بحث قانوني ودراسة عن المقر في القانون التونسي

دراسة من إعداد أ/حسن عز الدين دياب

تقديم:

الشخصية القانونية سواء كانت شخص طبيعي أو شخص معنوي فهي تكتسب الحقوق وتتحمل الالتزامات (1) من خلال مكان يفترض أنها تتواجد فيه والذي يسمى بالمقر ، أي المكان الذي يقيم فيه شخص بصفة فعلية بنية الاستقرار به والقيام بمصالحه منه . وإذ اهتم المشرع التونسي بتنظيم أحكام المقر من خلال مجلة المرافعات المدنية سنة 1910 الا أنه لم يعرف ولم يحدد مفهوم المقر بشكل جلي ، ثم في مرحلة لاحقة صدرت مجلة المرافعات المدنية والتجارية بموجب القانون عدد 130 لسنة 1959 المؤرخ في 05 أكتوبر 1959 فوضع المشرع من خلال الفصل 7 م م م ت صورة جديدة للمقر تمثلت في ” النظير يسلم إلى الشخص نفسه أو في مقره الاصلي أو في مقره المختار ان كان قد اختار مقرا ، ويبدو من الواضح أيضا أن هذا الفصل لم يعط تعريفا للمقر انما اكتفى بتعداد صوره وهو أمر دفع بالمشرع إلى التدخل مجددا لاقرار تعريف لمفهوم المقر من خلال القانون عدد 34 المؤرخ في 03/04/1980 بحيث جاء بالفصل 7 م م م ت أن ” مقر الشخص هو المكان الذي يقيم فيه عادة ، والمكان الذي يباشر فيه الشخص مهنته أو تجارته يعتبر مقرا خاصا بالنسبة للمعاملات المتعلقة بالنشاط المذكور ، والمقر المختار هو المكان الذي يعينه الاتفاق أو القانون لتنفيذ إلتزام أو القيام بعمل قضائي “.وتبرز أهمية المقر خاصة على مستوى المعاملات المدنية والتجارية باعتبارها المحور الاساسي في نشاط الشخصية القانونية ، ولذا كان من المحتم أن يقع تحديد إجراءات الاعلام بين الاطراف لذلك وقع تعريف المقر من خلال مجلة المرافعات المدنية والتجارية (2) باعتبارها الاطار التشريعي لتنظيم النزاعاتالقضائية الناتجة عن المعاملات بين الافراد التي تتطلب من أفراد الدعوى اتباع خطوات اجرائية شكلية في اطار النزاع المدني ومنها تحديد مقر المطلوب سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا حتى يمكن تحديد المحكمة المختصة ترابيا ومن أجل اتمام اجراءات التبليغ (3) وأمام اعتبار أن المقر يمثل حيزا مكانيا فقد أخذ مكانة هامة من أجل تنظيم النزاع المدني أو التجاري بوضعه في م م م ت وكذلك التعرض له في عديد النصوص القانونية (4) باعتباره مكان معلوم يمكن من الاتصال مع الغير ، فهو حيز مكاني يمارس فيه الشخص حقوقه وينفذ من خلاله التزاماته في اطار المعاملات المدنية لذلك فان الاشكالية تتمثل في كيفية تنظيم قواعد المقر في الاجراءات المدنية والتجارية .وقد كان اهتمام المشرع بتنظيم قواعد المقر كان جليا من خلال الاضافات التي جاءت بالفصل 7 م م م ت والتي حددت مبدئيا المقر ( مبحث أول ) وذلك لما له من أهمية اجرائية أكيدة في ظل الاحكام المدنية الاجرائية المتشددة ( مبحث ثان ) .

المبحث الاول : تحديد المقر :

تعرض الفصل 7 م م م ت إلى تعريف المقر وعدد صوره بهدف تحديده بمكان معين ومعلوم يمارس من خلاله الواجبات ويتسلم فيه الحقوق سواء كان ذلك بالنسبة للشخص الطبيعي ( الفقرة الاولى ) أو عند الشخص المعنوي ( الفقرة الثانية ) .

الفقرة الاولى : مقر الشخص الطبيعي :

تقديم:2

المقر الاصلي للشخص هو المكان الذي يقيم فيه عادة (5) حسب أحكام الفصل 7 م م م ت ، وهذا ما يأخذ به القانون بالنسبة للشخص الطبيعي الذي يمارس نشاطه وعلاقاته وأعماله من خلاله حسب ما تختاره إرادة الشخص المحاطة بالحماية القانونية كحق دستوري ( الفصل 10 دستور ) ، إلا أنه قد يقع إلزام بعض الاشخاص باتخاذ مقر محدد ، فمن ناحية أولى يحدد الشخص بارادته المكان الذي يصفه القانون بالمقر وهذا ما تضمنه التنقيح الذي جاء به القانون عدد 34 المؤرخ في 03/04/1980 حيث تبنى المشرع نظرية مقر الاقامة من خلال ما جاء بالفصل 7 م م م ت بذكره لعبارتي – يقيم – عادة – وهي التي تعني الاقامة الفعلية المعتادة التي تمثل اساس فكرة المقر الحقيقي للاقامة عند المشرع التونسي (6) وهذا ما ذهبت اليه محكمة التعقيب (7) التي اعتبرت أن ” المقر الاصلي هو المقر الذي استقر فيه الزوجان دون اعتبار للتنقل إلى مكان آخر تكون فيه مدة الاقامة رهينة انتهاء مدة التقاعد ” وبالتالي فان الاقامة المعتادة توجب توفر معنى الثبات والاستقرار أي أن يعتاد الشخص الاقامة في مكان محدد اتخذته ارادته كمقر حقيقي له متلازمة مع مدة زمنية معقولة توفر معنى الاستقرار والدوام والتي تبقى خاضعة لاجتهاد حكام الموضوع ، والتي تختلف عن الاقامة العرضية التي لا يتوفر معها الاعتياد والاستقرار كالاقامة في نزل لقضاء العطلة ( ورغم اعتبار المقر الحقيقي الاختياري نتاج اقامة فعلية لكنها لا تعني الديمومة بذات المكان أي أن امكانية التغيير تبقى قائمة طالما لم تتعارض مع حقوق الغير حسن النية ومن ذلك ما جاء بالفصل 385 م ح ع الذي اعتبر أن ” لكل من وقع باسمه ترسيم أو لنائبيه أن يغيروا المقر الذي اختاروه بشرط اختيار مقر آخر بالبلاد التونسية ” . وكذلك ما جاء بالفصل 4 من القانون عدد 27 لسنة 1968 المنقح بموجب أحكام القانون عدد 27 لسنة 1993 المؤرخ في 22/03/1993 المتعلق ببطاقة التعريف الوطنية والذي جاء فيه أنه “يتعين على صاحبها طلب تعويضها في أجل ثلاثين يوما وذلك في الحالات التالية : …… عند تغيير محل الاقامة لذلك فقد أقرت محكمة التعقيب أن المقر المضمن ببطاقة التعريف الوطنية يعد مقرا أصليا للشخص طالما لم يثبت خلاف ذلك (9) ، وفي نفس السياق ما جاء أيضا في أحكام الفصل 367 م م م ت الذي ينظم فرضية تغيير المقر لكنها تبقى صورة خاصة تهم تغيير محل اقامة الدائن العاقل أو المتداخل حال اجراء عقلة توقيفية على الاجور . لكن تبقى هذه النصوص حلولا استثنائية خاصة لاشكالية تغيير المقر الحقيقي الاختياري ولكنها لم تصنع مبدأ عاما ينظمه مثل ما فعل المشرع الفرنسي الذي اعتبر بالفصل 103 م م ف أن ” تغيير المقر يتم عند تحويل الاقامة الفعلية إلى مكان آخر مع قيام النية لتحديده بمكان الاعمال الرئيسي ” أي أنه لا بد من توفر شرطين للاقرار بعملية التغيير وهما الاقامة الفعلية بمكان آخر أي قيام الركن المادي في عملية التغيير وهذا يشكل المعيار الموضوعي . وكذلك النية في تغيير المقر أي قيام الركن المعنوي الذي يشكل المعيار الشخصي .ومن ناحية اخرى قد لا يحدد الشخص مقره بارادته انما يكون مقره الزاميا بموجب سلطة القانون الذي يفرضه عليهم دون اختيارهم (10) من ذلك نجد أن الشخص ناقص الاهلية أو عديمها هو كل من لم يتم سن الرشد المدني وفق أحكام الفصل 7 من م ا ع ليعتبر بذلك قاصر (11) يتم ضبط مقره بربطه بحاله التبعية التي تحكم معاملاته القانونية لانه يدير شؤونه بواسطة من ينوبه ليصبح نتيجة ذلك مقره القانوني محددا بمقر ممثله ، فمقر القاصر الالزامي يضبط مكانيا بمقر وليه الشرعي أو مقر الحاضن في صورة انفصام العلاقة الزوجية بالطلاق أو الموت ، ومن ذلك أيضا يلزم القانون بعض الاعوان العموميين بحكم وظيفتهم المكتسبة باتخاذ مقر اقامتهم بمكان معين ، مثل أعوان قوات الامن الوطني (12) الملزمون بالاقامة بالمكان الذي يباشرون فيه عملهم ، وأيضا المقر القانوني للعسكري المباشر يكون بمقر الحامية (13) وأيضا القضاة ملزمون بالاقامة بمركز المحكمة التابعين لها لكن يمكن منح ترخيص فردي بما يخالف ذلك حسب الفصل 21 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14/07/1967 . وقد يكون المقر بالنسبة للشخص مقرا مهنيا اعتدادا بوجه نشاطه ، فالمقر المهني هو مكان مباشرة الشخص لمهنته كالخبراء والصيادلة والاطباء والمحامين ورجال الاعمال أو مباشرة الشخص لتجارته (14) . وهنا يعتد بالمقر المهني اذا تعلق العمل الاجرائي بمعاملة تهم النشاط المهني أو التجاري .أما المقر المختار فهو محل يقع اختياره اما باتفاق الاطراف أو بحكم القانون من أجل تنفيذ تصرف قانوني من أجل القيام بعمل قضائي وذلك حسب أحكام الفصل 7 م م م ت ، فتعيين المقر المختار باتفاق الاطراف يكون صادرا من شخص المتعاقد ذاته أو من وكيله ، أو يتدخل القانون (15) لتحديد المقر المختار الذي لا يقتصر على الشخص الطبيعي بل يمتد أيضا للشخص المعنوي

الفقرة الثانية : مقر الشخص المعنوي

يتمتع الشخص المعنوي مبدئيا بأهم الحقوق الممنوحة للشخص الطبيعي والمتمثلة في الاسم والجنسية والمقر ، وتنقسم الذوات المعنوية إلى ذوات معنوية خاصة كالشركات والجمعيات والنقابات … وذوات معنوية عامة كالدولة والولايات والبلديات … وقد حدد الفصل 11 م م م ت في فقرته الاولى والمنقح بالقانون عدد 82 لسنة 2002 المؤرخ في 03/08/2002 مقر الدولة بمقر مكاتب المكلف العام بنزاعات الدولة (16) ثم حدد نفس الفصل بالفقرة الثالثة مقر بقية الذوات المعنوية الاخرى اذ جاء فيه :” ان الاعلام الواقع لسائر الذوات المعنوية الاخرى يقع ابلاغها لمكتبها بالمكان الذي استقرت فيه بصفة رسمية أو المكتب أو الفرع الذي يهمه الامر”. وبالتالي تتميز أحكام الفصل 11 م م م ت بالشمولية لان عباراته جاءت مطلقة دون تحديد لصنف معين لانها فرضت واجب الاعلام لسائر الذوات المعنوية دون تخصيص لها ، رغم أن الفصل 10 م ش ت عرف المقر الاجتماعي للشركة التجارية بأنه ” يقع مقر الشركة بمركزها الرئيسي ويكون هذا المركز كائنا بالمحل الذي به قيام الادارة الفعلية للشركة ” وبالتالي فان المركز الرئيسي ليس بالضرورة هو مكان الاستغلال الفعلي بل المكان الذي يمارس فيه النشاط القانوني والاداري والمالي أي المكان الذي تعمل فيه أجهزة الادارة وتتمركز فيه أهم مصالح الشركة ، فهو المكان الذي تنعقد فيه الجلسات العامة ( 277 م ش ت ) وهو قد يستقل عن مركز استغلالها حيث تجارتها وصناعتها . ويجب أن يكون هذا مرتبطا بآلية الاشهار بحيث أن مقر الشركة الجديد لا يمكن اعتباره قانونيا الا متى وقع اشهاره طبق القانون (17) ثم يجب أن يكون المقر الاجتماعي فعليا وليس صوريا مثل المقر المحدد بالقانون التأسيسي الذي لا يتطابق مع مركز الادارة الفعلية للشركة ، واذا ما ثبت أن المقر صوري فانه لا يحتج به ازاء الغير حسن النية الذي يتمتع بامكانية القيام بأعماله الاجرائية سواء بالمقر الاجتماعي الحقيقي أو الصوري ، بحيث يبقى لقضاة الاصل اعمال السلطة التقديرية لتكييف المقر الاجتماعي للشركة حتى يقع تجنب التحيل الفعلي من خلال المقر الصوري ، ورغم ذلك فان محكمة التعقيب اعتبرت في قرارها أنه ” طالما كان من الثابت أن عقد تأسيس الطاعنة قد نص على أن مقرها الاجتماعي يكون بمجاز الباب وقد تم ايداعه بالمحكمة الابتدائية بباجة فان هذا مما يقطع في أن مركزها يقع هناك (1 لكن هذا يتعارض مع روح الفصل 10 م ش ت الذي يعتبر أن مقر الشركة يكون بمركز الادارة الفعلية وذلك بغض النظر عن المقر التاسيسي الذي يعد بيان وجوبي يضمن بالعقد التأسيسي للشركة والذي يرتبط بالشخصية القانونية للشركة حتى اختتام أعمال التصفية ( الفصل 29 م ش ت) فانحلال الشركة لا يعني انقضاء مقرها ، فيبقى المقر الاجتماعي قائما حتى اتمام أعمال التصفية لانه يمثل الاطار المكاني القانوني الذي تتم فيه أعمال التبليغ والتنفيذ ، ويمكن لهذا المقر أن يتغير حسب شروط شكلية لحماية مصلحة الشركاء وضمانا لحقوق الغير حسن النية ، فتغيير المقر الاجتماعي للشركة التجارية يقتضي تغيير العقد التأسيسي باعتبار أن تعيين المقر هو تنصيص وجوبي حسب أحكام الفصل ç من م ش ت والذي يختلف باختلاف نوع الشركة من ذلك أن تغيير المقر الاجتماعي للشركة خفية الاسم ( الفصل 230 م ش ت ) لا يتم الا بموجب قرار صادر عن مجلس المراقبة ويصادق عليه في فترة لاحقة في الجلسة العامة الموالية ، وحماية للغير حسن النية وضمانا لاستقرار المعاملات الاجرائية أوجب المشرع اشهار تغيير المقر الاجتماعي حسب أحكام الفصل 20 من القانون عدد 44 لسنة 1995 المؤرخ في 02/05/1995 المتعلق بالسجل التجاري ، ولذلك نجد أن تحديد المقر فيه غاية هامة من أجل القيام بالاجراءات اللازمة .

المبحث الثاني : أهمية المقر :

تحديد المقر فيه أهمية وظيفية كمكان يرتبط به الشخص ويتواجد فيه لممارسة حقوقه واتمام واجباته وهو المكان الذي تقع فيه ممارسة اجراءات التبليغ ( الفقرة الاولى ) ومنه أيضا يتم تحديد الاختصاص الترابي ( الفقرة الثانية ) .

الفقرة الاولى : أهمية المقر في عملية التبليغ

التبليغ هو اعلام بأمر أو واقعة إلى شخص معين عبر المقر سواء كان بصفة أصلية عبر التبليغ للمطلوب بمقره أو التبليغ بمقر المطلوب لغير شخصه ، حيث يتم التبليغ حسب أحكام مجلة المرافعات المدنية والتجارية اما عبر الطريقة الادارية على يد موظف رسمي أو عن طريق جهاز خاص يتمثل في المؤسسة القانونية المعروفة بعدل التنفيذ ، حيث ينصب التبليغ على مجمل الاوراق سواء كانت سابقة للخصومة كالانذار والاستدعاء أو اللاحقة لها كاعلان الحكم أو الطعن وسواء كان موضوعها عملا قضائيا أي تتخذ أثناء خصومة منشورة أمام القضاء كالاستدعاءات والتقارير والاحكام والطعون أو الغير قضائية والتي تتخذ بهدف حماية الحقوق وتفادي النزاعات وذلك خارج النزاع القضائي كالتنبيه والانذارات (19) ويلعب التبليغ دورا اساسيا لتكريسه لمبدإ المواجهة عند رفع الدعوى من خلال واجب الاعلام المكلف به المدعي تجاه المدعى عليه باخطاره بعريضة الدعوى ومؤيداتها أي استدعاء الخصم للحضور أمام المحكمة ليجيب على الدعوى ، وذلك ضمانا لحقوق الدفاع الذي يعد نتاجا لتحقق المواجهة بين أطراف النزاع الذي يكفل لكل طرف في الدعوى الحق في اثبات حقوقه ومناقشة الحجج التي يدلي بها خصمه والرد على ما يثيره من دفوعات وذلك سواء عند رفع الدعوى أو أثناء تحقيقها (20) لذلك فان المقر هو مركز التبليغ وفق اجراءاته العادية التي يقوم بها مبدئيا عدل التنفيذ من خلال تسليم الورقة إلى المعني بالامر شخصيا اينما وجد حسب ما بيناه سابقا وهو المقر الاصلي أو المختار أو لوكيله أو خادمه أو مساكنه اذا ما تغيب المعني بالتبليغ وذلك بشرط الاترباط بمقر المطلوب حسب ما جاء بأحكام الفصل 8 م م م ت المنقح بأحكام القانون عدد 82 لسنة 2002 المؤرخ في 03/08/2002 على أنه :” يسلم النظير إلى الشخص نفسه أينما وجد أو في مقره المختار حسب الاحوال” . ويستشف من عبارة ” أينما وجد ” أن المشرع أراد تحقيق السرعة وتسهيل عملية التبليغ للشخص المعني بالامر ، لان الفصل المذكور وفر أكبر عدد من أماكن التبليغ تسهيلا لعمل العدل المنفذ لكن مع ضرورة توفر شرط القبول سواء عن نفس الشخص أو من قبل الاشخاص الذين حددهم المشرع بصفة حصرية وهم وكيل المبلغ اليه أو خادمه أو مساكنه ، أي أن غياب المطلوب عن مقره لا يلغي أهمية دور المقر كاطار مكاني للتبليغ عند القيام باجراءات التبليغ العادية (21) وفي حالة الامتناع فان الفصل 8 م م م ت في فقرته الثالثة جديد نص على أنه :” اذا امتنع من وجده عن تسلم النظير يقع ايداعه في ظرف مختوم لا يحمل سوى اسم ولقب المعني بالتبليغ وعنوانه وذلك لدى كتابة محكمة الناحية وعمدة المكان ومركز الامن الوطني أو الحرس الوطني الذي بدائرته مقر الشخص المطلوب اعلامه “. أما في حالة عدم وجود أي شخص بالمقر فان الفصل 8 م م م ت فقرة رابعة جاء فيه أنه :” اذا لم يجد العدل المنفذ أحد يترك له نظير من محضر الاعلام بالمقر ويودع نسخة أخرى في ظرف مختوم لا يحمل سوى اسم ولقب المعني بالتبليغ وعنوانه وذلك لدى كتابة محكمة الناحية أو عمدة المكان أو مركز الامن الوطني أو الحرس الوطني الذي بدائرته ذلك المقر “. واضاف الفصل في فقرته الخامسة أنه :” يجب على العدل المنفذ أن يوجه إلى الشخص المطلوب اعلامه في ظرف اربع وعشرين ساعة مكتوبا مضمون الوصول مع الاعلام بالبلوغ إلى مقره الاصلي أو المختار ” . ثم جاء بالفصل 10 م م م ت جديد أنه ” اذا بارح المقصود بالاعلام مقره وصار مجهول المقر يودع النظير في ظرف مختوم لا يحمل سوى اسم المعني بالتبليغ … لاخر مقر معروف له ، واذا كان مجهول المقر مطلقا يعلق النظير من الاعلام بالمحكمة المتعهدة ونظيرا آخر بمقر الولاية التي توجد بدائرتها المحكمة المذكورة ” . الا أن جملة هذه الفصول المتسمة بالتشدد الاجرائي قد تعطل سير القضاء وتثقل كاهل المدعي وكان بالامكان اضافة اجراء جديد يتمثل في نشر اعلامات بالصحف اليومية التي من شأنها تسهيل عملية التبليغ الفعلي للمطلوب كضمان اجرائي يدعم حقوق الدفاع ويكفل مبدأ المواجهة بين الخصوم عند رفع الدعوى (22) خاصة وأن القواعد المنظمة لاجراءات التبليغ عامة وبالمقر خاصة تعتبر من القواعد التي تهم النظام العام بالرغم من أنها تهم مصالح الافراد (23) وهي قواعد اجرائية جوهرية (24) يترتب عن عدم احترامها بطلان العمل الاجرائي ويتوجب على القاضي اثارته والحكم به آليا ( الفصل 14 م م م ت ) وهذا ما دفع بالمشرع إلى وضع أحكام جزائية بمجلة المرافعات المدنية والتجارية باضافة الفصل 11 مكرر والذي أقر عقابا بالسجن مدة عام لكل من يتحيل لغاية عدم بلوغ المحاضر بالاستدعاءات .أما بالنسبة للشخص المعنوي المتمثل في الدولة فقد أقر الفصل 11 في فقرته الاولى على أنه ” تبلغ الاستدعاءات والاعلامات الموجهة إلى الدولة إلى مكاتب المكلف العام بنزاعات الدولة والا كانت باطلة ” . أما بالنسبة للذوات المعنوية الاخرى كالشركات والمؤسسات الخاصة فانه يتم ابلاغها بالاعلامات والاستدعاءات بمقرها الحقيقي الذي عرفه الفصل 11 فقرة ثالثة بأنه ” المكان الذي استقرت به بصفة رسمية (25) مع مراعاة خصوصية مقر الشركات التجارية ( 10 م ش ت ) فان كان دور المقر في النزاع المدني يضبط معايير التبليغ فهو أيضا يحدد الاختصاص الترابي للمحاكم .

تقديم:3

الفقرة الثانية : أهمية المقر في تحديد الاختصاص الترابي للمحاكم :

الاختصاص الترابي هو سلطة المحاكم في الفصل في الدعاوى والنزاعات وذلك حسب مكان المقر ، وقد نظم المشرع القواعد الخاصة بالاختصاص الترابي صلب أحكام الباب الثالث من مجلة المرافعات المدنية والتجارية تحت عنوان في ” مرجع النظر الترابي ” من خلال الفصول 30 إلى 33 . وتبرز أهمية تحديد المقر المطلوب لانه يحدد الاختصاص الترابي للمحاكم وذلك بموجب أحكام الفصل 30 م م م ت الذي جاء فيه أن ” المطلوب شخصا طبيعيا كان أو ذوات معنوية تلزم محاكمته لدى المحكمة التي بدائرتها مقره الاصلي أو مقره المختار ” . تعتبر هذه القاعدة حمائية لان المدعى عليه يعد طرفا سلبيا في الدعوى ، وفي نفس السياق الاجرائي جاء بالفصل 33 م م م ت أن ” الدعاوى الموجهة على الجمعيات وعلى الشركات والخلافات الواقعة بين الشركاء أو مديري الشركة والشركاء ترفع للمحكمة التي بدائرتها مقر الجمعية أو الشركة أو مقر فروعهما أو نيابتهما اللذين يهمهما الامر ” أي أن المحكمة المختصة ترابيا هي المحكمة التي يقع بدائرتها مقر الشركة أو الجمعية أو مقر فروعهما اذا كان النزاع متعلقا بهما (26) .لكن المشرع منح المدعي امكانية الخيار حسب ما جاء بالفصل 36 م م م ت ، ويفيد الخيار أن للمدعي اما اعتماد القاعدة العامة الواردة بالفصل 30 م م م ت أي مقر المطلوب أو احدى الخيارات الواردة بالفصل 36 م م م ت والتي تتعلق بالدعاوى في المادة العقدية والدعاوى المتعلقة باستحقاق منقول والدعاوى المتعلقة بتعويض الضرر الناتج عن جنحة أو شبه جنحة والدعاوى المتعلقة بالكمبيالة أو السند لامر زدعاوى النفقة ، وما نستشفه أن المشرع أراد من اقرار الخيار دعم المدعي الذي قد يكون طرفا ضعيفا في الدعوى القضائية ، وبسط له اجراءات التقاضي سواء أراد اعتماد الفصل 30 أو 36 م م م ت ، الا أن تطبيق هذا المبدأ يحده استثناءات تتأسس على معيار مكان العقار كاستثناء لقاعدة مقر المطلوب وكذلك بعض الدعاوى .أما بالنسبة لمكان وجود العقار فقد خصه المشرع بحماية اجرائية من خلال ما جاء بالفصل 38 م م م ت التي تحدد المحكمة المختصة ترابيا بتلك التي يوجد بدائرتها العقار . وكذلك فيما يتعلق بالدعوى الشخصية التي يقع القيام بها بناسبة الاضرار التي تلحق العين ، فيرفعها المدعي بهدف اقرار تعويض لفائدته نتيجة أضرار لحقت بالعين التي يمتلكها من طرف الغير المدعى عليه ، وفي نفس السياق نجد الدعوى الحوزية التي تؤسس لاستثناء وجوبي لقاعدة مقر المطلوب فيصبح مكان العقار هو المعيار الذي يحدد المحكمة المختصة ، وأيضا بالنسبة للدعوى الاستحقاقية فيكون القيام بها أمام المحكمة التي يوجد بدائرتها العقار موضوع النزاع حسب أحكام الفصل 38 م م م ت ثالثا .ومن ناحية أخرى سعى المشرع إلى تقريب المحكمة المختصة ترابيا من النزاع بالنظر إلى خصوصية أطراف الدعوى التي قد يكون فيها من جهة أولى الدولة طرفا فاعتبر الفصل 32 م م م ت أن المحاكم المنتصبة بتونس تنظر في الدعاوى التي تكون الدولة فيها طرفا ، ومن ناحية ثانية نجد أحكام استثنائية بالنسبة للدعاوى المتعلقة بالتركات ( 34 م م م ت ) الذي ينص على أن المحكمة التي افتتحت بدائرتها التركة هي المختصة ترابيا للنظر في الدعاوى المتعلقة بها ، وكذلك ما جاء بالفصل 35 م م م ت الذي اعتبر أن جميع الدعاوى المتعلقة بالفلس ترفع للمحكمة التي بدائرتها محل الاستغلال الاصلي . وكذلك بالنسبة لدعوى الضمان التي نص عليها الفصل 37 المنقح بالقانون عدد 40 لسنة 1963 المؤرخ في 14 نوفمبر 1963 على ” أن دعاوى الضمان ترفع للمحكمة المنشورة لديها الدعوى الاصلية أو التي سبق لها أن نظرت في تلك الدعوى ، وذلك في حدود اختصاصها الحكمي “.وتعتبر قواعد الاختصاص الترابي التي أقرت لحسن سير العدالة القضائي من قبيل القواعد الامرة التي لا يمكن الاتفاق بشأنها أو مخالفتها لاحكام الفصول 32 – 34 – 35 – 37 و 38 م م م ت ، أما اذا كانت فقط لحماية المتقاضين فانه يجوز الاتفاق بشأنها كقاعدة الفصل 30و 36 م م م ت لانها تحمي مصلحة خاصة للافراد يجوز لهم اقرارها أو الاستغناء عنها ولكن محكمة التعقيب اعتبرت أن هذه القواعد لا تهم النظام العام ويجوز الاتفاق بشأنها (27) .

المختصرات :

م م م ت : مجلة المرافعات المدنية والتجارية (tn) ، م ش ت : مجلة الشركات التجارية (tn)، م ح ع : مجلة الحقوق العينية (tn) ، م م ف : المجلة المدنية الفرنسية

الهوامش :

1/ محمد كمال شرف الدين – قانون مدني – الاشخاص ، اثبات الحقوق . المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية ، الطبعة الاولى 2000 ص 175 .

2/ مداولات مجلس الامة عدد 34 ، جلسة يوم الثلاثاء 25/03/1980 ص 842 .

3/ سعيدة الجلاصي – التبليغ في مجلة المرافعات المدنية والتجارية – مذكرة للحصول على شهادة الماجستير ، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس جامعة المنار، سنة 2002- 2003 ص 25 .

4/ أنظر الفصل 10 من الدستور وكذلك الفصول 6 – 46 – 47 و 57 من قانون 01/08/1956 المتعلق بتنظيم الحالة المدنية . كذلك الفصول 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 30 – 33 – 43 – 61 – 68 – 70 – 203 – 452 م م م ت . أيضا الفصول 40 – 86 م ا ج . وكذلك الفصول 3 – 50 – 51 – 52 من مجلة القانون الدولي الخاص .

5/ سعيدة الجلاصي – نفس المرجع . ص 28 .

6/علي الجلولي – المقر في القانون التونسي – م. ق.ت عدد 6 لسنة 1983 ص24.

– أحمد أبو الوفاء – المستحدث في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني الجديد ، الدار الجامعية 1986 .ص 48 .

7/ قرار تعقيبي مدني عدد 10562 مؤرخ في 29/05/1984 ن .م.ت لسنة 1984 الجزء الاول ص 193 .

8/ قرار تعقيبي مدني عدد 7962 مؤرخ في 03/04/1983 ن.م.ت لسنة 1983 الجزء الثاني ص 55 .

9/ قرار تعقيبي مدني عدد 19923 مؤرخ في07/01/2003 ن.م.ت 2003ص399.

10/ حسن كيره – المدخل إلى القانون – منشأة المعارف بالاسكندرية ، الطبعة الخامسة 1977 ص 556 .

11/ محمد كمال شرف الدين – مرجع سابق – ص 200 .

12/ الفصل 10 من القانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 06/08/1982 .

13/ الفصل 35 من القانون عدد 20 لسنة 1967 المؤرخ في 31/05/1967 .

14/ نور الدين الغزواني – التعليق على قانون المرافعات المدنية والتجارية – الاحكام العامة والخاصة ، مطبعة شركة أوربيس ، قصر السعيد تونس 1996 .

15/ الفصل 385 م ح ع والفصل 319 م ح ع والفصل 68 م م م ت .

16/ سعيدة الجلاصي – نفس المرجع ص 39 .

17/ حكم مدني استئنافي عدد 17591 مؤرخ في 13/07/1959 منشور بـ م.ق.ت عدد 7 لسنة 1960 ص 532 .

18/ قرار تعقيبي مدني عدد 1812 مؤرخ في 13/12/1979 ن.م.ت 1979 الجزء الثاني ص 131 .

19/ ياسر السعيدي – الاعلام في الاجراءات الجزائية – مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في العلوم الجنائية ، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس ، السنة الجامعية 1999 – 2000 ، ص 3 .

20/ عبد الله الاحمدي – القاضي والاثبات في النزاع المدني – شركة أوربيس للطباعة ، قصر السعيد ، طبعة جوان 1991 ، ص 473 .

21/ راجع الفصل 9 م م م ت حول اعلام الشخص المقيم خارج التراب التونسي .

22/ عبد الله الاحمدي ، نفس المرجع ، ص 491 .

23/ نور الدين الغزواني ، مرجع سابق ، ص 136 .

24/ قرار تعقيبي مدني عدد 7412 مؤرخ في 27/04/1970 ن.م.ت 1970ص68.

25/ قرار تعقيبي مدني عدد 2055 مؤرخ في 05/06/1979 ن.م.ت 1979 الجزء الاول ص 268 .

26/ طارق القلاعي – المقر في الاجراءات المدنية والتجارية – رسالة لنيل شهادة الماجستير في القانون الخاص ، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس ، السنة الجامعية 2004 – 2005 ص 106 إلى 110 .

27/ قرار تعقيبي مدني عدد8921 مؤرخ في 12/04/1973 ن.م.ت 1973ص103.