مسؤولية الغير في الجرائم الديوانية

الأستاذة : مبروكة حمايدي

شهد العالم إثر الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 ظهور أنظمة حمائية سواء على المستوى الاقتصادي أو التشريعي وقد تطورت هذه الأنظمة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية لتحقيق إعادة البناء في البلدان التي لعبت دورا فاعلا في الحرب وأثر سلبا على بنيتها الأساسية وخاصة في المجال الاقتصادي[1].

وكان لا بد لهذه الدول أن تبحث عن وسائل حمائية لهذا الاقتصاد يضمن لها تطوره وحماية منتوجها الوطني من المنافسة غير المشروعة من خلال العبور الدولي للبضائع بمختلف أنواعها.

وقد وجدت هذه الدول في القانون الديواني باعتباره مجموعة القوانين المتعلقة بالنظام الخاص في تسعير ومنع وتحديد ومراقبة وزجر العلاقات الدولية للسلع[2] الآلية الملائمة لتوفير هذه الحماية.

ولتحقيق هذا الهدف كان ولا بد من أن يكون لهذا القانون صبغة جزائية زجرية لردع كل أعمال التهريب للبضائع والتهرب من دفع الأداءات القمرقية ومراعاة الإجراءات القانونية التي تكفل للدول حسن مراقبة دخول وخروج البضائع من إقليمها الوطني.

ولتحقيق الحماية اللازمة كان من الضروري أيضا أن يكون لهذا القانون صبغة وقائية حمائية بالاعتماد على مبادئ قانونية خاصة به تختلف عن المبادئ الأساسية المعروفة في القانون الجنائي بل يصل الاختلاف إلى حد التعارض مع الأنظمة القانونية سواء على المستوى الموضوعي أو على المستوى الإجرائي. وبالنسبة لتونس، فإننا نلاحظ أن حركة التشريع في الميدان الديواني انطلقت منذ أوائل عهد الحماية (1881) وذلك عبر سن الأمر العلي المؤرخ في 3 أكتوبر 1884 (12 ذي الحجة 1301 هجرية) المتعلق بوكالة الديوانة وبالأنشطة التي تنفرد بها الدولة ثم وقع سن عدد من الأوامر العلية خلال السنوات الموالية (أمر 12 ديسمبر 1891 المتعلق بالبضائع المرسلة مباشرة عبر البر مع المرور بالتراب الجزائري وأمر 7 مارس 1895 المتعلق بالعبور الدولي …)

وتكثفت هذه الحركة التشريعية إثر أزمة 1829 حيث صدرت جملة من الأوامر العلية في 06 ماي 1930 و8 فيفري 1935 و27 مارس 1935 و27 مارس 1935 و24 ماي 1937 و23 أوت 1938 و10 نوفمبر 1943 تتعلق على التوالي بإعفاء المحروقات المخصصة لتموين المراكب البحرية من المعاليم، والملاحة البحرية ومراقبة المسافرين وبضائعهم عند الانطلاق من المواني التونسية وحق الإطلاع المخول لأعوان الديوانة، ونظام الخزن الصوري ونظام الحزن الحقيقي وتنظيم مهنة الوسيط القمرقي، والرقابة الديوانية للصادرات والواردات عبر البريد.

ويتضح من كثافة هذه الحركة التشريعية أن السلطة الفرنسية في تونس حرصت على تكريس السياسة الاقتصادية الجديدة، وهي سياسة الدولة المتدخلة في الميدان الاقتصادي (Etat interventionniste ou Etat providence) عبر دفع الرقابة على دخول البضائع وخروجها من البلاد التونسية والترفيع في النسب المستخلصة على تنقل البضائع على الحدود إلا أنه ولتلافي المساوئ المترتبة عن تعدد النصوص وتشددها وأسوة بالمشرع الفرنسي عند سنه لمجلة ديوانية موحدة في 8/12/1948 تدخل المشرع بمقتضى الأمر المؤرخ في 29 ديسمبر 1955[3] المتعلق بتحوير وتدوين التشريع القمرقي وأصدر “المجلة القمرقية” وهذه المجلة استمدت معظم أحكامها من المجلة الديوانية الفرنسية.

وقد وقع تغيير تسميتها لتصبح “مجلة الديوانة” بمقتضى الفصل 29 من قانون المالية لسنة 1981 المؤرخ في 31 ديسمبر 1980. ومن منطلق ضرورة الخروج عن الانغلاق للتخلص من الصعوبات الاقتصادية، بادر المشرع التونسي بصفة تدريجية إلى الانفتاح الخارجي بسنه لقانون أفريل 1972 بغاية تشجيع الأنشطة التصديرية وخاصة منها الصناعية، وفي الآن نفسه سنه لعدد من القوانين خلال سنوات 1994، 1996، 1998 وانخراطه في الاتفاقية العامة للتعريفات القمرقية والتجارة GATT بتاريخ 27/04/1990[4]، ثم انضمت تونس بموجب القانون عدد 6 لسنة 1995 المؤرخ في 23/01/1995 للمنظمة العالمية التجارة المعروفة بـ OMC لتأخذ مكان الجهاز المعروف بـ GATT.

وسعيا من المشرع التونسي لخلق معادلة جديدة بين المحافظة على سيادة الدولة حسب المفهوم الحديث من خلال ترسيخ فاعلية الوسائل الحمائية من جهة، والتفتح على الاقتصاد العالمي من جهة ثانية[5]، فقد أدخل تنقيحا جزئيا على مجلة الديوانة وذلك بإدراج مقتضيات الاتفاقية العالمية للتجارة حول القيمة لدى الديوانة صلب المجلة بمقتضى القانون عدد 92 لسنة 2001 المؤرخ في 07/08/2001 ونظرا للإصلاحات الجذرية التي شهدتها المنظومة التشريعية عامة والتشريع الجبائي والتشريع المتعلق بالتجارة الخارجية على وجه الخصوص، وذلك مسايرة للتحولات الهيكلية الكبرى التي عرفها الاقتصاد الوطني من ناحية وملائمة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أبرمتها البلاد التونسية خاصة في إطار المنظمة العالمية للتجارة ومع بلدان الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، تم إصدار مجلة جديدة للديوانة بمقتضى القانون عدد 34 لسنة 2008 المؤرخ في 02 جوان 2008 والذي دخل حيز التنفيذ بداية من جانفي 2009[6].

إن صدور هذه المجلة يعد نقلة نوعية لم يعرفها القانون الديواني في تونس منذ نشأته وذلك بغاية الارتقاء بالتشريع الديواني إلى متطلبات المرحلة الحالية ومستشرفا للمرحلة المستقبلة باعتبارها جعلت لتحقيق ثلاثة أهداف كبرى وهي دفع القدرة التنافسية للاقتصاد ودفع ضمانات المتعاملين مع إدارة الديوانة، وثالثا ملائمة التشريع الديواني مع المنظومة التشريعية الوطنية وذلك بملائمة النظام القانوني الديواني مع أحكام الدستور ومع الأحكام المدنية والجزائية.

والقانوني الديواني وإن كان يمتاز بخصائص متفاوتة الدرجة بالمقارنة مع المواد القانونية الأخرى فإنه تطبيقا للمبادئ العامة للقانون لا يختلف عن القوانين الأخرى في التمييز بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجزائية مع وجود فارق في الأحكام فإذ كانت المسؤولية الجزائية تدور حول مجموعة المسائل المرتبطة بالإدانة الجزائية التي تجعل الجاني تحت طائلة تطبيق عقوبات جزائية والتي من شأنها أن تحد من حريته[7]، فإن المسؤولية المدنية مجال تهديدها لا يتعدى الذمة المالية للشخص إن كان حيا والتركة بعد وفاته[8].

والمسؤولية القانونية التي تتوزع بين مسؤولية جزائية وأخرى مدنية يمكن أن تتجاوز في إطار النزاعات الديوانية الفاعل الأصلي والشريك لتمتد إلى مساءلة الغير المساهم في الجريمة الديوانية والذي تتحقق مساهمته بقيامه بأفعال لا تكون مرتبطة بصورة مباشرة بالجريمة وتستند مساءلة الغير في هذه الحالة على مفهوم الاستفادة الذي هو مفهوم شديد التوسع بما يجعل كل شخص عرضة للمساءلة الديوانية ولم لم يتصل بالجريمة الديوانية بأي وجه من أوجه الاتصال المادي وتأسيسا على ذلك يطرح في هذا الإطار التساؤل التالي : من هو الغير في الجريمة الديوانية ؟ وما هو المركز القانوني للغير في الجريمة الديوانية ؟

ولدراسة هذه الإشكالية المطروحة سوف نتعرض بالتحليل في (الجزء الأول) إلى المسؤولية الجزائية للغير في الجرائم الديوانية وفي (الجزء الثاني) إلى مسؤوليته المدنية.

الجزء الأول: المسؤولية الجزائية للغير في الجرائم الديوانية

تمتاز المسؤولية الجزائية في القانون الديواني ببعض المبادئ الخاصة بها والتي تميزها عن القواعد العامة للقانون ذلك أن القانون العادي ولئن كان يهدف دائما إلى زجر الجرائم عبر الكشف عن مرتكبيها وتسليط العقوبات عليها فإن القانون الديواني يستهدف إيجاد حلول تجريمية وعقابية تتجاوز الجاني سواء كان فاعلا أصليا أو شريكا بالاعتماد على مجموعة القرائن [9]

تمكن هذا القانون من الوصول إلى عقاب أشخاص قد لا يرتبطون بالجريمة ارتباطا يكفي لمؤاخذته جزائيا لأن هذا القانون يعتمد بالأساس على المشاركة الإجرامية لتحديد المسؤولية الجزائية أيا كان نوعها حتى خارج نطاق أحكام المشاركة في القانون العادي، فالمشاركة في الجرائم الديوانية تذهب إلى أبعد من ذلك حيث تجرم أفعالا لا تكون مرتبطة بصورة مباشرة بالفعل الإجرامي الأصلي ولا بالفاعل الأصلي بحيث لا تسهل الجريمة الأصلية بصورة إيجابية فهي بذلك تكسر الحواجز المرتبطة بالجريمة وبالفاعل الأصلي لتمتد المسؤولية الجزائية إلى أشخاص غرباء عن الجريمة وفق أحكام القانون الجنائي العادي[10] ومن أهم وسائل تمديد مساءلة الغير مفهوم الاستفادة الذي نص عليه الفصل 371 م.د جديد (270 قديم) الذي يعاقب كل شخص يشارك بصفة مستفيد وبأية صورة كانت في ارتكاب جنحة تهريب أو جنحة توريد أو تصدير بدون إعلام بنفس العقاب المسلط على مرتكب الجنحة.

ومفهوم الاستفادة الذي هو مفهوم شديد التوسع إضافة إلى عبارة الفصل 371 م.د بأي صورة كانت تمكنان من الإحاطة بكل الصور الممكنة للاستفادة ودون التوقف على شكل أو قيمة لهذه الاستفادة، فتظهر صورة المسؤولية الجزائية للغير في الجريمة الديوانية بوصفه مساهما عبر مصلحة مادية أو معنوية يحققها لنفسه أو لغيره سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة[11]، وعلى هذا الأساس فإن القانون الديواني يمتاز بالحذر فبنفس الطريقة التي يسعى فيها إلى العقاب لا يشجع مواقف المجاملة التي يمكن أن يتخذها أي شخص تجاه مرتكبي جرائم التهريب أو غيرها من الجرائم الديوانية وذلك بوضع قرائن قانونية على تحميلهم المسؤولية الجزائية في القانون الديواني يمكن أن تصل إلى أشخاص لا تربطهم علاقة منفعة لا بالجريمة ولا بمرتكبيها لكن مساءلتهم تتم بناء على عدم الحيطة وعدم التنبه لأعمال التهريب وهو ما يجعل كل شخص عرضة للمساءلة الجزائية الديوانية ولو لم يتصل بأي وجه من أوجه الاتصال المادي أو المنفعي بالجريمة.

ولما كان الأصل في المشاركة وجود علاقة مادية بين المشارك والجريمة الاصلية ولكن هذه العلاقة قد تنتفي في حالة الاستفادة فإن المنطق يفرض في الواقع التضييق في هذا المفهوم وذلك عبر التساؤل عن عنصر القصد الواجب توفره في الاستفادة[12].

بالرجوع إلى أحكام المجلة الديوانية نلاحظ أن بعض الجرائم تستلزم توفر الركن المعنوي لقيام المسؤولية الجزائية في جانب الغير (الفصل الأول) إلا أن هذا الركن يكون غالبا مفترضا في الجريمة الاقتصادية بصفة عامة والجريمة الديوانية بصفة خاصة مما يجعل مسؤولية الغير الجزائية قائمة حتى في غيابه ولا تلزم إدارة الديوانة بإثباته (الفصل الثاني).

الفصل الأول: المسؤولية الجزائية للغير في الجريمة القصدية

يمثل الركن المعنوي أحد الأركان الأساسية الثلاث لقيام الجريمة وهو يقوم أساسا على عنصر الإرادة الواعية لدى مرتكب الفعل الإجرامي ويشكل إضافة إلى الركن الشرعي والركن المادي شروط قيام الجريمة وبالتالي معاقبة مرتكبها.

والأصل أن القصد هو الركن المعنوي للجريمة فمتى جرم القانون الجزائي ولو دون بيان الركن المعنوي لزم توفر القصد حسب عبارة الفصل 37 م.ج[13]، والأصل أيضا أن القانون لا يعاقب على نتيجة السلوك إذا حصلت عن غير قصد بل يستوجب ذلك وجود نص يعاقب على هذا السلوك[14]، ولما كان القانون الديواني ذا صبغة موضوعية على غير سائر القوانين التي تنظم التعامل الاقتصادي حيث لا يعتد فيها إلا بالجدوى الاقتصادية المتمثلة في حماية المنتوج الوطني وضمان استخلاص موارد لفائدة صندوق الدولة[15]

حصل اختلاف بين الفقهاء حول الطبيعة القصدية للعلاقة التي تربط المساهم بالجريمة الديوانية لأنه ولئن كان من المتأكد استلزام النية الإجرامية لتحقيق المسؤولية الجزائية في جريمة المشاركة في الجرائم الديوانية بالنسبة لمن ساهموا ماديا بإحدى الصور المذكورة بالفصل 32 من المجلة الجزائية وهذا ما يستلزمه الفصل 370 جديد م.د (269 قديم) إلا أنه في نطاق الاستفادة من المشاركة في الجريمة الديوانية يبقى النقاش بين اتجاهين: اتجاه مشدد يسعى إلى اعتبار الاستفادة من الجرائم الديوانية لا تستلزم توفر القصد الإجرامي بالنظر إلى طبيعتها الخاصة من جهة ومن جهة أخرى إلى اعتبار المساهم بالاستفادة كالشريك في الجريمة الديوانية وبالتالي ليس له أن يتفصى من المسؤولية بناء على وجود حسن النية.

واتجاه ثاني يرى وأنه اعتبارا لما ظهر عليه القانون الديواني من تميز بخصوصيات تصل حد الانحراف عن المبادئ الأصلية في القانون العام فإن السعي يجب أن يتجه إلى الحد من هذا المنهج كلما استلزم الأمر ذلك.

واعتمادا على مبدأ شخصية الجريمة وشخصية العقوبة وارتباط وتطابق القصد الإجرامي بين الفاعل الأصلي والشريك فإنه من الضروري أن يستلزم توفر الركن القصدي للجريمة في صورة الاستفادة من الجرائم الديوانية وذلك بإثبات حسن النية للمتفصي من المسؤولية[16] حيث لا يمنع القانون ذلك وهو ما أكدته محكمة التعقيب الفرنسية في قرارها عدد 1417 بتاريخ 1965[17].

أما في بلادنا فإن فقه القضاء استقر على اعتبار الجريمة الديوانية من الجرائم التي لا يستلزم فيها العنصر المعنوي بل يكفي فيها إثبات الاستفادة من الجريمة وذلك اعتمادا على عبارة الفصل 371 جديد م.د (270 قديم) بصفة مستفيد بأي صورة كانت ويميل فقه القضاء عند تفسير هذه العبارة إلى اعتبار “بأي صورة كانت” قصدية أو غير قصدية.

إلا إن القول بأن الجرائم الديوانية جرائم مادية بالأساس يتنافى في الواقع مع بعض الأسانيد التي ترجح الاتجاه القصدي والتي توجب توفر الركن المعنوي لقيام الجريمة وذلك لعدة أسباب:

أولهما: أن القانون الديواني ولئن امتاز بتبنيه قرائن قانونية في الإدانة فإنه لا يمكن أن يحيد عن مبدأ قرينة البراءة وبالتالي فطالما أن المشرع لم يدمج هذه الجريمة أو هذه الصورة من الجرائم في باب الجرائم غير القصدية فإن الأصل في الجرائم أن تكون قصدية وعليه لا بد من إثبات العنصر القصدي للاستفادة حتى يكون الغير الذي يرتبط بالجريمة الأصلية بأي رابطة مادية من حيث مكونات ركنها المادي محلا للمتابعة بموجب هذا الفصل.

ثانيهما : أن هذه المساهمة جاءت مستلزمة عنصر الاستفادة والاستفادة في الأصل تكون مشروعة ليس لها طابع القصد الجزائي والاستثناء يمكن أن تكون غير مشروعة.

لكن ليس من المنطقي قلب عبء الإثبات على الجاني ليثبت الأصل بل أن على من إدعى وجود عكس الأصل أن يثبت ذلك، لذلك نجد أنفسنا أمام استلزام العنصر المعنوي للاستفادة وذلك بعلم هذا الغير المستفيد من الجريمة بأن استفادته غير مشروعة قانونا وبالتالي يكفي لإعفائه من المسؤولية الجزائية في هذه الصورة أن يثبت إيقاعه في غلط من طرف الغير وحسن نيته باعتماده مشروعية الاستفادة، وبالتالي يمكن القول بأن العنصر المعنوي والقصد الإجرامي عنصران أساسيان في تحقيق مساءلة الغير في الجريمة الديوانية بالاستفادة منها وهو ما يجعل أحكام الفصل 371 جديد م.د (270 قديم) لا تقر نظاما خاصا بالمسؤولية الجزائية في مواجهة المستفيد من الجريمة على أنه يجب إثبات وجود علاقة المساهمة في الجريمة.

طبق أحكام القانون العادي فإن النيابة العمومية ملزمة بإثبات وجود عناصر جريمة المشاركة كما أن إدارة الديوانة ملزمة أيضا في جريمة المساهمة بالاستفادة إثبات الركن القصدي من الاستفادة[18] إلا أن بعض المهن تكون قرينة قانونية على توافر هذا العنصر في شأن محترفيها مثل مسيري وأعضاء تنظيمات الغش والمؤمنون والممولون ذلك أن عملهم هذا من شأنه أن يساعد الفاعل الأصلي على ارتكاب الجريمة كما يمكنهم من الاستفادة منها وهذا ما اعتمده الفصل 371 جديد م.د عند إشارته إلى هؤلاء باعتبارهم معنيين بالاستفادة بقرينة قانونية وقد ورد ذلك بعبارة “يعتبر بمثابة مستفيدين” والنص يتعلق بالمشاركة بجميع أنواعها أكانت لتنفيذ الجريمة أو لتسهيل الاستفادة منها والاستفادة منها. والفصل 371 م.د جديد نصّ على 3 صور في الجريمة الديوانية يكون القصد فيها ضروريا لقيام المسؤولية الجزائية للغير.

المبحث الأول: المسؤولية الجزائية المبنية على الاستفادة من الجريمة
إن مفهوم الاستفادة تطور في فقه القضاء وتوسعت أحكام تطبيقه ليشمل تجريم أشكال متنوعة من الاستفادة فسائق السيارة الكاشفة للطريق الذي سلكه البضائع المهربة يعتبر مسؤولا عن أفعاله وسيارته تعرض للحجز وفق أحكام الفصل 364 جديد م.د (263 قديم) وماسك البضاعة المهربة أو خازنها في محله يعتبر مسؤولا عن أفعاله بالاستفادة من جريمة التهريب ويستوي أن يكون هذا المحل على ملكه أو متسوغا له. أما إذا كان المحل مهجورا فتحمل المسؤولية على مالك المحل ما لم يثبت أن البضاعة قد تم رميها إثر مطاردة الغير أكان مهربا أو ماسكا بدون علمه وبدون إرادته وفي هذه الصور جميعا تتحقق الاستفادة المباشرة من الجريمة.

وقد أقرت محكمة التعقيب الفرنسية مسؤولية زوجة المهرب التي تثبت بأنها لم تستفد ماديا من الجريمة لكنها تساعده على أفعال التهريب[19] لأن الاستفادة يستوي أمرها أن تكون مادية أو معنوية ومن هذا المنطلق فإن المجاملة للمهرب أو لأحد أفراد عصابة التهريب يكون عناصر المسؤولية الجزائية بموجب الاستفادة[20].

بالرجوع إلى الفصل 371 فقرة ثانية م.د (270 قديم) “يعتبر بمثابة مستفيدين” وبناء الفعل للمجهول يؤدي إلى اعتبار أن ما سيأتي بعده يكون في حكم تحصيل الحاصل بحيث إن جميع الأشخاص الذين تتوفر فيهم صفات الفقرة الثانية لعناصرها الثلاث تقوم ضدهم قرينة قانونية في اعتبارهم مشاركين في الجريمة.

الفقرة الأولى : أعضاء تنيظمات الغش ومسيّريها

كان يشير لهم الفصل 270 قديم بالمقاولين والمنخرطين إلا أن الفصل 371 جديد م.د أعاد صياغة النص القديم وتخلص من هاته العبارة المبهمة والغامضة وغير المحددة لمكونات المقاولة حتى تعتبر مقاولة تهريب.

وتنظيمات الغش هي شكل من أشكال التنظيم المؤسساتي تنظم عمليات التهريب وهذه المؤسسة تكون منظمة في هيكلها ويشرف عليها أشخاص فيما ينفذ أعمالها أشخاص آخرون[21] وهؤلاء غالبا لا يعرفون بعضهم البعض لذلك لم يهتم فقه القضاء بطابع وشكل هذا التنظيم المختص بالتهريب وبالتالي لم يستوجب فيه شكلا معينا لأن هذا النص لا يعاقب على تشكيل التنظيم بل يعاقب على أفعال التهريب التي يأتيها هذا التنظيم. وفي غالب الأحيان يستنتج فقه القضاء وجود التنظيم من خلال تكرار عمل واحد ينجز من طرف أشخاص متعددين بصورة مستمرة وفق خطة منظمة مع الخضوع إلى قيادة واحدة[22]

لكن ذلك لا يعني أن يستبعد من مفهوم التنظيم المؤسسات التي تعمل في ظل نظام قانوني كالمؤسسات التجارية بمختلف أنواعها التي تستعمل هذا النظام الشرعي لتحقيق أعمال التهريب وعلى هذا الأساس فإن المسؤولين عن الشركة التي ثبت أن بعض أعوانها تولوا القيام بأعمال التهريب تقوم ضدهم قرينة واقعية على أساس أنهم نظموا هذه الأعمال[23] والقرينة الواقعية يمكن إثباتها بجميع الطرق وفي المقابل يمكن دحضها وذلك بإثبات أن منظوريهم تولوا القيام بأعمال التهريب خارج نطاق عملهم ودون خضوعهم إليهم وفي مقابل ذلك فإن مجرد القيام بتهريب منعزل إذا كان قد صدر من شركة تجارية مثلا لا يسمح بمواجهة هذه الشركة بقرينة منظمة التهريب باعتبار أن مفهوم التنظيم يرتبط بتكرار الأعمال التي ينجزها التنظيم الذي يستوجب أن يتوفر فيه شرطان أساسيان أولا وجود مؤسسة في شكل تنظيم يتعدد فيه الأعضاء تحت إشراف قيادة موحدة وثانيا تكرار عملية التهريب بنفس الطريقة.

الفقرة الثانية : المؤمنون والمؤمن لهم

قد تظهر الاستفادة من الجريمة الديوانية بوجود عقد تأمين يضمن حسن سير عمليات التهريب المزمع إنجازها بتأمينها من مخاطر الإتلاف والسرقة ويظهر ذلك بالخصوص في عقود التأمين البحري التي بموجبها يرفع المؤمن في منحة التأمين لضمان مخاطر خاصة بالبضاعة المهربة. لكن ما تجدر ملاحظته في هذا المجال أن مثل هذه العقود لا تحرر كتابة باعتبار أن هؤلاء على درجة من الحيطة والانتباه عند تنظيم عمليات التهريب المزمع إنجازها تمنع كتابة مثل هذه العقود والتي تكون ضدهم إن وجدت قرينة على الاستفادة من التهريب[24].

ولتحقيق مسؤولية المؤمن في هذا المجال لا بد على الأقل أن تكون جريمة التهريب قد وقعت أو شرع في إنجازها، وعموما فإن عقود التأمين المذكورة لا تشكل صورة من صور الاستفادة من جريمة التهريب إذا كانت تتعلق بجرائم تهريب مزمع ارتكابها خارج الوطن وتم فقط تحرير العقد بتونس دون أن تتضمن تنفيذ أعمال التهريب مرور هذه البضاعة عبر التراب الوطني.

أما إذا تعلق التهريب بتوريد بضاعة من الخارج فإن عقد تأمينها يكون جريمة الاستفادة منها وبالتالي يعتبر كل من المؤمن والمؤمن له مستفيدا من جريمة التهريب، على أنه بالرجوع إلى أحكام الفقرة الثانية من الفصل 371 م.د (270 قديم) المطابق للفصل 399 من المجلة الديوانية الفرنسية نجد أن المشرع لم يشمل بالتجريم سوى المؤمنين والمؤمن لهم دون الوسطاء في تأمين البضاعة المهربة وبالتالي فإنه لا ينطبق على الوسطاء باعتبارهم لا تنطبق عليهم صفة المؤمنين أو المؤمَنين وهو ما ذهب إليه فقه القضاء الفرنسي إلا أن هؤلاء يمكن إدخالهم في الفقرة الأولى من الفصل 371 م.د باعتبار هم شاركوا بصفة مستفيدين فالفقرة المذكورة جرمت الاستفادة من المشاركة بأي صورة كانت.

الفقرة الثالثة : الممولون

كان يشار إليهم في الصياغة القديمة للفصل 371 م.د (270 قديم) بمؤجري المال أو الممدون برأس المال ويقصد بهم الأشخاص الذين يمكتون المهربين من المال لضمان تغطية نفقات عمليات التهريب وهذه الصورة تشكل في حقيقة الأمر ومن حيث المبدأ إحدى أوجه المشاركة في الجريمة إلا أن المشرع أضفى عليها صفة الاستفادة من جريمة التهريب حتى يضمن تغطية أوسع لزجر هذه المساعدة وتتحقق صورة توظيف المال لتمويل عملية التهريب إذ وقع التمويل قبل فعل التهريب عادة أما إذا حصل بعد عمليات التهريب فلا يعتد بها إلا إذا كان التمويل لتأمين عملية تهريب لاحقة، على أنه يبقى من الطبيعي إثبات أن المال حصل لتمويل الجريمة الأصلية وهي التهريب وبالتالي وجود علاقة متينة بين التمويل والتهريب التي عبرهايقوم الركن المعنوي للجريمة بقرينة قانونية لا يمكن دحضها إلا بإثبات القوة القاهرة أو السبب الأجنبي كالإكراه أو المغالطة.

الفقرة الرابعة : مالكو البضائع

إن هذه الصفة والتي ذكرها الفصل 371 م.د وكان الفصل 270 م.د قديم يشير إليها بعبارة “أرباب البضائع” تكون صفة الجاني بقرينة قانونية وانطلاقا من هذه الصفة وحتى يؤاخذ الشخص بوصفه مالكا تتحقق القرينة بالمسك للبضاعة ما لم يثبت خلاف ذلك. وواجب أن تتوفر هذه الصفة إما عند ارتكاب جريمة التهريب أو عند الشروع فيها غير أن ذلك لا يمنع من مساءلة الشخص الذي حول ملكيته لهذه البضاعة إلى الغير إذا ثبت علمه بموضوع التهريب وكانت غايته من تحويل الملكية بتمكين هذا الغير من الاستفادة منها، ولو تم التحويل قبل إنجاز أو الشروع في إنجاز فعل التهريب.

ويبقى واردا مساءلة المشتري الجديد للبضاعة المهربة بوصفه مالكا لها. وتعرض الفصل 370 م.د لهذه الصور والذي نص على أن تطبق على المشاركين في الجريمة الديوانية أحكام الفصل 32 م.ج.

المبحث الثاني: المسؤولية الجزائية المبنية على المساهمة في التخطيط للجريمة
تعرض المشرع لهذه الصورة ضمن الفصل 371 م.د فقرة 2 ب بعبارة “كل من ساهم بأي طريقة كانت في أعمال قام بها عدد من الاشخاص بالاتفاق فيما بينهم وفق مخطط غش أعدوه من أجل تحقيق النتيجة التي يسعون إليها جميعا”.

تجدر الملاحظة أن هذا الفصل الجديد استعمل مصطلح “مخطط غش” بدل مصطلح “مخطط تهريب” أي أنه تبنى المصطلح الوارد بالقانون الجزائي.

وهؤلاء المشاركون يوصفون بالمستفيدين من الجريمة باعتبار أن النص جاء عاما ليشمل كل شخص يساعد في ارتكاب جريمة التهريب على أن تكون هذه المساعدة حصلت ضمن مخطط أي عملية منظمة مسبقا لتحقيق غاية موحدة فيما بينهم وتطابق “مخطط الغش” أو “مخطط تهريب” حسب النظرية التقليدية منظومة الاضمار في القانون الجزائي العام وبالتالي فهي تستوجب توفر عنصرين مختلفين[25].

العنصر الأول يتعلق بمجموعة الأفعال المتمثلة في جمع المعلومات والطرق المزمع استعمالها لتحقيق جريمة التهريب و تسمى هذه المرحلة بمخطط الأعمال التحضيرية إلى جانب الأعمال التحضيرية هناك مجموعة أعمال التنفيذ والتي تتميز بالنتيجة المزمع تحقيقها من طرف المستفيدين من المشاركة في عملية التهريب وتمثل هذه المرحلة العنصر الثاني. ويعتبر هذا العنصر الثاني المميز لتسمية مخطط غش أو تهريب لأن المشرع قصد بالتجريم كل الأشخاص الذين شاركوا في مخطط الغش وبالتالي كان ولا بد من تحديد الحيز الزمني الذي ينتهي فيه لأن المقصود بالمشاركة الأعمال المكونة لفعل التهريب أي الأعمال التنفيذية المجسمة للتهريب أكثر من الأعمال التحضيرية.

غير أن الإشكال يطرح في المسؤولية بالاستفادة عند مجرد تحقيق العنصر الأول المتعلق بالأعمال التحضيرية إذ يذهب جانب من الفقه إلى اعتبار هذه الأعمال من قبيل المحاولة للجريمة وبالتالي المشاركة فيها بالاستفادة يكون صورة الفقرة 2 ب من الفصل 371 م.د غير أن جانب كبير من الفقه يذهب إلى أن ما قصده المشرع في الفصل 371 فقرة 2 ب هو مبدأ خطة التهريب المنجزة بحيث لا بد أن تكون المشاركة بإنجاز المخطط لا بتحضيره والعبرة بالنتيجة التي يسعى المشاركون في تحقيقها. وتبقى الأعمال التحضيرية خارج نطاق التجريم.

وتأسيسا على ذلك فإن الموجه إليه البضاعة المهربة يعتبر مستفيدا سواء من حيث أنه ماسك للبضاعة المهربة أو عضو منظمة غش أو مالك لهذه البضاعة المهربة بحيث لا بد من أن يقع على الأقل الشروع الفعلي في الجانب الثاني من مخطط التهريب حتى يمكن مساءلة الغير الموجه إليه البضاعة. أما إذا لم يقع ذلك فلا وجه لمساءلته لكن إذا ثبت ارتباط هذا الأخير بالأعمال التحضيرية الأولى كتأمين وصول البضاعة لفائدته اعتبر مشاركا طبق الفقرة الأولى من الفصل 371 م.د.

كما أن أعمال المساهمة في تنفيذ مخطط الغش أو التهريب تتكون عادة من كل فعل من شأنه أن يساعد مباشرة أو غير مباشرة على إنجاح عملية التهريب، ومن بين هذه الأفعال خزن البضاعة المهربة أو شحنها أو نقلها بواسطة عربة أو شاحنة أو مرافقة سائق الشاحنة عند تهريب البضاعة كما تتكون من وضع البضاعة تحت تصرف المهرب أو إخفائها بإحدى الأماكن سواء بمحلات السكنى أو بالمستودعات كما يدخل أيضا في اعتبار المشاركة بالاستفادة سائق السيارة الكاشفة للطريق عند عمليات التهريب على أنه يمكن حجز كل الوسائل المستعملة في إنجاز مخطط التهريب.

ويبقى من الضروري إثبات العلاقة السببية بين فعل المساهمة والنتيجة وهي إنجاح عملية أو مخطط التهريب وليس من الضروري إثبات أن فعل المشاركة بالاستفادة من الجريمة يدخل ضمن مخطط عملية التهريب باعتبار أن جميع هذه الأفعال تدخل ضمن هذا المخطط الذي يهدف إلى إنجاح عملية التهريب. كما يمكن أن يكون قد ساعد بالصدفة في إنجاح عملية التهريب إلا أن محكمة التعقيب الفرنسية ضيقت في هذا المجال واعتبرت أن المرافق المنقول بالمجان من طرف صاحب الشاحنة المحملة بالبضاعة المهربة يعفى من المسؤولية إذا ثبت أن عمله في المرافقة لم يكون أي فعل من أفعال المساعدة على تهريب البضاعة.

المبحث الثالث: المسؤولية الجزائية المبنية على المشاركة اللاحقة في الجريمة

يعاقب القانون الديواني عن المشاركة اللاحقة في الجريمة أي الأعمال الموالية لاتمام مخطط التهريب ويعتبر مستفيدا من الجريمة كل من تعمد التستر على تصرفات مرتكبي الغش وحاول تجنيبهم العقاب أو تعمد شراء أو مسك ولو خارج النطاق الديواني بضائع متأتية عن التهريب أو التوريد بدون إعلام إلا أنه من جهة أخرى نجد أن الفصل 384 فقرة 3 م.د (271 قديم) يعاقب الأشخاص الذين اشتروا ولو خارج النطاق الديواني بضائع موردة خلسة أو بدون إعلام تفوق كميتها احتياجات الاستهلاك العائلي تسلط عليهم عقوبات مالية تتراوح بين مرة واحدة وثلاث مرات موضوع النزاع وترك تقديرها لاجتهاد القاضي وبذلك يقصى هذا الفصل من مجال التجريم شراء بضاعة لا تفوق كميتها الاستهلاك العائلي. ومفهوم الاستهلاك العائلي يشمل ما يمكن أن يستهلكه جميع أفراد عائلة المشتري إلا أن الذي يطرح ما هو معيار تحديد الكمية اللازمة للاستهلاك العائلي ؟ ومن يتولى ضبط وتحديد هذه الكمية ؟

لم يحدد المشرع التونسي في إطار المجلة الديوانية مقياس موضوعي لمفهوم الاستهلاك العائلي.

تبنى فقه القضاء في فرنسا[26] معيار موضوعي يرجع فيه إلى المعدل العام معتبرين أن قضاة الموضوع هم الذين يقدرون هذه الكمية وليس إدارة الديوانة. وتأسيسا على ذلك فإن اعتبار الكمية تفوق قيمة الاستهلاك العائلي تشكل قرينة على توفر الركن المعنوي للاستفادة من أعمال التهريب بالشراء.

يبدو أن هناك تناقضا بين الفصلين (384 فقرة 3 والفصل 371 فقرة 2 ت) ويتجلى ذلك في حالة ضبط شخص اشترى بضاعة مهربة بكمية تفوق استهلاكه العائلي فهل يقع عقابه طبقا لأحكام الفصل 384 فقرة 3 وهو عقاب مخالفة من الدرجة الرابعة أم نعتبره شريكا على معنى الفصل 371 م.د (فقرة 2 ت) والذي يستوجب عقاب الجنحة ويبدو عنصر القصد في هذه الحالة هاما جدا لتجاوز هذا التناقض، فإذا كان من اشترى البضاعة يقصد استهلاكها ولو كانت الكمية كبيرة فإنه يعاقب طبقا للفصل 384 فقرة 3 وإذا كان قصده من شراء البضاعة إفادة المهربين التي هي حجة على حوز البضاعة المهربة فإنه يعتبر شريكا ويعاقب على معنى الفصل 371 م.د فقرة 2 ت.

وهذا ما يجعلنا ننتهي إلى استلزام العنصر المعنوي لتوفير عنصر الاستفادة اللاحقة من الجريمة إذ لا يكفي قيام الشراء للبضاعة المهربة لتوفير عنصر الاستفادة من الجريمة بل يجب أن يكون الشراء للبضاعة المهربة أو الموردة خلسة بنية الاستفادة من التهريب وبالتالي استفادة المهربين بإنجاز غرضهم المنشود يصبح الركن المعنوي عنصرا مكونا للاستفادة من الجريمة، وتأسيسا على ذلك فإن كل فعل لكي يعتبر عنصرا مكونا للاستفادة من جريمة التهريب يجب أن يثبت أن غايته إما إبعاد الشبهة على المهربين أو إفلاتهم من العقاب أو تمكينهم من الاستفادة من عملية التهريب أو كل عمل من شأنه أن يؤدي إلى اضمحلال الحجج المثبتة لعملية التهريب.

ومن خلال ذلك نستنتج أن هذه الأفعال تتكون من أفعال إيجابية عادة أما الأفعال السلبية فيجب أن تشكل الامتناع عن القيام بفعل أوجبه القانون، كالممتنع عن إعلام قبطان السفينة بأعمال التهريب وهي صورة نادرة للاستفادة بموجب فعل سلبي لذلك فإن الغاية من تجريم فعل شراء البضاعة المهربة هي عدم تشجيع الأشخاص على مساعدة المهربين من الاستفادة من جريمتهم فضلا عن منع الاستفادة غير المشروعة بشراء بضاعة مهربة يكون عادة سعرها أقل من سعر البضاعة الموردة بطريقة شرعية.

وقد جرم المشرع عملية الشراء أو المسك لكل بضاعة مهربة على وجه السواء إلا أن المشرع فرق بين مشتري البضاعة المهربة والذي يعلم مصدر تهريبها بحيث يكون قد تعمد الشراء مع العلم بفساد المصدر وفي هذا المجال تنطبق عليهم أحكام الفصل 371 فقرة 2 ت، ويبن الذين اشتروا أو مسكوا بضاعة مهربة دون علم بفساد المصدر إذا فاقت كمية هذه البضاعة الاستهلاك العائلي وفي هذه الحالة تنطبق عليهم أحكام الفقرة الثالثة من الفصل 384 م.د (271 قديم) وهي مخالفة من الصنف الرابع[27] في حين تبقى الأولى جنحة.

الفصل الثاني: المسؤولية الجزائية للغير في الجريمة غير القصدية
لا يكون القصد ضروريا في الجريمة الديوانية لتسليط العقاب إلا إذا نصت فصول المجلة الديوانية على ذلك صراحة لأن الركن المعنوي في الجريمة الاقتصادية عموما وفي الجريمة الديوانية خصوصا يعرف بضعفه لتصبح بذلك الجرائم الديوانية جرائم مادية يكون فيها الركن المعنوي مفترضا لا تلزم إدارة الديوانة بإثباته وقد تعددت الفصول التي يستنتج منها افتراض الركن المعنوي ضمن المجلة الديوانية ليصبح بذلك غياب الركن المعنوي هو الأصل على خلاف القانون الجزائي العام الذي يعتبر غياب الركن المعنوي في بعض الجرائم استثناءا، فالوجود المكثف للقرائن القانونية ضمن فصول المجلة الديوانية من شأنه أن يؤكد ضعف الركن المعنوي في الجرائم الديوانية وربما غيابه تماما في بعض الحالات مما يعني أن الجريمة الديوانية هي جريمة مادية بالأساس[28].

ويعتبر هذا النوع من التجريم مكمل في القانون الديواني للنوع الأول وذلك سعيا من المشرع إلى إيجاد نظام موسع للمسؤولية الجزائية للغير في المجال الديواني، وذلك بالسعي بعدم تمكينه من الاستفادة من حسن نية المتعاملين في المجال التجاري وهو ما يبرر سعي المشرع إلى مطالبة بعض الأشخاص بالفطنة والنباهة حتى لا يقعوا تحت طائلة التتبع الجزائي بناء على لا مبالاتهم وعدم احتياطهم الذي من شأنه أن يفاجئ حسن النية لديهم وهؤلاء الأشخاص ترتبط مهنتهم بالتجارة الدولية ويعتبرون في حقيقة الأمر مساعدين لرجال الديوانة بحيث يجب أن يكونوا على درجة من الوعي بالمخاطر التي تحاط بمهنتهم (المبحث الأول). كما يعتبر المشرع أن كل مسك لبضائع مهربة يمثل قرينة قانونية للمساءلة الجزائية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: المسؤولية الجزائية المبنية على اللامبالاة وعدم الاحتياط
يعتبر المشرع الديواني أن تعاطي بعض المهن سواء كان ذلك بصفة مستمرة (الفقرة الأولى) أو بصفة عرضية أو مؤقتة (الفقرة الثانية) مصدرا للمسؤولية الجزائية للغير.

الفقرة الأولى: المسؤولية الجزائية بناءا على الأنشطة المستمرة

يقصد بالنشاط المستمر هو العمل الذي يمتهنه الشخص عادة والذي يرتبط بالتجارة الدولية وبالعمل الديواني وهؤلاء هم قادة السفن والمراكب وقادة الطائرات والوسيط القمرقي.

أولا: قادة السفن والمراكب وقادة الطائرات

ينص الفصل 365 م.د جديد (264 قديم) على أنه “يعتبر قادة السفن والمراكب وقادة الطائرات مسؤولين عن جميع أشكال السهو والمعلومات غير الصحيحة التي وقع اكتشافها ببيانات الحمولة وبصورة عامة عن كل المخالفات والجنح المرتكبة على متن هذه الوسائل.

غير أن عقوبات السجن المنصوص عليها في هذه المجلة لا تطبق على قادة السفن التجارية أو السفن الحربية ولا على قادة الطائرات العسكرية أو التجارية إلا في صورة ارتكاب خطأ شخصي”.

هذا الفصل يطابق الفصل 393 من المجلة الديوانية الفرنسية كما يرتبط بالفصول 392 و 393 و394 و395 م.د (280 و291 و292 و293 قديم) الذي يرتب قرينة قانونية على التوريد خلسة أو بدون إعلام لكل الأشياء المحجوزة أو الخاضعة لمعلوم باهض عند الدخول أو الموظف عليها معاليم داخلية والمعثور عليها على متن السفن الموجود داخل نطاق المراسي والمواني التجارية والأشياء المتألفة منها الحمولة.

وبالتالي فإن هذه القرينة من المفروض أن تطال أولا قائد السفينة أو الطائرة دون موجب لإثبات مساهمته الشخصية في عملية التهريب باعتبار أن البضاعة المعتبرة مهربة أو موردة بدون إعلام وجدت على متن سفينته أو طائرته. إلا أن الفصل 366 جديد م.د (265 قديم) يعفي قائد السفينة من عقوبة السجن إذ أثبت أنه قام بواجبه كما ينبغي في المراقبة والحراسة أو إذا وقع العثور على مرتكبي جنحة التهريب أو إذا أثبت أن عطبا اضطره لتغيير وجهة الباخرة وكانت هذه الأحداث قد ضمنت بيومية السفينة قبل تفتيشها من قبل مصالح الديوانة وهي الحالة المنصوص عليها بالفقرة 3 من الفصل 395 م.د.

وتأسيسا على ذلك فإن قائد السفينة إذا لم يثبت ما من شأنه أن يعفيه من المسؤولية ومن الوقوع تحت قرينة الإدانة على نحو ما هو مذكور سلفا يعتبر مسؤولا جزائيا عن جرائم تم ارتكابها غيره وتسلط عليه عقوبة السجن كما يمكن التمسك بأحكام الفقرة الثانية من الفصل 364 جديد م.د (263 قديم).

والجدير بالذكر أن قرينة المسؤولية لا تنتهي بإرساء السفينة أو بوصول الطائرة بل تبقى قائمة ما دامت الوسيلة بالميناء البحري أو بالمطار الجوي.

وتنبني المساءلة الجزائية لقادة السفن والمراكب والطائرات فقط على الإخلال بواجب مهني يعتبره المشرع وجها من أوجه الاستفادة من الجريمة وذلك لمساعدة المهربين وهذه أيضا صورة من الصور التي يمتاز بها القانون الديواني عن القانون الجزائي العام بوضع أحكام تجرم أفعال لا تكون في حقيقة الأمر سوى مسؤولية مدنية ناتجة عن خطأ مهني إذ لا يمكن اعتباره شريكا في التهريب وفق أحكام القانون الجزائي العام إلا إذا ثبت توفر الركن القصدي للمشاركة وفق أحكام الفصل 32 م.ج أما في نطاق القانون الديواني فقد أقر المشرع لأصحاب هذه المهنة مسؤولية جزائية ناتجة عن إخلالات مهنية.

ثانيا: الوسيط القمرقي

وهم السماسرة[29] المقبولين لدى إدارة الديوانة والمرخص لهم في ممارسة عمل الوساطة في تصدير أو توريد البضائع. وقد اقتضى الفصل 368 م.د (267 قديم) الذي يقابل الفصل 396 م.د.ف أن “الوسطاء المقبولين لدى الديوانة مسؤولون عن العمليات الديوانية التي يقومون بها. غير أن العقوبات بالسجن المنصوص عليها بهذه المجلة لا تطبق عليهم إلا في صورة الخطأ الشخصي”.

يتعلق الأمر في هذه الصورة بمسؤولية جزائية مبنية على الخطأ المهني لكنها مرتبطة بتقاليد مهنة متينة إذ أن الوسطاء يعتبرون جهازا أساسيا في التجارة الخارجية لذلك فإن القانون يجبر الوسيط القمرقي باتخاذ الحيطة والانتباه عند القيام بأي عمل وساطة في نطاق ما رخص إليه القيام به.

وبالتالي فمن واجبه التفطن إلى كل الإخلالات بالتصاريح الديوانية كعدم مطابقة كمية البضائع المعلنة وبكل الظروف التي تدعو فيها خصائصه المهنية للتدخل في عمليات التصدير والتوريد ذلك أن عمل الوسيط القمرقي لا يتوقف على مجرد إعادة التصاريح التي يتلقاها من حريفه بل عليه التثبت من صحة هذه التصاريح ولتحقيق هذا التثبت يجب عليه اتباع واعتماد الوسائل الضرورية واللازمة التي تمكنه من عدم وقوعه في الخطأ أو المغالطة حتى لا يكون عرضة للمسائلة الجزائية إلا أن السؤال الذي يطرح ما هو المعيار الذي يجب اعتماده في الحيطة والانتباه من طرف الوسيط القمرقي حتى يعفى من عقوبة السجن إذا كانت حيطته ونباهته دون المعيار ؟

يذهب جانب من الفقه إلى اعتبار أن الوسيط القمرقي ليس إلا ناقلا إلى إدارة الديوانة لتصاريح حريفه وهذه التصاريح قد تتعلق بأمور فنية بحتة من شأنها أن تتجاوز خبرته ومعرفته الشخصية وبالتالي فإن الوسيط هو مجرد ناقل لتصريح لا يمكن أن يعتبر مسؤولا عنه إذا ثبت أن هذا التصريح مخالف للواقع وبالتالي فإن المعيار الذي يجب اعتماده عند تحديد الفطنة والانتباه هو معيار الرجل العادي[30].

إلا أن جانب آخر من الفقه يتجه إلى التشدد في تحديد هذا المعيار ويطلب أن يكون معيار الرجل الحريص والفني المختص والذي لا يمكن أن تغيب عنه صور المخالفة في التصاريح وبالتالي فإن عمله يستوجب منه لا فقط الفطنة بل الدراية بموضوع هذه التصاريح[31].

إن هذا الرأي مبالغ فيه ويؤدي إلى تحميل الوسيط القمرقي المسؤولية الجزائية عن تصاريح يصعب إثبات عدم صحتها أو أنه وقع التفطن إلى مخالفتها لأحكام القانون الديواني إلا بعد وصولها إلى الموجه إليه، وفي الواقع فإن هذه المساءلة الجزائية تنبثق عن حرص المشرع على حماية الاقتصاد الوطني وضمان مداخيل الخزينة العامة إذ يبقى الوسيط مسؤولا جزائيا إذا ثبت أنه ارتكب خطأ مهنيا فيكون بذلك معرضا لعقوبة السجن والخطية. وأما إذا لم يثبت خطأه المهني فإنه يبقى مسؤولا جزائيا ولا تسلط عليه سوى الخطايا المالية ويعفى من عقوبة السجن على أن قرينة المسؤولية هذه يمكن أن تطال أيضا الأشخاص الذين يقومون بمهنة بصفة عرضية.

الفقرة الثانية : المسؤولية الجزائية بناء على الأنشطة المؤقتة

تنحصر هذه المهن أساسا في المصرحون والمتعهدون

أولا : المصرحون

أوجب الفصل 83 م.د أن يكون الإعلام المفصل ممضى من طرف المصرح الذي حمله الفصل 367 جديد م.د (266 قديم) مسؤولية عن جميع أشكال السهو والمعلومات غير الصحيحة وغير ذلك من المخالفات الواقع معاينتها بتلك التصاريح ولهم الحق في الرجوع على من كلفهم بالتصريح عند الاقتضاء. كما يعتبر الأشخاص الذين كلفوهم بالتصريح مسؤولين معهم إذا كان التصريح مطابقا للتعليمات التي تلقوها منهم وتطبق عليهم نفس العقوبات[32].

إن مجرد إمضاء المصرح للتصريح المفصل يجعله مسؤولا جزائيا ويخضع لقرينة المسؤولية.

ثانيا : المتعهدون

إن المسؤولية الجزائية للمتعهد تدخل في نطاق المسؤولية عن فعل الغير فالمتعهد يمضي نيابة عن وكيله التزاما بدفع المعاليم القمرقية على البضاعة الموردة، وقد اقتضى الفصل 369 م.د (268 قديم) المطابق للفصل 397 م.د.ف أن “المتعهدون مسؤولون عن عدم الوفاء بتعهداتهم ولهم عند الاقتضاء حق الرجوع على الناقلين وغيرهم من الوكلاء”.

ويضع المشرع بذلك قرينة قانونية على مسؤولية المتعهد وليس له أن يتفصى بأي وجه. وما يمكنه فقط سوى الرجوع على الناقل والوكيل إلا أنه لا يمكن الأخذ بهذه القرينة على إطلاقها إذ بإمكان المتعهد أن يدحض هذه القرينة إذ أثبت أنه كان يستحيل عليه القيام بمهامه في التثبت بناءا على أمر طارئ أو قوة قاهرة كما لو تلفت البضاعة بسبب الفيضانات أو تمت سرقتها.

على أنه يجب في جميع الأحوال أن يثبت ذلك بطريقة قاطعة توفر القوة القاهرة أو صدور حكم على الجاني من أجل السرقة.

ولضمان حق الخزينة العامة في استخلاص هذه المعاليم الموظفة على البضاعة فإن شهادة الإبراء لا تسلم إلا بالنسبة للكمية التي وقع بشأنها الوفاء بالتعهد في الأجل المحدد ؟ أما الخطايا التي يستوجبها القانون لزجر هذه المخالفات فيقع تتبع تنفيذها بمكتب الإصدار سواء ضد المتعهد أو ضد من يضمنهم.

المبحث الثاني : المسؤولية الجزائية المبنية على قرينة المسك
اقتضى الفصل 364 م.د جديد في فقرته الأولى (263 قديم) أنه “يعتبر ماسك البضاعة موضوع الغش مسؤولا عن الغش”[33]. وحتى تقوم القرينة القانونية للمساءلة الجزائية عن المسك يستوجب هذا النص فضلا عن المسك أن تكون البضاعة الممسوكة أو المختلسة مهربة فمجرد المسك يغني عن البحث في أي نوع من المشاركة الخاصة للماسك في عملية التهريب أو الغش.

ويرى جانب من الفقهاء أن هذه القرينة من شأنها أن تمس بقرينة البراءة[34] ومن هنا كان السعي إلى التخفيف من القرينة، فقد اعتبرها فقه القضاء الفرنسي غير قاطعة وبالتالي يمكن دحضها[35] غير أن فقه القضاء التونسي لا يميل إلى ذلك واعتبرها في العديد من القرارات [36] قرينة قاطعة إذا كان الماسك للبضاعة المهربة ليست له صلوحية المسك حسب مقتضيات عمله لأن الفقرة 2 من الفصل 364 م.د أعفت الناقلين العموميين وتابعيهم أو أعوانهم من المسؤولية إذا دلوا إدارة الديوانة عن الفاعلين الحقيقيين وذلك بتقديم بيانات صحيحة وقانونية عمن كلفوهم بالنقل تؤدي إلى تتبعهم.

والأخذ بهذا النص على إطلاقه يجعل الماسك للبضاعة المهربة أو موضوع الغش يكون بقرينة قاطعة مسؤولا عن عملية الغش أو التهريب، وفي عدى من مكنهم المشرع من دحض هذه القرينة تبقى قاطعة.

والمسك يؤخذ في معناه الواسع فهو العلاقة المادية بين الماسك والبضاعة بحيث حسب وضعه المادي تكون تحت تصرفه وتحت رقابته. ويستوي الأمر أن يكون الماسك هو مالك أو حائز أو يجهل وضع هذه البضاعة تحت تصرفه كما لو وضعت بأماكن يملكها دون علمه، فإدارة الديوانة تعفى من إثبات حقيقة العلاقة بين الماسك الفعلي والواقعي والبضاعة الممسوكة. والمسك يفترض من خلال وضع البضاعة وعلاقة مكان وضعها بحائز هذا المكان أو مالكه وفي هذا الإطار يمكن أن نفرق بين المكان الذي أودعت فيه البضاعة وبين ترويج هذه البضاعة.

الفقرة الأولى: مكان وضع البضاعة

يقر فقه القضاء أن المسك يفترض في مواجهة شخص إذا وجدت البضاعة بإحدى الأماكن التابعة له أو التي تحت تصرفه. فيكون المالك أو المتصرف في المكان بقرينة قانونية ماسكا لكل البضاعة التي توجد فيه وهذه القرينة تطبق فقط على الأماكن الخاصة وليست التي تعود ملكيتها للدولة. وأيا كان الوضع القانوني للتصرف في مكان وضع البضاعة يعتبر المتصرف في هذا المكان بقرينة قانونية ماسكا للبضاعة الموجودة به متى كان هذا المكان خاصا بالمتصرف فيه وليس مفتوحا للعموم.

فالبضاعة التي يعثر عليها بمقهى أو بمطعم مفتوح للعموم لا تكون قرينة المسك ضد مالك المقهى أو المطعم أو المتصرف فيه باعتبار أن هذا المكان مفتوح لكل من يريد التردد عليه، وليس من واجب المالك تفتيش حرفائه ويعتبر المكان خاصا حتى ولو كان معدا لممارسة نشاط صناعي أو فلاحي لصاحبه أو للمتصرف فيه. فالبضاعة التي يعثر عليها بحديقة المنزل أو بضيعة فلاحية يعتبر صاحبها ماسكا لها ومسؤولا عن التهريب بقرينة الفصل 364 م.د ولا يمكنه التفصي منها بعدم غلق هذه الأماكن أو أن الضيعة يعسر إحاطتها بسياج. فالقرينة تقوم على خصوصية هذا المكان واعتباره تحت تصرف صاحبه أو حائزه بأي وجه كان والذي عليه مسؤولية حسن مراقبته واتخاذ الإجراءات اللازمة لمراقبته وحمايته من أي فعل من شأنه أن يجعله مستودعا لهذه البضاعة المهربة.

وتقوم القرينة في المسك بالتصرف في المكان الذي تودع فيه البضاعة ويقصد بالتصرف هو ذلك العنصر الأول لحق الملكية ويستوي أن يكون التصرف ناتجا عن المالك أو المستأجر أو الحائز الوقتي أو الحارس، والحيازة ليس من الضروري أن تكون مثبتة بحكم إذا ثبت واقعا. إلا أنه يحصل في بعض الأحيان أن يكون الحائز المتصرف في العقار غير معروف ففي هذه الحالة تكون قرينة المسؤولية بناء على مسك هذه البضاعة ضد المالك حتى ولو لم يكن موجودا في هذا المكان[37]. وهذه القرينة المقامة على المالك ليس لها قوة القرينة المقامة على من يحوز فعلا هذا المكان يمكنه أن يدحض هذه القرينة بإثبات أنه أجر هذا العقار إلى الغير على أن الإثبات في هذه الحالة يستوجب حسب فقه القضاء الفرنسي إثبات الكراء بكتب.

ويطرح الإشكال أيضا حول تحديد مسؤولية من تقوم متى تم العثور على البضاعة موضوع الغش بمنزل تسكنه عائلة بها أفراد بلغوا سن المساءلة الجزائية ؟

استقر فقه القضاء الفرنسي في هذا المجال على أن هذه القرينة تقوم ضد رب العائلة وهو عادة الزوج أو الأب. وهذه القرينة ليست قاطعة بل يمكن لهذا الأخير أن يتفصى منها بإثبات أن غيره من أفراد العائلة الذي تقيم معه في نفس المنزل ماسكا لها أو مهربا ويعتبر هذا الغير مسؤولا عن التهريب.

الفقرة الثانية: ترويج البضاعة

إن تنقل البضاعة وترويجها إذا كانت مهربة تقيم قرينة قانونية على المسك لبضاعة مهربة على الشخص المسير لجولان وتنقل البضاعة. وهذا ما أقرته محكمة التعقيب الفرنسية في قرارها عدد 1089 المؤرخ في 17/11/1955 وقد استقر فقه قضاءها على هذا النسق وبذلك فإن هذه القرينة تقوم سواء على الناقل الخاص أو الناقل العام وتخص أيضا سائق وسيلة النقل سواء كانت شاحنة أو عربة. أما بالنسبة للقاطرات فإن ناظر القطار والمشرف عليه يكون هو المسؤول والمعني بهذه القرينة والتي تشمل كل من يشرف على السجن والتسليم للبضاعة وكل من كانت تحت حراسته هذه البضاعة إذا ثبت أنها مهربة.

لكن الإشكال يثار إذا تدخل في الإشراف على تنقل البضاعة أو حراستها عدة أشخاص إما بطريقة متتابعة أو متزامنة عند نقل البضاعة. كما يمكن أن يكون صاحب البضاعة غير معروف أو بحالة فرار كما هو الحال بالنسبة لمالك العقار، وفي هذه الحالة فإن الناقل أو مالك الوسيلة يتحمل المسؤولية شخصيا عن هذه البضاعة المهربة بوصفه ماسكا لها ما لم يثبت عكس ذلك. كما لو أن وسيلة نقله سرقت منه لنقل البضاعة المهربة[38].

الفقرة الثالثة : الطبيعة القانونية لقرينة المسك

إن ضبط البضاعة لدى ماسكها يطرح إشكالا حول الطبيعة القانونية لقرينة المسك هل هي مطلقة أم بسيطة ؟

إن الإجابة عن هذا الإشكال حسب غالبية الفقهاء لا يمكن أن تتوفر على الوجه المطلوب إلا بالبحث عن مدى توافر إمكانيات الدحض الممنوحة للماسك لهذه القرينة. فقه القضاء في فرنسا وإلى حدود صدور تنقيح 8 جويلية 1987 لم يعط مثالا على إمكانية الدحض لهذه القرينة سواء استنادا على حسن النية في المسك أو الجهل بعملية الغش إلا أن فقه القضاء أقر إمكانية الدحض لهذه القرينة بإثبات القوة القاهرة أو التدخل الأجنبي كما لو أثبت مالك وسيلة النقل أن شاحنته سرقت منه لما ضبطت متولية نقل بضاعة مهربة.

أما في القانون التونسي وقبل إلغاء الفصل 241 م.د[39] فإن القراءة الأولى لهذا النص توجهنا إلى اعتبار أن هذه القرينة مطلقة لأن المشرع لم يستدرك فيها إمكانية الدحض كما فعل في بعض الحالات كما هو الحال بالنسبة لصاحب المنزل أو قائد السفن والمراكب أو الوسطاء القمرقيين بالطرق المذكورة وفي حدودها.

أما إذا لم يسمح المشرع بهذه الإمكانية فإن الأصل فيها الأخذ على إطلاقها وليس للقاضي بصريح عبارة الفقرة 2 الفصل 241 الملغى من مجلة الديوانة أن يقر البراءة بناء على عدم توافر الركن القصدي أو عدم ثبوته إن كان هذا العنصر مفترض وجوده بالقرينة القانونية القاطعة.

إلا أنه وبعد إلغاء هذا الفصل وتعويضه بالفصل 344 م.د جديد الذي أقر مؤسسة ظروف التخفيف[40] وبالتالي سلطة تقديرية للقاضي عند البت في النزاعات الديوانية[41] واعتمادا على أحكام هذا الفصل الجديد فإن تخفيف هذه القرينة جائز وإمكانية الاعتماد على القواعد الخاصة المتعلقة بالقوة القاهرة وبتدخل الغير لإثبات حسن نية الماسك وعدم علمه بمشروع الغش أو التهريب للبضاعة ممكنة خاصة وأن المجلس الدستوري عندما عرض عليه مشروع القانون عدد 34 لسنة 2008 المؤرخ في 2 جوان 2008 المتعلق بإصدار مجلة الديوانة اعتبر هذه القرينة تمثل قرينة إسناد مادي بسيطة وقابلة للدحض وهو ما يضمن للمتهم حق الدفاع عن نفسه[42] كما أن الفصل 63 من الدستور جاء ناصا على أن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم إلا القانون وبالتالي فإن طرح تواجد قرينة البراءة وذلك بالاعتماد على فعل الغير أو القوة القاهرة حائز وممكن[43]

فيقع بذلك نقل عبء الإثبات من جهة الاتهام إلى المتهم الذي عليه أن يثبت براءته وتوفر أحد الصورتين المذكورتين، ذلك أن فقه القضاء لم يمنع ذلك في غير الجرائم الديوانية بل أقر عدم مساءلة مصدر الشيك بدون رصيد والذي لم يقم بالتسوية في الآجال القانونية إذا أثبت أن قوة قاهرة حالت دونه وذلك بأن أثبت أنه تعرض لحادث أفقده وعيه خلال مدة تفوق المدة المقررة لأجل التسوية وبذلك قضت المحكمة بعدم سماع الدعوى ضده وبالتالي لا مانع في اعتقاد جانب كبير من رجال القانون في تونس من تطبيق هذه الإمكانية على القرينة القانونية ولو كانت مطلقة والمقررة بشأن بعض الجرائم الديوانية خاصة إذا علمنا أن الفصل 241 قديم م.د ظل ولفترة طويلة قبل تنقيح 2008 من النصوص المهجورة ذلك أنه لم يلاحظ قيام إدارة الديوانة بالاحتجاج على حكم صادر بعدم سماع الدعوى بهذا الشأن.

الجزء الثاني: المسؤولية المدنية للغير في الجرائم الديوانية
إن المسؤولية المدنية تمتاز بالطابع المدني والذي يحدد العلاقات بين الأطراف خارج نطاق الفعل الجزائي وهي إما أن تبنى على العقد أو على الفعل الشخصي[44]

أو على فعل الغير ورغم أن القانون الديواني سعى إلى تغطية كل مجالات الإخلالات الخاصة بتنقل البضاعة والأموال بصفة عامة وذلك عن طريق تجريم هذه الأفعال وتقسيم هذه الجرائم إلى جنح ومخالفات مع تصنيف لها حسب الدرجات معتمدا في ذلك العديد من المبادئ الاستثنائية التي تخالف في كثير من الأحيان المبادئ العامة والقوانين العادية غايته من وراء ذلك توفير الضمانات الكافية لحماية الاقتصاد بجميع فروعه والمنتوج الوطني من المنافسة غير المشروعة، والضرب على أيدي المهربين ومحاربة تنظيمات الغش في هذا المجال. وامتدت المساءلة الجزائية في هذا المجال إلى جميع الأفعال المتصلة مباشرة بالجريمة (فعل الأصل والمشاركين على معنى أحكام الفصل 32 م.ج) أو بشخص الجاني عن طريق تجريم المشاركة بالاستفادة بجميع أنواعها أو بفرض درجة قصوى من النجاعة والاحتياط في سلوك الشخص سواء في حياته العادية المتعلق بالعقارات التي يملكها أو بالنسبة للأشخاص من حيث مهنهم بفرض واجب الانتباه والحيطة عند ممارستهم لمهنهم تحت طائلة ضربهم بقرينة المسؤولية.

كل ذلك في سبيل ضمان حماية مزدوجة للاقتصاد من جهة وتأمين دخل الخزينة العامة من جهة أخرى إلا أن كل هاته الوسائل لم تكفي المشرع الديواني لتحقيق تلك الغاية عما يجعله يتجه نحو تحقيق هذه الغاية باتباع المساءلة المدنية في الحالات التي تعسر فيها المساءلة الجزائية أو التي لا تكفي فيها المساءلة الجزائية لضمان استخلاص الخطايا.

والمسؤولية المدنية للغير في قانون الديوانة تتعلق أساسا بالاشخاص الذين لا يرتبطون بالجريمة بأية علاقة مباشرة بل لهم علاقة بمرتكب الجريمة ثم من جانب آخر تتضمن هذه المسؤولية المدنية عقابا مدنيا للإخلال بواجب المراقبة الذي يلقى على هذا المسؤول المدني والذي له ارتباط مصلحة ومنفعة بالعمل الذي بموجبه ارتكبت الجريمة وتقوم المسؤولية المدنية في جانب الغير في الجريمة الديوانية إما بموجب الضمان أو بموجب التضامن.

الفصل الأول: المسؤولية المدنية للغير بموجب الضمان
سنتناول بالدرس في مبحث أول صور مسؤولية الضامن لنتعرض في مبحث ثان إلى نطاق هذه المسؤولية.

المبحث الأول: صور مسؤولية الضامن
تقوم المسؤولية المدنية للغير بموجب الضمان في النزاع الديواني في حالتين إما بناء عن علاقة تبعية (الفقرة الأولى) وعن التزام مدني مستقل عن هذه العلاقة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : المسؤولية المدنية للمتبوع عن فعل تابعه

بالنظر إلى طبيعة الجريمة الديوانية فإن علاقة التبعية التي يستوجبها القانون ليست تلك العلاقة التي تربط بين الأب وابنه أو بين المعلم والتلميذ، بل إن القانون الديواني يتحدث عن العلاقة التبعية باعتبارها مبنية على افتراض قانوني لا اعتمادا على أحكام المسؤولية المدنية وفقا للقانون المدني المتعلقة بمسؤولية المتبوع عن أفعال تابعه.

ولتطبيق أحكام هذه المسؤولية فإنها تفترض وجود علاقة تبعية وارتكاب التابع لفعل ضار عند مباشرته لأعماله وهذه الشروط يجب أن تتوفر في تحديد مسؤولية المتبوع وفقا لأحكام القانون الديواني. فإثبات علاقة التبعية لا تثير إشكالا باعتبارها ناتجة عن علاقة عمل بموجب عقد والتي تعطي للعامل صفة التابع فالوسيط القمرقي يعتبر مسؤولا مدنيا عن أخطاء عمله والتي يرتكبونها بمناسبة قيامهم بعملهم عند التصدير والتوريد وكذلك الشأن بالنسبة للناقل عن أفعال سائق الشاحنة وهذا ما قررته محكمة التعقيب الفرنسية واستقرت عليه منذ قرارها الصادر في سبتمبر 1959.

إلا أن تطبيق أحكام القانون الديواني تفترض أيضا بالإضافة إلى ذلك أن يكون التابع قد ارتكب خطأ عند مباشرته لأعماله أو بمناسبة مباشرته لأعماله. ويستوي الأمر أن يكون هذا الخطأ مرتبطا بالعمل أو غير مرتبط بالعمل، العبرة في ذلك أن يكون قد تسبب في ارتكاب جريمة التهريب أو أي مخالفة ديوانية أخرى، وأن تكون مباشرة العمل مكنت أو سهلت ارتكاب الجريمة إلا أن المتبوع لا يمكن أن يتفصى من ذلك إلا “بإثبات أن المخالفة الديوانية ارتكبت بدون علمه أو مخالفة لتعليماته الخاصة بشأن تنفيذ العمل. بحيث يثبت الخطأ الشخصي المباشر لتابعه لأن المتبوع إنما يسأل على عدم نجاعته في مراقبة تابعه.

ولأن القانون يفرض عليه بقرينة قاطعة حسن المراقبة تحت طائلة المسؤولية المدنية عن الأفعال التي يأتيها تابعة شخصيا أو عن عدم صحة التصاريح التي كلف تابعة بتحريرها. لكن السؤال الذي يطرح هل يبقى المتبوع مسؤولا مدنيا عن الجرائم التي يرتكبها تابعة خارج أوقات العمل ولو أن هذه الجرائم ارتبطت بعمله.

فقه القضاء الفرنسي كان يسير على تطبيق هذه القرينة على إطلاقها فيعتبر المتبوع مسؤولا عن الأفعال التي يرتكبها تابعة ولو خارج أوقات العمل متى ثبت أن المخالفات مرتبكة بعمله، إلا أنه ومنذ صدور قرار 20/11/1952 رجعت محكمة التعقيب عن رأيها واعتبرت أن الوسيط القمرقي لا يعتبر مسؤولا مدنيا عن سرقة البضاعة المودعة والتي لم يتم استخلاص معاليمها الديوانية إذ تمت هذه السرقة من طرف العامل خارج أوقات العمل، لأن هذه الجريمة وهي جريمة السرقة لبضاعة مودعة تحت النظام الديواني لا ترتبط أساسا بطبيعة عمل الوسيط القمرقي وأن الوسيط ليست له أي سلطة على عامله خارج أوقات العمل.

إلا أن القانون الديواني التونسي امتاز بخصوصية عن القانون المدني إذ أوجد بعض الحالات التي يتحمل فيها المتبوع المسؤولية المدنية عن أفعال تابعة رغم عدم ارتباط فعل التابع بخصائصه المهنية إذ اقتضى الفصل 375 م.د (275 قديم) أن “مالكي البضائع والمؤجرين والمكلفين غيرهم بشؤونهم مسؤولون مدنيا عن أفعال مستخدميهم في خصوص المعاليم والأداءات والمصادرات والمصاريف”[45].

لكن ما تجدر ملاحظته أن الفصل 375 م.د يقيم قرينة قانونية قاطعة عن المسؤولية المدنية للمتبوع عن أعمال تابعة لا تقبل الدحض وذلك فقط فيما يتعلق بالمعاليم الموظفة على البضاعة المهربة والأداءات المستوجبة عن فعل التهريب ومصادرة البضاعة المهربة وجميع مصاريف التقاضي والتتبع.

ويعتبر فقه القضاء في بلادنا[46] بأن هذه المسؤولية لا يمكن لمن تعنيه أن يتفصى منها بأي وجه من الأوجه وذلك في حدود المعاليم والمصادرات والأداءات دون غيرها. فهي لا تستوجب وجود علاقة بين المخالفة الديوانية التي ارتكبها المستخدم وبين ممارسة هذا الأخير لعمله.

بحيث تقوم المسؤولية وفقا للقرينة القانونية التي أوردها الفصل 375 م.د إذا ثبت أن المستخدم ارتكب مخالفة ديوانية عند مباشرته لعمله أو بمناسبته أو خارج ذلك وتقوم هذه المسؤولية المدنية ويمكن تتبع مالك البضاعة أو مستأجرها على أساس عدم احتياطه في حراسة هذه البضاعة متى ثبت أن التابع يملك أيضا جزءا من حراسته البضاعة، كما لو مكن المشرع مستأجره من مفاتيح المخزن.

ويرى جانب كبير من رجال القانون في تونس[47] أنه لا مانع من التخفيف من حدة هذه القرينة وذلك باتباع منهج فقه القضاء الفرنسي الذي أوجب علاقة سببية بين عمل التابع والجريمة التي ارتكبها. ويمكن للمتبوع دحض هذه القرينة إذا أثبت الخطأ الشخصي لتابعه وعدم وجود علاقة بين الجريمة وعمل التابع.

الفقرة الثانية: المسؤولية المدنية بموجب الوكالة

يعتبر عقد الوكالة من العقود المدنية التي نظمها المشرع التونسي ضمن مجلة الالتزامات والعقود[48] والذي بموجبه يلتزم الطرف الأول وهو الوكيل للقيام بعمل باسم ولحساب الطرف الثاني وهو الموكل. وطالما أن الوكيل يتصرف في حدود وكالته فإن الموكل هو الذي يتحمل المسؤولية المدنية. أما إذا خرج الوكيل عن حدود هذه الوكالة فإن الموكل لا يتحمل المسؤولية إلا إذا أجاز هذا التجاوز تنفيذا لمبدأ الإجازة اللاحقة عن الوكالة السابقة إلا أنه في صورة عدم الإجازة فإن الوكيل يتحمل مسؤوليته المدنية ويكون مسؤولا مباشرة تجاه الغير.

ويلتزم الوكيل بتنفيذ جميع الالتزامات التي كلفه بها الموكل وفقا للصلاحيات التي خولها له. أما في باب المسؤولية الجزائية التي تقوم على أساس مبدأ شخصية الجريمة والعقوبة ولا يمكن لأحد أن يسأل عن فعل جزائي ارتكبه غيره. إلا أن القانون الديواني المتميز بخصوصياته القانونية في هذا المجال اعتبر الموكل مسؤولا مدنيا شأنه شأن صاحب البضاعة أو مستأجرها وذلك فيما يتعلق بالمعاليم والأداءات والمصادرات والمصاريف وهذه المسؤولية المدنية تضمنتها المجلة الديوانية المتميزة بطابعها الجزائي إلا أن السؤال الذي يطرح هل يتبع في استخلاص هذه الأداءات والخطايا الإجراءات الجزائية أم الإجراءات الديوانية الخاصة فيما يتعلق بالحجز والاستقصاء ؟

يبدو من قراءة الفصل 375 م.د أن استخلاص هذه الموجبات تنطبق عليه أحكام إجراءات استخلاص الدين المدني إلا أنه إذا اعتبرنا أن الموكل من الأشخاص الذين يهمهم أمر الغش أو التهريب فإن أحكام الفصل 378 م.د (278 قديم) توحي بغير ذلك.

المبحث الثاني: نطاق مسؤولية الضامن
لقد نص الفصل 376 م.د (276 قديم) على أن “يكون الضامنون ملزمين بنفس الدرجة مع المتعهدين الأصليين بدفع المعاليم والأداءات والخطايا المالية والمبالغ المستحقة على المطالبين بالأداء الذين ضمنوا فيهم”[49].

تجدر الملاحظة أن أحكام هذا الفصل لا تتعلق إلا بالنزاعات الجزائية فيبقى الضامن مسؤولا عن دفع الأداءات والمعاليم والخطايا المالية المحكوم بها ضد المضمون فيهم في حدود تنفيذ هؤلاء (المضمون فيهم) لالتزاماتهم وفق ما يريده الضامن. بحيث تقوم هذه المسؤولية على أساس ضمان المخاطر التي يقبلها الضامن فإن تجاوز المضمون فيه هذا النطاق بأن خالف طلبات الضامن فإنه يعتبر مسؤولا شخصيا عن أفعاله المشكلة لهذا التجاوز.

ويبقى الضامن مسؤولا مدنيا بالنسبة للخطايا والأداءات والمعاليم وما تخلد بذمة المضمون فيه، ومطالبة الضامن تكون على أساس القواعد المدنية، فلا يرجع إليه إلا بعد استيفاء إجراءات الخطية ضد المضمون فيه وتعذر الاستخلاص بحيث لا تستوجب مطالبة الضمان إلا عند تعذر استخلاص المبالغ المذكورة من المضمون فيه.

الفصل الثاني: المسؤولية المدنية للغير بموجب التضامن
إذا كانت الجريمة العادية أو الديوانية يمكن أن يرتكبها شخص واحد فيتحمل بذلك المسؤولية الجزائية وما ينجر عنها من عقوبات جزائية تتمثل في السجن والخطايا والمصاريف فضلا عن التزامه بتعويض المضرة لمن لحقته إلا أن الجريمة ليست أحادية بطبعها بل قد ترتكب من عدة أشخاص لتحقيق غرض واحد وفي هذه الحالة ولئن كان مبدأ شخصية الجريمة وشخصية العقوبة يستوجب إفراد كل واحد من المتهمين بعقاب مستقل عن الفعل الذي ارتكبه فإنه يثار إشكال حول مدى تحمل كل واحد منهم المسؤولية فيما يتعلق بالمصاريف والخطية وجبر المضرة وفي هذه الحالة فقد أقرت المجلة الجزائية في الفصل 21 مسؤولية كل الاشخاص المحكوم عليهم بحكم واحد بموجب نفس الأفعال وذلك على وجه التضامن الوجوبي فيما يتعلق بدفع الخطية والتعويض وقيمة المضرة إلا أن هذا العدد قد يرتبط بالاشتراك في الجريمة سواء بصفة مباشرة في صورة تعدد الفاعلين الأصليين أو بصورة غير مباشرة في حالة المشاركة في الجريمة.

وفي هذه الحالة فإن القانون الجزائي لا يجد حلا لمساءلة الاشخاص خارج النطاق المذكور حتى بوجه الضمان والذي لا يمكن أن يتحقق وفقا للقوانين العادية إلا بناءا على المسؤولية المدنية وعلى عكس ذلك فإن القانون الديواني نجده يمدد من نطاق هذه المسؤولية خارج مجال الفاعل الأصلي والشريك لتشمل المسؤولية عن فعل الغير بوجه التضامن في ضمان استخلاص الأداءات والمصاريف والخطايا والتعويض لذلك فإن التضامن بالنسبة للمطلوبين عند صدور الأحكام التي تتعلق بالإدانة بالنسبة للجرائم الديوانية من شأنه أن يمكن الدولة من حقها في إمكانية مطالبة أي كان من المحكوم عليهم أو المتضامنين بجميع المبالغ المحكوم بها ضد كافة المطلوبين.

ويظهر التضامن كوسيلة مكن من خلالها المشرع الديواني الدولة من أن تطالب المبالغ المستحقة من أي من المحكوم عليهم الذي بإمكانه ماديا دفع المبالغ المستوجبة على أن يكون لهذا الأخير الحق في الرجوع على البقية لاسترجاع ما دفعه في حقهم، وبالتالي فإن التضامن يمكن الدولة من درء مخاطر عسر المحكوم عليهم بها والرجوع على أي من المطلوبين مليء الذمة.

والتضامن بالنسبة للمحكوم عليهم ليس بدعة في القانون الديواني بل أقره المشرع التونسي في الفصل 21 م.ج الذي جاء ناصا على أن “كل الأشخاص المحكوم عليهم بحكم واحد بموجب أفعال شملتها محاكمة متضامنون حتما في دفع الخطية والعوض وقيمة الضرر والمصاريف”. وهذا التضامن الذي عرفه القانون الجزائي هو تضامن إجباري حيث ورد بصريح العبارة “متضامنون حتما”[50].

وجاء الفصل 377 م.د (277 قديم) وفيا لأحكام الفصل 21 م.ج على اعتبار التضامن لجميع المحكوم عليهم فيما يتعلق بالجرائم الديوانية وذلك بالنسبة للخطايا التي تقوم مقام المصادرة أو الخطايا المحكوم بها والمصاريف وذلك فيما عدى المخالفات المبنية على التصرف الشخصي البحت والذي يولد مسؤولية شخصية بحتة والمنصوص عليها بالفقرة الأولى من الفصل 51 م.د والفقرة الأولى من الفصل 57 م.د والتي يعاقب مرتكبها بخطايا فردية لأن المسؤولية في هاتين الحالتين تقوم بناءا على أخطاء وتصرفات شخصية لا تكون بطبيعتها الجريمة الديوانية فيتحملون الخطايا بالتالي وحدهم دون غيرهم.

والعبرة من هذه التفرقة أن المشرع يسعى في جريمة التهريب أو جريمة التوريد بدون إعلام إلى استخلاص الخطايا والمصاريف من تحت يد أي كان من المحكوم عليهم على أن يبقى لهذا الأخير حق الرجوع على بقية المحكوم عليهم معه، وغاية المشرع في ذلك تبقى بالأساس ضمان مداخيل الخزينة العامة من خلال تنفيذ الأحكام المتعلقة بالجرائم الديوانية.

وما يميز هذا الحكم في القانون الديواني أن التضامن يتعلق أساسا بعقوبة مالية واحدة يصرح بها ضد كافة المتهمين أما العقوبات الجزائية سواء كانت الأصلية أو التكميلية فإنها تختلف باختلاف مرتكبيها وخطورة أفعالهم أو مساهمتهم في الجريمة.

وهذه الخصوصية في التضامن تجعل من الحكم الواحد بالخطية المحكوم به ضد كافة المتهمين يخرج في طابع جبر المضرة عن الأفعال المرتكبة بالنسبة للخطايا والخطايا التي تقوم مقام المصادرة فيكون جميع المحكوم عليهم مطلوبين بدفعها على وجه التضامن دون تجزئة ودون تفصيل بحيث يمكن استخلاصها من أي كان منهم والذي له حق الرجوع على البقية.

ويرى جانب كبير من رجال القانون في تونس[51] أن هذا الحكم يجب أخذه على أنه استثناء خاص بالقانون الديواني لا يبرره أي مبدأ قانوني عام من المبادئ التي تقوم عليها القوانين الزجرية إذ لا يرتبط بشخصية الجريمة والعقوبة ولا يفرق في العقاب بين مختلف درجات الفعل المرتكب وغيره من الأفعال الأخرى.

وقد مكن المشرع الديواني المحكمة صلب الفصل 344 من المجلة الجديدة وفي إطار إدخاله آلية ظروف التخفيف إمكانية التصريح بإلغاء الصبغة التضامنية بالنسبة لبعض المحكوم عليهم أو الحد منها فيما يخص العقوبات المالية وذلك في حالات معينة وكلما رأت ما يحمل على الأخذ بظروف التخفيف[52] وبالتالي فإن الخطايا لم يعد يحكم دائما بتضامن المحكوم عليهم في دفعها.

المبحث الأول: شروط التضامن
إن التضامن باعتباره ضمان لاستخلاص العقوبات المالية لا يكون إلا بين الأشخاص المسؤولين عنه وهم المحكوم ضدهم جزائيا بموجب حكم واحد حسب ما اقتضاه الفصل 21 م.ج وما يطابقها بالفصول 376 و377 و378 م.د وهذا التضامن هو تضامن قانوني حتمي يؤخذ من منطوق نص الحكم بالإدانة ولو لم يشر إليه الحكم في عبارته صراحة[53]. ويمكن الرجوع لهذه المبالغ على أي من المحكوم عليهم الذي يكون له حق الرجوع على البقية كل حسب نصيبه.

ويشترط لتحقيق التضامن في هذه المبالغ المحكوم بها وفق أحكام الفصل 21 م.ج و377 م.د أن يتم الحكم على المتهمين بحكم واحد ومن أجل جريمة واحدة أكانوا فاعلين أصليين أو شركاء بحيث يقضى من التضامن الحكم على مجموعة من الأشخاص من أجل جرائم مختلفة ولو شملتها دعوى واحدة ويحصر التضامن في الخطية باعتبارها عقوبة أما المصاريف فإنها تحمل على المتهمين ما لم يكن هناك قائم بالحق الشخصي الذي يتحمل بها وفق أحكام الفصل 192 م.ا.ج والذي يكون له حق الرجوع بها على المحكوم عليهم

وعلى خلاف ذلك فإن القانون الديواني وسع مجال التضامن ليشمل حتى المصاريف. ويقصى من مجال التضامن الخطايا المحكوم بها على الأفعال الشخصية التي يرتكبها أي شخص بصورة مستقلة عن الجريمة الديوانية ولو كان فاعلا أصليا أو مشاركا أو مستفيدا من الجريمة لأن التضامن يقوم أساسا على وحدة ارتكاب الجريمة لا يقوم إلا إذا تعلق الأمر بجريمة تهريب أو توريد أو تصدير بدون إعلام وضد الاشخاص المعنيين وفيما يتعلق بتحقيقها أو الاستفادة منها بحيث أن الأساس في التضامن هو أن يوجه ضد كل شخص ساهم في الجريمة فيكون بذلك دخل ضمن تنظيمات الغش وفق خطة موزعة فيها الأعمال والمسؤوليات لتحقيق غرض موحد وهو إنجاح عملية الغش فوحدة الغرض يؤدي إلى وحدة المساءلة عن الخطايا المالية والخطايا القائمة مقام المصادرة والمصاريف المنجزة بالنسبة لجميع من شارك في إنجاح مشروع الغش سواء كان فاعلا أصليا أو مشاركا أو مستفيدا.

المبحث الثاني: صور التضامن
التضامن في القانون الديواني يمكن أن تقسمه إلى قسمين إثنين وذلك بالنظر إلى المعنيين به ولهذا التقسيم شكلين إثنين صورة الفصل 377 م.د المتعلق بالتضامن بالنسبة للمحكوم عليهم وصورة الفصل 378 م.د التي تتعرض فيها إلى التضامن بالنسبة للمسؤولين المدنيين في الجريمة المحكوم فيها.

الفقرة الأولى: التضامن بالنسبة للمحكوم عليهم

اقتضى الفصل 377 م.د (277 قديم) أن الأحكام الصادرة ضد عدة أشخاص من أجل ارتكاب نفس المخالفة أو الجنحة يكون بالتضامن سواء بالنسبة إلى الخطايا والمصاريف.

وتجدر الملاحظة أولا أن الصياغة الجديدة لهذا الفصل حذفت عبارة منها العبارة التي تضمنها الفصل 277 قديم “مع الخيار في الطلب” وبالتالي أصبح من حيث الشكل الفصل 377 جديد م.د مطابقا في التحرير النص الفرنسي لنفس الفصل إذا كانت هذه العبارة تزيدا من المشرع في الصياغة العربية لهذا الفصل باعتبار أن التضامن يستوعب هذه الإشكالية بحكم القانون سواء وفق أحكام الفصل 21 م.ج أو وفق أحكام الفصل 277 م.د والملاحظة الثانية أنه استوعب التضامن في المصاريف بالرغم من القائم بالدعوى في الجرائم الديوانية ليست النيابة العمومية بل إدارة مختصة لكنها لا تقوم بالتتبع على مسؤوليتها الخاصة وهو ما يبرر إعفاءها من المصاريف المتعلقة بالتقاضي لكونها تقوم مقام النيابة العمومية في هذا المجال في إثارة الدعوى لكن أحكام ممارستها تختلف عن أحكام ممارسة الدعوى العمومية التي تقوم بها النيابة العمومية.

الملاحظة الثالثة تتمثل في أن المشرع استغنى عن التسمية القديمة في الجزء الثالث من المجلة الديوانية الذي كان تحت عنوان التضامن الخياري وكان تقسيم المجلة يوحي بوجود تضامن آخر هو على نقيض مع الأول الذي يمكن أن نسميه تضامنا إجباريا والحال أن تقسيم نفس القانون باللغة التي حرر بها وهي الفرنسية جاءت في باب الجزء الثالث تحت عنوان التضامن دون أي وصف له. ذلك أن الوصف الذي أعطى سابقا للنص العربي يمكن أن يوقع الدارس في خطأ تصور إمكانية وجود تضامن آخر خياري إلى جانب التضامن الإجباري. ولعل مترجمو الصياغة القديمة لهذا النص إلى العربية استعجلوا عبارة الخيار لتأكيد إمكانية الرجوع على وجه التضامن بالمصاريف والخطايا المحكوم بها على أي كان من المحكوم عليهم، وهو أمر من قبيل تحصيل الحاصل في الحكم بالتضامن في المادة الجزائية ولا حاجة إلى الإشارة إليه.

وقد اشترط الفصل 377 م.د[54] لتحقيق هذا التضامن أن يصدر الحكم ضد أكثر من شخص واحد باعتبار أن التضامن يستوجب التعدد في المطلوبين وأن يكون هذا الحكم متعلقا بالتتبع لأجل جريمة ديوانية واحدة. وتأسيسا على ذلك يقصى التضامن إذ تعدد الأشخاص بتعدد الجرائم الديوانية وإن تعددت الجرائم الديوانية فلا يقوم التضامن إلا في صورة تفريد كل جريمة على حده فلا يقع ضم التضامن اعتمادا على أن تعدد الجرائم الديوانية قد يؤدي إلى اختلاف الأشخاص الواقع تتبعهم بين الجريمة والأخرى ولو كان البعض منهم معنيين بنفس الجرائم.

كما يكون التضامن في حدود الخطايا المحكوم بها كعقوبة جزائية أصلية والخطايا التي تقوم مقام المصادرة في صورة الحجز الفعلي أو الصوري وكذلك المصاريف القانونية ولا يقوم التضامن في غير هذه الصور فإن تعلق الأمر بمخالفة جرائم الفصلين 51 فقرة أولى و57 فقرة أولى م.د فإن الخطايا المحكوم بها والتعويضات المدنية عن هذه الجرائم لا تخص إلا مرتكبيها دون غيرهم من الأفراد المحكوم عليهم في الجريمة ذاتها. والمقصود بالمحكوم عليهم الأشخاص الواقع إدانتهم جزائيا من أجل جريمة التهريب أو التصدير أو التوريد بدون إعلام سواء بوصفهم شركاء أو مستفيدين وسواء كانت الاستفادة مباشرة أو غير مباشرة على نحو ما هو مقرر بالفصلين 370 و 371 م.د.

الفقرة الثانية : التضامن بالنسبة للمسؤوليين المدنيين

نص عليه الفصل 378 م.د (278 قديم) [55] وجاء فيه أنه “يكون كل من مالكي البضائع موضوع الغش والقائمين بتوريدها أو تصديرها والمستفيدين من الغش والشركاء وأعضاء تنظيمات الغش المحكوم ضدهم متضامنين فيما بينهم وتتخذ ضدهم إجراءات الجبر بالسجن لخلاص المبالغ المالية المحكوم بها من خطايا ومبالغ تقوم مقام المصادرة والمصاريف المنجزة”.

ما تجدر ملاحظته في هذا شأن هذا الفعل أنه استوعب ازدواجية التضامن بالنسبة لمن يهمهم أمر الغش والمشاركين والمساعدين الذين جرمت أفعالهم الفصول 370 و 371 م.د واعتبرهم الفصل377 من نفس هذه المجلة متضامنين في نفس الحدود فيما يتعلق بالخطايا القائمة مقام المصادرة والخطايا المحكوم بها والمصاريف وهذا تزيد من المشرع وما كان عليه إدماجهم ضمن الفصل 378 طالما أن الفصل 377 تعرض لهم بالحكم فيما يتعلق بالتضامن حتى تتضح إنفراد صورة الفصل 378 بالتضامن بالنسبة لغير المحكوم عليهم جزائيا هم مالكي البضائع والمستأجرين والمكلفين غيرهم بشؤونهم طبق الفصل 378 م.د (مالكي البضائع والقائمين بتوريدها وتصديرها والمستأجرين) وكل من يهمه أمر الغش المذكورين بالفصل 371 م.د أو بالفصل 378 المحكوم عليهم بصفتهم الواردة بالفصل 371 ويكون للمطلوب حق الرجوع على البقية وذلك لتخفيف العبء على ذمته المالية.

فالتضامن بموجب الفصل 378 م.د يمكن أن يشمل المسؤولين مدنيا سواء بصفتهم مالكي البضائع موضوع الغش أو القائمين بالتوريد أو التصدير وفق أحكام الفصل 368 م.د فقرة أولى (الوسطاء القمرقيين) بنفس طريقة المطالبة للأشخاص المحكوم عليهم جزائيا من أجل جريمة التهريب أو التوريد أو التصدير دون إعلام. وقد أورد المشرع بالفصل 378 م.د حكما خاصا بالقانون الديواني يتعلق بالجبر البدني لاستخلاص المبالغ المالية المستحقة.

فإذا كان القانون العادي لا يقر الجبر البدني إلا فيما يتعلق بالخطايا المحكوم بها بوصفها عقوبة أصلية طبق الفصل 5 م.ج ومصاريف الحكم فإنها في القانون الديواني تشمل أيضا الخطايا التي تقوم مقام المصادرة وبذلك نجد أن الفصل 378 م.د قد أقر حكمين استثنائيين عن الأحكام العادية، فالأول يتعلق بتتبع المالكين للبضائع والمكلفين بالتوريد والتصدير والمتعهدين والضامنين والوسطاء المقبولين لدى إدارة الديوانة طبق استخلاص الخطايا والخطايا القائمة مقام المصادرة والمصاريف المحكوم بها والذين يهمهم أمر الغش طبق الفصل 371 م.د وصدرت ضدهم أحكام بالإدانة. أما الاستثناء الثاني فيتعلق بإمكانية جبر مالكي البضائع والقائمين بالتصدير والتوريد والضامنين والمتعهدين والوسطاء طبق الفصل 376 على خلاص هذه الخطايا بواسطة الجبر البدني.

الخــــــاتمة

أمام استخفاف فئة من المجتمع بالقواعد الديوانية باعتبارها ليست محل استهجان عام بل هي جرائم مصطنعة كان رد فعل التشريع الديواني تشديد القانون وجعله صارما وهي صرامة مقصودة الغاية منها صيانة حقوق الخزينة وتتبع أكبر عدد ممكن من المجرمين متجاوزا بذلك العديد من مبادئ القانون الجزائي العام من ذلك توسيع نطاق مسؤولية الغير في الجرائم الديوانية اعتمادا على مفهوم الاستفادة من الجريمة فامتدت بذلك المساءلة الجزائية إلى كل أعمال التهريب بجميع مراحله وأوجهه وكل من يسعى إلى الاستفادة من الجريمة

وذلك بتجريم صور مختلفة لمساهمة الغير في هاته الجرائم بالاستفادة وقد تبنى المشرع الديواني في ذلك أحكاما خاصة قد تصل إلى التعارض مع القانون الجزائي العام كوضع قرائن من شأنها أن تمس بالقرينة الأولى بالحماية وهي قرينة البراءة التي نص عليها الدستور وإذا كانت القرينة القانونية لا يمكن دحضها فإن القرينة الواقعية تجعله أقرب إلى الإدانة من البراءة بما يلزمه إثبات براءته بمجرد تواجده ضمن ظروف معينة ارتبطت بالجريمة، إلا أن كل هاته الوسائل لم تكفي المشرع الديواني لتحقيق غايته المتمثلة في حماية الاقتصاد وتأمين دخل الخزينة العامة وهو ما جعله يتجه نحو تحقيق هذه الغاية باتباع المساءلة المدنية لأشخاص لم تشملهم الإدانة في الجرائم الديوانية وإنما بوصفهم مسؤولين مدنيين في الحالات التي تعسر فيها المساءلة الجزائية أو لا تكفي لضمان استخلاص الخطايا.

وتتضمن هذه المسؤولية المدنية عقابا مدنيا للإخلال بواجب المراقبة الذي يلقى على هذا المسؤول المدني والذي له ارتباط مصلحة ومنفعة بالعمل الذي بموجبه ارتكبت الجريمة.

لكن نزعة التشدد والصرامة التي ميزت مسؤولية الغير في الجرائم الديوانية لا يمكن أن تخفي النقلة النوعية التي عرفها القانون الديواني منذ صدور قانون 2008 إذ تم إدخال العديد من التحسينات من ذلك أنه تم :

إعادة صياغة المجلة الديوانية وذلك باستعمال مصطلحات ومفاهيم أكثر دقة والتخلص من العبارات الهجينة

تحديد نطاق بعض المفاهيم والمصطلحات والتعريفات بما لا يدع شكا للتأويل.
ملائمة المجلة الديوانية مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أبرمتها البلاد التونسية خاصة في إطار المنظمة العالمية للتجارة ومع بلدان الاتحاد الأوروبي
ملائمة التشريع الديواني مع المنظومة التشريعية الوطنية (مع أحكام الدستور والأحكام المدنية والجزائية)

إدخال آلية ظروف التخفيف التي منحت مزيد من الحرية للقضاء للتخفيف من حدة القرائن المعتمدة كأساس لقيام المسؤولية الجزائية والمدنية.
مراجعة نظام العقوبات بالمجلة الديوانية وذلك بتحيين مبالغ الخطايا.