نظرية البطلان النسبي

ذهب فريق من الشراح إلى أن البطلان المنصوص عليه في بيع ملك الغير هو بطلان نسبي مقرر لمصلحة المشتري. ولكنهم اختلفوا على أساس هذا البطلان.

فمنهم من أسس هذا البطلان على قواعد الغلط، سواء الغلط في صفة جوهرية للشيء، أو الغلط في شخص المتعاقد، ومنهم من رد هذا البطلان النسبي إلى خطأ البائع في التزام تعهد لا يمكن الوفاء به. بينما ذهب رأي منفرد في الفقه المصري إلى تأصيل هذا البطلان على استحالة التزام البائع بنقل الملكية استحالة نسبية مستمدة من الظروف الموضوعية التي تم فيها إبرام العقد.

ونبحث على التوالي في هذه الآراء الفقهية لنتحقق من مدى ملاءمتها لأحكام بيع ملك الغير.

أولا: البطلان النسبي لبيع ملك الغير على أساس قواعد الغلط.

لقد تأثر بعض الفقه المصري ، بما ذهب إليه الفقه في فرنسا من تأسيس البطلان المنصوص عليه في بيع ملك الغير على أساس من قواعد الغلط. حيث انطلق بعض الشراح في مصر الى تأسيس هذا البطلان من منطلق تفسيرهم لنصوص القانون المدني المصري الخاصة بالغلط فاستندوا على المعيار الذاتي الذي أخذ به المشرع المصري الذي يجعل العقد المشوب بالغلط الجسيم الواقع على صفة جوهرية في الشيء أو في شخص المتعاقد عقدا قابلا للإبطال.

ورتبوا على ذلك، أن ملكية البائع للشيء المبيع هي صفة جوهرية، والجهل بها يعتبر غلطا مؤديا للبطلان، لأن الواقع في الغلط لو كان عالما بحقيقة الحال لما أقدم على التعاقد، إذا من الواضح أن هذا الرأي يقيم البطلان على أساس الغلط وفق القواعد العامة .

وحسب هذه القواعد لا يكون العقد قابلا للإبطال إلا إذا كان الغلط مشتركا، أو كان غلطا فرديا يعلمه المتعاقد الآخر أو يسهل عليه أن يتبينه وهذا يتعارض مع القواعد الخاصة ببيع ملك الغير والتي لا تشترط اشتراك البائع في الغلط الذي وقع فيه المشتري بأن كان مثلا يعتقد بأنه مالك للمبيع وقت البيع حتى يكون من حق المشتري إبطال العقد.

والقول بأن بيع ملك الغير قابلا للإبطال بسبب الغلط قول يتعارض مع صريح نص المادة ( 466 ) من القانون المدني المصري التي تعطي للمشتري الحق في طلب الإبطال دون التعويض إذا كان سيء النية. والمادة ( 468 ) من نفس القانون والتي بموجبها يكون التعويض قاصرا على المشتري حسن النية إضافة إلى حقه في طلب الإبطال.

وهذا يعني أن المشتري سواء كان حسن النية أو سيئها يكون من حقه طلب الإبطال اللهم أن التعويض يكون من حقه في الحالة الأولى دون الثانية. وليس في القواعد العامة شيء من هذا القبيل. إذ بموجب القواعد العامة لا يكون بيع ملك الغير قابلا للإبطال إلا إذا كان المشتري حسن النية أي يجهل بملكية البائع للمبيع.

ويضيف البعض على الانتقادات الموجهة إلى نظرية البطلان النسبي على أساس الغلط وفق القواعد العامة عدم اتفاقها مع بيع ملك الغير، ذلك أن الغلط المعيب للرضا حسب القواعد العامة يجب أن يقع على صفة جوهرية في ذات الشيء أو في شخص المتعاقد إذا كانت شخصيته محل اعتبار في العقد. ويرون بأن هذا القول لا يتفق مع بيع ملك الغير.إذ الغلط في شخص البائع، ليس له أهمية في عقود المبادلة، وكون المبيع ملكا للبائع أ و لأي شخص آخر غيره ليس بصفة جوهرية في ذات الشيء.

ثانيا: البطلان النسبي لبيع ملك الغير على أساس خطأ البائع في التزام تعهد لا يمكنه الوفاء به.

عدل بعض الفقه الفرنسي عن رأيه الذي كان يجعل أساس البطلان الغلط وفق القواعد العامة، وذهب هذا الفقه إلى جعل أساس البطلان خطأ البائع في التزام تعهد لا يمكنه الوفاء به، ورتبوا على ذلك عدم تمكن البائع من التمسك بالبطلان.

وحسب هذا الرأي هناك فرق بين استحالة الوفاء العارضة بعد العقد، والتي يكون بموجبها العقد قد انعقد قابلا للتنفيذ، ولكن بسبب ما طرأ عليه أصبح تنفيذ العقد مستحيلا، في هذه الحالة لا يكون أمام المشتري سوى طلب الفسخ، وبين الاستحالة الموجودة من وقت التعاقد، والتي لا يكون بموجبها العقد قابلا للتنفيذ، وبالتالي يجب الحكم ببطلانه. لهذا يؤسس هذا الرأي البطلان في بيع ملك الغير على عدم قدرة البائع على نقل الملك للمشتري.

وقد أخذ على هذا الرأي – وبحق – بأن الاستحالة القائمة وقت التعاقد وهي عدم قدرة البائع على تنفيذ التزامه بنقل الملكية، تؤدي إلى بطلان العقد بطلانا مطلقا لانعدام محل الإلتزام وليس إلى بطلان العقد بطلانا نسبيا

ثالثا: البطلان بسبب استحالة التزام البائع بنقل الملكية استحالة

نسبية مستمدة من الظروف الموضوعية التي تم فيها إبرام العقد.

ذهب رأي منفرد في الفقه المصري إلى تكييف بيع ملك الغير على أنه بيع لمال مستقبل، فملك الغير هو مال حاضر في ذمة صاحبه مستقبل بالنسبة لغيره. ويرى هذا الرأي بأن بطلان بيع ملك الغير يرجع لاستحالة محله، والاستحالة هنا ليست استحالة مطلقة لأن البائع يستطيع ولو من الناحية النظرية أن يشتري المبيع من مالكه ليصبح هو مالكه حتى يستطيع من نقل الملكية إلى المشتري.

ويضيف هذا الرأي، أنه لما كان من الجائز طبقا للقواعد العامة أن يكون محل الإلتزام شيئا مستقبليا حسب المادة ( 131 ) من القانون المدني المصري فإنه يكون من الجائز أن يلتزم شخص بنقل ملكية شيء مملوك لغيره.

وينتهي هذا الرأي إلى أن البطلان في بيع ملك الغير هو بطلان نسبي، وأس اس هذا البطلان هو أن التزام البائع بنقل الملكية، وإن كان غير مستحيل استحالة مطلقة إلا أنه بعيد الاحتمال بالنظر إلى الظروف الموضوعية التي تم فيها إبرام العقد، وإن كانت الاستحالة هنا نسبية إلا أنها تؤدي إلى نفس النتيجة التي تؤدي إليها الاستحالة المطلقة وهي تخلف شرط من شروط المحل غير أن هذه الاستحالة النسبية لا يترتب عنها سوى البطلان النسبي.

واضح أن هذا الرأي يحاول أن يقف موقفا وسطا بين من قال بالبطلان المطلق لبيع ملك الغير على أساس استحالة المحل استحالة مطلقة، وبين من انتقد هذا الرأي وقال بأن الاستحالة نسبية. فهذا الرأي يقول وإن كانت الاستحالة ليست مطلقة إلا أنها بعيدة الاحتمال بالنظر إلى الظروف الموضوعية التي تم فيها العقد، فهي قريبة من الاستحالة المطلقة ولكنها لا تؤدي إلى بطلان العقد وإنما إلى قابلية العقد للإبطال، لذا فهي في نهاية المطاف استحالة نسبية مبنية على الظروف الموضوعية الملابسة لظروف العقد.

ولو دققنا النظر في هذا الرأي، لوجدناه مبني على أساس فلسفي ينتهي إلى اعتبار العقد قابلا للإبطال أي أن البطلان هنا نسبي. ولو انتهى هذا الرأي عند هذا الحد، لقلنا بأن هناك أحكام في بيع ملك الغير – سنأتي عليها لاحقا – لا تتفق مع أحكام البطلان النسبي الذي انتهى إليه هذا الرأي. لكن بما أن هذا الرأي يكيف بيع ملك الغير على أنه بيع مال مستقبل، فإننا والتكييف هذا نقول بأن بيع المال المستقبل كنا قد أخرجناه من نطاق بيع ملك الغير، بسبب عدم معرفة إن كان البائع مالك أو غير مالك، فهو إن كان مالك، كان البيع صحيح، وإن لم يستطع أن يصبح مالك، فهو يبيع مالا يملك، وهذا يختلف عن البائع الذي يبيع ملك غيره.

لما تقدم، لا أرى في هذا التكييف ما يتفق مع الطبيعة القانونية لبيع ملك الغير حسب ما أرادها القانون الوضعي. وإن كان البعض ينتقد هذا الرأي على أساس أنه يخلط بين نظام العقد القابل للإبطال والعقد القابل للتصحيح، وهو بهذا الشكل يخلق نوعا جديدا من البطلان لا تعرفه القواعد العامة فإنني أرى بأن هذا الخلط واضح في نصوص القانون المدني المنظمة لحالة بيع ملك الغير، وأعتبر هذا الخلط خير ما يؤكد على الطبيعة القانونية الخاصة لبيع ملك الغير والتي سنأتي عليها لاحقا.

والآن وبعد أن استعرضنا الآراء التي قيلت في تكييف بيع ملك الغير، وجدناها جميعا تتفق على أن البطلان المنصوص عليه في بيع ملك الغير هو بطلان نسبي وليس بطلان مطلق. ولكن هل البطلان النسبي حسب القواعد العامة يتفق مع الطبيعة القانونية لبيع ملك الغير، خاصة وأن هذه الآراء جميعا تتفق في أن المشتري وحده هو من يملك الحق في طلب الإبطال هذا ما سوف نبحثه الآن.

إن الغالب في الفقه يعتبر العقد الباطل نسبيا عقد صحيح، ولكن يصبح باطلا إذا تقرر إبطاله، فهو صحيح قبل إبطاله لترتب أثره عليه، وهو باطل بعد هذا الطلب لأنه يعتبر كأن لم يكن ويجب إزالة أثره.

وقد نظم المشرع المصري البطلان النسبي في قانونه المدني في المواد ( 138 إلى وجعل هذا البطلان يلحق بالعقد الذي يتخلف فيه شرط من شروط الصحة، كأن يكون (144 أحد طرفيه ناقص الأهلية، أو كانت إرادته معيبة بعيب من عيوب الرضا.

فالعقد والحالة هذه يكون صحيحا منتجا لآثاره، إلا أنه يبقى مهددا بالزوال متى طلب من شرع الإبطال لصالحه إبطال العقد، وفي هذه الحالة يكون العقد باطلا من يوم انعقاده وتزول كافة الآثار التي تترتب عليه في الماضي، ليصبح هو والعقد الباطل بطلانا مطلقا سيان . فهليصح هذا الوصف على بيع ملك الغير؟

إن خير ما يقال في شأن التقريب والتفريق بين أحكام العقد القابل للإبطال وبيع ملك الغير هو أن الأخير هو في حقيقته عقد قابل للإبطال وبالتالي ترد عليه الإجازة.

ولكن لو دققنا النظر في النصوص القانونية لبيع ملك الغير لوجدنا أن صاحب الحق في الإبطال هو المشتري وحده وليس المالك، بينما في القواعد العامة نجد أن المشرع خصص طلب الإبطال لناقص الأهلية، أو من شاب إرادته عيب من عيوب الإرادة. وهذا يعني أن المشرع في العقد القابل للإبطال قصد حماية ناقص الأهلية والمعيب رضاه، بينما في بيع ملك الغير قصر المشرع طلب الإبطال على المشتري وحده، وإن كان المشرع قد قصد حماية المالك الحقيقي إلى جانب المشتري.

ومن ناحية أخرى وحسب القواعد العامة، نجد أنه بإجازة العقد القابل للإبطال يصبح العقد صحيحا وساريا في حق الأطراف جميعا، بينما نجد أن بإجازة المشتري لبيع ملك الغير يسري العقد في حقه ويبقى غير نافذ في حق المالك الذي يعتبر أجنبيا عن العقد.

وأكثر من ذلك، فإن العقد القابل للإبطال، بمجرد عدم المطالبة بإبطاله، أو إجازته، فإنه ينتج جميع آثاره، بينما الأمر ليس كذلك في بيع ملك الغير، إذ أن نقل الملكية لا تتحقق حتى لو لم يطلب المشتري إبطال البيع لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

هذا بالإضافة إلى أن بيع ملك الغير قد يصدر من بائع كامل الأهلية ولم يش ب إرادته عيبا من عيوب الرضا، بعبارة أخرى قد تتوافر جميع أركان الإنعقاد وتتحقق جميع شروط الصحة، ومع ذلك يبقى البيع قابلا للإبطال لصالح المشتري. على عكس القواعد العامة في العقد القابل للإبطال كما رأينا.

نخلص مما تقدم بأن أحكام العقد القابل للإبطال تختلف عن الأحكام التي قررها المشرع لبيع ملك الغير، وإن كان هذا البيع الأخير هو في الحقيقة قابلا للإبطال، إلا أنه قابلا للإبطال لمصلحة المشتري وحده. وهذا يجعلنا نقول بأن القانون الوضعي جعل العقد قابلا للإبطال في الحالات التالية:

-1 حالة تصرف ناقص الأهلية الدائر بين النفع والضرر.

-2 حالة وجود عيب يشوب إرادة أحد المتعاقدين.

-3 حالة وجود نص خاص في القانون يجعل العقد قابلا للإبطال كما في بيع ملك الغير.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت