســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جــــــــامعة بسكـــــــــــــرة

أ. د عز الديــــــــــــــــــــن كيحــــــــــل أستـــــــــــاذ التعليم العالي مشرفـــــا ومقــــررا جــــــــامعة بسكـــــــــــــرة

أ. د فريـــــــــــــــد علـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواش أستـــــــــــاذ التعليم العالي ممتحنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جــــــــامعة بسكـــــــــــــرة

أ. د منصــــــــــــور رحمانــــــــــــــــــــــــــي أستـــــــــــاذ التعليم العالي ممتحنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جــــــامعة سكيــكدة

د. محمـــــــــــــــــد خليفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أستـــــــــــاذ محــــــــــــاضر “أ” ممتحنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جــــــامعة عنـــــــــــــــــــــابة

د. فـــــــــــــــــــــــــاتح خــــــــــــــــــــــــــــــلاف أستـــــــــــاذ محـــــــــــــاضر “أ” ممتحنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا جــــــامعة جيجــــــــــــــل

وبعد المناقشة والمداولة، قررت اللجنة منح الطالبة الباحثة: سامية يتوجي، درجة الدكتوراه علوم في القانون الدولي العام، بتقدير مشرف جدا.

ملخص الأطروحة:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:

إن تاريخ أي دولة عندما يكون حافلا بالانتهاكات الجسيمة أو الخطيرة لحقوق الإنسان التي إن لم تعالج، ستؤدي حتما إلى انقسامات اجتماعية وستولد غيابا حادا للثقة بين أفراد الشعب ومؤسسات الدولة، فضلا عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية الوطنية أو إبطاء تحقيقهما، كما تؤدي إلى التشكيك في جدية إلتزام الدول بمبدأ سيادة وحكم القانون، وقد يؤول الأمر في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف السياسي والاجتماعي والثقافي في أشكال شتى وعلى نطاقات واسعة، لذلك تعتبر مسألة العدالة حيوية بالنسبة للدول في مراحل ما بعد النزاع، خاصة تلك التي تطمح إلى إرساء أسس نظام ديمقراطي بعد عهد تسلطي عاشت سنواته طويلا.

في هذا الإطار يٌطرح موضوع العدالة الانتقالية كأحد آليات تجسيد التحول الديمقراطي في دول ما بعد الصراع، فبعد الإطاحة بالنظام السياسي المسؤول عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان أو انتهاء النزاع المسلح بين أطرافه الدوليين أو غير الدوليين، يجب اتخاذ عدد من الإجراءات القانونية ذات الطبيعة القضائية وغير القضائية على التوازي، والتي تتعدد ما بين إصلاح القوانين ومُحاسبة وعقاب المسؤولين عن الانتهاكات وإنشاء لجان الحقيقة وتقصي الحقائق.

وتعد العدالة الانتقالية مُقاربة قانونية لإنفاذ العدالة في فترات الانتقال من النزاع و/أو الحكم التسلطي، من خلال محاولة تحقيق المحاسبة الجنائية والجبر والسعي نحو الحقيقة، أين تقدم إعترافا للضحايا بحقوقهم وتشجع الثقة وتقوي سيادة القانون وترسي الديمقراطية، وقد ظهرت إرهاصاتها الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أن حضورها تكثف بشكل خاص منذ سبعينيات القرن العشرين، أين شهد المجتمع الدولي أكثر من ثلاثين تجربة دولية لمقتضياتها في دول انتقالية مثل الشيلي والأرجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب إفريقيا والمغرب والجزائر وتيمور الشرقية وغيرها.

وقد عكست تجارب هذه الدول الانتقالية وغيرها في تطبيقها للعدالة الانتقالية اتجاهين مختلفين:

أحدهما، يميل إلى طي صفحة الماضي بعد تطبيق متطلبات العدالة الانتقالية على عدد محدود من القيادات العليا المسؤولة عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، بالترافق مع كشف الحقيقة والسعي لإحقاق العدالة وجبر الضرر، والتركيز على إصلاح الأنظمة القانونية والدستورية والقضائية والأمنية والمؤسسية في عمومها؛

والآخر، يتجه إلى التوسع في أطر المساءلة الجنائية والعقاب وتصفية الحسابات دون التوقف كثيرا عند ردود الفعل إزاء الانتقام والثأر الشخصي، بما فيها اللجوء إلى وسائل غير قانونية لمحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان كالاغتيال والنفي.

أولا: تحديد أهمية موضوع البحث

منذ تسعينيات القرن العشرين جُمعت مسألة التعامل مع ماضي ومخلفات انتهاكات حقوق الإنسان تحت عنوان العدالة الانتقالية، على اعتبار أنها دراسة تتصدى لتحديد النطاق الكامل للعمليات والآليات المرتبطة بمحاولة المجتمعات الانتقالية التعامل مع الإرث الثقيل لانتهاكات حقوق الإنسان الذي تخلفه النزاعات المسلحة بعد انقضائها أو الأنظمة الدكتاتورية بعد سقوطها، من أجل ضمان المحاسبة والانتصاف والتوصل إلى المصالحة مُجتمعيا ووطنيا، وعلى ذلك تبرز أهمية تحديد علاقة المصدرية بين العدالة الانتقالية وتعزيز حماية حقوق الإنسان كموضوع بحث، من حيث العناصر التالية:

ضرورة تحديد مفهوم الحماية الدولية المعيارية لحقوق الإنسان، من حيث كونه جملة المهام والأنشطة التي تنهض بها الأجهزة والمنظمات الدولية أو الإقليمية بغرض خلق أو إيجاد المناخ العام الذي يكفل إقرار وتعزيز حقوق الإنسان، عن طريق صياغة وتقنين عدد من القواعد والأحكام المعيارية المتعلقة بحقوق الإنسان، المكونة في عمومها للشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بما فيها مجموع المواثيق والإعلانات والعهود والاتفاقيات والاتفاقات والمعاهدات التي تهدف جميعها إلى نشر الوعي بحقوق الإنسان بين الأفراد والشعوب والحكومات على حد السواء، يضاف إليها في سياق الأطروحة، مجموع المعايير القانونية الدولية والوطنية المنظمة لأطر إنفاذ آليات العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاع.

التأكيد على أن العدالة الانتقالية ما هي إلا نتاج لخطاب سياسي وقانوني وطني ودولي موضوعه تعزيز حماية حقوق الإنسان أو على الأقل تشكل جزءا منه، الإقرار بذلك من شأنه أن يسهل تفحص أطر تقاطع مصطلح العدالة الانتقالية مع مصطلحات أساسية أخرى مثل الانتقال الديمقراطي وبناء السلم وإعادة الإعمار وضمان عدم الإفلات من العقاب وتكريس المصالحة المجتمعية والوطنية، وهذا في سياق وصف العدالة الانتقالية لجملة الآليات والضمانات القانونية الموجهة للتعامل مع إرث الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان، سواء كانت جزءا من انتقال سياسي نتيجة الخروج من مرحلة حكم دكتاتوري أو تسلطي، أو لها علاقة بالتحول الديمقراطي لدى دول أنهكتها النزاعات المسلحة.

تعد عمليات وآليات العدالة الانتقالية عنصرا بالغ الأهمية في جهود تدعيم سيادة القانون لدى الدول، خاصة وأن الاستراتيجيات المُنتهجة في سياقها عادة ما تكون ذات طبيعة شمولية، بحيث تتضمن الاهتمام بالمحاكمات الجنائية والجبر وتقصي الحقائق والإصلاح المؤسسي، والتي يتم تنفيذها جميعا على نحو متكامل من خلال تشكيل مزيج مدروس من هذه العناصر بالشكل الذي يتلاءم مع البيئة المحيطة لكل دولة انتقالية لوحدها.

ضرورة دراسة كيفية تعامل الأنظمة الوطنية قانونا وقضاء مع التحقيق والمتابعة والعقاب الجنائي لانتهاكات حقوق الإنسان في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، غير أن بعض دول ما بعد النزاع قد تواجه إشكالات تتعلق بإنفاذ آليات العدالة الانتقالية ذات الطبيعة العقابية، بأن تكون غير قادرة أو مستعدة لها، لذلك يستجيب المجتمع الدولي مع هذه الوضعيات في إطار عدد من الإحتمالات: إما توسيع الاختصاص القضائي العالمي على الجرائم الدولية؛ أو تأسيس محاكم جنائية دولية ذات طبيعة مؤقتة أو هجينة أو مُدولة؛ أو اللجوء مباشرة للمحكمة الجنائية الدولية حال قبول الدولة المعنية إختصاصها من أجل ضمان عدم الافلات من العقاب والتعامل مع تهديدات السلم والأمن الدوليين.

أهمية الدور الذي تؤديه لجان الحقيقة والمصالحة في المجتمعات الانتقالية، خاصة لدى دراسة تجارب عدد من دول ما بعد النزاع التي طبقتها، كجنوب افريقيا وسيراليون والمغرب، والتي نجحت إلى حد ما في الكشف عن حقيقة ما حدث من انتهاكات حقوق الإنسان عن طريق سن قوانين تتولى ضبط أطر تصميمها ووسائلها العملية وكيفية صياغة تقاريرها الختامية، بالإضافة إلى تحديد طبيعة العلاقة بين هذه اللجان وآليات العدالة الانتقالية الأخرى.

تمحيص المصادر القانونية الدولية والوطنية لإنفاذ الالتزام بالجبر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في إطار برامج الجبر الفردية والجماعية المطبقة لدى دول ما بعد النزاع، خاصة في إطار التجارب الدولية التي تبرز سعي الضحايا المتواصل للاعتراف بما حدث لهم، ليس في صيغة جبر مادي فقط، وإنما من حيث ضمان حقهم في عدم التكرار عن طريق الإلتزام بعدم النسيان وإحياء الذكرى بوسائل مثل حفظ الذاكرة التاريخية والأرشفة والمحفوظات، وكذا العمل على تطبيق مقتضيات الإصلاح المؤسسي بمستوياته المختلفة على كافة قطاعات الدولة ومؤسساتها العامة.
ثانيا: تحديد أسباب اختيار موضوع البحث

تتباين طبيعة مبررات وأسباب اختيار موضوع البحث في كونها:

يثبت مبدئيا أن عنوان أطروحة الدكتوراه تم إستقاؤه من دراسة بحثية قام بها الدكتور أحمد شوقي بنيوب بعنوان “دليل حول العدالة الانتقالية”، أين عنون المؤلف أحد أقسام دراسته (القسم التاسع) بحرفيته “العدالة الانتقالية كمصدر لتعزيز الحماية الدولية المعيارية” (ص 176)، والذي- بتتبع محتواه- نجده يبحث مراحل “مسيرة أممية شاقة من أجل وضع مبادئ معيارية”، على اعتبار أنه قد “صاحب هذه المسيرة الأممية الشاقة من أجل وضع معايير دولية رسمية، جدل قانوني حقوقي وفقهي حول قضايا رئيسية وأخرى فرعية مرتبطة … من بينها: الكشف عن الحقيقة، أشكال جبر الضرر، استعادة الحق في الذاكرة، المصالحة، التعويض، ومساءلة المتسببين” (ص 183).

ومن خلال الاطلاع المبدئي، أثناء مرحلة إعداد مشروع البحث، على أدبيات موضوع العدالة الانتقالية وأطر ربطها بحقوق الإنسان عن طريق تأكيد علاقة التأثير والتأثر المتبادل بينهما، تم اعتماد صيغة العنوان الموجود في متن المرجع الذي سبق ذكره، مع تحوير مدلولاته من حيث المحتوى بما يتناسب مع الاتجاه العام للدراسة البحثية، إلى العنوان المثبت لأطروحة الدكتوراه.

مواصلة المسار البحثي لمرحلة الماجستير: حيث تعد المسؤولية الجنائية الدولية إحدى المراحل الأساسية التي يجب أن تمر بها دول ما بعد النزاع من أجل التعامل مع جرائم الماضي، المعتبرة انتهاكات مختلفة الدرجة والخطورة (جسيمة أو خطيرة) للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، كما تعد هي ذاتها من بين الأسس الجوهرية للعدالة الانتقالية إلى جانب كل من حقوق ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في الجبر والحقيقة وضمان عدم التكرار.

وبرغم الدراسة التفصيلية لهذا الموضوع ضمن رسالة في الماجستير الموسومة بـ “المسؤولية الجنائية الدولية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني”، إلا أنه وجب الاعتراف بأن ذلك تم من زاوية ضيقة أساسها بحث كيفية الجمع بين المساءلة الجنائية الدولية للدولة والفرد معا عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني دون ربط هذه العملية بإطار قانوني أوسع هو العدالة الانتقالية، وهو ما سيتم الإحاطة به ضمن هذه الدراسة.

الرغبة البحثية في دراسة الأطر القانونية التي ستعتمدها دول الربيع العربي (تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من دول ما بعد النزاع في المنطقة العربية)، لدى تطبيقها آليات العدالة الانتقالية في سياق التعامل مع مخلفات النزاع فيها من انتهاكات حقوق الإنسان أثناء النظام السابق من جهة، وما وقع أثناء المرحلة الانتقالية نفسها من انتهاكات: خاصة وأن هذه الدول وهي في مرحلة الخروج من حالة عدم الاستقرار السياسي الذي شهدته أو الذي لا تزال تشهده، تقوم بالعديد من المحاولات لتقنين ومأسسة العدالة الانتقالية بما يستدعي ضرورة تفحصها، في ظل الأطر القانونية للعديد من التجارب الدولية السابقة للعدالة الانتقالية، والنظر في امكانية الاستفادة منها.

تمحيص الأثار الناتجة عن ربط العدالة الانتقالية بين مصطلحي العدالة والانتقال، خاصة من أنه يجعل مفهومها مباشرا ببساطة كونها مجرد عدالة تتحقق أثناء مرحلة انتقالية أساسها حالة نزاع داخلي مسلح أو حكم تسلطي أو احتلال أجنبي تمر بها دولة من دول ما بعد النزاع، بما يعني أنها إلى حد ما عدالة رد فعل، لكونها جملة الإجراءات العقابية أو التصالحية التي يتم سنها كاستجابة لانتهاكات ممنهجة أو واسعة النطاق لحقوق الإنسان، التي حدثت وقت السلم أو زمن الحرب، بهدف تحقيق السلم والمصالحة والديمقراطية مبدئيا للدولة الانتقالية ذاتها، ومن ثم محاولة جبر ضرر ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، بعد الإعتراف اللازم بوقائع حدوثها، إقرارا للحقيقة وسعيا للانتصاف ومنعا للإفلات من العقاب.

لكن أمام ما يتطلبه رد الفعل هذا من تكييف للعدالة بما يلائم ويتناسب مع ظروف كل مجتمع انتقالي على حدة، وما يخوضه من تحولات مختلفة النطاق والسرعة على صعد عديدة ومتباينة، بما يعني نُسخا كثيرة للعدالة الانتقالية، تختلف باختلاف كل نزاع وكل دولة، خاصة وأن الكثير من دول ما بعد النزاع التي يكون فيها عبء الإرث الثقيل للانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، قد استنزف مواردها المادية والبشرية، وسبب انهيار البنية والقدرة المؤسساتية، وأدى إلى إضعاف سيادة القانون لديها، بسبب حالة التوتر الدائم بين ترجيح الحقيقة والانتصاف في مقابل الاستقرار السياسي وإعادة بناء السلم في مرحلة ما بعد النزاع.

بروز التطبيقات الدولية للعدالة الانتقالية كمجال اختبار حول قدرة القانون على تغيير المجتمعات الانتقالية وتسوية مخلفات النزاع، لذلك تبدو الحاجة ملحة للتعرف على بعض أهم تجارب العدالة الانتقالية في المجتمع الدولي، في فترات مختلفة، من خلال بحث نماذج متعددة لدراسات حول دول ما بعد النزاع مثل الأرجنتين، البلقان، الشيلي، كولومبيا، تيمور الشرقية، السلفادور، غواتيمالا، النيبال، البارغواي، رواندا، سيراليون، جنوب إفريقيا، أوغندا، المغرب والجزائر، وغيرها الكثير، التي قامت بالإنفاذ القانوني لآليات العدالة الانتقالية وفق سياقات سياسية ومجتمعية واقتصادية متباينة.

على اعتبار أن العدالة الانتقالية قد أسست في أُطرها النظرية والتطبيقية لنشأة مجموعة حقوق خاصة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان: تتمثل في الحق في معرفة الحقيقة، الحق في الانتصاف، الحق في الجبر، والحق في ضمان عدم التكرار، تمثل في مضمونها حقوقا متأصلة وغير قابلة للتجزئة أو التنازل؛ فإن إثبات حقيقة كون النصوص القانونية الوطنية والدولية المنظمة للعدالة الانتقالية، والتي تم إنفاذ مقتضياتها في غالبية دول ما بعد النزاع ماضيا وحاضرا من أجل التعامل مع الماضي، تعد بحق مصادر قانونية جديدة وجدية لتعزيز حماية حقوق الإنسان على مستوى المعايير الدولية والوطنية، يعد ضروريا.
ضرورة الفصل في أوجه التعارض التي يمكن أن تواجه دول النزاع وما بعد النزاع بين رغبتها في تحقيق الهدوء والاستقرار والمصالحة بعد الحرب في مقابل نبش الماضي والملاحقة الجنائية لمنتهكي حقوق الإنسان، وبين الحاجة لإرساء قواعد قانونية تشريعية وهياكل قضائية ذات مصداقية في مقابل القيود المتعددة على عمل النُظم العقابية والجنائية والقانون الدولي كالعفو والمحاكمات العسكرية للمدنيين والتقادم.
ثالثا: ضبط صياغة الإشكالية البحثية الرئيسية والتساؤلات الفرعية

يثبت أن مصطلحات التعزيز والتشجيع والتطوير والترقية والدعم لمستويات حماية حقوق الإنسان في حد ذاتها يُقصد بها وجود إجراءات معينة يجب أن تتخذ، أو جُهد يجب أن يبذل، في مجال حقوق الإنسان لكي ينتج أثره في المستقبل، على افتراض أن أطر حماية حقوق الإنسان تعاني من أوجه نقص معينة من جوانب التقنين أو الإنفاذ أو الحماية، إما لعدم ضمانها كلية أو ضمانها بصورة غير كافية من جانب التشريعات الوطنية أو الدولية، بسبب كون مجموعة من حقوق الإنسان غير معروفة تماما، أو مفهومة بصورة خاطئة من جانب المستفيدين منها، أو من جانب الدول التي يتعين على أجهزتها ومؤسساتها ضمان إحترامها وإنفاذها، ويأتي دور تعزيز الحماية في هذه الحالة ليتضمن تحديد أوجه النقص والتغلب عليها، ويندرج في هذا الإطار إتخاذ كافة الإجراءات المتعلقة بغرس المفاهيم والقيم والمعاني الإنسانية في وجدان الشعوب وضمائر الدول، وصياغة المزيد من المعايير القانونية الدولية والوطنية لحمايتها وتطبيقها.

وعلى ذلك، يبدوا أن النصوص القانونية المُنظمة لأطر إنفاذ آليات العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاع يمكن أن تعتبر إلى حد كبير مصدرا جديدا ومهما لتعزيز باقي مستويات الحماية الدولية المعيارية لحقوق الإنسان، من حيث أنه لدى دراسة الأطر القانونية لتنظيم مقتضيات العدالة الانتقالية؛ سيتم التطرق أيضا لأهم أطر الحماية الدولية لحقوق الإنسان في سياقها المعياري، بمعنى جملة النصوص القانونية الدولية التي تشكل المعايير القانونية الأساسية الإقليمية والدولية التي تتولى التنصيص على حقوق الإنسان من جهة وضبط ضمانات وآليات حمايتها من جهة أخرى، من ثم سيتم دراسة احتمال اعتماد المعايير القانونية للعدالة الانتقالية كأحد المصادر المعززة لهذه الحماية أيضا.

بما يبرر طرح الإشكالية البحثية الرئيسية التي مقتضاها: كيف ساهم إنفاذ دول ما بعد النزاع لآليات العدالة الانتقالية في تعزيز حماية حقوق الإنسان من خلال اعتبار المعايير القانونية الدولية والإقليمية والوطنية المُنظمة لها أحد المصادر الجديدة؟

في هذا السياق، تم طرح أسئلة بحثية فرعية متعددة المستويات، تتحدد في التالي:

ما المقصود بمفهوم العدالة الانتقالية؟ وهل تختلف العدالة في الأوضاع الانتقالية عن المفهوم العادي للعدالة؟ وماهي أطر تأصيلها ونشأتها وتطورها على المستويات المعرفية والقانونية والتاريخية؟

ماهي النماذج الأساسية للعدالة الانتقالية؟ وكيف يتوافق مضمونها مع طبيعة الآليات التي يتم توظيفها في السياق الانتقالي لدول ما بعد النزاع؟ وكيف ترتبط الاختيارات السياسية لنموذج العدالة المطبقة بالأهداف التي تسعى لتحقيقها، كالتوصل إلى السلم والمصالحة والاستقرار والتحول الديمقراطي؟

ما هي أطر أو مقتضيات الحماية القانونية الأساسية التي يتلقاها ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من أجل إنصافهم وضمان عدم تعرضهم للانتهاكات مرة أخرى؟

ما هي الجوانب التي ترتبط فيها العدالة الانتقالية بحقوق الإنسان؟ وفيما تتمثل الحقوق غير قابلة للتنازل ولا للانتقاص ولا للتجزئة التي يتمتع بها ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أثناء المراحل الانتقالية وما بعد الانتقالية في دول ما بعد النزاع؟

كيف تتلاءم وتتجاوب الحقوق الأساسية الممنوحة لضحايا انتهاكات حقوق الانسان مع مختلف آليات العدالة الانتقالية القضائية وغير القضائية؟

هل تعد المساءلة الجنائية لانتهاكات حقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني ضرورة يجب أن تلبيها المجتمعات السياسية من أجل الانتقال الى حالة الإستقرار السياسي؟ وهل التوصل لتحقيق هذا الهدف يبرر وضع قيود قانونية على مقتضياتها كالمحاكمات العسكرية للمدنيين والعفو والتقادم الجنائي؟

هل يتلقى ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الجبر الكافي لما تعرضوا له من ضرر؟ وكيف يتم إنشاء وتصميم وإنفاذ مضامين برامج الجبر في دول ما بعد النزاع؟

كيف يكمل أو يدعم عمل هياكل القضاء الجنائي الدولي والوطني باختلاف قواعد توزيع الاختصاص ما تقوم به آليات العدالة الانتقالية غير القضائية الأخرى مثل لجان الحقيقة والمصالحة وأطر الإصلاح المؤسسي لقطاع الأمن وفحص أهلية الموظفين وتدقيق سجلاتهم؟
رابعا: تحديد الأهداف البحثية من الدراسة

إن السياق العام للأطروحة يسعى إلى تحقيق مجموع الأهداف المحددة في التالي:

تحديد الأطر النظرية التي تناولت بالدراسة مفهوم العدالة الانتقالية، والتي من خلالها تتم عملية مراجعة الأوضاع السياسية والقانونية الحالية في دولة ما عقب حرب أو نزاع حصل فيها أو سقوط نظام حكم دكتاتوري.

الكشف عن جذور تطور العدالة الانتقالية والمعضلات المنهجية التي يتحتم أن تتعامل معها المجتمعات الانتقالية خاصة منها المتعلقة بإرث الماضي من إساءات حقوق الإنسان، وربطها بآليات العدالة الجنائية التقليدية أو المحلية في بيئات ما بعد النزاع كنظام الغاكاكا في رواندا والذي يتشارك ذات أهداف العدالة الانتقالية خاصة منها التوصل إلى مصالحة مجتمعية بين الجناة والضحايا والعمل على المضي قدما.

دراسة العدالة الانتقالية من منظور حقوق الإنسان، بتتبع فعالية آلياتها المستحدثة في الحد من الإفلات من العقاب وتكريس حقوق ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، والتي يتم من خلالها تمكين المجتمعات الانتقالية من التصالح مع ذاتها والمضي قدما في الإصلاح المؤسسي لبُنى الدولة السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

بحث كيفيات ضمان آليات العدالة الانتقالية القضائية وغير القضائية معالجة مخلفات مرحلة النزاع أو الحكم القمعي، ومساعدة المجتمعات الانتقالية على التعامل مع إرث الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان، وكذا رصد أطر دعم الامتثال للمعايير الدولية لحماية حقوق الإنسان، وكيفيات ضمان المركز القانوني لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان وكفالة الحماية القانونية لهم لدى إنشاء وتصميم وتنفيذ مختلف آليات العدالة الانتقالية.

تقييم، في سياق البحث وعبر العديد من أمثلة دول ما بعد النزاع، مدى تأثير تبني آليات العدالة الانتقالية على تحسن وتطور مواقف وسياسات الدول تجاه مسائل حقوق الإنسان والدمقرطة وبناء السلم والمصالحة في ظل استراتيجيات مكافحة الإفلات من العقاب.
خامسا: أهم الدراسات البحثية السابقة المعتمد عليها

يثبت من خلال تفحص فهرس مصادر ومراجع الأطروحة، ثراء وتنوع وحداثة الموارد والمواد البحثية العلمية، التي سبقت وعاصرت الجهود البحثية المبذولة في هذه الأطروحة، والتي استهدفت تحليل وتمحيص العلاقة بين إنفاذ آليات العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاع وتعزيز حماية حقوق الإنسان، من بين هذه الدراسات السابقة نذكر:

* الدراسات القانونية باللغة العربية:

– أحمد شوقي بنيوب، دليل حول العدالة الانتقالية، تونس: المعهد العربي لحقوق الإنسان، 2007.

– عبد الكريم عبد اللاوي، تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2013.

– كريم خميس وهايدي علي الطيب، العدالة الانتقالية في السياقات العربية، الطبعة الأولى، مصر: المنظمة العربية لحقوق الإنسان، 2014.

– سمر محمد حسين أبو السعود، دور المحكمة الخاصة لسيراليون في تحقيق العدالة الانتقالية، القاهرة: المكتب العربي للمعارف، 2015.

– هايدي الطيب، تجربة العدالة الانتقالية في إفريقيا، القاهرة: المكتب العربي للمعارف، 2016.

– عبد الإله القباقبي، المساءلة الجنائية في العدالة الانتقالية، ألمانيا: المركز الديمقراطي العربي، 2018.

* الدراسات القانونية باللغة الإنجليزية:

– Ambos, Kai. The Legal Framework of Transitional Justice. A paper prepared for the International Conference “Building a Future on Peace and Justice”, Nuremberg, 25-27/06/2007.

– Arthur, Paige. How “Transitions” Reshaped Human Rights: A Conceptual History of Transitional Justice. Human Rights Quarterly 31. The John Hopkins University Press. 2009.

– Andrieu, Kora. “Transitional justice: A New Discipline in Human Rights”. scholarly review. Online Encyclopedia of Mass Violence.URL: {http://www.massviolence.org/Transitional-Justice-A-New-Discipline-in Human-Rights}.

– Gierycz, Dorota. Transitional Justice – Does it Help or Does it Harm? NUPI Working Paper. Norwegian Institute of International Affairs.

بتتبع محتوى الدراسات البحثية المذكورة أعلاه وغيرها مما تم توظيفه واستثماره في متن الأطروحة، يلاحظ عليها أنها إما:

ركزت على الدراسات النظرية والمفاهيمية والتاريخية لمصطلح العدالة الانتقالية في حد ذاته؛
أو اعتمدت على دراسات الحالة لدول انتقالية محددة باعتبارها نماذج ناجحة لإنفاذ آليات العدالة الانتقالية؛
أو حصرت البحث ودراسة على جوانب معينة أو آليات محددة من العدالة الانتقالية، مثل تناول لجان الحقيقة والمصالحة أو مختلف مجالات الإصلاح المؤسسي أو جبر ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان؛
أو ربطت بين العدالة الانتقالية ومصطلحات أخرى كالديمقراطية والسلم والمصالحة وحقوق الإنسان وسيادة القانون والنوع الاجتماعي والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من مواضيع الحال وتقييم علاقة التأثير والتأثر بينهم.
ويثبت من السياق، أن الجهود البحثية المبذولة في هذه الدراسة قد اتجهت إلى الإلمام مبدئيا بكافة الأبعاد الأساسية لمفهوم العدالة الانتقالية التي تم التطرق إليها في الدراسات البحثية، مع التركيز على إثبات دور النصوص القانونية للعدالة الانتقالية في تعزيز حماية حقوق الإنسان.

سادسا: مناهج البحث التي تم توظيفها

تم الاعتماد على مناهج بحثية متعددة من أجل دراسة موضوع البحث، تتناسب مع طبيعته المتشعبة في فروع القانون الدولي والوطني، خاصة منها المنهج الوصفي والمنهج التحليلي مع العمل على تطبيق بعض أساليب المقارنة، والتي تم تطبيقها جميعا بالتكامل مع بعضها البعض، من خلال العمل على وصف واستنباط المعلومات الضرورية من المصادر الأساسية المتعلقة بضبط إطار قانوني مفاهيمي وتحليلي شامل لدراسة العلاقة بين آليات العدالة الانتقالية وتعزيز حماية حقوق الإنسان على مستوى المعايير الدولية، في ظل العمل على مقارنة العديد من التطبيقات القانونية الدولية والوطنية للآليات والتدابير التي تم إعمالها في سياق إنفاذ دول ما بعد النزاع لتدابير وعمليات العدالة الانتقالية، وتقييم أثرها على تحقيق السلم والديمقراطية والمصالحة في المجتمعات الانتقالية وصولا للاستقرار الوطني وتحقيقا للسلم والأمن الدوليين.

سابعا: التقسيم المنهجي البحثي

من أجل التصدي للإشكالية البحثية والتوسع في الإجابة عليها، جاء متن الأطروحة مُفصلا في خطة بحث ممنهجة تتضمن بابين اثنين، كل باب منهما يتضمن فصلين اثنين، ينقسم كل منهما إلى ما يتطلبه الموضوع من عناوين جزئية، تتلاءم مع السياق البحثي العام، كما يلي شرحه:

اتجه الباب الأول بالبحث والدراسة إلى التركيز على صياغة تصور عام يشمل المٌقاربات النظرية للعدالة الانتقالية في سياق ضمان حماية ضحايا انتهاكات حقوق الانسان، حيث يثبت أنه منذ منتصف القرن العشرين ولحد يومنا هذا؛ كانت ولازالت الحروب وحركات التمرد المسلحة والنزاعات العرقية والدينية والممارسات الحكومية القمعية، تسبب معاناة هائلة تؤدي إلى قتل الملايين من المدنيين، والتي يتم تكييفها على أنها انتهاكات جسيمة أو خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في سياق كونها جرائم حرب أو جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية، بما فيها من أعمال تعذيب شنيعة وعمليات إختفاء قسري لأشخاص واغتصاب ومذابح ونزوح جماعي وغيرها الكثير من السلوكيات الجُرمية المعاقب عليها بنصوص قانونية معيارية وطنية وإقليمية ودولية، وقد كان الإفلات من العقاب يمارس على نحو مؤسسي وممنهج يحمي بمقتضاه مرتكبي هذه الجرائم، غير أن الرأي العام الدولي إزدادت مطالبه عقب تلك الانتهاكات من أجل التنظير سياسيا وقانونيا لنظام يستجيب لمتطلبات العدالة والمساءلة والتوصل للحقيقة وتأمين المصالحة المجتمعية والوطنية[1].

وقد أدى تعدد المعايير والآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان وتنامي مبادرات الوعي الدولي إلى فتح آفاق جديدة أمام منظومة قانونية دولية تهدف إلى تعزيز حماية حقوق الإنسان، من أجل بناء مقاربات نظرية مفاهيمية واجتهادات قانونية تساعد الدول، خاصة تلك التي تمر بمراحل البناء الديمقراطي، على الانتقال إلى حالة ما بعد النزاع من مداخل متعددة ومتكاملة، وتمكينها من معالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان[2]، على اعتبار أن التوافق بين الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان يتم عندما يعرب المجتمع المنقسم ككل عن شعوره المشترك بالسيادة القومية في سياق انتفاضة تستهدف تحقيق التحول الديمقراطي، وهذا التحول أساسه التوقف عن احتكار السلطة وإنشاء مؤسسات مناسبة للتقدم الديمقراطي، أين يعد استمرار الاضطراب وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي من العقبات الرئيسية أمام ضمان الترسيخ الديمقراطي لدى دول ما بعد النزاع، من حيث أن هناك ترابطا وثيقا بين الوحدة الوطنية واستمرار الانتقال الديمقراطي فيها[3].

ولدى إنفاذ العدالة الانتقالية، فإن مجالها يهتم بتنمية مجموعة واسعة من الاستراتيجيات المتنوعة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، بحيث تحيل هذه الاستراتيجيات وتطبيقاتها عمليا إلى خلق مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية، بما يحتم أن تطبيقها ضمن سياق من التحول الديمقراطي بغية تجنب تكرار الأسباب التي أفضت إلى النزاع منذ البداية، وما يرتبط به، من الحاجة إلى آليات مؤسسية وعملية تمكن من الحفاظ على مطلب تمتع الإنسان بحقوقه وكرامته[4]، لذلك تبدو العدالة الانتقالية كضرورة لنجاح عمليات الانتقال الديمقراطي، باعتبار أنها مفهوم للعدالة يطبق خلال فترات التغيير السياسي ويتسم بردود ذات طبيعة قانونية في مواجهة جرائم ارتكبتها نظم قمعية سابقة[5]، على أن تضم الإجراءات المتعددة التي تشكل العدالة الانتقالية؛ إجراءات تعتبر في العادة ذات طبيعة شفائية أو علاجية لعدالة انتقالية تصالحية مع نظام مواز له يمثل عدالة انتقالية جزائية أو عقابية[6].

وفي سياق ذلك، يثبت أن مسار إنفاذ العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاع يضمن حماية قانونية مميزة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، تضم مبدئيا منحهم مركزا قانونيا محميا على مستوى المعايير الوطنية والإقليمية والدولية، يخولهم التمتع بجملة من الحقوق الاساسية الناتجة عما تعرضوا له من أذى أو ضرر، أساسها الحقيقة والإنتصاف والجبر وضمان عدم التكرار، من حيث هي ردود متكاملة إزاء ما ارتكب من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وانتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني، ولئن كان الكشف الكامل عن الحقيقة بشأن ارتكاب هذه الانتهاكات قد يبرر تخفيف العقوبة في بعض الحالات، فإن آليات العدالة الانتقالية على اختلاف أشكالها وطبيعتها لا تعف الجناة من الإجراءات الجنائية في مقابل الاعتراف بما ارتكبوه، وبالمثل فإن توفير سبل الجبر المجزي للضحايا لا يعف الدول من التزاماتها الدولية بضمان مساءلة الجناة[7].

بناء على ما سبق ذكره، ارتأينا لدراسة حيثيات الباب الأول من الأطروحة تقسيمه إلى فصلين اثنين، يتناولان بيان مضمون العناصر البحثية التالية:

الفصل الأول: المعنون بـ ماهية العدالة الانتقالية، الذي تناول، في مبحثين، مفهوم مصطلح العدالة الانتقالية في حد ذاته من حيث ضبطها تعريفا وخصائصا، وأهدافا ومبادئ أساسية، وتتبع جذوره المعرفية والتاريخية من أجل تحديد محيطه، كما تم دراسة المفاهيم الأساسية المتعلقة بنماذج إنفاذ العدالة الانتقالية ذات الطبيعة العقابية أو التصالحية في دول ما بعد النزاع، تمهيدا للتوسع فيها لاحقا لدى التطرق لمقتضيات الباب الثاني من الأطروحة.

الفصل الثاني: المعنون بـ مقتضيات الحماية القانونية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، الذي درس، في مبحثين، مبدئيا المركز القانوني لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، من حيث التعريف والتصنيف والتأسيس القانوني لحمايتهم، ثم حدد تاليا الحقوق الإنسانية الأساسية: الحق في الانتصاف، الحق في معرفة الحقيقة، الحق في الجبر، الحق في ضمان عدم التكرار، التي تمنح لهم لدى إنفاذ العدالة أثناء الانتقال، وبحث مضامينها ومقتضياتها القانونية، والتي سيتم التأسيس عليها لاحقا في استنباط مختلف آليات وأدوات العدالة الانتقالية.

في حين عمد الباب الثاني إلى رصد وتمحيص مختلف آليات العدالة الانتقالية والعمل على دراسة أطر إنشاءها وتصميمها وإنفاذها من منظور دورها في تعزيز حماية حقوق الانسان، من خلال مقارنة العديد من تجارب دول ما بعد النزاع، حيث يثبت أن العدالة الانتقالية تتألف من جملة آليات يتم تطبيقها على المستويين الدولي والوطني، أين تشمل في سياقها عددا من التدابير والعمليات، التي تتعدد ما بين الملاحقات القضائية ومبادرات التيسير لكل من الحق في معرفة الحقيقة، وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي والمشاورات الوطنية وإصلاح منظومة العدالة الجنائية وتطويرها فضلا عن الإصلاح الفعلي لمؤسسات الدولة وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية، على أنه طبقا للمذكرة التوجيهية الصادرة عن الأمين العام للأمم المتحدة، فأي كانت المجموعة التي يجري اختيارها من قبل دول ما بعد النزاع من أجل إنفاذها في السياق الوطني، يجب أن تكون متوافقة مع المعايير والالتزامات القانونية الدولية[8].

كما أن آليات العدالة الانتقالية لا تكتسب صيغة واحدة، من حيث أن محاولات تطبيق العدالة الانتقالية بالطريقة نفسها على حالات مختلفة عادة ما تبوء بالفشل، ذلك أنه يجب مراعاة خصوصية السياق السياسي والاجتماعي الذي تطبق فيه، وينبغي في هذا السياق، أن تعدل هذه الآليات بحيث تلبي احتياجات المجتمع الانتقالي ودولة ما بعد النزاع التي تنفذ فيها[9]، خاصة بعد ثبوت أن الاقتصاد السياسي يلعب دورا مهما في تحديد اختيارات آليات العدالة الانتقالية لدى دول ما بعد النزاع[10].

ويرتكز التقسيم الأساسي لآليات العدالة الانتقالية بين كونها قضائية Judicial Mechanisms أو غير قضائية Non-Judicial Mechanisms على معيار الطبيعة الوظيفية لهذه الآليات، لكون الاتجاه البحت نحو الطبيعة القضائية لآليات العدالة الانتقالية يعد تهديدا مباشرا للمتهمين بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، تحت طائلة تحمل خطر تقويض عملية السلام الهشة خاصة في المرحلة الأولى من فترة ما بعد النزاع، على أنه مهما اختلفت طبيعة آليات العدالة الانتقالية في مجموعها تسعى للإحاطة بشكل واسع بكافة أبعاد التعامل مع الماضي، بما من شأنه تسريع شفاء المجتمع والمساهمة في إعادة إعماره[11].

وبذلك، يتحدد مضمون آليات العدالة الانتقالية، بحسب طبيعتها وتقسيمها الوظيفي بين آليات قضائية وأخرى غير قضائية، والتي ستكون محل دراسة على مستوى فصلين من الباب الثاني، حسب العناصر المحددة في التالي:

المُساءلة والمحاسبة الجنائية الوطنية أو الدولية لمرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني؛
برامج جبر الضرر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان؛
لجان الحقيقة والمصالحة؛
الإصلاح المؤسسي للهيئات للمؤسسات العمومية والأجهزة والموظفين في الدولة[12].
وبناء على ما سبق ذكره، ارتأينا لدراسة حيثيات الباب الثاني من الأطروحة، تقسيمه إلى فصلين اثنين، يتناولان بيان مضمون العناصر البحثية التالية:

الفصل الأول المعنون بـ آليات العدالة الانتقالية القضائية درس، في مبحثين، الأطر القانونية الأساسية التي يتم من خلالها ملاحقة ومساءلة منتهكي حقوق الإنسان جزائيا ضمن المراحل الانتقالية، وما يتطلبه ذلك من تحديد لقواعد توزيع الاختصاص القضائي بين المحاكم الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية، والتركيز على تحديد عدد من أهم الإشكالات أو المعوقات القانونية التي تقف في وجه التكريس المطلق لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، كما تطرق هذا الفصل، إلى دراسة الكيفيات التي تعاملت بها دول ما بعد النزاع مع ما تكبده ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من أضرار مختلفة الدرجة والطبيعة، من خلال تمحيص ومقارنة عدد من برامج الجبر لديها.

الفصل الثاني: المعنون بـ آليات العدالة الانتقالية غير القضائية الذي ضبط مبدئيا في مبحثين، آليات العدالة الانتقالية التي تتولى التعامل مع مخلفات مرحلة ما بعد النزاع من زاوية تصالحية، والتي تهدف عادة إلى إعادة التوصل للسلم والديمقراطية والتنمية المتساوية وحكم القانون، لذلك فقد تم دراسة كل من لجن الحقيقة والمصالحة، ومجالين أساسين من الإصلاح المؤسسي المتعلقين بإصلاح القطاع الأمني، وفحص وتدقيق سجلات الموظفين.

بناء إلى ما سبق تم التوصل إلى صياغة مقتضيات خاتمة، أثبتت أن الأطروحة اتجهت لبحث موضوع إنفاذ العدالة الانتقالية في المُجتمعات المنقسمة ودول ما بعد النزاع، التي تبذل جهودا من أجل التعامل مع إرث العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، والعمل على رصد علاقتها بتعزيز جملة المعايير الدولية لحماية حقوق الإنسان، من حيث أطر التصدي، في المراحل الانتقالية عقابيا وتصالحيا، لانتهاكات حقوق الانسان والجرائم الدولية المرتكبة في فترات النزاع أو الاضطراب أو خلال فترات الحكم السلطوي وما بعد سقوطه.

ولدى تتبع المعايير الدولية والوطنية التي ترمي إلى تقنين أطر تعريف وإنشاء وتصميم وإنفاذ مختلف آليات العدالة الانتقالية لدى العديد من دول ما بعد النزاع، ثبت أن ذلك يتم من خلال منظور قانوني يستهدف تعزيز حماية حقوق الإنسان، من حيث أنه بينما تتجه المعايير الدولية لحقوق الإنسان على اختلاف طبيعة ومجال وجهات إصدار نصوصها، إلى ضمان تمتع الإنسان بحقوقه وحمايتها من أي انتهاك، نجد في المقابل أن التنصيص القانوني الدولي والوطني المُنظم للعدالة الانتقالية يسعى إلى حماية الإنسان بعد تعرض حقوقه للانتهاك أثناء نزاع أو اضطراب أو بسبب حكم استبدادي، وذلك بمنحه حقوقا تضمن له الانتصاف والحقيقة والجبر وضمان عدم التكرار، من خلال إنفاذ عدد من الآليات والتدابير الموازية التي تشمل على سبيل المثال لا الحصر، المُساءلة الجنائية وجبر الضرر ولجان الحقيقة والمصالحة والإصلاح المؤسسي، بما يؤكد حقيقة أن العدالة الانتقالية تعد بحق مصدرا مستحدثا يساهم بشكل كبير في تعزيز حماية حقوق الإنسان،

وبعد استكمال مقتضيات البحث والدراسة، تم التوصل إلى صياغة وتحرير عدد من النتائج والاقتراحات البحثية، التي تتناسق مع ما تم التطرق إليه في السياق العام للأطروحة.

أولا: النتائج البحثية

بعد دراسة مختلف أبعاد موضوع دور العدالة الانتقالية في تعزيز حماية حقوق الإنسان، تؤخذ جملة النتائج التالية بعين الاعتبار:

يثبت مبدئيا وواقعا، أن موضوع العدالة الانتقالية يثار بشكلٍ شبه فوري في الدول التي تشهد عمليات انتقال أو تحول سياسي، أين يبدأ ضحايا الفظائع والمظالم السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية في التماس بعض أشكال العدالة، وتوقع تحقيقها، سواء أكانت على شكل مساءلة جزائية من خلال المحاكمات الجنائية أو تعويضات أو لجان تقصي الحقائق أو إصلاحات مؤسسية، والتي غالباً ما يتم الترويج لها على أنها الأهداف الكبرى للعدالة الانتقالية خاصة منها تحقيق السلام وإرساء العدالة وتكريس المصالحة، أو أن تقدم إلى جانب برامج طموحة أخرى للترسيخ الديمقراطي والحصول على المساعدات الاقتصادية في المجتمعات الانتقالية، لكن يثبت أن من بين أهم الاشكالات التي تعترض إنفاذ العدالة الانتقالية بهذا التصور، هو كونها تستند إلى افتراضات سياسية واقتصادية واجتماعية مسبقة وغير متطابقة في ما يتعلق بمسار العمليات الانتقالية واستعداد المجتمعات المنقسمة لها، بما من شأنه أن يعيق تنفيذ عمليات العدالة الانتقالية خاصة في دول ما بعد النزاع التي يمكن أن تشهد عودة للتوجّه السلطوي في الحكم حتى بعد تحقق الانتقال.

إن العدالة الانتقالية هي مجموع الأساليب والآليات التي يستخدمها مجتمع انتقالي ما في دولة من دول ما بعد النزاع من أجل تحقيق العدالة في فترات انتقالية من تاريخه، وتنشأ هذه الفترات غالبا بعد اندلاع ثورة من أجل إسقاط نظام أو انتهاء نزاع، من أجل السعي نحو التحول الديمقراطي، ومن خلال مسار الفترات الانتقالية تواجه هذه المجتمعات اشكاليات صعبة تتعلق بالتعامل مع الماضي ومخلفاته من انتهاكات حقوق الإنسان، بما يجعل من العدالة الانتقالية سوى استجابة قانونية لانتهاكات حقوق الإنسان الممنهجة أو واسعة النطاق، بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من معاناة جراءها، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية، وتتحدد طبيعتها في كونها تكييف للعدالة على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان؛ سواء حدثت هذه التحولات فجأة أو على مدى عقود طويلة.

تختلف العدالة الانتقالية عن العدالة العادية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية، مثل الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو من حالة حرب أهلية إلى حالة سلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي يرافقه عنف مسلح إلى حالة استقرار وولوج سبيل التحوّل الديمقراطي، أي الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة انفراج سياسي، أو الانتقال الديمقراطي أي الانتقال من حكم منغلق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح وإقرار للتعددية، أو حالة انعتاق من الاستعمار والتحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وعلى ذلك، تتباين ظروف الانتقال التي تمر بها أي من دول ما بعد النزاع بين كونها عملية انتقال تقودها نخبة النظام القديم التي استطاعت إجبار المعارضة على الخضوع؛ أو كنتيجة مفاوضات بين النخبة الحاكمة والمعارضة؛ أو فرضت من الخارج من قبل قوة أجنبية متدخلة، أين يمكن للحكومة الانتقالية الجديدة أن تتبع مجموعة من خيارات التعامل مع الماضي والتي ترتبط بظروف الانتقال وتوافر الإرادة السياسية لتنفيذها.

تركز العدالة الانتقالية لدى إنفاذها في دول ما بعد النزاع، على تركة انتهاكات حقوق الإنسان التي خلفها نزاع أو حكم استبدادي، عن طريق إعادة بناء الثقة بين الضحايا والمواطنين والمؤسسات، بمحاسبة الجناة وجبر الضحايا، في ظل تكامل إجراءاتها وتدابيرها وآلياتها المختلفة، لكونها لم تنشئ لكي تنفذ بمعزل عن بعضها البعض، في هذا السياق، يرتبط موضوع إنفاذ العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاع بدافعين، أولهما إنساني نابع من الحاجة الى إنصاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، أما ثانيهما فيتعلق بتنامي المطالبة بإقرار التحول الديمقراطي في دول العالم، وللنجاح في تكريس نمط للعدالة الانتقالية يتعين أن تتوفر ميزة تحقيق التوازن بين مطمح إرساء السلم وغاية العدالة والانصاف، لذلك ينبغي النظر إلى العدالة الانتقالية ليس كأداة لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان فحسب بل كآلية للتغيير والتحول الديمقراطي في الدول الاستبدادية التي شهدت خروقات واسعة لحقوق الإنسان مثلما يحدث في النزاعات المسلحة، باعتبار أن الاستبداد السياسي يشكل في حد ذاته انتهاكا لحقوق الإنسان.

تعود إرهاصات العدالة الانتقالية إلى أعقاب الحرب العالمية الثانية، بشكل أكثر قوة ووضوحا لدى دول أوروبا الشرقية التي ساعدت جهودها في تحديد أطر التعامل مع إنتهاكات الماضي من خلال فتح ملفات وكالات الأمن السابقة في ألمانيا الشرقية، ومنع المسؤولين السابقين من منتهكي حقوق الإنسان من الوصول إلى مناصب سلطوية من خلال عملية التطهير الوظيفي في تشيكوسلوفاكيا سنة 1991، ومساهمة جهود تقصي الحقائق في دول جنوب أمريكا اللاتينية، مثل لجنتي الحقائق في الأرجنتين 1983 والشيلي 1990 في توفير مختلف أشكال الجبر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وكذا تعامل جنوب افريقيا سنة 1995 مع انتهاكات حقوق الإنسان نتيجة نظام الميز العنصري عن طريق إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة، وما تم إحرازه من تقدم قانوني ومؤسسي في المغرب ضمن عمل لجنة الانصاف والمصالحة.

تركز العدالة الانتقالية على خمس آليات أساسية لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان، تتمثل في المحاكمات (المدنية أو الجنائية، الوطنية أو الدولية)، والبحث عن الحقيقة وتقصي الحقائق (لجان الحقيقة والمصالحة، لجان التحقيق)، وجبر الضرر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان (إستعادة الحقوق، التعويض، إعادة التأهيل، الترضية)، ومختلف مجالات الإصلاح المؤسسي (الإصلاحات القانونية والمؤسسية وعزل منتهكي حقوق الإنسان من المناصب العامة، وتدريب الموظفين العموميين حول مقررات حقوق الإنسان)، وإحياء الذاكرة الجماعية لمنع تكرار ارتكاب الانتهاكات مستقبلا والعمل على تعزيز المبادرات المجتمعية التي تستهدف إرساء المصالحة.

تطبيقا لذلك، وبتفحص مختلف أدوات فك ارتباط المجتمعات الانتقالية مع الماضي، يبدوا أنها سعت إلى متابعة الجناة قضائيا، بما فيها من محاكم جنائية دولية مؤقتة وهجينة ودائمة مثل المحكمتين الجنائيتين الدوليتين المؤقتتين في يوغسلافيا سابقا ورواندا والمحاكم في تيمور الشرقية وسيراليون وكمبوديا ولبنان والعراق، والمحكمة الجنائية الدولية، وإلى معرفة الحقيقة وتقصيها عن طريق إنشاء لجان تحقيق رسمية مثلما تم في الشيلي، وجنوب افريقيا، والبيرو، وسيراليون، وأخرى غير رسمية مثل أشكال التصريح بالحقيقة، وكذا إلى ضمان جبر ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بتأسيس برامج الجبر التي عملت على تعويض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في الجزائر والمغرب، بالإضافة إلى إطلاق مبادرات الاصلاح المؤسسي على نطاق واسع مثل إصلاح الشرطة وقطاع الأمن في دول مثل شمال إيرلندا وألمانيا الشرقية والعراق، وتشييد الشواهد وتحديد الأماكن العامة وخلق حوار اجتماعي في الأرجنتين وكمبوديا وتيمور الشرقية.

بينما تقوم العدالة الانتقالية على فكرة أن المطالبة بالعدالة العقابية ليست أمرا مطلقا، على اعتبار أنه يجب أن تتم موازنتها بالحاجة إلى السلم المجتمعي والديمقراطية والتنمية العادلة وسيادة القانون، خاصة وأن تجارب الشعوب التي مرت بسياقات انتقالية أثبتت أنها واجهت عدة قيود عملية من بينها: نقص الموارد البشرية والمادية، وضعف أو عدم استقلال أو عدم وحدة نظامها القضائي، وهشاشة الانتقال الديمقراطي فيها، واستمرار تقلد وشغل عدد كبير من منتهكي حقوق الإنسان لمواقع السلطة، كل ذلك في ظل العدد الكبير لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وصعوبة التعامل مع العراقيل القانونية أو الدستورية التي تعترض العدالة العقابية مثل إقرار قوانين تكرس العفو والحصانة للجناة وتقنين التقادم لما ارتكب من انتهاكات، تعد، في المقابل، العدالة التصالحية العدالة الأكثر إنسانية وإنصافا، من حيث أنها تسعى إلى تجسيد هدف ثلاثي الأبعاد، أساسه: العمل على إعادة الادماج الاجتماعي للجناة، وجبر وإصلاح ضرر الضحايا، وإرساء وتعزيز السلم الاجتماعي، من خلال برامج وقاية ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وضمان إمكانية استمرار الحوار والتعايش بين ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان ومرتكبيها سعيا للتخفيف من معاناة الماضي.

يمكن أن يتم إنفاذ آليات العدالة الانتقالية قضائيا على المستوى الوطني بشكل كامل أو جزئي، أو على المستوى الدولي من خلال المحكمة الجنائية الدولية، أو على نحو مختلط وهجين دولي/ وطني، مثل الترتيبات الخاصة في سيراليون وتيمور الشرقية وكوسوفو، إذ يعد إنشاء الهياكل القضائية المختلطة للعدالة الانتقالية إستجابة منطقية للإشكالات التي يمكن أن تواجه دول ما بعد النزاع مثل البعد الجغرافي والانفصال القيمي في المجتمعات الانتقالية، ومن ثم فإن لها القدرة على تحقيق المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي لا سيما حال اعتمادها على استيعاب الاختلاف في روايات أطراف الأعمال العدائية التي شهدتها المجتمعات الانتقالية.

الجبر عنصر مهم ضمن عمليات العدالة الانتقالية، وقد اكتسب أهميته باعتباره حقا دوليا يمكن ضحايا حقوق الإنسان من المطالبة بكافة أشكال التعويض المنصف لما تحملوه من أنواع مختلفة من الضرر المعنوي والنفسي والجسدي والاقتصادي والاجتماعي، جراء ارتكاب انتهاكات خلال حكم دكتاتوري تسلطي أو نتيجة نزاع، وتشمل برامج جبر الضرر جملة إجراءات ذات طبيعة فردية أو جماعية يتم إنفاذها بحسب الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية لدول ما بعد النزاع، وتهدف برامج جبر الضرر المطبقة مبدئيا إلى توفير الاعتراف الصريح لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بمعاناتهم جراء ما حدث في فترات النزاع أو الحكم التسلطي أو الاضطراب الداخلي، وما يترتب عن ذلك من تشجيع استعادة الثقة بين المواطنين أنفسهم (الضحايا والجناة)، وبين المواطنين ودولة ما بعد النزاع، على اعتبار حكومات مرحلة الانتقال وما بعد الانتقال، تستهدف دائما إثبات إقرارها تجريم ما حدث في الماضي من انتهاكات خطيرة لحقوق مواطنيها، وإصرارها – لدى صياغة خططها وبرامجها السياسية والقانونية والاقتصادية- على مساءلة وعقاب الجناة، في ظل الالتزام بضمان عدم التكرار.

من بين الاسهامات العديدة للعدالة الانتقالية في مجال حماية حقوق الإنسان تكريسها مفهوم السعي للحقيقة وكشفها، باعتبارها حقا دوليا يمنح للضحايا أفراد وجماعات، ويرتبط الحق في معرفة الحقيقة ارتباطا وثيقا بالحق في الانتصاف والتحقيق والجبر، من حيث أن الحق في الحقيقة، باعتباره حقا أصيلا للضحايا وللمجتمع الانتقالي على السواء، يفترض المطالبة بكشف الأحداث التي قد يتم إخفاءها، كما يثبت أن معرفة الحقيقة ليست بديلا عن الانتصاف القضائي في حالات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فلجان تقصي الحقائق أو غيرها من الهيئات الحكومية غير القضائية لا يمكنها أن تكون بديلا عن التزام الدولة في إجراء تحقيقات قضائية لتقصي ما حدث من انتهاكات حقوق الإنسان ومساءلة الجناة.

يتم إنشاء لجان الحقيقة والمصالحة التي يمكن أن تكون رسمية حكومية ذات بعد محلي أو وطني، لها صلاحيات القيام بتحقيقات أو عقد جلسات استماع للضحايا، تستطيع من خلالها أن تحدد من هم الأشخاص أو الهيئات المؤسسية المسؤولة ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، كما تستطيع أن تمنح سلطة إصدار توصيات للجهات السياسية أو القضائية المعنية بالتصدي لما حدث من انتهاكات حقوق الإنسان، وهي بذلك تهدف إلى مساعدة المجتمعات الانتقالية على الاعتراف بتاريخ هو محل إنكار أو تنازع، وإسماع صوت الضحايا من خلال منحهم فرصة رواية ما حدث لهم، كما تسعى من خلال ذلك إلى منع حدوث انتهاكات أخرى، وقد أثبتت التجارب الدولية أن لُجن الحقيقة والمصالحة هي بمثابة حلول وسط، من حيث أنها تساعد على محاسبة مرتكبي إنتهاكات حقوق الإنسان باستكمال عمل الإدعاء العام في جمع وتصنيف وحفظ الأدلة المستخدمة لاحقا في توجيه الاتهام الجنائي والمساءلة القضائية، كما يمكنها اقتراح وإقامة الحجج على صور مختلفة للمحاسبة أقل من العقاب الجزائي مثل المساءلة المدنية وإقالة الموظفين المسؤولين عن الانتهاكات ورد الحقوق وتأسيس مشاريع خدمة المجتمع.

يأتي الإصلاح المؤسسي، كتجسيد لحق الضحايا في ضمان عدم تكرر ما حدث من انتهاكات لحقوق الإنسان في سياق واجب الدولة بالوقاية، على اعتباره عملية مستمرة ومتواترة لتغيير أو استبدال أو تعديل المؤسسات العمومية في دولة ما بعد النزاع، بما فيها تلك التي ساهمت في إطالة أمد النزاع أو خدمت الأنظمة القمعية في الدولة وساعدتها على ارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان، والعمل على تفعيل هياكل القطاع العام ومساءلتها بالشكل الذي يمكنها من دعم الانتقال واستدامة السلام والحفاظ على سيادة القانون، على اعتبار أن النجاح في بناء مؤسسات عمومية منصفة وفعالة في أعقاب فترة من انتهاكات حقوق الإنسان، يؤدي دورا مهما في منع تكرار ارتكاب حقوق الإنسان، كما يسهم في تمكين المؤسسات العامة في قطاعات الأمن والقضاء والسجون من تجسيد ضمانات المساءلة الجنائية لانتهاكات الماضي.
ثانيا: الاقتراحات والتوصيات

بعد ضبط وتحديد نتائج الدراسة البحثية، ومن خلالها، وتماشيا مع الإطار المنهجي للبحث، تم صياغة عدد من الاقتراحات، التي يمكن أن تفيد في تطوير سياسات دول ما بعد النزاع لدى اعتمادها إنفاذ آليات العدالة الانتقالية كمصدر مُستحدث وجديد لتعزيز المعايير الدولية السابقة لحماية حقوق الإنسان، والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية:

يتطلب تفعيل آليات العدالة الانتقالية وجود هيئات مستقلة ومحايدة تقوم عليها مثل لجان تقصي وكشف الحقائق والمحاسبة والعفو، والتي يتم تحديد إجراءات إنشائها، وتشكيلها، وشروط اختيار وتعيين أعضاؤها، وأهدافها، واختصاصاتها، ونظام عملها، والفترات الزمنية اللازمة لإنهاء مهامها عن طريق تشريع منظم لها بحسب ما تقتضيه ضرورات الانتقال لدى دول ما بعد النزاع، لذلك يتوجب على هذه الدول سن تشريعات وطنية متكاملة تتولى ضبط هذه الأطر المؤسسية، التي تعمل على توفير خلفية قانونية ذات طابع جنائي من أجل تحميل الجُناة تبعة مسؤوليتهم وحماية الضحايا والشهود، وتحديد آلياتها وإجراءات إعمالها واختصاصات اللجان والهيئات التي تعمل ضمنها، بما من شأنه ضمان يضمن الشرعية الضرورية على عملها وتجنيب المجتمعات الانتقالية عناء العشوائية جراء غياب قواعد قانونية محكمة تضبط إنفاذ العدالة زمن الانتقال.

يثبت، في العديد من تطبيقات العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاع، أنه غالبا ما تدعم تقارير لجان الحقيقة ومذكراتها رواية معينة ومحددة مسبقا عن الماضي، وتهمش أو تتناسى روايات أخرى، أو تشارك ذات المؤسسات السياسية والقضائية وأجهزة أمن الدولة، المتورطة في الانتهاكات التي تدعي السعي لمعالجتها، في دعم العدالة الانتقالية، بما يستدعي التعامل الصارم مع سيطرة مؤسسات الدولة العميقة ومفهوم الرواية الرسمية للحقيقة في الدول الانتقالية، لأن من شأن استمرارها أن يقوض كافة جهود السعي نحو الترسيخ الديمقراطي وضمان عدم التكرار.

يرتبط مفهوم المصالحة بالجهود المبذولة من جانب السياسيين لطي صفحة الماضي والعفو والنسيان، ولكن الحقوقيون لا يقبلون بهذه الصيغة من المصالحة بالنظر إلى ضرورة ربط مقتضى المصالحة الوطنية والمجتمعية بالمحاسبة الجنائية والإعتراف بما حدث أولا، خاصة وأن الكثير من دول ما بعد النزاع تتعامل مع المصالحة كهدف نهائي وقابل للإنجاز، دون ايلاء ما يكفي من الاهتمام للعملية التي تتم من خلالها، وعليه فإن الإفراط في التركيز على المصالحة دون إنتصاف ودون حقيقة تؤدي إلى فشل إنفاذ العدالة الانتقالية برمتها، من حيث أن المصالحة في حد ذاتها تستند على كون الانتقال يقوم على ثلاث مسالك: إما الإنتقام أو العفو أو المساومة على الحقيقة بشراء السلم عن طريق برامج الجبر مثلما حدث سابقا في الجزائر.

ينبغي على دول ما بعد النزاع أن تعمل على الإستجابة الكاملة لتوقعات الضحايا وعائلاتهم في التوصل للعدالة والانتصاف من خلال اعتماد خطط تقوم على ركائز ثلاث: التوثيق المنهجي لانتهاكات حقوق الإنسان من أجل جمع الأدلة والشهادات التي يمكن استخدامها من المُساءلة الجنائية، حث الدول الانتقالية ومؤسساتها على تقديم اعتذارات علنية وإنشاء صناديق للتعويضات وإحياء الذكرى تكريماً للضحايا، في ظل الاستمرار في المتابعة القضائية للجناة أمام المحاكم الجنائية وطنية كانت أو دولية.

ضرورة تنفيذ مقتضيات الحق في ضمان عدم التكرار، خاصة منها فرض رقابة مدنية فعالة على المؤسسات الأمنية في الدولة، والعمل على التزام الهياكل القضائية المدنية والعسكرية بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة حسب قواعد الانتصاف والنزاهة، وتعزيز استقلالية القضاء، وتكريس الأسس القانونية والقضائية والمؤسسية التي تستهدف الاعتراف بضحايا انتهاكات حقوق الإنسان كمواطنين وحاملي حقوق، واستعادة أو إعادة بناء الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم العامة، من خلال القيام بحملات توعية واسعة للمواطنين بحقوقهم الأساسية، وتجسيد تدابير الإصلاح الرمزية التي تكرس إحياء الذكرى وعدم النسيان مثل إقامة الجداريات التذكارية أو الاعتذارات العلنية.

على إثر تعرضهم لانتهاكات حقوق الإنسان، يحقّ للضحايا أن يشهدوا إيقاع المُساءلة والعقاب الجزائيين على أشخاص منتهكي حقوق الإنسان ومعرفة ما حدث فعلا والحصول على تعويضات مجزية، لأن انتهاكات حقوق الإنسان لا تؤثّر على الضحايا المباشرين لها وحسب، بل تمس المُجتمع ككلّ، لذلك فمن واجب الدول أن تضمن، بالإضافة إلى الإيفاء بالتزامات الانتصاف والحقيقة والجبر، الحرص على الالتزام بضمان عدم التكرار، بأن تتحمل عبء إصلاح مؤسسات الدولة التي كان لها يد في هذه ارتكاب هذه الانتهاكات أو كانت عاجزة عن الوقاية من حدوثها.

يتوجب على دول ما بعد النزاع التأكيد على كون إنفاذ آليات العدالة الانتقالية يساهم في تعزيز سيادة القانون، وإن كانت هذه الآليات لا تستطيع لوحدها أن تؤدي دورا مهما في بسط سيادة القانون، دون إرادة سياسية، ويتطلب تجاوز تركة الماضي من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني مجموعة كاملة من العمليات التي تتضمن إصلاحات دستورية وقانونية واسعة وبرامج إنمائية تعمل على إعادة التوازن لواقع التفاوتات الهيكلية في الدولة وتجاوز أنماط الاستبعاد والتهميش في المجتمع.

تواجه العدالة الانتقالية تحديات في معالجة الصراعات الهيكلية التي تعود جذورها إلى الفقر والجوع والفساد ونهب الموارد الطبيعية وغير ذلك، ويعكس ذلك ميل آليات العدالة الانتقالية إلى التركيز على انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية أكثر من انتهاكات الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكنتيجة لذلك، يعتقد الأكاديميون أنّ العدالة الانتقالية فشلت في تحقيق العدالة الاجتماعية ضمن معاييرها، على اعتبار أن معظم الدراسات حول آلياتها تركز على عناصر الانتصاف والتعويض والحقيقة من أجل تكريس الحقوق السياسية والمدنية في دول ما بعد النزاع، تاركين وراءهم عوامل ذات أهمية مثل الفقر وانعدام التنمية المحلية وفقدان العدالة الاجتماعية التي تعد من الأسباب الجوهرية التي تؤدي إلى نشوب النزاعات وانعدام الاستقرار السياسي، لذلك من المهم دراسة ما إذا كان هناك علاقة بين التمكين من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإنقاص من معدلات الفقر والتنمية في ظل إنفاذ آليات العدالة الانتقالية.

إن ضحايا انتهاكات حقوق هم عادة من أكثر فئات المجتمع ضعفا وتهميشا، لذلك يجب أن تقوم برامج جبر الضرر، شأنها شأن باقي آليات العدالة الانتقالية بتقييم احتياجاتهم والتركيز على شهاداتهم في سياق جلسات الاستماع التي تنظمها لجن الحقيقة والمصالحة، بطريقة تنم عن الاحترام والاهتمام، والعمل على توفير بيئة آمنه لهم من أجل الافصاح عن تجاربهم، كما قد يتطلب الأمر دعمهم طبيا ونفسيا وقانونيا واجتماعيا على مستويات الصحة العقلية والجسدية، والاستشارة القانونية والخدمات الاجتماعية، مع التركيز أكثر على تلبية احتياجات النساء والأطفال والسكان الأصليين وغيرهم من الفئات المستضعفة والمهمشة في المجتمعات الانتقالية.

ضرورة الإقرار بأداء المجتمع المدني الانتقالي وما بعد الانتقالي لأدوار أساسية في مراحل ما بعد النزاع، من حيث أنه يساهم في رفع الوعي لدى المواطنين من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بضرورة الإلتزام بالقانون، ويحذرهم من مخاطر الاتجاه إلى الإنتقام الفردي، الذي لن تتوقف الرغبة فيه إلا بعقد محاكمات جنائية قانونية ذات مصداقية، والسعي إلى إعادة البناء على المستويات المؤسسية والقانونية والسياسية والاقتصادية، والأهم من ذلك العمل على تأسيس علاقة أقوى بين المواطن والدولة مبنية على تكريس سيادة القانون وضمان الانصاف، خاصة بعد ما تعرضوا له من معاناة أثناء النزاع وخلال المراحل الانتقالية.

[1]عبد الحسين شعبان، “الصفح والمصالحة وسياسات الذاكرة”، ورقة بحثية واردة في: حسين العمراني وعبد الحسين شعبان وعادل ماجد وآخرون، “الصفح والمصالحة”، ملف بحثي، مجلة يتفكرون، العدد 02، ديسمبر 2014، ص 08 و09.

[2] الحبيب بلكوش، “العدالة الانتقالية: المفاهيم والأليات”، بحث وارد في: كريم خميس (محرر) وهايدي علي الطيب (معد)، العدالة الانتقالية في السياقات العربية، الطبعة الأولى، مصر: المنظمة العربية لحقوق الإنسان، 2014، ص 38.

[3] الأمم المتحدة، “دراسة عن التحديات المشتركة التي تواجهها الدول في إطار جهودها الرامية إلى ضمان الديمقراطية وسيادة القانون من منظور حقوق الإنسان”، تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، مجلس حقوق الإنسان، الدورة 22، رقم الوثيقة: A/HRC/22/29))، 17/12/2012، الفقرة 43 و44، ص 13.

[4] مولاي أحمد عبد الكريم، “الأسس الفلسفية لمفهوم العدالة الانتقالية: مقاربة أولية”، مجلة تبيان، العدد 11/03، 2010، ص 19.

[5] الأمم المتحدة، دراسة عن التحديات المشتركة التي تواجهها الدول في إطار جهودها الرامية إلى ضمان الديمقراطية، المرجع السابق، الفقرة 51، ص 15.

[6] إيريك سوتاس، “العدالة الانتقالية والعقوبات”، المجلة الدولية للصليب الأحمر، المجلد 90، عدد 870، (2008)، ص 83 و84.

[7] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أدوات سيادة القانون اللازمة لدول ما بعد الصراع (تدابير العفو)، نيويورك وجنيف: منشورات الأمم المتحدة، 2009، ص 33.

[8] تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، نهج الأمم المتحدة في شأن العدالة الانتقالية، المرجع السابق، ص ص 03 و04.

[9] اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (ESCWA)، سلسلة السياسات العامة: أوراق موجزة، المشاركة والعدالة الانتقالية، العدد الأول، الأمم المتحدة، 27/05/2013، رقم الوثيقة: (E/ESCWA/SDD/2013/Technical Paper.5)، ص 01.

[10] Olsen, Payne and Reiter. At What Cost? The Political Economy of Transitional Justice. Taiwan Journal of Democracy. 06. 01. 2010. p 175.

([11]) Gierycz, Dorota. Transitional Justice – Does it Help or Does it Harm? NUPI Working Paper. Norwegian Institute of International Affairs. p 06.

Avello, Maria. European efforts in Transitional Justice: Working Paper. FRIDE. Madrid: June 2008. p 02.

([12]) Avello. op-cit. p 02, 03.

Bickford, Louis. The Encyclopedia of Genocide and Crimes Against Humanity. Vol 03. USA: Macmillan Reference. 2004. p 1046, 1047.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت