مبدأ المساواة أمام القضاء في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

تعني المساواة أمام القضاء ممارسة جميع مواطني الدولة لحق التقاضي على قدم المساواة أمام المحاكم الواحدة , بلا تمييز بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو العقيدة أو الآراء الشخصية, ولهذا تعد المساواة أمام القضاء الأساس الأول الذي يرتكز عليه حق الإنسان في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، غير أنه لا يتنافى مع مضمون مبدأ المساواة أمام القضاء أن يكون للقاضي الحرية في أن يحكم بالعقوبة الملائمة تبعا لظروف كل قضية.

كما لا يتنافى مع مضمون المبدأ وجود محاكم مختلفة باختلاف أنواع المنازعات أو باختلاف طبيعة الجرائم بشرط ألا تقام تفرقه، أو يوضع تمييز بين أشخاص المتقاضيين.

وهكذا، يتضح أن المساواة أمام القضاء عنصر في مبدأ المساواة أمام القانون وفي ذلك تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية في حكمها الصادر بجلسة 2941989م في القضية رقم 21 لسنة 7 قضائية دستورية :

” مبدأ المساواة لا ينطبق على الحريات والحقوق المنصوص عليها في الدستور فحسب, وإنما أيضا على كافة الحقوق التي يكفلها المشرع للمواطنين, وأن هذه المساواة ليست مساواة حسابية, إذ يملك المشرع بسلطته ووفقا لمقتضيات الصالح العام وضع شروط موضوعية تتحدد بها المراكز القانونية التي يتساوى بها الأفراد أمام القانون بحيث إذا توافرت هذه الشروط في طائفة من هؤلاء الأفراد وجب إعمال المساواة بيتهم لتماثل مراكزهم القانونية ….. “.

ومما هو جدير ذكره أن هناك العديد من النصوص في كافة الأنظمة القضائية التي تكفل حياد القاضي باعتباره المظهر الملموس لمبدأ المساواة أمام القضاء، ومثال ذلك المواد 141 وما بعدها من الباب التاسع من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الفلسطيني رقم 2 لسنة 2001م التي تناولت موضوع: ” عدم صلاحية القضاة وتنحيهم وردهم ” .

مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يتعارض مع مضمون مبدأ المساواة أمام القضاء أن توجد أحيانا محاكم خاصة لطوائف معينة من المواطنين إذا دعت الضرورة لذلك بشرط أن لا يكون وجود مثل هذا النوع من المحاكم سببا في تمييز فئة من الأفراد على غيرها أو في انتقاص حقوق طائفة من الناس بالمقارنة بطائفة أخرى، كما هو الشأن بالنسبة لمحاكم الأحداث التي تختص بمحاكمة الأحداث الجانحين عما اقترفوه من جرائم.

غير أن الأمر محل خلاف بخصوص المحاكم العسكرية ومحاكم امن الدولة سواء كانت في ثوب مدني أو عسكري انقسموا بين رأيين:

الأول: أنها تعتبر نوع من المحاكم الجنائية الخاصة في نطاق القضاء الطبيعي وبالتالي لا تمثل إخلالا بمبدأ المساواة أمام القضاء لأنها تجد سندها في الدستور أو القانون الأساسي ومثال ذلك المادة 101 من القانون الأساسي الفلسطيني.

رأي ثاني: يرى أنها محاكم استثنائية وأنها تمثل إخلالا خطيرا بمبدأ المساواة بخصوص المحاكم العسكرية فقط أمام القضاء وأنها لا تعدو من قبيل القضاء الطبيعي.

غير أني أؤيد الرأي الأول ولكن بشروط أن لا تختص المحاكم العسكرية بمحاكمة المدنيين كقاعدة عامة, وأن تقلص صلاحيتها في نطاق الشأن العسكري بأن تكون الجريمة المرتكبة أثناء أو بمناسبة الوظيفة العسكرية ومع توفير ضمانات الدفاع , أما بخصوص محاكم أمن الدولة فيجب إلغائها في أي نظام قضائي بشكل كامل لما تمثله من انتهاك لمبدأ اللجوء إلى القاضي الطبيعي, والإخلال الجسيم لمبدأ المساواة.

وحسنا فعلت بعض الأنظمة من إلغاء هذا النوع من المحاكم, كما أنه يحسب للنظام السياسي الفلسطيني إلغاء هذا النوع من المحاكم بل وإعادة النظر في الأحكام الصادرة عن تلك المحاكم مما يعني سحب الشرعية عنها.

هذا وقد أخذت دول العالم الثالث بنظام محاكم امن الدولة من فرنسا التي قامت بإلغائها في 4 أغسطس 1981م على أثر الاعتراض والسخط الشعبي ودعم الأحزاب السياسية لتلك الاعتراضات.

وما نقوله يجد سنده في الأنظمة القضائية المقارنة في تقليص اختصاص المحاكم العسكرية وقصر ولايته على العسكريين وفي الجرائم العسكرية البحتة وعدم اختصاصه بتاتا بمحاكمة المدنيين, بل أن بعض تلك الأنظمة ذهبت إلى إلغاء المحاكم العسكرية وإعطاء هذا الدور للقضاء الأصيل: القضاء النظامي ضمانا حقيقيا لمبدأ المساواة.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية استقر النظام الدستوري والقانوني على عدم امتداد القانون العسكري أو ولاية المحاكم العسكرية على المدنيين.

فالقانون العام هو صاحب السيادة والسمو والمحاكم العادية هي صاحبة الولاية العامة والاختصاص الأصيل وينحصر اختصاص النظام القضائي العسكري في أمريكا على محاكمة العسكريين الذين يعملون في خدمة الجيش وقت إجراء المحاكمة بل أكثر من ذلك بأن أنشئت محكمة استئناف عسكرية تتكون من ثلاثة قضاه مدنيين للنظر في الطعون المقدمة في الأحكام العسكرية, ونجد هذا المسلك لدى المشرع الأردني حيث تنظر الطعون في أحكام المحاكم العسكرية لدى محكمة التمييز.

وفي انجلترا لا يجيز القانون الانجليزي امتداد ولاية المحاكم العسكرية على المدنيين في الظروف العادية وغير العادية ويكون تطبيق القانون العسكري في حالة الحرب مرهونا بعدم قدرة المحاكم المدنية على مباشرة أعمالها.

وفي فرنسا صدر قانون القضاء العسكري رقم 65 542 الصادر في 8 يوليو 1965م وتعديله بالقانون الصادر في 21 يوليو 1982م وباستقراء هذا القانون يمكن القول بأن أصوله العامة وأحكامه الأساسية تتلخص في أن المحاكم العسكرية على اختلاف درجاتها يرأسها قاض مدني, وأن المحاكم العسكرية تختص بالنظر في الجرائم العسكرية البحتة التي يرتكبها العسكريين وحدهم, وعدم اختلاف إجراءات الدعوى العسكرية عن إجراءات الدعوى العادية إلا عند الضرورة.

أخيرا فقد أكد المشرع الفرنسي على استمرار خضوع الأحكام الصادرة عن المحاكم العسكرية لرقابة محكمة النقض سواء صدرت هذه الأحكام في زمن السلم أو الحرب وهذا بالطبع يحقق وحدة القضاء الجنائي الفرنسي.

وقد سار على ذات النهج دستور جمهورية ألمانيا الاتحادية الصادر عام 1949م والمعدل في 19 مارس 1956م , حيث قيدت المادة 96 منه نطاق اختصاص المحاكم العسكرية في الجرائم العسكرية البحتة وأن المحاكم العسكرية تتبع وزير العدل, وخاضعة لرقابة المحكمة الاتحادية العليا.

وكذلك في ايطاليا حيث نصت المادة 103 من الدستور الصادر في 27 ديسمبر 1947م على أن : للمحاكم العسكرية في وقت الحرب اختصاص يحدده القانون, ولا يكون لها اختصاص وقت السلم إلا في الجرائم العسكرية التي يرتكبها أعضاء القوات المسلحة ” وبذلك يكون قد ضيق من نطاق اختصاص المحاكم العسكرية.

كما تضمنت دساتير كل من دولة أفغانستان الصادر في 19 سبتمبر 1964م (المادة 98 منه) وجمهورية الصومال الصادر في أول يوليو 1960م (المادة 95 من الدستورم) ودولة الكويت الصادر في 11 نوفمبر 1962م (المادة 164 من دستور) , نصوصا تحظر امتداد ولاية المحاكم العسكرية على المدنيين وتقصر نطاق اختصاصها على الجرائم العسكرية التي تقع من أفراد القوات المسلحة وعلى حالة الحرب.

وبالطبع مر مبدأ المساواة أمام القضاء بتطور تاريخي هام.

ففي ظل الأنظمة القديمة حيث كان وجود النظام الملكي ورسوخ نظام الإقطاع وما أدى إليه من انقسام المجتمعات إلى طبقات اجتماعية متفاوتة أكبر الأثر في انهيار المساواة أمام القضاء وبذلك تعددت المحاكم بتعدد الطبقات للفصل في منازعات كل طبقة من هذه الطبقات على حدة.

وفي الدول الواقعة تحت الاحتلال كانت هناك المحاكم المختلطة وهناك امتياز خاص للأجانب على المواطنين وكان هذا واقع في الدول العربية أو غيرها على حد السواء.

ويحسب للثورة الفرنسية إلغائها للامتيازات القضائية وبهذا أصبح لكل المواطنين الحق دون تمييز في الالتجاء إلى القضاء وفقا لذات الإجراءات ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أن مبدأ المساواة قد احتل مكانة بارزة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الصادر في عام 1789م أو في دساتير الثورة الفرنسية وهذا كان له الأثر البالغ في اعتناق كافة الأنظمة الأخرى لهذه المبادئ الإنسانية, ولذا يعد مبدأ المساواة أمام القضاء من أهم المبادئ التي يؤسس عليها النظام القضائي الفلسطيني ونظرا لأهميته أمام القانون والقضاء حرص القانون الأساسي الفلسطيني لسنة 2003م وتعديلاته على تأكيد هذا المبدأ, حيث نص في المادة 9 على أن ” الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة “.

والمادة 30 / 1 على أن: ” التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة, ولكل فلسطيني حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي, وينظم القانون إجراءات التقاضي بما يضمن سرعة الفصل في القضايا”.

كذلك فعل المشرع المصري على كفالة هذا المبدأ في المساواة 40 و 68 من الدستور الدائم الصادر في 11 سبتمبر عام 1971م, وأيضا المشرع الأردني في المادة 6/1 من الدستور الأردني لسنة 1952م وتعديلاته.

هذا ويترتب على مبدأ المساواة أمام القضاء ثلاثة نتائج هامة الأولى:

تتمثل في وحدة القضاء: بمعنى أن يكون التقاضي بالنسبة لجميع أفراد المجتمع وطبقاته الاجتماعية, ولكن ليس مما يتنافى مع وحدة القضاء بالمعنى المذكور وجود القضاء المزدوج أي وجود قضاء إداري بجوار القضاء العادي, يختص الأول بالفصل في المنازعات الإدارية , ويفصل الثاني في المسائل المدنية والجزائية.

والنتيجة الثانية: تتمثل في ضرورة المساواة في القواعد الموضوعية والإجرائية التي يخضع لها المتقاضون: ويقصد بالمساواة من الناحية الموضوعية أن تكون القواعد الموضوعية التي تتضمنها القوانين التي تطبق على المتقاضين فيما ينشأ بينهم من منازعات واحدة, أما المساواة من الناحية الإجرائية فيقصد بها أن تكون القواعد الإجرائية التي تطبق على المتقاضين واحدة سواء من حيث إجراءات رفع الدعوى أو من حيث استدعاء الخصوم إلى مجلس القضاء أو في الاستماع إليهم سواء من المدعي أو المدعى عليه .

والنتيجة الثالثة: تتمثل في مجانية القضاء: بمعنى أن القضاة لا يتقاضون أجرا من الخصوم مقابل الفصل في منازعاتهم، وإنما يؤدون وظائفهم نظير مرتبات تدفعها لهم الدولة شأنهم شأن سائر موظفي الدولة, ولكن الدول الحديثة تفرض في مباشرة إجراءات التقاضي رسوما محددة وان كان البعض وبحق يرى بأن فرض الرسوم قد تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق المساواة الحقيقية بين المتقاضين وذلك بسبب عدم قدرة البعض على دفع هذه الرسوم بسبب أنها قد تكون فوق طاقتهم المادية.

لذلك نظمت معظم الأنظمة القضائية وسائل تقديم المساعدات القضائية إلى المتقاضين المحتاجين ومثال ذلك ما ورد في قانون الرسوم الفلسطيني.

ومبدأ المساواة أمام القضاء في الشريعة الإسلامية من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام القضاء في الإسلام, فهي لازمة بنصوص القران الكريم والسنة وأعمال السلف, حيث لا يعرف النظام الإسلامي تفرقة بين الخصوم بسبب اختلاف مكانتهم.

كما أن النظام القضائي الإسلامي لا يميز بين الناس عند الحكم بينهم بحسب الأصل أو الجنس أو العقيدة.

يقول الله تبارك وتعالى : ” إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكون للخائنين خصيما ” الآية 105 من سورة النساء.

وفي آية أخرى: ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ” الآية رقم 58 من سورة النساء.

وقد طبق الرسول الكريم وأصحابه رضوان الله عليهم هذا المبدأ فيما عرض عليهم من خصومات.

فالرسول (ص) قال لأسامة بن زيد عندما جاءه يشفع لامرأة من بني مخزوم في عدم تطبيق حد السرقة عليها مراعاة لنسبها وحسبها، أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة, إنما هلك من قلبكم كان إذا سرق فيها الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد, والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.

وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر في كتابه إلى أبي موسى الأشعري قاضيه بالكوفة – الذي عرف برسالة القضاء – ” آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك”.

وقد أكد علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه على مبدأ المساواة بقوله: اجعل الناس عندكم في الحق سواء قريبهم كبعيدهم, وبعيدهم كقريبهم، وإياكم والرشا والحكم بالهوى وأن تأخذوا الناس عند الغضب فقوموا بالحق ولو ساعة من نهار“.

فالنظام الإسلامي القضائي قد عرف وطبق مبدأ وحدة القضاء, فالمحكمة الواحدة يحاكم أمامها الجميع, والقضاة هم نفس القضاة, فلا توجد تفرقة بسبب الأصل أو الجنس أو الطبقة أو اللون أو الثروة.

كما لا يعرف النظام الإسلامي نظام المحاكم الخاصة بطبقة أو بفئة معينة من الناس, ولا تتمتع طبقة اجتماعية ما بميزة خاصة, وتحرم منها الطبقات الأخرى, ويطبق مبدأ المساواة على الكافة حتى ولو كانوا من غير المسلمين.

ويقول الرسول الكريم (ص): ” لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.

والقضاء في الإسلام قضاء مجاني يتحمل بيت المال فيه رزق القضاة وهو الأصل العام الذي ساد في النظام الإسلامي.

وبذلك يتضح أن الإسلام ينظر إلى القضاء كأساس للعدل.

وخلاصة العقد : يتضح مدى أهمية مبدأ المساواة أمام القضاء في إرساء قواعد العدالة, وإن كانت هناك بعض الأنظمة في القانون الوضعي تهدر هذا المبدأ, مما يوجب إلغائها والعودة إلى الأصل المتمثل في لجوء المواطن إلى قاضيه الطبيعي بما يحقق المساواة الحقيقية أمام المتقاضين في وحدة القضاء وعدم الافتئات عليه.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت