مبدأ شخصية القانون الجنائي من خلال قواعد الاختصاص الواردة في قانون المسطرة الجنائية

مقدمة: إن حق الدولة في العقاب، وحقها في إصدار القوانين العقابية والإجرائية من أجلى مظاهر سيادتها. ولما كانت سيادة الدولة لا تتعدى إقليمها، فقد ظهر مبدأ إقليمية القوانين الجنائية كمبدأ عام يحكم مسألة تطبيق القانون الجنائي في المكان.

والمقصود بهذا المبدأ، هو أن القانون الجنائي للدولة يحكم جميع ما يقع على إقليمها من الجرائم أيا كانت جنسية مرتكبها([1]) سواء كان وطنيا أو أجنبيا، وأنه على العكس لا سلطان للقانون الجنائي للدولة على ما يقع من الجرائم خارج إقليم تلك الدولة مهما كانت صفة مرتكبها أو جنسيته، مما يترتب عليه أن القانون الجنائية للدولة تطبيقا لمبدأ إقليمية القانون الجنائي، يطبق على جميع المقيمين على أرض تلك الدولة، مهما كانت جنسيتهم.وأول ما ظهر هذا المبدأ في قوانين الثورة الفرنسية، ومنها دخل إلى التشريع الجنائي الحديث، حتى أصبح اليوم من المبادئ المتفق عليها في القانون الجنائي الحديث([2]).

أما قبل ذلك التاريخ، فقد كان مبدأ شخصية القانون الجنائي هو المتبع والمعمول به في القوانين الجنائية، ومقتضى هذا المبدأ الأخير، أن القانون الجنائي للدولة يتبع رعاياها ويحكمهم أينما وجدوا، أي سواء كانوا في إقليم دولتهم أو خارجه وعلى العكس لا يطبق القانون الجنائي للدولة على الأجانب حتى وان ارتكبوا جرائمهم على إقليم الدولة صاحبة القانون.غير أن مبدأ الإقليمية الذي عوض مبدأ الشخصية خلق نتائج غير مقبولة لعجزه عن حل مشكلات كثيرة خاصة منها عدم تمكنه من ضبط جميع أنواع الجرائم التي يتعدى نطاقها إقليم البلاد([3]
فالمشرع وجد أن السير مع مبدأ إقليمية القانون الجنائي بصورة مطلقة قد يؤدي إلى إفلات المجرمين وتخلصهم من العقاب، وذلك عن طريق هربهم من إقليم الدولة التي وقعت فيها الجريمة إلى إقليم دولة أخرى قبل اتخاذ الإجراءات القانونية، أو قبل تنفيذ العقوبة فيهم.الأمر الذي دفع المشرع المغربي انطلاقا من مبدأ التعاون الدولي في مكافحة الإجرام، إلى اعتماد مبدأ الشخصية وذلك في المواد 707 و708 و710 كاستثناء من أجل أن تضمن الدولة لنفسها حق الزجر أو حماية مواطنيها.وبالتالي، فانطلاقا من تبني موقف أن شخصية الاختصاص الجنائي هي استثناء يمكننا أن نتساءل عن ما هي الشروط الواجب توفرها لتطبيق مبدأ شخصية الاختصاص الجنائي للمحاكم المغربية؟ وما هي القيود التي ترد على هذا المبدأ والتي تعضد استثنائية المبدأ؟.

المبحث الأول: شروط تطبيق مبدأ شخصية الاختصاص الجنائي.
انطلاقا من المادتين 707و 708 من قانون المسطرة الجنائية يمكننا أن نستشف بعض الشروط التي يجب توفرها لتطبيق مبدأ الشخصية وهي

المطلب الأول: أن ترتكب الجريمة خارج المغرب من طرف المغربي العائد.
ويعد هذا الشرط من أهم الأسباب التي دعت لتطبيق مبدأ الشخصية، بحيث كانت العديد من الجرائم التي تقترف خارج المملكة تخرج عن دائرة اختصاصها.ولتلافي ذلك أصبحت المحاكم الجنائية المغربية مختصة بالنظر في الجرائم المرتكبة خارج التراب المغربي والتي يكون مرتكبها مغربيا.ويرجع لتحديد الجنسية إلى قانون الجنسية المغربي، بحيث لا يهم أن يكون الشخص حاملا لجنسية مغربية أصلية أو تبعية، كما أن اختصاص المحاكم المغربية يثبت حتى ولو كان وقت ارتكابه الفعل أجنبيا ثم منحت له الجنسية، وكذا إذا فقدها بعد أن كان حاملا لها([4]).

كما أنه يجب أن يعود الشخص الجاني إلى المغرب، لأنه لا يمكن رفع دعوى جنائية عليه إلا بعد عودته إلى المغرب وعدم إثباته أنه صدر في حقه في الخارج حكم حائر لقوة الشيء المقضي به.

المطلب الثاني: أن يكون الفعل الذي ارتكبه المغربي جناية أو جنحة.
بالرجوع للمادة السابعة من قانون المسطرة الجنائية المغربي نجده ينص على أن كل فعل له وصف جناية في نظر القانون المغربي ارتكب خارج المملكة العربية من طرف مغربي، يمكن المتابعة من أجله والحكم فيه بالمغرب…”ولم يبين المشرع المغربي من خلال هذه المادة كيفية إثارة المتابعة على خلاف ما نص عليه المشرع في المادة 708 فيما يخص الجنح المرتكبة من طرف مغربي خارج المغرب بحيث استوجب لإجراء المتابعة تقديم شكاية من طرف المتضرر أو تقديم بلاغ من طرف سلطات البلاد الذي وقعت فيه الجريمة، وعليه يمكن القول أن في الجنايات لا يتطلب تقديم شكاية أو تقديم بلاغ، وهذا يمكن تبريره لخطورة الجناية والآثار التي يمكن أن تترتب عنها.

كما يلاحظ في مقابل ذلك استثناء المخالفات من هذا المبدأ، وهذا طبيعي لأن المخالفات لا تشكل خطورة وبالتالي ليس هناك داعي للتمسك بمبدأ شخصية الاختصاص فيها.ونشير كذلك إلى أن المشرع المغربي أدخل كذلك في الاختصاص القضائي وفاءا لمبدأ شخصية الاختصاص الجنائي الجرائم المرتكبة في الخارج من طرف أجنبي ضد مغربي، وهذا يعد مستجدا من مستجدات قانون المسطرة الجنائية المغربي الذي جاء بعد الانتقادات التي تعرض لها المشرع المغربي، بحيث تحدث المنتقدون أن حماية المغربي من الاعتداءات التي قد يتعرض لها بالخارج، مسؤولية على عاتق الدولة المغربية([5])، ومن ثم استجاب المشرع المغربي لهذه الدعوات وذلك في المادة 710.
المبحث الثاني: القيود التي تحد من تطبيق مبدأ شخصية الاختصاص الجنائي.
إذا كان مبدأ شخصية الاختصاص الجنائي، يجعل السيادة المغربية تتعدى حدود الإقليم الترابي لها لتتبع رعاياها في الدول الأخرى لمعاقبتهم في حال اقترافهم جريمة، وحمايتهم إذا كانوا ضحية عن طريق متابعة الجاني ولو كان أجنبي، لكن هذا ليس على إطلاقه بحيث هناك قيود تحد منه وهو: ألا يكون الجاني قد حكم عليه بحكم اكتسب قوة الشيء المقضي به(المطلب الأول) وأنه في حال إدانته قضى العقوبة المحكوم بها عليه ما لم تسقط الدعوى العمومية أو العقوبة(المطلب الثاني).

المطلب الأول: قيد صدور حكم نهائي من محكمة أجنبية.
يأتي هذا القيد احتراما لمبدأ قوة الشيء المقضي به، إذ لا يجوز أن يحاكم الشخص مرتين من أجل جريمة واحدة.ويشترط في هذا الحكم أن يكون نهائيا أي قطعي، ويرجع في تقدير ذلك إلى قانون البلاد الأجنبي الذي صدر فيه الحكم.والحكم الذي يصدر عن القضاء الأجنبي إما أن يكون قد صدر بالبراءة أم بالإدانة، ففي حال صدوره بالبراءة، يجب أن يكون الحكم الأجنبي بهذه الدرجة أما إذا كان يساويه تقريبا، كما في حال حفظ القضية من قبل سلطات التحقيق الأجنبية، لعدم توفر الأدلة اللازمة، فإن هذا لا يمنع من محاكمته أمام القضاء المغربي، وفي هذا الاتجاه جاء أحد قرارات المجلس الأعلى “وحيث أن متابعة المطلوب ضد النقض من طرف القضاء الإيطالي من أجل جنحة الاتجار في مخدر الكوكايين لا تحول دون تجديد متابعته من أجل نفس الأفعال بالمغرب طالما أنه لم يثبت أنه صدر في حقه حكم لا تعقيب عليه”([6]).
كذلك يخرج من البراءة، الحكم الذي يبرئ الشخص مثلا من تزوير العملات أو الطوابع، انطلاقا من أن هذا البلد الأجنبي لا يعاقب مثلا على تلك الجريمة، فإنه رغم صدور براءة في حق هذا الشخص، فإن ذلك لا يمنع من محاكمته في المغرب، أما إذا كان الحكم مبنيا على أساس عدم صحة الوقائع أو عدم كفاية الأدلة فإنه يمنع إعادة محاكمته([7]).
المطلب الثاني: سقوط الدعوى العمومية أو العقوبة.
ينضاف إلى القيد الأول قيد ألا تكون الدعوى العمومية أو العقوبة قد سقطت بإحدى أسباب السقوط كالتقادم أو العفو، وهذه الشروط تفرضها المبادئ العامة للقانون الجنائي([8]).ونشير هنا أنه إذا هرب الجاني المحكوم عليه قبل التنفيذ أو بعد نفاذ جزء منه فإنه لا يتمتع بالإعفاء من المحاكمة، لكن يراعى المدة التي قضاها في العقاب في الخارج.ونشير إلى ملاحظة مهمة أثارها البعض هي أن الأحكام النهائية الأجنبية سواء كانت بالبراءة أو الإدانة، والتي تمنع من جواز إقامة الدعوى العمومية في المغرب هي الأحكام التي تتعلق بجرائم وقعت في الخارج، أما الأحكام النهائية التي تصدرها المحاكم الأجنبية في جرائم ارتكبت في المغرب، كما في حال ما إذا كان مرتكب الجريمة قد فر بعد ارتكابها إلى الخارج، فمن المفهوم بداهة أنها-أي المحاكم المغربيةـ لا تمنع من إعادة محاكمة الجاني في المغرب حتى ولو كان قد استوفى العقوبة التي حكم بها عليه في الخارج، إلا أنه يجب أن يحتسب للمحكوم عليه عند تنفيذ العقوبة التي يقضي عليها بها المدة التي قضاها في الحجز أو التوقيف أو الحبس في الخارج([9]).
وبذلك يمكن أن نخلص إلى أن المشرع أخذ بالاختصاص الشخصي كاستثناء، بحيث أنه جعله فقط وسيلة لكي لا يبقى المغربي الذي اقترف جرما خارج التراب المغربي خارج المتابعة، وفي نفس الوقت قيده بقيود يظهر فيها احترام المغرب لسيادة الدول الأخرى على إقليمها أي مبدأ، وذلك ما دام أن الفعل اقترف هناك. كما أن المغرب لا يتابعه إلا بعد أن تطأ رجلاه أرض المغرب، وهنا تظهر ملامح الإقليمية.
خاتمة: إن التعاون الدولي في محاربة الجريمةـ خاصة منها الجرائم عبر الوطنية التي أصبحت اليوم تعزو كل العالم- لم يعد اليوم مطلبا، بل واجبا حتميا تجندت له الدول مبقية نزاعاتها السياسية جانبا لكي تطوق في المقابل منابع الإجرام.ويظهر ذلك من خلال إبرام اتفاقيات للتعاون القضائي، كما ظهرت مبادئ أخرى في المجال الجنائي كعالمية الاختصاص، الذي ما زال المشرع المغربي لم يأخذ به، والذي تأخذ به العديد من الدول التي رأت فيه وسيلة لحماية نفسها والعالم من بعض أنواع الجرائم البالغة الخطورة.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت