تعليل الاحكام في المادة الجزائية

رضوان الجريء
قاضي تحقيق بالمحكمة الابتدائية بقبلي

إن الحديث عن التعليل يعني بالضرورة الحديث عن التسبيب فكلاهما يحيلنا على نفس المفهوم و نفس المعنى فالسبب و العلة مترادفان، و يقصد بالتعليل و المعلل ما ورد بلسان العرب لإبن منظور من دافع جابي الخراج بالمعلل وقد إعتل الرجل و هذا علة لهذا أي لسبب. و في حديث عائشة فكان عبد الرحمان يضرب رجلي بعلة الراحة ا بسببها . أما إذا ما بحثنا في اصل كلمة التسبيب في اللغة العربية فتعني الحبل و السبب يطلق على كل حبل انحدر من فوق و لا يدعى الحبل سببا حتى يصعد به و ينحدر به، و هو أيضا الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ([1]) .

لذلك يقال أن التسبيب يقصد به التوصل لشيء ما بسبب معين و تسبيب الحكم يقصد به لغة التوصل للحكم من خلال أسباب معينة.

أما المقصود بالحكم هنا هو كل قرار يصدر عن هيئة أناط بها القانون مهمة الفصل في خصومة في منازعة قامت حول مركز قانوني معين بعد دعوة أطرافها لإبداء رأيهم في شأنها. أو لعقاب مذنب ارتكب خطأ في المجموعة.

و ظهر لفض التسبيب أو التعليل أول مرة في فرنسا في القرن الثامن عشر كاصطلاح قانوني و لغوي يقصد به تضمين الحكم الأسباب les motifs الضرورية التي أدت إلى وجوده ، أما اصطلاح التسبيب motivation يعني الدفع و الحث و التحريك فإنه لم يظهر إلا حديثا في القرن العشرين.

و لعل تعليل الأحكام هو أشق المهمات الملقاة على عاتق القاضي لأن كتابه و أسبابه تتطلب منه فضله عن اقتناعه هو بما اختاره من قضاء أو يقنع به أصحاب الشأن و كل من يطلع على حكمه بقصد مراقبته.

ولم ينل موضوع تعليل الأحكام الجزائية العناية اللازمة من قبل فقهاء القانون في تونس بالرغم ما له من أهمية بالغة خصوصا على مستوى ضمان مصالح الخصوم، إذ يقتضي أن يمعن القاضي النظر و يدقق البحث حتى يستطيع الوصول إلى ما يمكن أن يؤدي منطقيا إلى الحقيقة التي يعلنها في منطوق الحكم و في هذا المعنى يكون التعليل ضمانا لعدم انحياز القاضي حيث تستوجب العدالة أن يعامل الناس جميعا على قاعدة واحدة .

و لا يتسنى البحث في عناصر التعليل إلا متى تمّ التعرف على مفهومه. فيعرف التسبيب أو التعليل قانونا بأنه إيراد الحجج القانونية و الواقعية التي ينبني عليها الحكم و يعني أيضا الطريقة التي تسلك لبيان أسباب و مسببات الحكم و كيفية عرض الحيثيات المرتبطة بكل حكم من الأحكام و مدى قوة الأسانيد القانونية التي بمقتضاها يبنى الحكم و يعتبر مستوفيا لشروطه الفنية و مستكملا لجوانبه القانونية([2]) .

كما يعرف التعليل بأنه التسجيل الدقيق و الكامل للنشاط القضائي المبذول من المحكمة حتى النطق بالحكم، هذا النشاط هو مجموعة من الأسانيد الواقعية و المنطقية و القانونية التي استقام عليها هذا المنطوق. كما أن السبب هو ما يلزم من عدمه العدم و من وجوده الوجود و سبب الحكم في الشريعة ما يكون طريقا للوصول إلى حكم غير مؤثر فيه و هو ما يعرف بنسبة الحكم إليه و تعلقه به .

و لئن كانت هذه لمحة عن مفهوم التعليل في اللغة و الاصطلاح فإن أهمية هذه الضمانة تقتضي النظر في تطورها عبر تاريخ أهم الأنظمة القانونية و هو التنظيم الفرنسي، فقبل القرن الثامن عشر لم يكن هناك إلتزام بتعليل الأحكام فقد كانت المحاكم خلال القرن الثالث عشر ، حرة في ذكر الأسباب متى تريد و كيفما تريد ثم تطور الأمر فأصبح التعليل عملية لاحقة لإصدار الحكم يتم أجراءه بطلب من مجلس الأطراف إذا ما تراءى له جدية الطعن المرفوع ضد ذلك الحكم. و لم يظهر التعليل كواجب قانوني في فرنسا إلا في القرن الثامن عشر كما سبق أن أشرنا سلفا لكن في شيء من عدم الوضوح، إلا انه وقع الإستقرار فيما بعد على تكريس قاعدة ضرورة التعليل بنص المادة 207 من الدستور الفرنسي لسنة 1797 إذ جاء به ” يجب أن تكون الأحكام مسببة، كما يجب بيان نصوص القانون المطبقة” .

و هو ما ورد أيضا بالقانون الذي صدر في 20 أفريل 1810 في فصله السابع كما نص عليه القانون الجنائي الفرنسي بالفصل 163 الوارد في باب محاكم المخالفات.

أما اليوم فإن مسألة وجوب تعليل الأحكام قد تضمنتها الفصول 485 و 593 من مجلة الإجراءات الجزائية الفرنسية.

لكن يمكن القول أن القضاة و الفقهاء المسلمين كان لهم السبق في البحث عن أسباب و علل الأحكام و أن الفضل يرجع إلى هؤلاء في كونهم أول من نظـر إلى القوانين و الأحكام نظرة فلسفية فأمعنوا في البحث عن عللها و أوغلوا في تمحيص أسبابها واستنبطوا لذلك علما سموه ” علم أصول الفقه” فلا غرابة أن يكون السبب أو العلة منهجا في البحث لديهم و حجة في المجادلة و برهانا في الإقناع.

و لعل رسالة عمر ابن الخطاب في القضاء إلى أبى موسى الأشعري إذ يقول له فيها من ضمن ما يقول ” أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فأفهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له … الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله و سنة رسوله ثم إعرف الأشباه و الأمثال فقس الأمور عند ذلك و إعمد إلى أقربها إلى الله و أشبهها بالحق” ([3]) هذه الكلمات على شح عبارتها و قلة ألفاظها وضعت منهاجا للتعليل لا يقل اتقانا عما هو موجود لدينا اليوم ، و قد شرح ابن القيم الجوزية هذه الكلمات شرحا وافيا نأخذ منه بعضه فيقول أن ” صحة الفهم و حسن القصد من أعظم نعم الله التي انعم بها على عبده، و لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى و الحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما فهم الواقع و التفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن و الأمارات و العلامات حتى يحيط به علما .

و النوع الثاني فهم الواجب في الواقع و هو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق إحداهما عن الآخر ، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم اجرين أو أجرا فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع و التفقه فيه إلى معرفة حكم الله و رسوله ” .

ففي هذا التفسير بين ابن الجوزية كيف أن الحكم الصحيح الذي يلامس الحق يمر عبر فهم جيد للواقع و هو أوجب ” التعليل الواقعي ” و فهم حكم الشرع أو موقف القانون من ذلك الواقع و هو ما يوجب ” التعليل القانوني “.

و عليه يمكن القول أن القضاة المسلمين كان لهم فضل كبير في إرساء عديد القواعد القانونية الموضوعية منها و الإجرائية.

أما على مستوى القوانين الوضعية العربية الحديثة فلم يكن نظام تعليل الأحكام الجزائية قاصرا على النظم القانونية الأوربية بل عرفته هي أيضا، إذ نص عليه الفصل 54 من الدستور الكويتي عندما أوجب تعليل الأحكام و كذلك الفصول 175 و 177 من قانون الإجراءات الجنائية الكويتي، و في السودان أوجبت المادة 243 من القانون عدد 17 لسنة 1925 تعليل الأحكام و في العراق أوجب الفصل 159 تعليل الأحكام كما تقررت نفس القاعدة في قانون الإجراءات الجزائية اللبناني في الفصل 323 ، أما في سوريا فقد اقر قانون الإجراءات الجنائي قاعدة تعليل الأحكام الجزائية ضمن الفصل 310 ، نفس الشيء في قانون الإجراءات الأردني (الفصل 237 ) و القانون الجزائري (الفصل 127 ) كذلك الأمر بالنسبة للنظام القضائي السعودي ، كما نصت عليه الفصول 310 و 311 من قانون الإجراءات الجنائية المصري .

أما في تونس فقد نص المشرع على تعليل الأحكام الجزائية صراحة بالفصل 168 من مجلة الإجراءات الجزائية الصادرة بمقتضى القانون عدد 23 لسنة 1968 المؤرخ في 24 جويلية 1968 المتعلق بإعادة تنظيم قانون المرافعات الجنائي، و نص هذا الفصل على:

” يجب أن يذكر بكل حكم :

ـ أولا :

ـ ثانيا :

ـ ثالثا:

ـ رابعا: المستندات الواقعية و القانونية و لو في صورة الحكم بالبراءة.

ـ خامسا : نص الحكم القاضي بالعقاب أو بالبراءة و النصوص الزجرية الواقع تطبيقها”.

و مهما يكن فإن تعليل الأحكام الجزائية لا يخلو من فوائد إذ هو مبحث قانوني ذو فائدة نظرية و تطبيقية، فأما الفائدة النظرية فتكمن في البحث في التعليل من حيث كونه عملية فكرية تستنبط بها الأحكام و هي عملية تسهل و تتعقد بحسب القضايا المطروحة كل ذلك في نسق منضبط و منسجم بحيث يكون العمل القضائي في هذا الإطار عملا فكريا منطقيا بحتا.

أما الفائدة العملية فإن التعليل يبرز بشكل جلي للمحكوم عليه الأسباب و المبررات التي بنت عليها المحكمة حكمها حتى يكون على بينة من ذلك و يقتنع بالردع المسلط عليه ، كذلك الأمر بالنسبة للمتضرر في حال القضاء بالإدانة هذا من ناحية، و من ناحية أخرى هو إطلاع المجتمع الذي ارتكبت في حقه الجريمة على أن الحكم المسلط على مرتكبها في طريقه و مؤسسا على وقائع ثابتة في أوراق الدعوى، لذلك كان لزاما على القاضي أن يتمكن من قواعد التعليل لتسلم أحكامه من النقض من الدرجة التي تعلوه و ليحقق لنفسه مراقبة ذاتية و هي مراقبة تتجلى في البحث العميق عما يقنع الوجدان و الحجة التي تكفي للبرهان.

و الجدير بالذكر في إطار هذه المقدمة هو أن تعليل الأحكام الجزائية يتنوع بتنوع الإعتبارات ، فمن حيث الدوافع التي أثرت على عقيدة المحكمة نجد أن التعليل إما أن يكون شخصيا أو موضوعيا.

و من حيث المسألة التي يشير إليها نجده إما أن يكون متعلقا بجانب القانون و يعرف بالتعليل القانوني، أو يكون متعلقا بجانب الوقائع و يعرف بالتعليل الواقعي و من ناحية ثالثة فإن تعليل الأحكام يختلف باختلاف النماذج التي يصاغ وفقا لها ، و في هذا المجال قد يكون التعليل مطولا أو موجزا أو التعليل الوسط الذي يقف بين المطول و الموجز كل هذه الأهمية التي يعطيها المشرع لتعليل الأحكام الجزائية تفرض التساؤل حول الضوابط التي تعرفنا بالتعليل الصحيح من عدمه.

هذا ما سوف نتبينه من خلال دراستنا للنظام القانوني لتعليل الأحكام الجزائية في باب أول ثم رقابة محكمة التعقيب على ذلك في باب ثان.

الباب الأول : النظام القانوني لتعليل الأحكام في المادة الجزائية.

الباب الثاني: رقابة محكمة التعقيب على تعليل الأحكام الجزائية

إن المبادئ العامة في القانون هي قواعد جوهرية غير معروفة استقرت في ضمير الجماعة كجزء من نظامها القانوني فهي إحدى عناصره و يمكن التوصل إليها من خلاله و تعد قواعد قانونية في ضوء ما تقدّم قاعدة الالتزام بتعليل الأحكام مبدأ عاما فهي قاعدة جوهرية استقرت في ضمير الجماعة لكونها جزء من نظامها القانوني و أصبح اليوم إجراء قانوني مكرّس بالنص (فصل أول) و هو في نفس الوقت إجراء وجوبي (فصل ثان) و يعد من الإجراءات القانونية الأساسية .

الفصل الأول : التعليل إجراء قانوني :

يعد تعليل الأحكام في المادة الجزائية من الإجراءات القانونية الأساسية و لذلك كان حريا أن نتعرّض إلى الطبيعة القانونية لهذا الإجراء من ناحية (المبحث الأول) ثمّ إلى نطاقه من ناحية ثانية (المبحث الثاني).

المبحث الأول : الطبيعة القانونية للتعليل :

إن الحديث عن التعليل و عن ماهيته لا يكتمل إلا بالوقوف على طبيعته القانونية إذ لا شكّ أن التعليل هو نشاط ذو طبيعة قانونية متميّزة ، إذ أن القاضي يباشره يكون محكوما بالأصول و الضوابط القانونية التي لا يمكن إغفالها و إلا كان التعليل معيبا و لذا فإن دراسة هذا الفرع تقتضي تناول بحث أمرين و الوقوف عليها أولهما أساسه القانوني و ثانيهما أهميته و وظيفته .

الفــرع الأول : أساســـه القانونـــي:

لا شك أن الوقوف على الأساس الذي يقوم عليه الالتزام بالتعليل أمر بالغ الأهمية على نحو ما سيأتي بيانه بحيث لا يمكن تجاهله.

فلقد كانت الأحكام في القرون الوسطى انعكاسا لما يتمتّع به القضاة من امتيازات و نفوذ و مظهر لسلطانهم المطلق في مجال فض المنازعات و كان ذلك هو الأساس الحقيقي في عدم التزام القضاة بتعليل أحكامهم و قراراتهم فما دام الفصل في المنازعة يعد سلطة وامتيازا يتمتع به القاضي فلا يستساغ إلزامه ببيان الدوافع و المبررات التي قادته إلى النتيجة التي خلص إليها في حكمه و في القرون الوسطى غابت فكرة تعليل الأحكام و لكنها ما لبثت أن ظهرت مع بداية عصر النهضة الحديثة حيث سارعت معظم النظم لتقرر القاعدة أو تنص عليها في العديد من التشريعات التي أصدرتها على نحو يكشف عن اعتبارها من الأصول الإجرائية في الأنظمة القانونية الحديثة.

و تختلف النظرة في هذا الإطار بين البلدان فالبعض منها جعل أساس الالتزام بالتعليل على مستوى النصوص القانونية العادية أو القواعد التشريعية العادية و البعض منها رفع قاعدة الالتزام بتعليل الأحكام إلى مستوى المبادئ و الأصول الدستورية و الحكمة من ذلك إحساس المشرع بأهمية الالتزام بالتعليل و حاجة الأفراد إليه لأنه يمثل إحدى الضمانات الجوهرية لحقوقهم و حرياتهم و رغبته في أن يضفي عليها قدرا من القدسية يعلي من شأنها و من بين هذه النظم التي تجعل من الالتزام بتعليل الأحكام الجزائية في مرتبة القواعد الدستورية النظام البلجيكي إذ حرص الدستور على تقرير القاعدة بالفصل 97 دون تفرقة بين حكم جزائي و آخر مدني أو تجاري أو إداري و على قراره سار المشرع الإيطالي ضمن الفصل 11 من الدستور الإيطالي الصادر في 27 / 11 / 1947 الذي نصّ على ضرورة تعليل جميع الإجراءات القضائية كما أعتمد هذا التكريس أيضا في هولندا إذ نصت المادة 89 من الدستور الهولندي الصادر في 30 / 11 / 1887 على ضرورة تعليل الأحكام و كذلك الشأن بالنسبة للدستور اليوناني .

أما النظم التي وقفت بقاعدة تعليل الأحكام الجزائية على مستوى المبادئ القانونية العادية و ليست قاعدة دستورية نجد النظام الياباني بالفصل 191 مرافعات الذي نصّ على وجوب تعليل الأحكام أما في فرنسا فقد اتجه المشرع إلى النص في دساتير الثورة الأولى على وجوب تعليل الأحكام الجزائية لكن الأمر لم يدم طويلا و لم ترد هذه القاعدة في الدساتير اللاحقة مما يقطع بأن المشرع عدل عن ذلك الاتجاه حيث اكتفى بتقرير الالتزام بالقاعدة المذكورة بموجب النصوص القانونية العادية و تحديدا بالفصل 485 من قانون الإجراءات الجنائية و التشريع الروسي بالمادة 39 الجنائي و كذلك الأمر في يوغسلافيا إذ الزم النظام القانوني باحترام مبدأ التعليل و أورد في قانون الإجراءات الجنائية نصا صريحا يقضي بوجوب تعليل الأحكام و جعله مبدأ عاما يسري على جميع ما يصدره القضاة من أحكام ([4])

أما بالنسبة للدول العربية فقد نصّت على هذه الضمانة قوانين الإجراءات الجزائية من ذلك المادة 323 من قانون الإجراءات الجنائية اللبنانية أما في القانون المصري فإن المشرع لم يضع في قانون تحقيق الجنايات الملغى نصا يوجب تعليل الأحكام الجنائية لكن الفقه و فقه القضاء كرس هذا المبدأ و خصوصا في الأحكام الصادرة بالإدانة لكن الأمر بدا أكثر وضوحا في ظل قانون الإجراءات الجنائية الحديث في مادته 310 إذ نصت على أنه ” يجب أن يشتمل الحكم على الأسباب التي بني عليها وكل حكم بالإدانة يجب أن يشتمل على بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة و الظروف التي وقعت فيها و أن يشير إلى نصّ القانون الذي حكم بموجبه” ([5])

إلا أن بعض الدول العربية تتميز عن غيرها بتنصيصها على وجوب التعليل بدساتيرها من ذلك مثلا الدستور السوري لسنة 1950 بالفصل 107 و الدستور الجزائري بالفصل 170 كذلك النظام القانوني الكويتي الذي حرص مشرّعه على إيراد هذه القاعدة ضمن النصوص الدستورية و ذلك بالفصل 53 منه([6]) .

أما في تونس إن المشرع قد كرّس قاعدة تعليل الأحكام في المادة الجزائية صلب مجلة الإجراءات الجزائية و ذلك بالفصل 168 الذي نصّ على أنه ” يجب أن يذكر بكل حكم : أولا…ثانيا … ثالثا… رابعا المستندات الواقعية و القانونية و لو في صورة الحكم بالبراءة…” لكن الأهمية لا تكمن في موقع التنصيص على التعليل بل الأهمية هي أهمية التعليل في حدّ ذاته و في وظائفه.

الفرع الثاني : أهميّة التعليل و وظائفه:

ثمة تفرقة بين أهمية التعليل و وظائفه فالأولى يقصد بها حاجة النظام إليه أما الثانية فيقصد بها الأهداف التي ترجى من التعليل .

فقرة أولى : أهمية تعليل الأحكام الجزائية :

لم تكن فكرة تعليل الأحكام الجزائية مجرد رغبة من المشرع في استيفاء شكل معين للأحكام بل هي في الواقع فكرة قانونية لها أهمية في مختلف النظم القانونية . و القاعدة بالنسبة للحكم المعلل كما يقول الفقيه M.T. SAUVEL هي إحدى القواعد الأساسية للحياة العامة إلا أنها قبل كل شيء واحد من إلتزامات العدالة أو دين على القاضي واجب الأداء نحو المتقاضين كما أنه ضمان لحياد القاضي و عدم ميله حيث أن العدالة تستوجب أن يحاكم الناس جميعا على قاعدة واحدة ([7]) .

فتعليل الأحكام من أعظم الضمانات التي فرضها القانون على القضاة إذ هو مظهر لقيامهم بما عليهم من واجب تدقيق البحث و إمعان النظر في أقضيتهم و به يرفعون ما قد يتبادر إلى الأذهان من الشكوك و الريب فيدعون الجميع إلى عدلهم مطمئنين،

فالتعليل من هذه الزاوية يعد أداة فعالة في إبراز عدالة الأحكام و صحتها الأمر الذي يجعلها محل ثقة الأفراد و هو الأداة التي تفرض على القاضي الحرص و الفطنة و هو وسيلة فعالة نحو حماية القاضي مما قد يواجهه من ضغوط أو توجيهات لإصدار أحكام على نحو لا تتفق مع العدالة و من هنا كان التعليل مسألة جوهرية يقدمها النظام القانوني للقاضي يضمن بها حياد هذا الأخير و فصله في الدعوى وفقا لما يرتاح إليه وجدانه كما يكشف التعليل عن الدوافع و المبررات التي دفعت القاضي لإصدار حكمه على نحو معين و بالتالي يدفع عنه أي شبهة أو ريبة مما قد تثور في نفس الخصوم ممن أضر الحكم بمراكزهم القانونية إذ من خلاله يلتزم القاضي ببيان المبررات و الدوافع التي قادته إلى النتيجة التي خلص إليها في قضاءه

و هو ما يمثل ضمانة في مواجهة ما عسى أن يقع فيه القاضي من هوى أو ميل شخصي إلى جانب أي من الخصوم و بالتالي أصبحنا نتحدّث اليوم عن الحكم كوسيلة للإقناع و ليس مجرد مظهر للسلطة و بما أنه كذلك فإنه لعب دورا جوهريا في إيجاد التوازن الفعلي بين الناحية القانونية و الأخلاقية في المجتمعات الحديثة و هو أمر بالغ الأهمية لاستقرار نظم القانونية و ضمان استمراريتها.

و لكي يتحقق الغرض من التعليل يجب أن يكون في بيان جملي مفصل بحيث يستطاع الوقوف على مسوغات ما قضى به، و من المقرر أنه ينبغي ألا يكون الحكم مشوبا بإجمال أو إبهام مما يتعذر معه تبين مدى صحة الحكم من فساده في التطبيق القانوني على واقعة الدعوى و يمكن إجمال هذه الحكمة من التعليل فيما أكدته محكمة التعقيب في قرارها الصادر في 12 ديسمبر 1994 ([8])

و الذي جاء فيه أن مجرد التعرض للدفع دون مناقشة أو الرد عليه يعد تعليلا على غاية من الإجمال و الاقتضاب و خارقا لأحكام الفصل 168 م.ا.ج. كما أكدت ذلك محكمة النقض المصرية حين اعتبرت أنه إذا حكمت المحكمة بإدانة متهم واقتصرت في الأسباب على قولها أن التهمة ثابتة من التحقيقات و الكشف الطبي فإن هذا الحكم مستور في ضمائرهم لا يدركه غيرهم و لو كان الغرض من تعليل الأحكام أن يعلم من حكم لماذا حكم لكان إيجاب التعليل ضرب من العبث و لكن الغرض من التعليل أن يعمل من له حق المراقبة على أحكام القضاة من خصوم و جمهور و محكمة نقض ما هي مسوغات الحكم و هذا العلم لا بد له من بيان مفصل و لو إلى قدر تطمئن معه النفس و العقل إلى أن القاضي ظاهر العذر في إيقاع حكمه على الوجه الذي ذهب إليه ([9]) لكن إذا ما كانت تلك أهمية التعليل فماذا عن وظيفته.

الفقرة الثانية : وظيفة تعليل الأحكام في المادة الجزائية:

يرتبط التعليل عادة بوجود سلطة فلدى السلطة القضائية يعد التعليل ظاهرة جوهرية يتعين الالتزام بها كأصل عام كما أنه نظاما قانوني يستهدف تحقيق مصالح معينة سواء في المجال العام أو في المجال الخاص إذ يقوم تعليل الحكم بأداء وظيفة هامة تتعلق بالصالح العام من خلال فتح السبيل للرقابة على الأحكام القضائية و هذه الرقابة تأخذ أشكالا مختلفة منها رقابة محكمة التعقيب فالمعروف أن محكمة التعقيب جهاز قضائي ينحصر دوره في الرقابة على الشرعية أي تطبيق القانون و لا يتصور أن تكون هذه الرقابة إلا إذا كان هناك تعليل للحكم فهو الأداة الأولى لكي تعمل محكمة التعقيب رقابتها على الحكم الصادر في المنازعة و هو أمر جوهري لتباشر محكمة التعقيب وظيفتها في رقابة محاكم الموضوع و فرض مبدأ الشرعية على الأحكام الصادرة عنها.

و من ناحية أخرى فإن لتقرير قضاة الموضوع و الوقوف على احترامهم لحقوق الدفاع و غيرها من المبادئ الأساسية في التقاضي لا يتصور الوصول إليه إلا إذا كان الحكم المطعون فيه معللا([10]) فتعليل الأحكام الجزائية هو السبيل الأوحد لأن يجيء الحكم متفقا مع حكم القانون وافيا في بياناته غير مشوب بتناقض أو قصور مع أنه قد لا يكون متفقا في حكم الواقع مع الحق و العدل ([11]) . و رقابة محكمة التعقيب على تعليل الأحكام هي الوسيلة الوحيدة لضمان رقابتها على حسن تطبيق القانون.

كما أن من وظائف التعليل في هذا الإطار هو توحيد أحكام القضاة إذ تقوم سلطات القضاء في التعقيب التي تهتم بتوحيد أحكام القضاة و تأسيس قواعد و مبادئ قضائية تحكم طرق التطبيق السليم و الفعال بتحقيق جانب هام من ذلك بتحديد قواعد و مبادئ التعليل الذي يحقق الإقناع للمحاكم و الأطراف بأن الحكم صدر في كل مرّة مطابق لقانون ساري و ملائم للمسائل التي فصل فيها من خلال إجابات موحدة واضحة و سليمة تعلن الحقيقة و تصون الحرية و تحقق العدالة حماية للحقوق و المصالح، و التعليل الذي يحقق هذا التوازن لهو أهل لأن يصبح سابقة قضائية في صيغة علمية منطقية جديرة بالإتباع تهدي القضاة و ترشدهم عند النطق بالحكم فتحدد بواعثهم على اتخاذ القرار و الأسباب التي تقودهم إلى النتائج الصحيحة في إطار قانوني دقيق يعضد عملية إصدار الحكم و يزيده قوّة و يمنح القضاء الثقة الجديرة بها.

و إذا كان التعليل يؤدي إلى حماية الصالح العام الذي يتمثل كما سلف بيانه في فتح سبيل الرقابة على الأحكام فإنه يؤدي دورا آخر في حماية الخصوم و الحفاظ على مصالحهم الخاصة فيعمل على حماية حقوق الدفاع و يفرض على القاضي موقف الحياد و يقصد بالحياد هنا عدم انحياز القاضي بغير وجه حق إلى رأي من الأطراف و متى التزم بتعليل حكمه فإنه سوف ينأى بحكمه عن أي مأخذ و من هنا كان التعليل دائما محققا لمبدأ حياد القاضي مما يجعله أداة لحماية مصالح الخصوم الخاصة.

و إضافة إلى كل ما ذكر فإن التعليل يحقق الموضوعية و اليقين في الحكم إذ أن المبدأ الأول في الوجود القانوني للحكم هو الحقيقة و بالوصول إليها يكون اليقين، و التعليل باعتباره عملية قانونية فنية ما هي إلا منهج للوصول إلى اليقين و يجمع الفقه و كل الشرائع على أن دور القاضي أساسي في تسيير العدالة و لكن كيف يمكن التأكد من حياده واستقلاله ؟

و كيف يضع في اعتباره النتائج القانونية والاجتماعية و الإنسانية للحكم الذي يصدره ؟

و كيف يوفـّق بين هذه الاعتبارات و بين بقاءه و فيّ تماما لمبدأ الموضوعية المطلقة نحو قرارات مختلفة الاتجاه و لماذا قدم اعتبارات بعينها على غيرها ؟ و ما السبيل إلى تجنب الرأي المستبد ؟ إن الالتزام بتعليل الأحكام و قيام محكمة التعقيب بمراقبة ذلك هو الضمان الأول لتحقيق ذلك .

و بعد أن تعرّضنا إلى الطبيعة القانونية لتعليل الأحكام في المادّة الجزائية نتناول فيما يلي نطاق التعليل .

المبحث الثاني : نطاق تعليل الأحكام في المادة الجزائية :

إذا كان الطابع الإلزامي لتعليل الأحكام من البديهيات في المادّة الجزائية فإن التساؤل يبقى مطروحا لمعرفة مدى إمكانية مطالبة القاضي بتحديد الأسباب الذاتية التي أقنعته ببراءة المتّهم أو إدانته في إطار السلطة التقديرية المخولة له و هو ما يعني ارتباط التعليل بسلطة القاضي ( فرع أول ) كما أن التساؤل يطرح أيضا حول التزام القاضي بسرد كل العناصر التي أوصلته إلى النتيجة التي انتهى إليها بعد إيراد الأدلة و الرد عليها (فرع ثان ) .

الفرع الأول : ارتباط التعليل بسلطة القاضي :

التعرض أولا إلى ماهية السلطة التي يتمتع بها القاضي (فقرة أولى ) لنصل ألي أن هذه السلطة هي معيار الالتزام بالتعليل (فقرة ثانية) .

الفقرة الأولى : ماهية السلطة التي يتمتع بها القاضي:

يقصد بالسلطة بوجه عام الصلاحية المقررة لشخص معين في مباشرة الأعمال و الوظائف التي أنيطت به بمقتضى القانون أو الاتفاق و تتميّز السلطة عن فكرة الإختصاص فالأولى هي صلاحية الشخص للقيام بأعمال معينة أما الثانية فهي مجموعة الأعمال التي أجيز للشخص القيام بها. فالسلطة تهدف إلى مباشرة الاختصاص أما الاختصاص فهو المظهر الخارجي للسلطة ([12]) .

و للسلطة صور ثلاث الأولى هي السلطة المقيّدة و هي التي لا تجيز لصاحبها حق التصرف إلا على نحو معين فلا تسمح بأن يكون لإرادته دور في التقدير أو الاختيار أما الثانية فهي السلطة المطلقة و يقصد بها حق صاحبها في ممارسة اختصاصه وفقا لما تمليه إرادته الشخصية دون خضوع لأي توجيه أو ضوابط، أما السلطة التقديرية فهي تلك التي تخول لصاحبها صلاحية اتخاذ القرار المناسب معتدا بذلك بضوابط و حدود مرسومة من قبل. و تتميز السلطة المطلقة من ناحية عن السلطتين المقيّدة و التقديرية في أن الأخيرتين تتعدد أبعادهما من خلال النصوص أي بطريقة إيجابية أما الأولى فليست ثمة نصوص تحددها و من ثمّ يمكن القول بأنها تتحدد بطريقة سلبية.

و لا جدال في أن عمل القاضي ينحصر في تطبيق القواعد القانونية الشكلية و الموضوعية على مختلف نطاق المنازعات التي تعرض عليه بصرف النظر عما إذا ما كانت جنائية أو مدنية. و سلطة القاضي في هذا الصدد ليست ذاتية بل هي مظهر للسلطة القضائية.

و التزام القاضي بأوامر المشرع لا يتعارض مع ما له من سلطة في شأن ما يطرح عليه من منازعات و هو ما استقر عليه فقه القضاء إذ إعترف للقاضي دائما بقدر من السلطة عند تصديه لفحص المنازعات المطروحة عليه و إن كان ذلك في حدود القانون.

و تتميز السلطة المقررة للقاضي عن غيرها من السلطات بأنها لصيقة بشخصه فلا يستطيع أن يتنازل عنها كما أنها تناول في حدود غاية عليا أسمى هي تحقيق أهداف القانون و العمل على توفير أقصى قدر من العدالة بين أفراد المجتمع.

و مما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن الفقه و خصوصا في القانون المقارن قد اختلف حول تحديد نوع السلطة التي يتمتع بها القاضي، فقد رأى البعض أنها دائما سلطة مقيدة ذلك أنه مقيّد في كل الحالات بإرادة المشرع متمثلة في ما يصدره من نصوص وقواعد حتى في الحالات التي يقضي فيها وفقا لمبادئ العدالة،

فالقاضي يستمد حكمه من قاعدة موضوعية مستقرة في ضمير الجماعة و ذلك البعض يقتصر فيها دوره على تطبيق قاعدة قانونية فالقاضي يعمل ملكاته الذهنية في شأن تقدير فكرة الملاءمة بين القاعدة و الظروف المطروحة و ينصب الرأي الغالب في الفقه المعاصر إلى أن القاضي يتمتع بسلطة تقديرية أي سلطة نسبية و يقصدون بها ما يتمتع به القاضي من حرية التقدير في نطاق معين لكن على خلاف ذلك يرى الفقيه محمد على الكيك في مؤلفه ” أصول تسبيب الأحكام الجنائية في ضوء الفقه و القضاء ” ([13])

بأن القاضي له سلطات متنوعة و متعددة فهو يتمتع بسلطة مقيّدة يواجه بها عند الفصل في بعض الأمور المطروحة عليه كما أنه يملك سلطات مطلقة يحسم بمقتضاها مساءل معينة و أخيرا فهو يتمتع بسلطة تقديرية يستعملها عند تصديه للفصل في بعض المساءل التي تطرح عليه و بعبارة أخرى فإن سلطات القاضي لا تنحصر كلها في نوع واحد و لكنها تختلف باختلاف الحال فهي تارة تكون مقيّدة و أخرى تكون مطلقة و ثالثة تكون بين الأمرين و هي حالة السلطة التقديرية .

و متى تنوعت سلطات المحكمة يكون لكل منها نطاق محدد بحيث أن ما يصح منها في مجال لا يصح بالضرورة في غيره فيتحدد نطاق السلطة المقيّدة بتلك المساءل التي يتجرد القاضي عند الفصل فيها من كل تقرير فلا يكون لملكته أي دور في تقدير الحكم الصادر في شأنها.

أما السلطة المطلقة فتشمل كافة المساءل التي يكون للقاضي حق مطلق في تقديرها و الانتهاء في شأنها إلى ما يراه دون تدخل من المشرع أو غيره في ذلك فكلما كانت ثمة مسألة ترك المشرع للقاضي حث البت فيها بما يراه دون اعتداء بأي ضوابط تقيده، أما السلطة التقديرية فهي تتسع لتشمل كافة المساءل التي يتقاسم المشرع و القاضي تقرير الحل المناسب لها أيا كان مدى مساهمته و بصرف النظر عن طبيعة معاييره و وساءله في شأنها.

و بالتالي فإن التعليل لم يكن نظاما تحكميا و لم يكن يهدف إلى إرهاق القضاة و إلقاء الأعباء على كواهلهم. بل هو فكرة قانونية تستهدف تحقيق مصالح عديدة أهمها تمكين الخصوم من الوقوف على المبررات و الدوافع التي قادت المحكمة إلى تلك النتيجة التي خلصت إليها في منطوق حكمها و هو ما خلصت إليه محكمة التعقيب حين أكدت أن تعليل الأحكام و تسبيبها هو من الأمور الأساسية اللازمة لصحتها و ينبغي أو يكون مستوعبا لكل عناصر القضية الفعلية منها و القانونية و أن يكون كذلك دالاّ على ثبوت الجريمة أو نفيها بدلالات مستمدة من أوراق القضية وفقا لما نصّت عليه الفقرة الرابعة من الفصل 168 م.إ.ع([14]) .

و تفريعا على ذلك تنتفي سلطة القاضي تماما و لا يكون له في الأمور سوى النطق بإرادة المشرّع و إعلان أوامره و نواهيه فلا محل للقول بوجود دوافع و مبررات قادته إلى النتيجة و من ثمة تغيب حكمة التعليل و يكون إلزام القاضي به مجرد شكل إجرائي وجوبي و على ذلك متى فصل القاضي في مسألة دون أن يكون الحياز فيما انتهى إليه بشأنها فلا محل لإلزامه بتقديم مبررات قضاءه مثل الحكم بإلزام من خسر الدعوى بمصاريفها و كذلك الحكم بأمر يعد نتيجة حتمية و لازمة لما سبق أن خلصت إليه المحكمة في ذات حكمها و كذلك ما تقضي به المحكمة من إلزام المتهم بتسليم المسروقات إلى المجني عليه بعد أن خلصت إلى مسئوليته عن الواقعة.

و من ناحية أخرى متى أفسح المشرع المجال كاملا أمام القاضي للفصل في المسألة التي تصدى لها و تناولها و خوله سلطة إبداء رأيه فيها و إعلان كلمته بشأنها دون أن يضع عليه قيدا في هذا الصدد فلا محل لإلزامه بإبداء الأسباب التي أدت إلى النتيجة التي خلص إليها .

إذ لا طائل من تقديم هذه الأسباب ما دام أحد لن يسأله الحساب فيما خلص إليه من ذلك تغليبه قبول شاهد على آخر و أخذه بدليل معين فهل تفصل فيها دون أن تتقيد بأي من الضوابط

و المعايير و لا رقابة عليها فيما انتهت إليه في هذا الصدد من ذلك اختيار العقوبة كما و نوعا بين حدودها القانونية مسألة تقدير مطلق للمحكمة لا تخضع فيه لأي رقابة و من ثم فإن إلزامها ببيان مبررات هذا يعد ضربا من التعنت و الخلاصة أنه حين يفصل القاضي في المسألة المطروحة عليه و خلال سلطته المطلقة فلا محل لإلزامه بتقديم مبررات قضاءه.

الفقرة الثانية : السلطة هي معيار الالتزام بالتعليل :

لقد أوضحنا سلفا أنه ليس ثمة أهمية و لا طائل من وراء تعليل المساءل التي يفصل فيها القاضي من خلال سلطته المقيدة أو المطلقة على أن الأمر يختلف تماما في حالة السلطة التقديرية.

فالمسألة التي يفصل فيها القاضي في خلال سلطته التقديرية يتمتع في شأنها بحرية الاختيار و التقدير و تلعب إرادته و ملكاته دورا واضحا لكنه يخضع في ذلك لضوابط قانونية معينة لا يستطيع أن يتجاوزها أو يغفلها و إلا اعتبر مخالفا للقانون و في نطاق هذه المساءل يجوز لكل خصم الوقوف على مدى التزامه بحدود القانون مما يجعل تعليل الحكم الصادر في شأنها أمرا ضروريا و يكون بيان الميزات و الدوافع التي أدت إلى قضاء الحكم أمرا ضروريا و واجبا لا يجوز التحلل منه فتعليل هذه المساءل حتمي و يستوي أن يكون صريحا أو ضمنيا قائما بذاته أو من خلال الإحالات على أسباب حكم آخر بشروط معينة و تفريعا على ذلك فإن معيار أو مجال تعليل المساءل التي يتعرض لها القاضي في حكمه هي فكرة السلطة التقديرية حسب مفهومها الذي ورد سلفا.

و يجد هذا المفهوم أو المعيار قبولا لدى جمهور الشرائح و الفقهاء سواء لدينا أو في فرنسا أو في مصر و كذلك حتى على مستوى فقه القضاء ([15]) إذا استقر الرأي على وجوب حصر تعليل المساءل التي يفصل فيها القاضي من خلال سلطته التقديرية ([16]) و قد وضح فقه القضاء الذكر إذ قضت محكمة النقض الفرنسية بعدم استبعاد المساءل التي يفصل فيها القاضي من خلال سلطته المطلقة في دائرة التعليل ([17]).

و قد نصّ المشرع التونسي صلب الفصل 150 م.ا.ج. على أن القاضي يقضي حسب وجدانه الخالص و هو تعبير صريح لتبني نظام الأدلة الإقناعية التي يتولى فيه القاضي تقدير وساءل الإثبات حسب اقتناعه الشخصي بمختلف البراهين التي تحصل عليها إثر التحقيق الذي قام به في طور المحاكمة إذ ورد في قرار لمحكمة التعقيب “أن المحكمة كفيلة لتكوين ما يجعل وجدانها يجنح إلى التجريم بدل التبرئة و هو أمر موضوعي موكول لمحض إجتهادها المطلق دون رقابة عليها في ذلك من لدن محكمة التعقيب طالما عللت وجهة نظرها كما يجب فعليا و قانونيا بما له أصل ثاب في الأوراق ([18]) و بالتالي فهو تقدير حر لمختلف البراهين الواردة ضمن ملف القضية و هذه العملية في التقدير هي نتيجة التفكير الذي قام به ذلك القاضي و من الطبيعي أن تختلف الآراء لدى القضاة و تختلف أفكارهم باختلاف عوامل عديدة أهمها شخصيته و خبرته فشخصية القاضي تؤثر بدون شك على تقدير لو ساءل الإثبات بصفة واضحة و هو ما ينعكس على فحوى التعليل كل هذه الأعمال و تبرير وصوله إلى الحل الذي أرتاه و هو ما أكدته محكمة التعقيب في إحدى قراراتها إذ جاء به ” حيث أن محكمة الموضوع و لئن كانت حرة في فهم الوقائع و جمع الأدلة واستخلاص النتائج منها إلا أنها ملزمة قانونا بتعليل وجهة نظرها” ([19]) و هو ما يجعل إذا المحكمة ملزمة بتعليل أحكامها وفقا لما توصلت إليه من اجتهاد و تقدير في إطار سلطاتها التقديرية و إضافة إلى ذلك فإن المحكمة ملزمة أيضا بإيراد الأدلة و الرد عليها.

الفرع الثاني : إيراد الأدلة و الرد عليها :

لا يكفي أن تورد المحكمة العناصر التي أشارت إليها النصوص و ما استقر عليه الفقه و القضاء في خصوص توفّر أركان الجريمة من عدمها بل لا بد أيضا أن تعرض المحكمة دفاع الخصوم و مستنداتهم (فقرة أولى) و الرد عليها إذا لم تأخذ بها (فقرة ثانية).

الفقرة الأولى: إيراد الأدلة

تنقسم اوجه الأدلة أو بالأحرى اوجه الدفاع و المستندات من حيث طبيعتها إلى قانونية و أخرى موضوعية و مثل الأولى هي أحكام و مبادئ القانون ، أما الثانية فمحلها دائما وقائع الدعوى و أدلتها مثال ذلك أوجه المستندات المتعلقة بالركن المادي للجريمة، أما من حيث الأهمية فتنقسم أوجه الدفاع إلى جوهرية و أخرى غير جوهرية و الفرق ينحصر في الأثر الحاسم للفصل. و يقصد بالدفاع كل ما يستعمله الخصم تأييدا و تدعيما لموقفه في الدعوى و ردا على طلبات خصمه و قد يتصل الدفاع بموضوع الدعوى كله آو بعضه و يسمى بالدفاع الموضوعي كإنجاز الخصم ما هو منسوب إليه أو جزء منه كما قد يتصل بالجانب القانوني و يأخذ صورا عديدة .

أما المستندات فيقصد بها الوثائق و الأوراق الكتابية التي يطرحها الخصم على المحكمة تأييدا و تدعيما لطلباته و من هنا فإن المحكمة ملزمة بعرض هذه الوسائل و الأدلة و إن لم يورد القانون التونسي آو الفرنسي آو المصري نصا يوجب على القاضي استعراض دفاع الخصوم و أدلتهم أو الرد عليها فإن الفقه و فقه القضاء استقر على ضرورة إلزام القاضي بعرض دفاع الخصوم و مستنداتهم ([20]) و هذا الالتزام عنصر جوهري في تعليل الحكم و يترتب على إغفاله إخلال بهذا الواجب سواء أنتهي الحكم إلى براءة المتهم آو إلى إدانته.

و الالتزام باستعراض مستندات الخصوص و أوجه دفاعهم واجب على المحكمة ذلك أن هذا الالتزام يتصل بحقوق الدفاع التي تعد مسألة جوهرية في نظام التقاضي و يرى بعض الفقهاء في مصر أن التزام المحكمة بعرض دفاع الخصوم و مستنداتهم و الرد عليها مرده أمران أولهما احترام حقوق الدفاع و الثاني التزام المحكمة بتعليل الحكم ([21]) و هو أمر منطقي.

و في استقرار أحكام القضاة و ما جرى عليه الشرّاح يكشف عن العناصر الواجب توفرها في أوجه الدفاع و مستندات الخصوم حتى تلتزم المحكمة باستعراضها و مناقشتها و الرد عليها و أكدت محكمة التعقيب ذلك بإقرارها أن ” تقدير الأدلة راجعا لمحض إجتهاد قضاة الموضوع لكن بشرط التعليل القانوني الصحيح” ([22]).

و هذه العناصر يمكن تصنيفها إلى عناصر شكلية و أخرى موضوعية و من بين الشروط الشكلية نجد أن طرح الدفاع و المستندات يجب أن يكون أثناء المرافعة و يجب أن يكون ثابتا في أوراق القضية و لذلك يجب التمسّك بالدفاع و المستندات أمام المحكمة، و إلى جانب الشروط الشكلية الآنفة الذكر لا بد من توفر ضوابط موضوعية أيضا وبغيرها لا يلتزم القاضي باستعراض أوجه الدفاع و المستندات و تتمثل هذه الضوابط أولا في تمسك الخصم بدفاعه و مستنداته على سبيل الجزم إذ لا يكفي أن يكون قد أثاره عرضا أو يكون قد أثاره في صيغة التفويض فمثل الصيغتين لا يحملان صفة الجزم و اليقين المطلوبة كما لا يعتد بأوجه الدفاع التي تثار في شكل أسئلة،

أما ثاني الضوابط فتتمثل في أن يبقى الخصم مصرا على مستندات و واجب دفاعه طوال نظر الدعوى فإذا تنازل عن أي منها صراحة أو ضمنا فلا تلزم المحكمة بإيرادها لكن عدم التمسك أمام محكمة الإستئناف بدفاع سبق إثارته أمام محكمة الدرجة الأولى لا يعني أن المحكمة غير ملزمة بعرضه و مناقشته ذلك أن قاعدة الأثر الناقل تطرح الدعوى بطلباتها و دفاعها و دفوعها على محكمة الإستئناف بما يجعل كافة أوجه الدفاع و المستندات مثارة أمامها من جديد بقوّة القانون بحيث تلزم المحكمة بمناقشتها، كما يشترط أن يتضمن الدفاع أو المستندات ما يشير إلى علاقته بالدعوى و أنه منتج فيها فالمحكمة ليست ملزمة باستعراض أوجه الدفاع و المستندات التي لا تتصل بالدعوى و أن يكون الدفاع أو المستند جوهريا و الدفاع الجوهري هو ما كان يشهد له واقع الدعوى و أوراقها فإن جاء عاريا من دليله أو كانت الأوراق تدحضه فلا يعد جوهريا ([23])

و بمراعاة كل هذه الضوابط فإن المحكمة ملزمة بإبراء الأدلة التي تسند إليها و بيان مؤداها في حكمها بيان كافيا فلا يكفي الإشارة إليها بل ينبغي سرد مضمون كل دليل و ذكر مؤداه بطريقة واقعية يتضح منها مدى تأييده للواقعة التي إقتنعت بها المحكمة حتى يتضح وجه الإستدلال بها و ما لها من دور منطقي في استخلاص الإدانة و الجزاء و لما كانت الإدانة ينبغي أن تبنى على الجزم و اليقين و لا بد من تأسيس هذا الجزم على الأدلة التي توردها المحكمة و التي يجب أن تبين مرادها في الحكم في تفصيل و وضوح لبيان المحكمة حين قضت في الدعوى بالإدانة قد ألمت إلماما صحيحا بواقعة الدعوى و ظروفها المختلفة و مبنى الأدلة القائمة فيها و أنها تبينت حقيقة الأساس الذي تقوم عليه شهادة كل شاهد و دفاع كل متهم حتى يكون تدليل الحكم على صواب إقتناعه بالإدانة بأدلة مؤيدة إليه.

الفقرة الثانية : الرد على الأدلة :

تعين أن تتضمن أسباب الحكم الرد على الدفوع الجوهرية التي من شأنها لو صحت أن تزيل أو تضعف الأسس القانونية أو المنطقية التي إعتمدت عليها إذ لو بقيت هذه الدفوع بغير رد لكان معنى ذلك هدم بعض أسبابه و قصور ما تبقى من أسباب تدعيمه، و هو ما تأكده محكمة التعقيب في العديد من قراراتها حين اعتبرت أن” ما أثاره لسان الدفاع من أن منوبه عرض في الأجل القانوني مبلغ الخطايا و أجرة عدل التنفيذ الذي قام بالإعلام و بما يفيد خلاص المستفيد على البنك وامتناع هذا الأخير من قبول التسوية يعتبر من الوجه القانوني دفعا جوهريا من واجب محكمة الموضوع أن ترد عليه بصفة صريحة و لما لم تفعل ذلك و أهملت مناقشة الحجج المدلى بها، فقد اصبح قضاؤه مشوبا بضعف التعليل” ([24]).

و الدفاع الجوهري هو الذي يترتب عليه تغيير وجهة الرأي في الدعوى فتلتزم المحكمة بأن تحققه بلوغا إلى غاية الأمر فيه دون تعليق ذلك على ما يبديه المتهم تأييدا لدفاعه أو ترد بأسباب سائغة تؤدي إلى إعتماده و يشترط في الدفاع الجوهري الذي تلتزم المحكمة بالتعرض له و الرد عليه أن يكون جديا يشهد له الواقع و يسانده فإذا كان عاريا عن دليله و كان الواقع يدحضه فإن المحكمة تكون في حل من الالتفات إليه دون أن يتناوله حكما و إذا كان الدفاع سليما و متوفر الشروط فإن سكوت الحكم عن إيراده و الرد عليه يكون موجبا للنقض ([25]) . و هو ما قضت به محكمة التعقيب حيث قالت “وحيث طالما لم تناقش محكمة القرار المنتقد تلكم المعطيات بإطناب و شمول تكون قد حادت عن الصواب و جاء قرارها ضعيف التعليل و قاصر التسبيب الأمر الذي يتعين معه نقضه” ([26]) .

و إذا كان ثمة إلتزام على المحكمة بالرد على المستندات و أوجه الدفاع الجوهري التي يطرحها الخصوم فإن مناط هذا الإلتزام هو رفض الدفاع و من ناحية أخرى فإن مجرد الرد لا يكفي بل لا بد أن يكون كافيا وسائغا فبالنسبة للكفاية إذا طرح أي من الخصوم مستندا أو أوجه دفاع جوهري و رأت المحكمة عدم التعويل عليه إلتزمت أن تتعرض له و أن تشير في حكمها إلى عناصره ثمّ ترد عليه وإلا كان حكمها معيبا و ذلك ما دعته محكمة التعقيب حين أقرت أن ” تجاهل محكمة الموضوع لدفوعات الأطراف و عدم ردها عليها يعد ضعفا في التعليل موجبا للنقض ([27]) .

و لا يهم بعد ذلك أن يكون ردها بالقبول أو الرفض و ليس بذي شأن أن يكون الرد خاصا بكل مستند أو دفاع بل قد يشمل عدّة مستندات أو أوجه دفاع، أما الدفاع الموضوعي فليس ثمة ضرورة للرد عليه بل يكفي أن تكشف مدونات الحكم عن إلمام المحكمة به ، و لا بدّ أن يتضمن رد المحكمة ما يصلح بذاته لإجهاض الدفاع و المعيار في ذلك ما تسوقه المحكمة من مبررات عدم الإعتماد بأوجه الدفاع أو المستند و تطبيقا لذلك فقد إعتبر دفاعا جوهريا يعيب الحكم عدم رده عليه الدفع ببطلان أقوال الشاهد لصدورها تحت تأثير الإكراه و الدفع ببطلان الإعتراف، فمتى كان الحكم قد استند في الإدانة على إعتراف المتهم لدى باحث البداية دون أن يتعرض إلى ما قاله المتهم أمام المحكمة من أن الاعتراف كان وليد إكراه و أنه لم يعترف تلقائيا هو دفاع جوهري كان يجب على المحكمة أن تحقق لتبيّن مدى صحته و إلا كان الحكم مشوبا بالقصور.

و ينتفي عنصر الكتابة في الرد إذا إتسم بالغموض و الإيهام كأن تقول المحكمة أنها لا تقتنع بهذا الدفاع أو المستند أو أنها تقتنع بها أو أنها ترى فيه الكفاية أو عدم الكفاية.

أما بالنسبة للرد المستساغ فلا بد أن يكون الحكم قد تناول الدفاع أو المستندات بأسباب سائغة و مقبولة فإذا ما انتهت المحكمة إلى عدم الاعتداد بطلب سماع الشهود أو إجراء المعاينة لمجرد تقديمه في آخر لحظة للمرافعة فإن ذلك يعد ردا غير سائغ و لا مقبول لأن مجرد التأخير في طرح المستند أو الدفاع لا يعني بحكم الضرورة عدم جديته و العبرة في كون الرد سابقا أن يكون صالحا في العقل و المنطق لتبرير رأي المحكمة و الجريمة في ذلك التزام أصول الاستدلال المنطقي لذلك جرى العمل على أن الرد على أوجه الدفاع و المستندات الفنية لا بد أن يكون فنيا فإذا رأت المحكمة عدم التعويل على أي من هذه أو تلك تعين عليها أن تستند في ذلك إلى مستندات فنية كتقرير الخبراء مثلا ([28]) .

و مهما يكن من أمر فإن الرد على الدفوعات يعد من الأمور المؤكدة و المحمولة على محكمة الموضوع و إلا سوف يكون حكمها عرضة للنقض و هو تقرر لدى محكمة التعقيب حين اعتبرت ” أن محكمة القرار المطعون فيه لما أهملت الرد عما وقع التمسك به لديها من دفوع و لم تجب عنه بشيء و لا أنها استعرضت ما جاء في تصريحات الشاكي في اليوم التالي لرفع شكايته فيكون قرارها و الحالة تلك مشوبا بضعف التعليل و غير مستجيب لمقتضيات الفصل 150 و الفقرة الرابعة من الفصل 168 من مجلة الإجراءات الجزائية ” ([29]).

الفصل الثاني : التعليل إجراء وجوبي
لكي يكون التعليل كافيا في الحكم الجزائي لا بد من توفر بيانات معنية منها ما يتعلق بتقرير ثبوت الفعل من جانب المتهم و هو بيان واقعة الدعوى و ظروفها( مبحث أول) و منها ما يتعلق بتطبيق القانون و هو تكييف الواقعة و الإشارة إلى نص العقاب (مبحث ثان) لكن قبل ذلك تجدر الإشارة إلى كون الحكم الجزائي يشمل أيضا و في بعض الدعاوى العمومية دعوى مدنية و يكون القاضي على إثرها ملزما بتعليل حكمه فيما يخص الشق المدني للحكم الجزائي و عليه و لكون موضوعنا مقتصرا على تعليل الحكم الجزائي فسوف نتعرض فقط للحكم الجزائي أو الشق الجزائي للحكم دون المدني.

المبحث الأول: التعليل الواقعي للحكم الجزائي :

يجدر التعرّض في هذا الإطار إلى موجبات التعليل الواقعي (فرع أول) ثم نتناول فيما بعد بيان الواقعة (فرع ثان).

الفرع الأول : موجبات التعليل الواقعي :

لقد أوجب القانون و تحديدا الفصل 168 إ.ج. إن كل حكم سواء كان بالإدانة أو بالبراءة أن يشتمل على بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة بيانا كافيا تتحقق به أركان الجريمة و الظروف التي وقعت فيها و الأدلة التي استخلصت منها المحكمة ثبوت وقوعها من المتهم و أن يلتزم بإبراء مؤدي الأدلة التي استخلصت منها الإدانة حتى يتضح وجه استدلالها بها و سلامة المأخذ و علة هذا البيان هو تمكين محكمة التعقيب من مراقبة أن الجريمة قد استكملت كل عناصرها التي يشترطها القانون و أنها تقع حقيقة تحت النص الذي طبقته و أن يعلم المتهم على وجه الدقة بالأفعال التي يؤاخذ بها لذلك يجب أن يشتمل الحكم الجزائي على توفر جميع الأركان و الظروف التي يتطلبها القانون لتكوين الجريمة و تسليط العقوبة و بعبارة أخرى يجب التنصيص على توفر الأركان المكونة للجريمة و الظروف القانونية المشددة أو المخففة و المبررة للعقوبة الموقعة.

إذا اعتبرت محكمة التعقيب أنه “يجب أن يكون الحكم معللا تعليلا واضحا دون أن يشوبه قصور أو تناقض أو خرق للقانون” ([30]) . و لكن مع ذلك ليس من الضروري أن يذكر في الحكم كل شيء صراحة بألفاظ مخصوصة بل المعمول عليه أن يفهم من عبارة الحكم ما يلزم ذكره فيكون الحكم صحيحا.

إن المشكلة الأساسية في القانون هي أن تضع واقعة ما لقاعدة ما و على القاضي أن يقوم بتحليل الواقع إذ لا يجوز أن يشغل نفسه إلا بالواقع التي ينطبق عليها القانون و لا يفحصها أو يقدمها إلا من الوجهة القانونية و ليست المسألة دائما مسألة تحليل دقيق كالذي يقوم به العلماء و ليس تحليله فلسفيا فليس هناك ما يدفع إلى التساؤل حول الوجود الحقيقي للوقائع فمثل هذه المسائل لا تهم علم القانون.

و بما أن القانون يرى بعض الوقائع برؤية خاصة فإنه يتيح للقضاة بذلك فرصة تقديم تفسيرات و تبريرات تبدو للجميع في وضوح و من ثمّ تكون أيسر قبولا و إقناعا .

هذا و قد يفرض القانون رؤية معينة للواقع و هذا ما يسميه فقهاء القانون بالافتراضات القانونية أو القرائن القانونية و كلاهما يستخدم في تفسير الوقائع المتنازع عليها مع إعطاءها مدى و معنى.

كذلك و في حدود معينة يبدو دور الأدلة الخاصة التي يتطلبها القانون في إثبات وقائع معينة كما في حالة إثبات الميلاد و الوفاة و الزواج حيث يقرر القانون شكلا معينا لكي تكون قانونيّة.

إذ لا شكّ أنّه ثمّة نصوصا قانونيّة لتحقيق القرائن والافتراضات القانونيّة مثل اعتبار أنّ القاعدة قد وصلت إلى علم الكافة بمجرّد صدورها طالما أنّ هناك مصلحة للنظام في ذلك والواقع أنّه بدون العرف أو التقاليد القانونيّة التي تسمح بجمع نقاط الاستدلال التي يقدّمها القانون وبدون معرفة الاستخدامات والمساعدات الفنيّة لا يستطيع القاضي أن يستنتج شيئا قانونيّا من أكثر النصوص القانونيّة وضوحا.

وعلى فرض أنّ القاضي مع احترامه للعرف أو التقاليد القانونيّة قد وجد نصا يخلق قرينة قانونيّة فسوف يجد بين هذا النص القانوني والنصوص التي تدخل معه في إطار عام فرقا شاسعا فالنصوص التي تترك للقاضي مهمة تطبيق القانون على الوقائع كما هي فعلا مثل التأكد من حدوث أركان الجريمة المادّية والمعنويّة تكون مختلفة عما إذا كان الأمر متعلقا بقرينة قانونيّة فإنّ القاضي لا يهتم بتدرجات الفكر وإنّما يكتفي بالمظاهر التي يطلب منه القانون ملاحظتها أو ملاحظة وجودها وأيّة إضافة أخرى لا تهمه فبعد أن يتمّ التحقق لا ينقصه إلاّ أن يرى الواقع فيما أمامه بالطريقة التي وضعها المشرع وفي هذه الحالة فإن الالتزام بتحليل وتقييم حدث ما سوف يختفي أو يزول جزء كبير منه ويصبح التعليل القانوني عندئذ ثابتا ومن ثمّ يدخل بعض الصرامة والتحديد القانوني في عملية التعليل([31]).

إنّ التعليل بهذه الطريقة سوف يسمح للقاضي أن يربط القرائن القانونيّة بالحدث الواقعي مما يؤدّي إلى تشويه الواقعة أو الحدث ومن الآثار المترتبة على التسليم بذلك قفل باب المناقشة والجدل حول وقائع القضية أو على الأقل تحديد مجال المناقشة والجدل حولها ولكن يمكن القول بأنّ تلك الافتراضات والقرائن قد تبعد القاضي عند تعليل الحكم عن الحقيقة الواقعيّة ولم يفكّر المشرّع في أمر أن الحقيقة الواقعيّة لا تستحق أن تعرف بل الظن أنه من المستحيل أو من الصعب التوصل إليها بغير ذلك الطريق إلاّ أنّ النتائج التي يتوصّل إليها الحكم بالاستناد إلى ذلك قد يكون محل شك في معظم القضايا التي تستند إلى أسباب من هذا النوع.

إذ الواقعة التي يستند عليها الحكم الجنائي الصادر بالإدانة لا بدّ أن توجد على سبيل التأكيد حتى يستند القاضي إلى أسباب حقيقيّة تبرر حكمة وتكسبه الصدق وهذا لن يتأتى إلاّ بإطلاق حرية القاضي في التقدير التي يملكها بشكل مطلق حين يفتت وقائع القضيّة إلى عناصرها المتعدّدة لفحصها والتأكد من وجودها وتقديمها كأسباب يقينيّة يبني عليها حكمه والقول بغير ذلك يجعل القاضي ينطق بالحكم في الاتجاه الذي أشار به المشرّع إذ أنّ القاضي يستعيد سلطته التقديريّة في إطار نظام الأدلّة الإقناعيّة حسب ما هو معمول به في تشريعنا فيعمل سلطته ليتبيّن أنّ الحقيقة أي حقيقة الواقعة وظروفها وملابساتها وهو في الإطار ذاته ملزم بتعليل تلك الاستنتاجات التي خرج بها من خلال ما قام به في تفكيك للوقائع وفهمها بحسب وجدانه وما هو متوفـّر من أدلة وقرائن في كل دعوى على حده وهو ما أكّدته محكمة التعقيب في قرارها الصّادر بتاريخ 14 أفريل 1993

والذي جاء فيه أنّ مسألة تقدير الأدلّة واستخلاص النتائج القانونيّة منها وإن كان من اجتهاد محكمة الموضوع المطلق فإنّ ذلك مشروطا بتوقيها التعليل المنطقي المستساغ بدون تحريف أو تغيير في الوقائع أو الخطأ في تطبيق القانون([32]).

كما ورد في قرار آخر لها ” أن المحكمة كفيلة بتكوين ما يجعل وجدانها يجنح إلى التجريم بدل التبرئة و هو أمر وضوعي موكول لمحض إجتهادها المطلق دون رقابة عليها في ذلك من لدى محكمة التعقيب طالما عللت وجهة نظرها كما يجب فعليا و قانونيا بما له أصل ثابت في الأوراق” ([33])

الفرع الثاني: بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة أو البراءة

يجب أن يبين الحكم الجزائي الأفعال المنسوبة للمتهم و ظروف ارتكابها وبعبارة أخرى يجب بيان الواقعة وظروفها (فقرة أولى) لكن الحكم لدى محكمة الدرجة الثانية له خصوصيّة في إطار تعليل جانبه الواقعي (فقرة ثانية).

الفقرة الأولى : بيان الواقعة وظروفها :

بيان الواقعة مقتضاه بيان توافر أركان الجريمة التي سيعاقب عنها المتّهم بيانا كافيا من سلوك مادي وقصد جنائي ونتيجة معينة إذا كانت الجريمة تتطلّب لقيامها توافر نتيجة معيّنة دون غيرها ورابطة سببية بين الفعل والنتيجة، وهذا المعنى هو ما أكدته محكمة التعقيب في العديد من قراراتها مؤكّدة أن مراد القانون بعبارة بيان الواقعة الواردة بالفصل 168 م.إ.ج هو أن يثبت قاضي الموضوع في حكمه كل الأفعال والمقاصد التي تتكوّن منها أركان الجريمة مع إثبات ما خرج عن هذه الأركان مما له شأن هامّ تترتّب عليه نتائج قانونيّة لتاريخ الواقعة ومحل حدوثها ومأخذ الظروف المشدّدة للعقاب ([34])

فإن أهمل قاضي الموضوع ذكر شيء مخل بركن من الأركان التي لا تقوم الجريمة إلاّ بتوفرها جميعا أو مما لا يسوغ زيادة العقوبة التي فرضها كان من حق المحكوم عليه أن يطعن في حكمه لمخالفة القانون إذا جاء في قرار لمحكمة التعقيب “أن عدم مناقشة محكمة الأصل نتيجة الإختبار الذي يبين وجود عملية إختلاس من المتهم يعد ضعفا في التعليل موجبا للنقض” ([35]) و أكدت في قرار آخر ” أن القضاء بالإدانة دون إبراز الأركان الأساسية للجريمة يجعل القرار المطعون فيه غير سليم المبنى و قاصر التسبيب”([36]) و بيان ذلك بوجه عام ما يلي.

ـ أوّلا : أنّه ينبغي أن يستفاد من الحكم ماهية الفعل أو الأفعال المادّية التي صدرت من المتّهم مثل فعل الاختلاس في السرقة أو إزهاق الروح في القتل العمد أو فعل الجرح أو الضرب أو فعل تغيير الحقيقة بإحدى الطرق التي نص عليها القانون في التزوير أو موطن الخطأ أو الإهمال في القتل والإصابة خطأ وهكذا إذا قضت محكمة التعقيب “بأن التعليل الذي لم يستظهر بصورة واضحة العناصر الواقعية التي اعتمدتها المحكمة في نفي المسؤولية عن المالك واكتفت بالإستناد إلى اعتبارات إفتراضية و عاطفية لا تصل قانونا أن تردّ الخطأ المنسوب للضحية حتى لا تستطيع محكمة التعقيب مراقبة صحة تطبيق القانون” ([37]) .

والخطأ في هذا البيان أو قصوره يستوجب نقض الحكم لأنّه يحول دون أن تتمكّن محكمة التعقيب من مراقبة محكمة الموضوع في شأن توفر الركن الذي يتطلّبه القانون فيها إذا رأت توفره وذلك بشرط توفر مصلحة للطاعن مما ينعاه على الحكم من خطأ أو قصور وإلاّ كان طعنه غير مقبول.

ـ ثانيا : كما ينبغي أن يستفاد من الحكم توافر القصد الجنائي فبالنسبة للقصد الجنائي العامّ لا يثير صعوبة تذكر لأنه يتضمّن توفر عنصرين إحداهما العلم بالقانون وهذا مفترض كما هو معلوم وثانيهما العلم بماهية الوقائع وهو يستفاد عادة من مجرد إقامة الدليل على إسنادها إلى شخص المتّهم ومع ذلك ففي القليل من الجرائم يحتاج إثبات القصد العامّ إلى عناية خاصّة مثل العلم بتزوير الكتب في جريمة استعماله والعلم بمصدر الأشياء المخفاة في جريمة إخفاء الأشياء المتحصّلة من جناية أو جنحة مع أن كليهما من عناصر القصد العام بطبيعة الحال.

أما القصد الخاص فلا محل لافتراضه ويتطلّب عادة جهدا خاصا في حكم الإدانة في إبراز توفره مثل نيّة استعمال الكتب المزوّر في التزوير و نية إزهاق الروح في القتل العمد، إذ يتفاوت القصد الخاص بحسب طبيعته من جريمة إلى أخرى كما قد تختلف الأدلّة عليه من واقعة إلى أخرى شأن باقي أركان الجريمة.

فعدم إبراز الركن القصدي للجريمة في حكم قضى بالإدانة يكون مشوبا بالقصور في التعليل و تتوفر معه جدية المتهم في الطعن.

كما انه إذا كانت الجريمة تتطلب تحقق نتيجة معينة بذاتها لقيامها وجب بيان توفرها مثل الوفاة في القتل العمد أو الضرب المفضي إلى الموت حتى تطبق بذلك الفصل القانوني الذي تقتضيه الجريمة أو الفعلة المرتكبة و عند عدم ذكرها يكون حكمها مستوجبا للنقض متى أدى إلى خطأ في تكييف الواقعة و بالتالي إلى الإدانة و في هذا الإطار أوردت محكمة التعقيب” أن تقدير الخطأ المنسوب للمتهم يعود لاجتهاد قاضي الموضوع مما استخلصه من ظروف الواقعة و كافة العناصر المطروحة لديه و التي كانت محل نقاش بين أطراف القضية بشرط توقيه التعليل المنطقي المستساغ بدون تحريف أو تغيير في الوقائع أو الخطأ في تطبيق القانون”([38]) .

ـ ثالثا : ينبغي أن تفيد عبارات الحكم قيام الرابطة السببية بين الفعل المادّي والنتيجة التي تحقّقت وهي رابطة تظهر عادة في كيفيّة سرد الوقائع وتسلسلها فلا يحتاج الأمر إلى إبرازها بشكل خاص إلاّ إذا دفع الجاني بتداخل عوامل أخرى عدا فعله في إحداث النتيجة النهائيّة إذا كانت هذه العوامل شاذة غير متوقعة أي من شأنها أن تقطع صلة السببية بين الفعل والنتيجة المعاقب عليها وإلاّ كان إغفال البيان عندئذ إغفالا للردّ على دفاع جوهري وهي تخضع من ناحية تقدير توافرها أو عدم توافرها لرأي محكمة الموضوع شّأن باقي عناصر الدعوى فلا رقابة عليها من محكمة التعقيب إلاّ من حيث القول بأن فعلا معينا يصلح قانون لأن يكون سببا للنتيجة التي حصلت أولا يصلح لذلك.

ولما كانت العلاقة السببية رابطة موضوعية متصلة بالفعل المادي كما هي الحال في أغلب الجرائم و النتيجة لذا يجب على حكم الإدانة أن يبرز توفرها ضمن البيان المطلوب لكافة عناصر الواقعة التي أدان فيها المتّهم وإلا كان قاصرا معيبا.

فمن المتعيّن أن تفيد عبارات حكم الإدانة في الجرائم المختلفة قيام رابطة السببية بين نشاط الجاني عمديا كان أم غير عمدي وبين النتيجة النهائيّة متى أعتبره مسؤولا عنها. ولا يلزم أن تكون عبارات الحكم صريحة إذ قد تكون ضمنيّة ولكن يلزم أن تؤدّي إلى إبراز توفرها بشكل تعده المحكمة أي محكمة التعقيب كافيا بعيدا عن شوائب التعليل المختلفة.

وتظهر السببية عادة من مجرد سرد الوقائع فلا يحتاج الأمر إلى إبرازها بشكل خاص.

ولكن توفر السببية بين نشاط الجاني والنتيجة النهائيّة أو عدم توفرها أمر موضوعي فلمحكمة الموضوع القول الفصل فيه، يستوي في ذلك إسناد إصابة المتضرّر إلى فعل المتهم أو خطئه أم إلى فعل المتضرر أو خطئه فالإسناد مسألة موضوعية في جميع صوره وسواء أكان مفردا أم مزدوجا إلا أنّه ينبغي أن يراعى مع ذلك أن سلطة محكمة الموضوع حتى في المساءل الموضوعيّة الصرفة ليست مطلقة من كل قيد بل تباشر محكمة التعقيب عليها إشرافا متعدّد النواحي كما هي الحال في جميع عناصر موضوع الدعوى.

ـ رابعا ذا كانت الواقعة شروعا وجب أن يبيّن الحكم أيضا توفر أركانه المطلوبة قانونا، ففي الشروع ينبغي أن يبيّن الحكم توفر أركانه من بدء في تنفيذ الفعل المادي إلى خيبة أثر أو إيقافه لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها إلى قصد إتمام الجريمة وإلاّ كان قاصرا معيبا ومع ذلك لا يفيد المحكوم عليه في طلب نقض الحكم استناده إلى أن المحكمة أخطأت في التدليل على أن الجريمة التي شرع فيها خابت لسبب خارج عن أرادته ما دام الحكم قد أثبت أنّّه عمد إلى ارتكاب الجريمة وبدأ في تنفيذها وان عدم تمامها لا يرجع إلى إرادته.

ـ خامسا : إذا كانت الواقعة اشتراكا في جريمة لزم أن يبيّن الحكم وقائع الفعل الأصلي أولا ثم يضيف إليها الوقائع المكوّنة لعناصر الاشتراك وبوجه خاص نية المساهمة في الفعل الأصلي مع توفر طريقته من تحريض أو اتفاق أو مساعدة والأدلّة عليها إذ لا يكفي القول مثلا بأن المتهم الثاني أمسك بالمتضرر عليه بقصد تمكين المتهم الأول الذي كان قادما خلفه من ضرب المجني عليه نتيجة محتملة لهذه المساعدة دون أن يبيّن الحكم الوقائع التي أستخلص منها أن ما فعله من إمساك المتهم الثاني على هذا النحو قد قصد به تمكين المتهم الأوّل من إرتكاب الجريمة ولم يكن من قبيل الاعتداء الشخصي منه عليه المقصود لذاته متى كان ذلك فإن الحكم يكون قاصرا يتعيّن نقضه.

و مثل هذا الحكم جاء قاصرا معيبا لأن قصوره في البيان لم يكن يؤدّي إلى الخلط بين الاشتراك والفعل الأصلي بقدر ما يؤدّي إلى الخلط بين جناية القتل العمد وجناية الضرب المفضي إلى الموت وبالتالي بين الاشتراك في الأولى والاشتراك في الثانية لكن العقوبة المحكوم بها ما كان يمكن الحكم بمثلها في الضرب المفضي إلى الموت بل قد يقال أنه مع قصوره في بيان قصد المساهمة في جريمة الفاعل الأصلي قد يمنع محكمة التعقيب من أن تراقب ما إذا كانت الواقعة المسندة إلى المتهم الأول عبارة عن اشتراك في ضرب مفضي إلى الموت أو مجرّد إمساك للمتضرر على النحو الذي وصفه الحكم دون اتفاق سابق مع الفاعل الأصلي وذلك عبر مشادة عابرة بين الطرفين ([39]).

أما إذا كان قصور الحكم في البيان المطلوب يترتّب عليه فحسب عدم إمكان تمييز ما إذا كان فعل المتهم يعد فعلا أصليا في الواقعة أم مجرد اشتراك فيها وكانت العقوبة المحكوم بها يمكن تبريرها بأي من الوصفين فإن الجدية في الطعن تعد منتفية وتنطبق هذه القاعدة عند أي خطأ من الحكم المطعون فيه في تطبيق قانون العقوبات وبالتالي في تكييف الواقعة فعلا أصليا وليست مجرد اشتراك فيه فنظريّة العقوبة المبرّرة تبرر الخطأ في تطبيق القانون الموضوعي كما تبرر في نفس الوقت القصور في البيان الذي يتطلبه القانون الإجرائي أيا كان موضوعه.

ـ سادسا : ينبغي أن يبيّن في الحكم توفر الظروف المخففة أو الظروف المشددة في حق المتّهم الذي أدين بمقتضاها مثل الإصرار السابق أو الترصد في القتل العمد وفي الضرب أو الجرح أو اقتران القتل العمد بجناية أو ارتباطه بجنحة أو الإكراه في السرقة.

والقصور في بيان الظرف المشدد أو المخفف يعيب الحكم بما يبطله إذا كان قد أوقع على الطاعن عقوبة لا يمكن الحكم بها إلى الحد الذي رآه مناسبا للواقعة بغير توافر هذا الظرف أما إذا كانت العقوبة مبرّرة حتى مع افتراض عدم توافر الظرف المشدّد أصلا فقد انتفت المصلحة من الطعن،إذ قضت محكمة التعقيب بأنّ “إحالة المتهم طبق أحكام الفصل 206 م.ج. و القضاء بالتخفيف و ذلك بالنزول بالعقاب دون تعليل الحكم بشكل خرقا واضحا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 53 من نفس المجلة” ([40]) .

وصفة المتهم يجب بيانها في جرائم كثيرة مثل صفة الموظف العام في جناية تزوير الأوراق الرسمية وفي إختلاس الأموال العمومية فإذا لم يبين الحكم صفة المتّهم يكون معيبا بالقصور في البيان وفي التعليل.

كما أنه لا بدّ من بيان توفر الأعذار القانونيّة المخففة أو المعفية إذا تحقق شيء منها في واقعة الدعوى ومن باب أولى وأحرى توفر أي سبب من موانع المسؤوليّة أو أسباب الإباحة لأنه ينتهي حتما إلى الحكم بالبراءة. إن عبارة

“ظروف الواقعة ” واسعة النطاق تتسع لكل ما قد يسيء إلى المتهم أو ما قد يفيده على نحو أو آخر في التطبيق القانوني أو في تحديد مدى مسؤوليته الجنائيّة أو المدنيّة.

وعلى العموم فإن بيان الواقعة وتعليلها في الحكم أمر جوهري ويترتب على عدم بيانها بطلان الحكم وقابليته للنقض والغرض من وجوب اشتمال الحكم على هذه البيانات هو تمكين محكمة التعقيب من مراقبة صحة تطبيقه على الوقائع. ولما لم يكن من وظيفتها إعادة النظر في الموضوع فيجب أن تجد أمامها في الحكم كل ما يتوقف عليه توقيع العقاب وتقديره ولا يكتفي أن يقتصر الحكم على مجرد وصف التهمة بوصفها القانوني بل يجب بيان الأفعال الصادرة عن المتهم والمكوّنة للجريمة التي اعتبرت المحكمة أن هذا الوصف ينطبق عليها لأن قاضي الموضوع لا يفصل نهائيا في وصف التهمة وفي التطبيق القانوني بل أن حكمه في ذلك خاضع لرقابة محكمة التعقيب

ولذلك يجب أن يبيّن في حكمه الوقائع والظروف التي رأى فيها أنه ينطبق عليها النص الذي يطبقه ليمكن لمحكمة التعقيب مراقبة هذا التطبيق إذا لا يكتفي مثلا بالقول بأن المتهمين استولوا على أموال عموميّة دون أن يذكر الأعمال التي صدرت عنهم أو ذكر أن المتهم استعمل طرق النصب والاحتيال على المتضرر حتى يتحصل منه على مبالغ دون أن يوضح الأعمال التي تتكون منها أركان جريمة التحيـّل كذلك في حالة تشديد العقوبة لوجود ظرف مشدّد يجب بيان هذا الظرف. ولكن مع ذلك ليس من الضروري أن يذكر في الحكم كل شيء صراحة بألفاظ مخصوصة بل يكفي أن يفهم من عبارة الحكم ما يلزم ذكره فيكون الحكم صحيحا.

إن الغرض من بيان الواقعة في الحكم هو تمكين محكمة التعقيب من مراقبة صحة تطبيق القانون و أكدت محكمة التعقيب في هذا الصدد “أن الأحكام في تعليلها يجب ان تبني على الجزم و اليقين لا على الاستنتاج المجرد و تركز فيه جميع ما استندت إليه على ما له أصل ثابت في الأوراق حتى يتحقق جدواها و فاعليتها و هو ما قصده المشرع من خلال الفصل 168 م.إ.ع ” ([41]) .

والتحقيق من أن القاضي لم يوقع العقوبة إلاّ بعد التأكد من توفر جميع الأركان والشروط اللاّزمة كتوقيعها في حالة الحكم بالإدانة كما أنه لم يقضي بالبراءة إلاّ بعد التثبّت من عدم توفر هذه الأركان قبل الحكم بالبراءة فيجب أن تتمكّن محكمة التعقيب من مراقبة الحكم في الحالتين، فعند الحكم بالإدانة يجب بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة أي يجب إثبات توفر جميع الأركان التي يتطلّب توفرها لتوقيع العقوبة.

أما إذا حكمت بالبراءة لعدم توفر ركن من أركان الجريمة فيكفي بيان عدم توفر هذا الركن ولا تكون هناك حاجة للكلام عن باقي أركان الجريمة. إذ جاء في قرار لمحكمة التعقيب “إن تماسك أجزاء الحكم و تعليل الأحكام من الجهتين الواقعية و القانونية هما عاملان ضروريان لسلامة كل حكم من العيوب الموجبة للنقض و انعدامها يجعل الحكم عرضة للنقض ” ([42]) .

نخلص من كل ما تقدم أن الغرض من وجوب بيان الواقعة في الحكم هو التأكد من صحة تطبيق العقوبة و ما ينتج عن الدعوى العمومية من دعوى مدنية تقضي بالتعويض عن الضرر الحاصل للمتضرر و من ثم فعلى المحكمة أن تقوم بتعليل حكمها فيما يخص الشق المدني أيضا تعليلا قانونيا مثله مثل الشق الجزائي للحكم حتى لا يكون عرضة للنقض من طرف محكمة التعقيب.

الفقرة الثانية : التعليل الواقعي لدى محكمة الدرجة الثانية :

محاكم الطعن الموضوعيّة هي التي تختص بالفصل في الاستئناف ولكي يكون تعليل الأحكام الصادرة من هذه المحاكم كافيا لا بد أن يشتمل على بيانات إضافيّة تهم خصوصا قبول الاستئناف من ناحية مستندات الاستئناف من ناحية أخرى.

1 ـ تعليل الحكم في قبول الاستئناف ورفضه :

إن محكمة الدرجة الثانية عند نظرها في مطلب الاستئناف سوف يتجه اهتمامها في البداية إلى مسألة شكل الاستئناف هل تمّ في الآجال الممنوحة قانونا أم لا وهل تم ممن له الصفة أم لا كل ذلك من الأمور المحمولة على محكمة الدرجة الثانية البت فيها فإما أن يكون الطلب مقبولا ويكفي أن يشير الحكم إلى ذلك دون حاجة إلى تفصيل ولا يعيب حكمها إذا ما غفلت عنه و لكن إذا كان الطعن غير مقبول تعيّن على المحكمة بيان أسباب ذلك وإلاّ كان حكمها مشوبا بعدم كفاية الأسباب.

وفي مجال شكل الطعن تثور مسألة العذر القهري أو القوّة القاهرة والتي تحول دون تقديم مطلب الاستئناف في ميعاده ويعد الأكثر شيوعا في هذه الحالة المرض الذي يستوجب من المريض أن يلزم داره ولا يغادرها ويقع إثباته عادة بشهادة طبيّة والمحكمة غير مطالبة بالأخذ بما ورد فيها تطبيقا لقاعدة أن لها دون غيرها تقدير المانع القهري على وجه عام إلاّ إذا كانت العلّة التي تبديها لرفض المانع يستحيل التسليم بها عقلا ولذا فهي مطالبة ببحث الشهادة الطبيّة وتقدير قيمتها كدليل على مرض المحكوم عليه وجسامة مرضه وتاريخه ثمّ تتعرض إلى تعذره في التأخير على أساس ما يظهر فإذا أغفلت ذلك في الردّ عند عدم قبول الطعن شكلا لتقديمه بعد الأجل فيكون حكمها قاصر التعليل متعينا نقضه و كذلك حالة السجين الذي لم يقم باستثناء الحكم الذي صدر ضده و اعتبر معذورا في ذلك لأنه لم يعلم بالحكم و إنما تخلفه عن القيام باستئنافه في الآجال القانونية كان نتيجة تواجده في السجن و كان على محكمة الموضوع أن تراعي ذلك و تقوم بتعليله.

فالشهادات الطبيّة التي يقدمها الخصم تبرير لعدم الطعن في الآجال أو لبيان سبب تخلف المتّهم عن أولى جلسات المعارضة تخضع لتقدير محكمة الموضوع قبولا ورفضا ومع ذلك يبقى من الضروري بيان أسباب رفضها بأسباب مقبولة ومستساغة إذ لا يكفي أن تشير المحكمة لدليل العذر بل لا بد أن تتعرّض له ذاته وتبدي رأيها بكل موضوعيّة وإلاّ كان حكمها مشوبا بضعف التعليل ([43]).

ومن المقرّر أن إستئناف الحكم الصادر في المعارضة بعدم جوازها لا يقتصر في موضوعه على هذا الحكم بل ينصرف أثر الإستئناف حتى على الحكم الغيابي الإبتدائي و هو ما ورد بالفصل 213 إ.ج. “يكون الإستئناف غير مقبول فيما عدا صورة القوة القاهرة إن لم يقع في أجل أقصاه عشرة أيام من تاريخ صدور الحكم الحضوري أو من تاريخ الإعلام بالحكم الذي اعتبر حضوريا على معنى الفقرة الأولى من الفصل 175 أو من تاريخ انقضاء أجل الإعتراض على الأحكام الغيابية أو من تاريخ الإعلام بالحكم الصادر برفض الإعتراض” لكن رغم ذلك فإن هذا الفصل أثار جدلا فقه قضائي سواء لدى محاكم الإستئناف أو حتى لدى محكمة التعقيب إذ اتجه رأي إلى القول بأن الحكم الصادر بعدم قبول الإعتراض شكلا لا يكون ملزما بالتعرض إلى موضوع الحكم الإبتدائي لأن هذا الحكم هو حكما شكليا قائما بذاته ولا ينصرف إثر الإستئناف إلى موضوع الحكم الإبتدائي و ذلك لاختلاف طبيعة كل من الحكمين، فيما اتجه رأي آخر إلى القول بضرورة البت في أصل الدعوى و النظر فيها لأن محكمة التعقيب تبت في الأصل لا الشكل وبالتالي فإن استئناف حكم الإعتراض القاضي بعدم قبول الاعتراض شكلا يجعل محكمة الاستئناف تنظر في موضوع الاستئناف و كذلك في موضوع الدعوى برمته و تمكن بالتالي المحكمة المحكوم عليه من حقه في التقاضي على درجتين و توفر له فرصة الدفاع عن نفسه.

2 ـ تعليل الحكم في موضوع الاستئناف :

بعد فراغ المحكمة من بحث مسألة القبول والشكل تتحوّل للفصل في موضوع الاستئناف وقد تؤيّد المحكمة الحكم المطعون فيه وفي هذه الحالة فلا تثريب عليها إذا تبنّت أسبابه التي انبنى عليها بشرط أن تكون صحيحة وكافية وسليمة دون حاجة إلى إعادة سردها من جديد أو الإضافة عليها بل يكفي مثل قولها ” حيث أنّ الحكم الابتدائي في محله للأسباب التي بني عليها ومن ثم يتعيّن تأييده “إذ عليها أن تحيل على الأسباب الواردة بالحكم الإبتدائي إذا الإحالة على الأسباب بمثابة ورودها و تدل على أن المحكمة قد اعتبرتها كأنها صادرة عنها([44]). كما قد ينشئ لنفسه أسباب جديدة يراعي اشتمالها على البيانات اللاّزمة لكتابة الأسباب التي سبق الإشارة إليها.

أما إذا خلا الحكم الاستئنافي من الأسباب التي استندت إليها المحكمة في تأييد الحكم المستأنف فلا أخذ بالأسباب الواردة فيه ولا جاء بأسباب تؤدّي إلى النتيجة التي انتهى إليها يكون موجبا للنقض لضعف التعليل أو لانعدامه أصلا وكذلك ليس للمحكمة الاستئنافية أن تؤيّد الحكم الابتدائي لأسبابه وتتخلّى بذلك عن حقها – بل واجبها – في إعادة تقدير الوقائع من جديد فهي درجة في التقاضي وعليها إذا رأت أن محكمة الدرجة الأولى أخطأت في التقدير أن ترجع الأمور إلى نصابها الصحيح وتفصل في موضوع الدعوى بناء على ما تراه هي من واقع أوراقها والأدلّة القائمة فيها واتجهت في ذلك محكمة التعقيب بقولها ” تكون أجزاء القرار الإستئنافي متناقضة و مضطربة و متجه نقضه لضعف التعليل إذا قضى بنقض الحكم الإبتدائي و القضاء من جديد بثبوت إدانته و الحال أن هذا الحكم لم يقضي بعدم سماع دعوى الجريمة المنسوبة للمتهم بل أدانه من أجلها” ([45]).

أمّا إذا عدّلت المحكمة الحكم أو ألغته فلا بد لها أن تنشئ لنفسها أسباب تراعى فيها البيانات اللاّزمة لكفايتها إلى جانب التزامها بالرد على أسباب الحكم المطعون فيه ولا فرق في ذلك بين كون التعديل أو الإلغاء إلى البراءة أو الإدانة على أن هذا الردّ قد يكون صريحا أو ضمنيا ويتحقق متى أقام الحكم قضاءه على أسباب كافية لإلغاء الحكم المطعون فيه.

ولما كانت المحكمة الاستئنافية درجة في نظر موضوع الدعوى لذا يجوز للدفاع أن يقدّم أمامها ولأوّل مرة أي وجه دفاع قانوني أو موضوعي سواء كان مستندا إلى قانون العقوبات أم إلا قانون الإجراءات وعندئذ تلتزم بالرد على هذا الدفاع أو الدفع عند تعليل حكمها إما بالقبول وإمّا بالرفض بأسباب سائغة وفي نفس النطاق الذي تتقيد به محكمة الدرجة الأولى وإلاّ كان حكمها قاصرا متعينا نقضه.

وإذا كان الحكم الابتدائي من حيث تعليله غير سليم أو خال من البيانات الجوهريّة الواجب إثباتها فيه وجب على محكمة الدرجة الثانية أن تحرر أسباب جديدة فإن لم تفعل وأيّدته لأسبابه بطل الحكم الابتدائي والاستئنافي تبعا له لاستناده إلى حكم لا وجود له قانونا.

أمّا إذا رأت محكمة الدرجة الثانية رغم تأييدها الحكم المستأنف فيما قضى به أن تحرر أسباب جديدة لاعتبارات فنيّة ولما تراه فيها من أن تكون أوفى بالغرض المقصود من تحريرها بغير أن تحيل القارئ إلى أسباب الحكم المستأنف في جملتها أو في أجزاء منها وجب أن يجيء تعليلها بدوره كافيا صحيحا مشتملا على كافة البيانات والعناصر المطلوبة لصحة تعليل الأحكام كما لو كان هذا الحكم صادر من محكمة الدرجة الأولى فلم يسبق صدور حكم ابتدائي في الدعوى، أما إذا ألغت المحكمة الدرجة الثانية الحكم الابتدائي أو عدلت فيه فلا يصح أن تستند إلى أسبابه أو تحيل إليها إلاّ في النطاق الذي لم يتناوله الإلغاء أو التعديل فحسب أما فيما عدا ذلك فعليها أن تضع أسباب جديدة وكافية مستدلة على صحة قضاءها تدليلا كافيا وينبغي أن تتضمن أسباب الحكم الاستئنافي من خلال تعليله ردّا كافيا سائغا على أسباب الحكم الابتدائي بما يفندها ويقضي الحكم على خلافها دون أن تكون ملزمة بأن تناقشها بل يكفي أن يكون حكمها مبنيا على أسباب تؤدّي نتيجتها إلى إلغاء الحكم الابتدائي([46]).

يبقى في الأخير الإشارة إلى أنه حتى في حالة تعديل العقوبة بالتشديد أو بالتخفيف أو منح تأجيل التنفيذ تكون محكمة الإستئناف مطالبة بمناقشة تقدير الحكم الابتدائي فيما قضى به من عقوبة أو بإيراد أسباب خاصة بهذا التعديل فمثلا عند التخفيف لا تلزم أية إضافة إلا بمثل قول المحكمة الاستئنافية أنها ترى أخذ المتّهم بقسط أوفر من التخفيف أو أنها تكتفي مثلا بالسجن شهرا بدلا من شهرين أو بغرامة ماليّة وعند إشارة المحكمة إلى تأجيل تنفيذ العقوبة ينبغي تعليل اتخاذ هذا الإجراء سواء في الحكم الابتدائي أو في الحكم الاستئنافي لأن الأصل في العقوبات نفاذها والاستثناء عدم النفاذ أو إيقافه أما إذا ألغت المحكمة الاستئنافية تأجيل التنفيذ المحكوم به ابتدائيّا فإنّها والحالة تلك ملزمة أيضا ببيان الأسباب التي تدعوها إليه على أنه يلاحظ مع ذلك أنه لا يصح أن يقرر الحكم الاستئنافي أنه يأخذ بجميع الأسباب التي استند إليها الحكم الابتدائي ثمّ ينصّ في المنطوق على إلغاء تأجيل التنفيذ وإلاّ كان ذلك تناقضا بين الأسباب والمنطوق مما يعيب الحكم ويبطله لضعف تعليله،

أما تقدير تأجيل التنفيذ أو إلغاءه فهو بداهة من سلطة محكمة الموضوع وحدها لكنها محكومة بضوابط و شروط حددها المشرع يجب على المحكمة أخذها بعين الإعتبار في مسألة تقديرها لتأجيل التنفيذ أو عدمه فالمحكمة لا تنظر في مسألة التأجيل إلا إذا توفر شرط ضروري و هو نقاوة سوابق المتهم فبدون ذلك لا يمكن للمحكمة منح تأجيل تنفيذ العقوبة. ومهما يكن من أمر فإن الحكم الجزائي سواء ابتدائيا أو استئنافيّا يجب أن يكون معللا تعليلا واقعيا لكن ذلك لا يكفي إذ التعليل يشمل أيضا الجانب القانوني للحكم.

المبحث الثاني : التعليل القانوني للأحكام الجزائية

لقد دأب المشرع بالفصل 168 م.إ.ج على تجزئة المستندات الواردة ضمن الأحكام و القرارات الجزائية إلى مستندات واقعية و أخرى قانونية و المقصود بالمستندات القانونية هو معرفة صحة إنطباق إطار الأركان القانونية للجريمة حسب ما أورده المشرع على وقائع القضية واستنتاج الإدانة أو البراءة و يقوم التعليل القانوني على بيان النص القانوني المنطبق على الواقعة (فرع أول) لكن يجوز أن يحدث أن تخطأ المحكمة في ذكر النص القانوني أو في تطبيقه أو تغفل عن ذكره (فرع ثان) فهل من تأثير لذلك على الحكم الجزائي .

الفرع الأول : بيان النص القانوني المنطبق على الواقعة:

إن أهم ما يميّز المستندات هي تلاؤمها و تطابقها مع مقتضيات القانون و قد أكدت محكمة التعقيب في العديد من قراراتها على هذه الميزة بقولها يجب أن يكون حكمه معللا واضحا دون أن يشوبه قصور أو تناقض أو خرق للقانون ([47] ) هذا و يعتبر غياب التبرير القانوني في المستندات الواردة ضمن الأحكام و القرارات الجزائية بمثابة الضعف في التعليل الذي هو بمثابة فقدانه ([48]) فالتذكير بأركان الجريمة القانونية هي فرصة يتمكن من خلالها القاضي التأكيد على صحة انطباق الأفعال المقترفة على النص و نسبتها إلى المتهم كل ذلك بالاعتماد على ما ورد في النصوص القانونية .

و على هذا الأساس صرّحت محكمة التعقيب في إحدى قراراتها أن قوّة الدليل و تقدير وسائل الإثبات و كفايتها و قوة تأثيرها على وجدان القاضي الجزائي أمر راجع لاجتهاده ما دام حكمه معللا تعليلا مستساغا قانونا ([49] ) بحيث يكون ذلك التعليل المقترح من طرف القاضي مطابقا لتحليل منطقي قام به عند تقديره لوسائل الإثبات بالاعتماد على النصوص القانونية المختلفة المتصلة لا بالمادة الجزائية فقط بل كذلك بالإجراءات الجزائية ([50]) .

و هكذا يكون التكييف القانوني لمختلف الوقائع و الظروف الملمة بالقضية بالإضافة إلى التذكير بكل الملابسات المحيطة بالجريمة عناصر الإثبات المختلفة من القيود التي أوردها المشرع لتحديد سلطة القاضي في تقدير وسائل الإثبات.

و عليه تعد المعرفة بقاعدة القانون شرطا حتميا لتطبيق العدالة غير المتحيزة التي تمكن من ملاحظة صيغة العدالة أو شكلها التي تقتضي المعاملة بالتساوي في المواقف المتشابهة و يوضح ذلك أهمية الاستناد إلى السابقات القضائية و لكن ليس فقط لأن القاضي يعرف قاعدة القانون المسببة لقراره التي يجب عليه أن يعملها قطعا لتصرفه و إنما أيضا لصياغة التعليل كنتائج من أجل إيجاد قاعدة أو قواعد إرشادية للقانون و يقتضي مفهوم التعليم من حيث القانون أن يمنح القانون حلا لكل نزاع و أن لا يتضمن ثغرات أو تناقضات و أن لا يبقى مجالا لأي تفسيرات ، و عندما يطبق القانون لا يجوز للقاضي أن يتساءل ما إذا كان الحل عادلا أم لا ،

و قد حثّ المشرع الفرنسي عندما ألغى نظام الاستعجال التشريعي الذي يمثل بصورة واضحة رابطة بين القاضي و المشرع عند إصدار الحكم على استبعاد التناقضات المحتملة و سدّ ثغرات القانون و تحديده و تفسيره و لكن من المتفق عليه أن يكون تدخل القاضي بصفة استثنائية و لا يسمح به عندما يكون القانون واضحا و في هذه الحالة إذا تمّ إثبات وقائع القضية يصبح الحل الوحيد الذي يمكن تطبيقه في هذه الخصومة مفروضا([51])

و من ثمة أوجب الفصل 168 م . إ . ج ضرورة ذكر النص القانوني المنطبق على الواقعة في الحكم إذ من الأهمية بمكان أن يعرف النص أو النصوص التي طبقتها على الواقعة و ذلك لتحقيق اعتبارين جوهريين أولهما أن قاعدة لا عقوبة و لا جريمة بغير نص تقتضي هذا البيان فإيجابه يتضمن تنبيه للقاضي إلى أنه لم يجد النص المنطبق على الواقعة فعليه أن يبرأ ساحة المتهم و ثانيهما أن واجب محكمة التعقيب في مراقبة تطبيق قانون العقوبات و تأويله يقتضي هذا البيان إذ عن طريقه تتمكن من مباشرة وظيفتها الأساسية في هذه المراقبة من ناحية بحث مدى انطباق النص المشار إليه على القدر الثابت من الوقائع و ناحية دخول العقوبة المقضي بها في هذا النص بالذات و يرى في هذا الاتجاه الدكتور أحمد فتحي سرور في مؤلفه الإجراءات الجنائية ([52])

أن الغاية من بيان النص المقرر للعقوبة هو حماية المتهم و هو ما يتحقق إذا تضمنت الأسباب عرضا لعناصر الجريمة ذلك أن القانون لم يعرف الشكلية لذاتها بل لكونها ضمانات لحماية الخصوم لكن الدكتور محمد علي الكيك يرى خلاف ذلك في مؤلفه أصول تسبيب الأحكام الجزائية في ضوء الفقه و القضاء ([53]) يرى ضرورة الإشارة إلى نص الحكم خاصة و أنه لا اجتهاد مع صراحة النص فإذا تمسك المشرع ببيان نص فصل العقاب فلا يكفي بيان عناصر الجريمة بل لا بد من الالتزام و الخضوع لإرادته و لا محل للقول بأن المشرع لم يرتب البطلان على إغفال الإشارة إلى مادة العقاب ذلك أن هذا البيان من الوسائل الجوهرية الذي يترتب على إغفالها بطلان الحكم ([54]).

و النص الذي تنبغي الإشارة إليه هو النص المتضمن بيان العقوبة بوجه خاص إلى جانب النص الذي يتضمن تعريف الجريمة أو تعريف ظرف مشدد لها كما أن مجرد الإشارة إلى نص القانون الذي حوكم المتهم بمقتضاه لا يكفي وحده ولا بد من بيان الفقرة التي تتضمن العقوبة أو بيان تاريخ صدور التشريع الذي تضمن مادة العقوبة .

وإذا كانت المادة التي تقرر العقوبة تستلزم توفر الشروط ذكرت في مادة أخرى فمن المهم ذكر هذه المادة الأخرى حتى و لو كانت الشروط المذكورة مبينة في الحكم كما أنه إذا كان القانون يبين الواقعة في مادة والعقوبة في مادة أخرى فإن بيان الواقعة في الحكم لا يكفي إذ يجب ذكر المادة التي تحدد العقوبة فإن ذلك كاف لتمكين محكمة التعقيب من مراقبة تطبيق القانون على الواقعة الثانية في الحكم وكل نقص في الحكم يؤدي إلى بطلانه لأنه يؤدي إلى عدم تمكين محكمة التعقيب من مراقبة التطبيق كما تلزم الإشارة إلى الفقرة التي طبقتها المحكمة من المادة إذا كانت تتكون من جملة فقرات أو بيان ما يكون قد لحق بها من تنقيحات تشريعية لكن يكفي بيان النص في ثوبه الأخير دون ما كان عليه من قبل ولا يغني عن ذكر النص الإشارة إلى القانون الذي تضمن مادة العقاب والإشارة إلى فصول الإدانة مادامت المحكمة لم تفصح عن أخذها بها فليس من الضروري القول بأنها معدلة لأنه لا وجود لمادة أصلية قديمة بعد التعديل ولا توجد إلا المادة الجديدة التي حلت محلها .

كما أنه متى كان الحكم قد أشار في صدره إلى مواد القانون التي طلبت النيابة العمومية معاقبة المتهمين بها ثم إنتهى في منطوقه بذكر عبارة “وبعد الاطلاع على الفصول السالفة الذكر” فإن في إيراد ذلك لا يكفي لبيان نصوص القانون التي طبقتها المحكمة و أدانت المتهمين بمقتضاه و لا يكفي أيضا إثبات المحكمة في حكمها أنها اطلعت على الفصول التي طلبت النيابة العمومية تطبيقها ثم قضت بها بعد ذلك بل يجب عليها أن تذكر تلك النصوص حرفيا في منطوق حكمها حتى لا يكون عرضة للنقض من طرف محكمة التعقيب لكن الملاحظة لجريان العمل

يلاحظ أن بيان ما سلف ذكره لا يتم بصفة سليمة و قانونية فكثيرا ما تكون الأحكام خالية من بعض النصوص القانونية أو لا تشير إلى الفقرة التي أسست المحكمة عليها حكمها أو بيان النص الذي بشير إلى العقوبة دون بيان النص الذي يحدد الجريمة و شروطها و هو ما يشكل ضعفا في التعليل إذ من المقرر قانونا و فقها أن التعليل جعل للحد من سلطة القاضي المطلقة من ناحية و بيان الأسانيد و الإستنتاجات التي بنا عليها حكمه و هو ما يشيع الطمأنينة في نفوس المتقاضين و المواطنين تجاه القضاء والعدالة عموما لكن إذا ما كان الحكم يشوبه ضعفا أو غيابا في التعليل لسبب أو لآخر فإنه يشكل منفذا للشك في النزاهة و العدالة المحمولة على القاضي و بالتالي إلى إنخرام المجتمع و العمران إذ عبرت على ذلك محكمة التعقيب بقولها ” إن في تعليل الأحكام تعليلا قانونيا و واقعيا ضمانا لجديتها و الثقة في عدالتها” ([55])

الفرع الثاني: الخطأ في ذكر النص القانوني :

إن الخطأ في ذكر النص المنطبق على الواقعة قد يكون بسبب خطأ في تكييفها فيسري عليها كل ما يسري على خطأ التكييف وقد يقع الخطأ في الإشارة إلى النص المنطبق رغم صحة التكييف و عندئذ يكون خطأ ماديا أو كتابيا فحسب و هنا تسري نظرية المصلحة في الطعن فحيث تنتفي المصلحة يكون الطعن غير مقبول حتى مع التسليم بحصول خطأ كتابي في إيراد النص القانوني المنطبق على الواقعة.

و في هذا الإطار ينص الفصل 411 من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي على هذه الفرضية و هو في نفس الوقت مصدر نظرية العقوبة المبررة في قضاءهم و هو مقصود في عبارته على حالة وقوع خطأ فحسب في ذكر النص القانوني المنطبق “فإنه متى كانت العقوبة المحكوم بها هي نفس العقوبة التي يقضي بها القانون فلا يجوز طلب الحكم بالبطلان” ([56]) و من ثم كان من الطبيعي أن تجد نظرية العقوبة المبررة أرضا خصبة لتطبيقها في محاكمنا عند الخطأ في ذكر النص القانوني المنطبق و هذه القاعدة أو النظرية تطبق عند الخطأ في القانون الموضوعي كما تنطبق في القانون الإجرائي أيضا.

لكن إذا حصل الخطأ في رقم النص الذي طبقته المحكمة لا يترتب عليه بطلان الحكم ما دام أنه وصف الفعل و بين الواقعة المستوجبة للعقوبة بيانا كافيا و قضى بعقوبة لا تخرج عن حدود المادة الواجب تطبيقها.

و بعبارة الفصل 168 م.إ.ج فإن المحكمة تحكم بمقتضى القانون أي أنها تطبق الفصل أو القانون على الواقعة المبينة في الحكم مع أنه بإلغاء المادة التي صار تطبيقها خطأ يكون الحكم في حقيقته خاليا من بيان النص القانوني الذي كان تطبيقه مفترضا و لا تغني عنها الاستناد إلى مادة أخرى أو فصل آخر غير منطبق فالعبرة هي الحقيقة بالواقعة التي صار بيانها في الحكم و بالعقوبة التي صار توقيعها فإذا كانت هذه العقوبة هي المقررة في القانون لتلك الواقعة

فلا أهمية لإهمال الإشارة بنفس المادة التي تقرر هذه العقوبة لأن محكمة التعقيب يمكنها أن تشير إلى هذه المادة و تضيفها إلى الحكم كما أن الإعلامات أو البلاغات التي تقدم للنيابة عند وقوع جرائم لا يذكر فيها إلا الفعل الذي ارتكبه المتهم بدون إشارة إلى نص القانون الذي يقضي بالعقوبة و لكن النيابة العمومية بمجرد العلم بالواقعة تعرف إن كان يعاقب عليها القانون أم لا كما أن الخطأ في تطبيق القانون لا يكون سببا للطعن إذا كانت العقوبة المحكوم بها فعلا لا تتجاوز العقوبة المقررة للفعل بحسب المادة أو النص الصحيح إذ أن المتضرر في هذه الحالة لا يكون قد ناله ضرر من هذا الخطأ و لا تكون المحكمة قد أخطأت في الحقيقة في توقيع العقوبة الصحيحة و إنما تكون أخطأت فقط في الإشارة إلى النص الذي ينص على تلك العقوبة أما إذا كانت العقوبة المحكوم بها تتجاوز العقوبة المقررة في المادة الواجب تطبيقها أو تقل عنها فإن الحكم يكون قطعا قابلا للنقض.

خاتمـــــة البــاب الأول

لقد تطرقنا في معرض حديثنا عن تعليل الأحكام في المادة الجزائية إلى أهميته البالغة من حيث تكريس مبدأ العدالة و الحياد و حماية حقوق المتهمين أو المحكوم عليهم و كذلك حماية مصالح و حقوق المتضررين فالقاضي ملزم بمبدأ تعليل كل حكم يصدره سواء بالإدانة أو بالبراءة فلا مجال للإفراط في السلطة و القضاء بحسب أهواءه و ميولا ته بل أن سلطته التقديرية و بالرغم من كونها كذلك فهي مقيـّدة ببيان و تعليل ما توصل إليه من خلال سلطته تلك و من المقرر أنه يجب أن تكون مكونات الحكم كافية بذاتها لإيضاح أن المحكمة حين قضت في الدعوى سواء بالإدانة أو بالبراءة قد ألمت إلماما صحيحا بمعنى الأدلة القائمة فيها و أنها ثبتت الأساس الذي قامت عليه شهادة كل شاهد أما وضع الحكم بصيغة غامضة و مبهمة فإنه لا يحقق الغرض الذي قصده المشرع من تعليل الأحكام و تعجز معه محكمة التعقيب من مراقبة صحة تطبيق القانون و لكي يتحقق الغرض من التعليل يجب أن يكون في بيان جلي مفصل بحيث يستطاع الوقوف على مسوغات ما قضى به و حتى يكون تدليل الحكم على صواب اقتناع بالإدانة أو بالبراءة بأدلة مؤيدة إليه.

و من المقرر أنه ينبغي ألا يكون الحكم مشوبا بإجمال أو إبهام مما يتعذر معه بيان مدى صحة الحكم من فساده في التطبيق القانوني على واقعة الدعوى وهو يكون كذلك كلما جاءت أسبابه غامضة فيما أثبتته أو نفته من وقائع سواء كانت متعلقة ببيان أركان الجريمة أو ظروفها أو كانت بصدد الرد على أوجه الدفاع الهامة مما لا يمكن معه استخلاص مقوماته سواء ما يتعلق منها بواقعة الدعوى أو بالتطبيق القانوني.

و كل حكم سواء كان بالإدانة يجب أن يشير إلى نص القانون الذي حكم بموجبه و هو بيان جوهري اقتضته قاعدة شرعية الجرائم و العقوبات و الأركان باطلا حسب الفصل 168 م.إ.ج. و يكفي لبيان النص القانوني الذي أخذ به الحكم أن يكون الحكم قد بين في صورته المواد التي طلبت النيابة العمومية محاكمة المتضرر بمقتضاها و من المقرر أيضا أنه لا يترتب على الخطأ في رقم النص المطبق بطلان الحكم مادام قد وصف الفعل و بين الواقعة المستوجبة للعقوبة بيانا كافيا و قضى بعقوبة لا تخرج عن حدود النص الواجب تطبيقه، كما لا يعيب الحكم سكوته عن إيراد نصوص القانون التي لا تتعلق ببيان العقوبة مادام قد أشار إلى مواد العقاب التي أدين الطاعنين بها أما إغفال الإشارة إلى نص القانون المتعلق بالإجراءات فإنه يبطل الحكم إذ من الأهمية بمكان ذكره و تفصيله حتى يكون الحكم معللا و مستساغا واقعا و قانونا أصلا و إجراء على أن التطبيق جرى على عدم الإشارة إلى نص القانون أو عدده خصوصا ما يتعلق منها بما هو إجرائي بحت.

لكن تبقى لمحكمة التعقيب السلطة الكاملة لرقابة أعمال قضاة الأصل من حيث تعليلها و الحكم وفق ما تقتضيه إرادة المشرع في ظل سلطة تقديرية و وجدان خالص و هو ما يشكل موضوع الجزء الثاني من هذه الرسالة.

الرقابة في اللغة هي حراسة المتاع و نحوه أما في الإصلاح القانوني فهي متابعة أمر معين فالرقابة على قرار أو حكم يقصد بها متابعته للوقوف على صحته من عدمه، أما النقض في اللغة فهو الإفساد فنقض الشيء هو إفساده بعد إحكامه و في الإصلاح القانوني النقض أو الطعن بالتعقيب هو طعن غير عادي في الأحكام النهائية الباتة يهدف إلى طلب إجراء محكمة التعقيب رقابتها على الجانب القانوني للحكم المطعون فيه دون الجانب الموضوعي و ذلك تطبيقا لأحكام الفصل 258 م.إ.ج الذي ينص على أنه ” يسوغ للأشخاص الآتي ذكرهم القيام بطلب تعقيب الأحكام و القرارات الصادرة في الأصل نهائيا و لو تم تنفيذها و ذلك بناء على عدم الإختصاص أو الإفراط في السلطة أو خرق القانون أو الخطأ في تطبيقه…” و يترتب عليه إما الإبقاء على الحكم و عدم المساس به أو إلغائه واعتباره كأن لم يكن حسبما يقتضي الحال و هو النقض بدون إحالة أو إحالته من جديد على محكمة الدرجة الثانية للنظر من جديد .

و بما أن الفصل 168 م.إ.ج. يقتضي من القاضي أن يذكر بكل حكم المستندات الواقعية و القانونية و لو في صورة الحكم بالبراءة فإن أي مخالفة لهذا الفصل تمكن كل من الطرفين من حق الطعن أمام محكمة التعقيب لتراقب هذه الأخيرة تعليل الأحكام الصادرة من محاكم الأصل. لكن هل يكفي أن تراقب محكمة التعقيب الأحكام و القرارات الجزائية لنقول أن هذه الرقابة كافية للحد من سلطة القاضي التقديرية حسب وجدانه الخالص أم هل يجب عليها أن تتخذ في شأن تلك الأحكام موضوع الطعن قرارات تكون بمثابة الجزاء لمخالفة أحكام الفصل 168 م.إ.ج. من قبل قضاة الأصل.

بالرجوع إلى مختلف القرارات الصادرة عن محكمة التعقيب حول هذا الموضوع نلاحظ أن الجزاء المنطبق من طرف هذه المحكمة هو نقض الأحكام الصادرة المخالفة للفصل 168 م.إ.ج. لكن قبل ذلك و من المتفق عليه فقها و قضاء و قانونا أن محكمة التعقيب تمارس رقابتها على الجانب القانوني للحكم المطعون فيه أمامها و لا ولاية لها مبدئيا على المساءل الموضوعية و نظرا لما تمثله هذه الرقابة من دور في تحقيق سلامة الحكم من الشوائب و بالتالي ضمان حق المتهم في حكم عادل نتعرض لمبدأ رقابة محكمة التعقيب على الجانب القانوني للحكم (فصل أول) ثم نبحث في مدى رقابتها على الجانب الموضوعي للحكم (فصل ثاني).

الفصل الأول : رقابة محكمة التعقيب على الجانب القانوني للحكم :

لا تعد محكمة التعقيب درجة من درجات التقاضي و إنما هي جهاز أنشأ لمحاكمة الحكم و مراقبة حسن تطبيقه للقواعد و المبادئ القانونية حسب ما أشير إليه أعلاه بالفصل 258 م.إ.ج فرقابة محكمة التعقيب تقتصر على الجانب القانوني للحكم إلا أنها تتصدى في حدود معينة للجانب الموضوعي منه بحيث ظلت على أصلها العام محكمة تراقب القانون دون الموضوع وسارت على أنها جهاز يراقب الشرعية دون الموضوع فيحال الحكم دون الدعوى،

لكن قبل التعرض لذلك يتجه الإشارة إلى أهمية التفرقة بين القانون و الواقع من ناحية و المعايير التي من الممكن أن يقع اعتمادها لإعمال هذه التفرقة ففيما يخص الأهمية فإن محكمة التعقيب تعمل على توحيد القواعد القانونية و كذلك على عدم التضارب في تفسيرها فهي تعني بالقانون دون الواقع فهذا الأخير يختلف باختلاف المنازعات المعروضة على عكس القواعد القانونية كما أن الطعون تنصب دائما على جانب القانون دون الموضوع.

لكن على قدر بساطة ما ذكر فإن المسألة على غاية من الدقة و التعقيد و هو ما حدى بالبعض من المفكرين إلى إعتبار أنه لا أمل في حل هذه المشكلة أي التفرقة بين الواقع و القانون فيما ذهب البعض الآخر إلى عدم جدوى هذه التفرقة في مجال تحديد نطاق رقابة محكمة التعقيب لاستحالة إقامة التمييز بينهما لكن هناك من ينادي بضرورة إقامة التفرقة و اعتماد معايير معينة لتحديد نطاق إختصاص محكمة التعقيب ([57])

فتعددت بذلك المعايير منها معيار المسائل البسيطة و المساءل المعقدة([58]) و معيار سلطة الملاءمة (مجال الواقع) و سلطة الإختصاص المقيد (مجال القانون) فدرجة الحرية الممنوحة هي التي تحدد التـفرقة و معيار طبيعة النشاط المبذول من القاضي (تقدير قانوني و تقدير مادي) و معيار التقدير القانوني للمسألة. و مهما يكن من أمر فإن رقابة محكمة التعقيب على الجانب القانوني ليست محل مناقشة إلا انه ثمة نصوص قانونية و نظرية قضائية قيدت من هذا المبدأ سوف نتعرض لمبدأ رقابة محكمة التعقيب على الجانب القانوني في إطار التعليل ثم نعرض القيود التي ترد على هذه الرقابة.

المبحث الأول: مبدأ الرقابة على الجانب القانوني للحكم:

لا شك أن رقابة محكمة التعقيب على الجانب القانوني للحكم المطعون فيه وقع تكريسها بمقتضى النص القانوني المشار إليه سلفا كما فعلت عديد النظم الأجنبية على أنه ثمة مسألة أخرى تفرض نفسها فالرقابة على تكييف الوقائع و التي تعد من التطبيقات الهامة لرقابة محكمة التعقيب على جانب القانون و من هنا يجدر الوقوف عندها و إلقاء الضوء عليها لذا فإن فكرة الرقابة على الجانب القانوني تقتضي أن نتعرض لها من خلال تناول مبدأ خضوع الجانب القانوني لرقابة النقض أو التعقيب (فرع أول ) ثم نتحدّث عن رقابة محكمة التعقيب على التكييف و تفسير العقود (فرع ثان) .

الفرع الأول : قاعدة خضوع الجانب القانوني لرقابة محكمة التعقيب :

غداة قيام الثورة الفرنسية استحدث المشرع الفرنسي نظام الطعن بالتعقيب بصورته الحديثة حيث أنشأ عام 1790 هيئة قضائية بحتة سميت بمحكمة التعقيب تحددت مهمتها في رقابة الجانب القانوني في الحكم دون أن يكون لها حق النظر في موضوع الدعوى و قيل أن هذا الجهاز ليس قاضيا للمواطنين و لكنه يحمي القوانين و ظل هذا الجهاز إلى حد اليوم بالرغم من عديد التنقيحات التي أدخلت عليه يختص بالرقابة على الجانب القانوني من الحكم دون الجانب الموضوعي.

و قد أخذ النظام البلجيكي بالنموذج الفرنسي في صورته المنظورة إذ نصت المادة 95 من الدستور على حرمانها من النظر في موضوع الدعوى في كل الحالات. كذا فعل المشرع الإيطالي و الألماني لما أنشأ المحكمة العليا في أكتوبر 1950 التي اختصت بالجانب القانوني للحكم و هي نفس المحكمة الموجودة بهولندة أما على مستوى الدول العربية فلم يكن النظام القضائي المصري يعرف الطعن بالنقض قبل إنشاء المحاكم الحديثة التي ظهرت غداة حركة الإصلاح القضائي و عرفت بذلك البلاد الطعن بالنقض بمقتضى قانون تحقيق الجنايات و الملاحظ أنها قصرت على رقابة الأخطاء القانونية دون تلك التي تقع في جانب الواقع من الحكم المطعون فيه.

و مثلما كان أساس التعليل كما سبق بيانه مختلف حسب الأنظمة القانونية فإن ذلك انعكس أيضا حتى على مستوى أساس رقابة محكمة التعقيب إذ تقوم بعض الأنظمة على تحديد إختصاص قضاء التعقيب من خلال قواعد و نصوص دستورية على غرار الدستور البلجيكي بالفصل 95 منه الذي قصر ولاية المحكمة على رقابة مساءل القانون و كان النص صريحا في حرمانه من التصدي لجانب الموضوع و على ذلك فإن شرعية تحديد إختصاص قضاء النقض بمساءل القانون في هذا النظام يرجع إلى القاعدة الدستورية على أن نظما أخرى جرت على تحديد ولاية أو اختصاص محكمة التعقيب من خلال نصوص تشريعية عادية منها النظام الفرنسي الذي ظل ملتزما بهذه القاعدة إلى حد التاريخ و كذلك المشرع المصري الذي حصر اختصاص محكمة النقض المصرية في رقابة الجانب القانوني من خلال قانون عادي إذ نصت المادة 30 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه “لكل من النيابة العامة و المحكوم عليه و المسؤول عن الحقوق المدنية و المدعى بها الطعن أمام محكمة النقض في الأحكام النهائية الصادرة عن آخر درجة في مواد الجنايات و الجنح و ذلك في الأحوال المبينة في تلك المادة”([59]).

أما في القانون التونسي فقد أقر المشرع رقابة محكمة التعقيب على الجانب القانوني فقط و ذلك بمجلة الإجراءات الجزائية بالفصل 258 و بذلك يكون أساس قاعدة خضوع الجانب القانوني لرقابة محكمة التعقيب تشريعي.

الفرع الثاني: رقابة محكمة التعقيب على التكييف و على تفسير العقود:

لقد أوضحنا أن محكمة التعقيب تراقب الجانب القانوني كأصل عام و نبين في هذه الفقرة أهم تطبيقات الرقابة و هي الرقابة على التكييف و كذلك على تفسير بعض العقود.

الفقرة الأولى : الرقابة على التكييف:

التكييف عملية تجريها النيابة العمومية أصلا و استثناء القائم على المسؤولية الخاصة طبق الفصل 36 م.إ.ج و المحكمة في كل نزاع يعرض عليها و يعبر عنه بالوصف القانوني ([60]) و يقصد به تحديد إنتهاء ظاهرة إلى فكرة قانونية معينة و هو لب العمل القضائي إذ يخرج عن نطاق الأعمال المادية التي يباشرها القاضي و تقع في مجال أعماله الفنية.

و ينقسم التكييف من حيث الموضوع إلى تكييف الواقعة و تكييف للجريمة (مخالفة، جنحة، جناية) كما ينقسم إلى إيجابي و سلبي و يتم التكييف في ضوء القانون الواجب التطبيق فما دامت الواقعة تخضع للقانون الوطني فإن تكييفها يتم في ضوء نصوصه ولا يتقيد القاضي في تكييفه للواقعة برأي الخصوم أو اتفاقاتهم فهو صاحب السلطة في صدده و كل ما تتقيد به نصوص القانون و قاعدة إحترام حقوق الدفاع و في مباشرته لهذه السلطة يقف القاضي عند تكييف الوقائع المطروحة عليه سواء وردت في محاضر أو تقارير إختبار. و لقد اختلف الفقه الفرنسي في شأن الرقابة على التكييف فذهب بعضهم إلى تحديد نطاق هذه الرقابة كما اتجه آخرون إلى انطلاقها و هو ما انعكس على موقف القضاء و ترددت بذلك محكمة التعقيب الفرنسية في شأن هذه المسالة و تمثل ذلك في مراحل ثلاث الأولى كانت قبل 1820 حيث فرضت محكمة التعقيب رقابتها على التكييفات التي تجريها محاكم الموضوع واعتبرت ذلك واجبا عليها،

أما المرحلة الثانية بدأت عام 1820 و التي اتجهت إلى أن رقابتها على التكييف تقتصر على الجرائم التي حدد المشرع عناصرها الأساسية أما ما عداها فإن التكييف يخرج عن مجال رقابتها، أما المرحلة الثالثة و الأخيرة فانطلقت بقرار صدر عن محكمة التعقيب الفرنسية بتاريخ 5 / 8 / 1831 و أعلنت فيه حقها في رقابة التكييف دون تفرقة بين جريمة و أخرى ([61])

أما على مستوى الفقه و فقه القضاء المصري فإن هذه المسألة لم تثر خلافا واعتبروه مسألة قانونية يترتب على الخطأ فيها مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه فالتكييف على حد قول بعضهم رد فهم الواقع في الدعوى إلى فهم حكم القانون في هذا الواقع، فهي عملية يلخص منها القاضي إلى أن ما حصل له من فهم لواقعة الدعوى يدخل أو لا يدخل تحت قاعدة قانونية معينة كما لم تتردد محكمة النقض في مصر في فرض رقابتها على التكييف الذي تجريه محاكم الموضوع سواء في مجال الوقائع الموضوعية أو الإجرائية ([62])

و هو نفس موقف محكمة التعقيب التونسية التي اعتبرت أن تقدير الخطأ المنسوب للمتهم يعود إلى اجتهاد قاضي الموضوع مما استخلصه من ظروف الواقعة و كافة العناصر المطروحة و التي كانت محل نقاش بين أطراف القضية ([63])

كما أكدت على أنه و لئن كان للقاضي الجزائي مطلق الحرية في تقدير الوقائع واستخلاص الأدلة منها و الأخذ بما يطمئن إليه وجدانه فإن الفصل 168 إ.ج. أوجب عليه أن يعلل حكمه من الناحية الفعلية و القانونية تعليلا موفيا بالغرض المراد منه تبرير الأخذ ببعض الأدلة دون سواها بأسلوب منطقي مركز يؤدي حتما إلى النتيجة التي إنتهى إليها الحكم ([64])

و بالتالي فإن رقابة محكمة التعقيب سوف تنصب على كيفية البناء المنطقي المستساغ للحكم ففكرة رقابة التعقيب تستهدف حسن تطبيق القانون و إقرار مبدأ الشرعية و لا شك أن تحقيق هذه الأهداف يفرض على محكمة التعقيب التحقق من سلامة التكييف الذي خلصت إليه محكمة الموضوع فالخطأ في التكييف يهدد مبدأ الشرعية الجنائية بل قد يؤدي إلى إهداره و التكييف الخاطئ قد يؤدي إلى خلق جرائم لم يعرفها المشرع فالأساس في الرقابة على التكييف يرجع إلى الإلتزام بمبدأ الشرعية و ضرورة المحافظة عليه. و هو ما خلصت إليه محكمة التعقيب حين أكدت على أنه و لئن كان تقدير الأدلة راجعا لمحض إجتهاد قضاة الموضوع لكن بشرط التعليل القانوني الصحيح الذي لا يشوبه ضعف و ترتيبا على ذلك فإن القضاء بإدانة بناء على تصريحات المتضرر يعد ضعفا في التعليل خاصة و أن المحكمة لم توازن بينهما و بين أدلة البراءة و ضعف التعليل يساوي فقدانه كما أن عدم التعرض لجميع الأدلة يشكل ضعفا يفضي حتما للنقض([65]) .

كما أن عملية التكييف لا تقف على مساءل معنية فكل مسألة كيفتها محكمة الموضوع تخضع لرقابة التعقيب.

الفقرة الثانية : الرقابة على تفسير العقود :

لا شك أن بحث هذه المسألة له أهمية فقد نكون بصدد جريمة خيانة أمانة أو عقد توريد أو عقد تأمين أو غيرها من العقود التي تطرح على القاضي الجزائي عند نظره في الدعوى الجزائية و يضطر إلى حسمها، فتعمل محكمة الموضوع سلطاتها في تفسير نصوص العقود المذكورة و هو ما يقتضي الكلام عن رقابة هذا التفسير.

ولا جدال في أن هذه العقود على اختلاف أنواعها و تعدد صورها تحيط بها عديد الظروف و الملابسات التي ترجع إلى العادات و البيئة و عقلية المتعاقدين في التعبير عن مقاصدهم و بحث هذه المساءل و الفصل فيها يتطلب تقديرا موضوعيا و من ثم فإنها تدخل في السلطة المطلقة لقاضي الموضوع دون رقابة عليه من محكمة التعقيب فكل خطأ في أي من مشاكل العقد يخرج عن رقابتها.

على أن هذه القاعدة يجب أن لا تؤخذ على إطلاقها فهي صحيحة طالما كانت النقاط التي يتناولها قاضي الموضوع لا تنطوي على أي مساس بالقانون أما إذا وجدت رابطة بين أي من مساءل العقد و بين إحدى النقاط القانونية تعين على محكمة التعقيب فرض رقابتها عليها إذ أن القاعدة تصدى محكمة التعقيب لرقابة مساءل الموضوع التي ترتبط بالقانون .

و يكون ذلك في مساءل عديدة منها نوع تكييف العقد أو أحد شروطه و كذلك مسائل النظام العام و الأخلاق الحميدة في عقد معين فهذه وما شبهها ترتبط بالقانون لذا فهي تخضع لرقابة محكمة التعقيب ([66]).

وقد إتجهت محكمة التعقيب الفرنسية في أول عهدها إلى رقابة تفسير العقود باعتبارها قانون المتعاقدين وانتقد الفقه هذا التوجه بمقولة أن مسائل العقد يجب أن تبقى في دائرة السلطة المطلقة لقاضي الموضوع دون رقابة عليه لكن محكمة التعقيب ظلت متمسكة بهذا الخيار أو التوجه في فرض رقابتها على أي تحريف أو تشويه للعقد ([67]) و هو نفس موقف محكمة النقض المصرية.

و يقصد بتحريف التفسير تجاهل المعنى الواضح و الظاهر لعبارة العقد واستبداله بغيره دون مبرر مشروع سواء تم ذلك عمدا أم سهوا ما دامت الأوراق لم تتضمن ما يكفي لحمل ما ذهبت إليه المحكمة في هذا التفسير.

المبحث الثاني : القيود التي ترد على سلطة محكمة التعقيب في رقابتها على الجانب القانوني للحكم :

إن الثابت من مراجعة النصوص التشريعية و ما استقر عليه الفقه و القضاء أن بعض العيوب و المآخذ التي ترد على الجانب القانوني للحكم تخرج عن نطاق محكمة التعقيب فثمة قيود ترد على سلطة المحكمة في رقابتها للجانب القانوني من الحكم فإثارة العيوب يجب أن تتولد عن مصلحة و أن تكون من ذي صفة و في مواجهة من له صفة و إلا امتنع على المحكمة فرض رقابتها و من ناحية أخرى يجب أن تثار العيوب وفق ضوابط إجرائية معينة و إلا لا يمكن للمحكمة مراقبة الحكم و أخيرا يجب أن يكون الفصل في العيب ممكنا بغير حاجة لإجراء أي تحقيق موضوعي فإذا تطلب الأمر إجراء تحقيق خرج عن رقابة محكمة التعقيب.

و هكذا فإن رقابة محكمة التعقيب للجانب القانوني محكوم بالحدود التي تضعها الضوابط التشريعية و الفنية ([68]) لذا فإن دراسة هذا المبحث تتطلب أن نتعرض لها في جوانب ثلاث أولها المصلحة كشرط للرقابة على العيوب التي يثيرها الطاعن و ثانيها الصفة كضابط لرقابة محكمة التعقيب على العيوب القانونية و ثالثها الضوابط الإجرائية الواجب الإلتزام بها عند إثارة العيب .

الفرع الأول : شرط المصلحة لرقابة الجانب القانوني:

إن الكلام عن المصلحة كضابط يحد من سلطة محكمة التعقيب في الرقابة على الجانب القانوني للحكم لا يقف عند بحث المصلحة القانونية فقط ، فالمصلحة لها عديد الأبعاد و من ثم فرغبة الطاعن في تعييب الحكم بغير فائدة يحققها من ذلك تنتفي معها فكرة المصلحة القانونية بحيث لا يجوز لمحكمة التعقيب إعمال رقابها على هذا الحكم .

و شرط القانون في المصلحة يعني أن يكون للمدعى حق يعترف به القانون. فإذا لم يكن له هذا الحق أو كان يدعى مركزا أو حقا غير مشروع فإنه لا يتمتع بحماية المشرع بحيث تنتفي عنه المصلحة القانونية ([69]) .

و المصلحة القانونية قد تكون مادية أو معنوية فالأولى موضوعها حق أما المصلحة المعنوية فموضوعها رد الإعتبار كمثل الحكم الذي صدر في مدة بعيدة مات المحكوم عليه ثم تبين للورثة أن مورثهم بريء فيقومون لدى المحكمة لإثبات ذلك كسعي ورثة شخص نفد فيه حكم الإعدام لاتهامه بجريمة قتل و يتوصل الورثة الى معرفة الجاني الحقيقي فتكون لهم مصلحة في طلب إعادة النظر في القضية لتبرئة ساحة مورثهم ورد اعتباره و العائلة.

كما أن المصلحة المخالفة للنظام العام أو الأخلاق الحميدة تخرج عن المصلحة القانونية ولا تجيز للطاعن تعييب الحكم. و بالتالي لا بد أن تكون للطاعن عن مصلحة شخصية تجيز له الطعن في الحكم و العبرة في ذلك بما سببه الحكم من ضرر يسعى الطاعن إلى نقضه فلا يجوز للمتهم أن يثير عيوبا لحقت بالجانب القانوني للحكم و تتعلق بغيره من المتهمين أو القائم بالحق الشخصي.

غير أنه يمكن القول بتوفر المصلحة الشخصية في إثارة العيب و لو لم يكن متعلقا بالطاعن بصفة مباشرة ما دام أثره قد إمتد إليه فالعيوب المتعلقة بالشق الجزائي تتصل أساسا بالمتهم دون المدعى للحقوق المدنية أما إذا أثرت على مركزه فإنه تتحقق له مصلحة شخصية في إثارتها و أيضا فإن الشريك له مصلحة شخصية في تعييب الحكم الصادر ضد الفاعل الأصلي طالما لحقت به عيوب مؤثرة على موقفه من الحكم أو من الدعوى عموما.

كما تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى دور النيابة العمومية في إثارة العيوب القانونية التي قد تلحق بالحكم المطعون فيه.

فمهمة النيابة العمومية ليست مجرد طلب معاقبة المتهم بل حماية المجتمع بأكمله لأنها الأمينة على مصالحه و من ثم فإن مصلحتها ترتبط بإرساء العدالة و على ذلك فإنه يحق للنيابة العمومية إثارة عيوب الحكم و لو كانت متعلقة بالمتهم و متعلقة بمصالحه.لأن غايتها هي تطبيق القانون الذي وضعته المجموعة الوطنية التي تمتلكها النيابة العمومية.

إضافة إلى شخصية المصلحة فإنه يجب أن تكون حالـّة وقائمة و هذه المصلحة التي تجيز تعييب الأحكام تقدر وفقا لظروف كل دعوى و ملابساتها على حدة .

هناك مسألة أخرى لم يتناولها المشرع و هي مسألة الأسباب الزائدة غير المنتجة حسب تعبير الدكتور محمد علي الكيك ([70]) و هي تلك التبريرات القانونية و الواقعية التي تسوقها المحكمة في مسألة لا تتعلق بالدعوى أو بإحدى نقاطها فما تذكره من أسباب في شأن الباعث على الجريمة يدخل في نطاق الأسباب الزائدة طالما لم يكن هذا الباعث من عناصر الجريمة و مقتضى هذه النظرية أي نظرية الأسباب الزائدة إمتناع محكمة التعقيب عن رقابة العيوب التي تكمن في الجانب القانوني للحكم متى لحقت بأي من الأسباب بصرف النظر عن وجه العيب أو جسامته و ذهب فريق من الفقه المصري إلى أن إستبعاد فكرة الأسباب الزائدة من دائرة رقابة محكمة التعقيب مرجعه عدم تمتعها بحجية ([71]) .

كما ذهب رأي آخر مؤيدا لما استقر عليه قضاء محكمة النقض المصرية إلى أن إخراج هذه الأسباب عن دائرة رقابة التعقيب إلى انتفاء المصلحة من إثارة أي عيوب قد تلحق بها كما أن العيوب التي تراقبها محكمة التعقيب هي تلك المؤثرة على منطوق الحكم المطعون فيه فليس بذي شأن كون السبب الزائد قد لحق به أي خطأ في الإسناد أو تناقض في الأسباب أو مخالفة القانون و الخطأ تطبيقه أو تأويله أو الإخلال بحقوق الدفاع أو القصور في التعليل مادام أنه لم يؤثر على منطوق الحكم.

الفرع الثاني : شرط الصفة لرقابة الجانب القانوني:

الصفة هي سلطة الشخص في مباشرة الإجراءات القضائية دفاعا عن مركز قانوني موضوعي يتمتع به إزاء كل إعتداء أو محاولة للإعتداء عليه و لا بد من توافرها في كل من طرفي الإجراء و وجوب توافر الصفة في من يتخذ الإجراء و من يباشر الإجراء في مواجهته([72])

يجد تطبيقه في الدعوى و كذلك الطعون التي تقام ضد الأحكام فإذا ما أقيم طعن من غير ذي صفة أو على غير ذي صفة كان غير مقبول ولا يكفي توفر الصفة للطاعن عند إثارة الطعن بل لا بد من توافرها طوال مراحل التقاضي و توافر الصفة من الأمور التي تهم النظام العام بحيث تتصدى المحكمة من تلقاء نفسها ، لو لم يدفع به الخصوم فإذا تبين القاضي أن الخصم لم تتوفر له الصفة عند رفع الدعوى أو فقدها أثناء سير الخصومة تعين عليه الحكم بعدم قبولها.

كما لا يتصور أن يكون ثمّة صفة في طعن معين أو إثارة عيب من عيوب الحكم ما لم يكن الطاعن و المطعون عليه متنازعين حول مركز قانوني موضوعي أرساه الحكم المعيب، فلا تقبل إثارة أي من عيوب الحكم المطعون إلا ممن كان طرفا فيه ،

و يعتبر الشخص طرفا في الحكم المطعون عليه متى صدر في مواجهته و قضى له أو عليه أما إذا وقف الأمر عند حد إخراجه من الخصومة دون القضاء له أو عليه بشيء معين فلا يجوز له أن يثير عيوبا في الحكم المطعون عليه إذ يكفي أن يكون الخصم طرفا في الحكم متى ينشأ لنفسه الحق في إثارة عيوب في شأن هذا الحكم و لا يهم أن يكون الحكم قد صدر في جناية أو جنحة أو مخالفة و سواء تعلق الأمر بالشق الجزائي أو الشق المدني في الدعوى التي وقع الفصل فيها كما أنه لا يوجب أن يكون صاحب المركز قد ظهر بنفسه في الخصومة،

يكفي أن يكون قد مثل فيها عن طريق غيره و كل ما في الأمر أن تكون نيابة هذا الغير صحيحة من الناحية القانونية سواء كانت جبرية أو قانونية كالولي الشرعي أو قضائية كالوصي أن المقدم أو اتفاقية في حالة الوكالة و يشترط في الوكالة التي تخول الطاعن الصفة في تعييب الحكم أن تكون رسمية فلا يعتد بالوكالة الشفوية كما أن الوكالة يجب أن تكون بمقتضى توكيل خاص ينص فيه على ما يجيز للوكيل الطعن بالنقض. كما أنه من العناصر التي تقوم عليها الصفة هي سلطة الشخص في الدفاع عن ذلك المركز أمام القضاء و هو يعرف بالأهلية .

الفرع الثالث : الضوابط الإجرائية للرقابة على عيوب الجانب القانوني:

إذا كانت الصفة و المصلحة شرطان أساسيان لمباشرة محكمة التعقيب رقابتها على عيوب الجانب القانوني للحكم فثمة قيدان آخران لمباشرة هذه الرقابة هما أن تثار العيوب وفق الضوابط المقررة للطعن بالتعقيب و بشرط عدم المساس بقاعدة حجية الأمر المقضي إذ تقف هذه الأخيرة حائلا دون رقابة محكمة التعقيب على ما عساه أن يشوب الحكم من عيوب قانونية و هكذا يخرج عن رقابة محكمة التعقيب كافة العيوب القانونية التي يثيرها الخصم بشأن حكم أو مسألة حازت قوة اتصال القضاء و لا فرق في ذلك بين عيوب تتعلق بالنظام العام و أخرى لا تتعلق به.

و رقابة محكمة التعقيب تتقيد بما سبق الفصل فيه من أمور و وساءل حازت قوة الشيء المقضى به فحتى إذا ما طعن أمام محكمة التعقيب في شق من الحكم دون باقي أجزاءه و رأت محكمة التعقيب ضرورة إلغاء الشق المطعون فيه فإن هذا الإلغاء لا يمتد على كافة المساءل المرتبطة بهذا الشق لأنها حازت على حجية الأمر المقتضى فيه لكن على الرغم من وضوح هذه القاعدة فإن فقه القضاء المقارن اتجه في بعض قراراته إلى اعتماد قاعدة الإرتباط التي تعني ارتباط أجزاء الحكم ببعضها ولا يمكن التفريق بينها.

لذلك إنتهت محكمة التعقيب الفرنسية لنقض الحكم الجنائي في حكم بالتبعية لنقض الشق فيه لما بنيهما من ارتباط برغم عدم الطعن على الأول ([73]) كما قضت محكمة النقض المصرية بنقض الشق الجنائي لنقض الشق المدني لما بينهما من ارتباط برغم ما حازه الأول من قوة اتصال القضاء مستندة في ذلك إلى حسن سريان العدالة ([74]).

الفصل الثاني : تصدي محكمة التعقيب للجانب الموضوعي في الحكم:

إذا كانت محكمة التعقيب جهاز يراقب الشرعية دون أن يكون له نظر في موضوع الدعوى إلاَ أن التطبيقات العملية كشفت مناقشة بعض الجوانب الموضوعية حيث ناقشتها وأبدت رأيها فيها بالرغم من عدم وجود نص تشريعي صريح في هذا الشأن الأمر الذي يجعلنا نبحث في أساس هذا التصدي بعد أن نستعرض مبدأ خروج موضوع الدعوى عن رقابة محكمة التعقيب.

المبحث الأول: مبدأ خروج موضوع الدعوى عن رقابة محكمة التعقيب :

بصدور الحكم النهائي مهما كان ، سواء بالإدانة أو بالبراءة و سواء من أجل مخالفة أو جنحة أو جناية تبرز في الوجود ظاهرة قانونية مؤداها انفصال الجانب الواقعي في الحكم عن الجانب القانوني و يكتسب كل منهما حجية تتفاوت درجتها بالنسبة للآخر فيرتفع الأول إلى درجة لا تقبل أي مناقشة في صدده أمام جهة أعلى ذلك أن نظام التعقيب وجد للرقابة على الشرعية و السهر على توحيد تفسير القانون و حسن تطبيقه فدوره محصور في الإشراف على مسائل القانون دون الواقع الذي يخضع للسلطة المطلقة لقاضي الموضوع إلتزاما بمبدأ حرية القاضي في تكوين عقيدته ([75])

لذا فإن دراسة فكرة خروج رقابة محكمة التعقيب عن موضوع الدعوى تقتضي أن نتعرض لها من خلال فكرتين نتناول في الأولى قاعدة حرية القاضي في تكوين عقيدته و نتناول في الثانية خروج موضوع الدعوى عن رقابه محكمة التعقيب في بعض الأنظمة.

الفرع الأول : قاعدة حرية القاضي في تكوين عقيدته كأساس لخروج الموضوع عن رقابة التعقيب:

ظهرت هذه النظرية في تشريعات الثورة الفرنسية ([76]) و هو ما أكدته التشاريع الحالية للقانون الفرنسي إذ جاء بالفصل 427 من قانون الإجراءات الجنائية الحال على أن ” Hors les cas ou la loi en dispose autrement, les infractions peuvent être établies par tout mode de preuve et le juge décide d’après son intime conviction ”

و قد ظهرت أيضا في كثير من البلدان العربية فأشار إليها الفصل 275 من قانون المحاكمات الجزائية السوري و كذلك الفصل 207 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري و كذلك قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي الصادر في سنة 1971 . و في مصر أقرتها المادة 404 من قانون الإجراءات الجنائية التي جاء فيها أن “يحكم القاضي في الدعوى حسب عقيدته التي تكونت لديه بكامل حريته ” أما في تونس فقد كرس المشرع نفس هذه القاعدة مؤكدا بالفصل 150 من مجلة الإجراءات الجزائية على أنه ” يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك و يقضي الحاكم حسب وجدانه الخالص”.

و تقوم هذه النظرية على فكرة جوهرية هي سلطة القاضي المطلقة في وزن أدلة الدعوى بحيث يكون له مطلق الحرية في تقدير كفايتها لإثبات واقعة الدعوى و نسبتها إلى المتهم أو عدم نسبتها له دون أن يكون ملزما ببيان سبب ذلك التقدير و مقتضى هذه النظرية ألا يتقيد القاضي في تكوين عقيدته بدليل معين فقد يكوّن عقيدته من خلال محضر باحث البداية أو أبحاث حاكم التحقيق أو من خلال التحقيقات التي تقع بالجلسة أو من أعمال الخبراء و قد يعتد بأي دليل يرتاح إليه وجدانه كاعتراف المتهم على نفسه أو شهادة صغير أخذت على سبيل الاسترشاد و من ناحية أخرى فإن نظام الإثبات الحر أفسح السبيل أمام القاضي لتقدير أدلة الدعوى فلا يجوز إلزامه بالاعتداد بورقة دون أخرى دون تعقيب عليه في ذلك و أيضا مقتضى هذه النظرية حق القاضي في تكوين عقيدته من دليل واحد أو من عدة أدلة سواء كان كلا منهما كافيا بذاتها أو غير كاف طالما كانت في جملتها صالحة لأن يقوم عليها قضاء الحكم. كما يجيز للقاضي أن يقيم قضاءه على ما يرتاح إليه سواء كان ذلك دليله مباشرة أم غير مباشر فالمهم أن يكون الدليل مؤيدا عقلا إلى النتيجة التي خلصت إليها المحكمة.

و مهما يكن مضمون هذه النظرية التي تجيز للقاضي أن يكون عقيدته وفق ما يمليه عليه ضميره و وجدانه في ضوء الأوراق و المستندات المرفقة بملف الدعوى و أن يقدر ما طرح عليه من أدلة دون رقابة عليه في هذا الصدد ([77]) ([78]) فإن سلطته في هذا الصدد ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعسف في التقدير ([79])

فإذا كانت أوراق الدعوى جميعها قد نطقت بالإدانة فلا يستطيع بغير سبب واضح أن يتجاوز تلك الأدلة بمقولة أنه صاحب السلطة المطلقة في تقدير الدليل و يتسع نطاق هذا المبدأ لكل مرحلة من مراحل المحاكمة سواء أمام القضاء العادي أو الإستئنافي أو المحاكم الإستئنافية و بصرف النظر عما إذا كان النزاع مطروحا بسبب جناية أو جنحة أو مخالفة.

و سلطة القاضي في تقدير الأدلة و تكوين عقيدته ليست مطلقة بل هي محددة بضوابط و هي :

الفقرة الأولى : تكوين العقيدة من الأوراق المطروحة

التزام القاضي بتكوين عقيدته من أوراق و مستندات طرحت عليه أثناء نظر الخصومة و قد حرص المشرع الفرنسي على إلزام القاضي بتكوين عقيدته من خلال الأوراق التي طرحت عليه أثناء نظر الخصومة دون غيرها فأورد هذه القاعدة بنص صريح في المادة 427 من قانون الإجراءات الجنائية الجديد و التي جاء فيها ” Le juge ne peut fonder la conviction que sur des preuves qui lui sont apporté au cours de débats et contradictionnement discutées devant lui a l’odéance ” .

فلا يستساغ أن يعول في ذلك على معلوماته الشخصية أي على أدلة لم تطرح عليه و لو كانت قد طرحت في نزاع آخر بل لا يجوز أن يكون قضاؤه على شهادة شاهد سمعه دون أن تدون أقواله بمحضر الجلسة أو دونت لكنها لا تتفق مع ما خلص إليه القاضي و هو ما أكدته محكمة التعقيب في العديد من قراراتها حينما أقرت أن ” تقدير الشهادة ولا سيما عند وجود تضارب بينها و بين غيرها من الشهادات و المعاينات هو أمر موضوعي يعود إلى اجتهاد محكمة الأصل حسب وجدانها دون رقابة عليها في ذلك من طرف محكمة التعقيب طالما كان حكمها معللا بما له اصل ثابت بالأوراق” ([80])

كما اعتبرت محكمة التعقيب أن عدم الأخذ باعتراضات المتهمين أمام الباحث الإبتدائي المتراجع فيها أمام حاكم التحقيق دون تعليل ذلك تعليلا مستساغا و متماشيا مع الواقع و الأوراق يعد ضعفا في التعليل موجبا للنقض ([81]).

الفقرة الثانية : الإقتناع القائم على دليل مؤسس على إجراء صحيح:

أن يكون الإقتناع الذي خلص إليه القاضي قد قام على دليل استمد من إجراء صحيح أو ورقة صحيحة لأن ما بني على باطل فهو باطل و يمكن للقاضي أن يقضي بالبراءة و يرفض الدليل المتحصّل من عمل أو أجراء غير مشروع.

الفقرة الثالثة : أن يكون الإقتناع يقينيا:

يجب أن يكون الإقتناع يقينيا و هذا الضابط محلة حكم الإدانة دون البراءة ذلك أن الأصل هو براءة المتهم فالإدانة لا تقوم إلا على أدلة يقينية أما إذا شابها الشك زالت عنها صفة اليقين وانتفى أحد ضوابط قاعدة حرية القاضي في تكوين عقيدته وهو ما نص عليه الفصل 150 إ.ج في فقرته الثانية حين أكد على أنه إذا لم تقم الحجة فإنه يحكم بترك سبيل المتهم و عملا بقاعدة أن الشك ينتفع به المتهم.

الفقرة الرابعة : الأخذ بالقرائن القانونية :

و من القيود التي ترد على حرية القاضي في تكوين عقيدته التزامه بالأخذ بالقرائن القانونية القاطعة، فوجود القرائن القانونية القاطعة يقيد حرية القاضي في تكوين عقيدته بحيث لا يجوز له أن يحيد عنها أو أن يتغافلها على عكس القرائن القضائية التي تلزم القاضي في ذلك ([82]) .

بالرغم ما وجه لهذه النظرية نظرية حرية القاضي في تكوين عقيدته فتعد خير ما يحقق العدالة فلا شك أن إطلاق يد القاضي الجنائي في تقدير الأدلة واختيار الصالح منها لتكوين عقيدته أقرب الطرق للوصول إلى الحقيقة التي هي غاية النظام القانوني أما تقييده بأدلة معينة فهو أمر بالغ الخطورة فقد ييسر السبيل أمام كثير من المجرمين نحو الإفلات من العدالة و هو ما يؤثر في كيان المجتمع و أمنه واستقراره ([83]) .

الفرع الثاني : خروج موضوع الدعوى عن رقابة محكمة التعقيب :

إن متابعة طريقة الطعن بالتعقيب في مختلف النظم القانونية يكشف بجلاء عن كونه أداة للرقابة على الجانب القانوني في الحكم المطعون عليه دون الجانب الموضوعي لذا فإن دراسة مسألة خروج الموضوع عن رقابة التعقيب تقتضي أن نتناول هذه القاعدة من خلال النظم المقارنة ثم نتناول تطبيقات هذا المبدأ.

الفقرة الأولى : القاعدة في النظم القانونية المقارنة :

لقد عني المشرع البلجيكي بتقرير قاعدة خروج موضوع الدعوى عن نطاق رقابة محكمة التعقيب ([84]) و قد تأكد هذا الإتجاه بالتنصيص عليه في صلب الدستور واعتبره أحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام القضائي إذ نصت المادة 95 فقرة ثانية من الدستور البلجيكي على أن ” الموضوع يخرج في جميع الأحوال عن رقابة محكمة التعقيب “.

و في فرنسا لم يختلف الحال عما سبق إيضاحه في شأن النظام البلجيكي فحجر الزاوية في نظام التعقيب الفرنسي خروج مساءل الموضوع عن رقابته و أن رقابة التعقيب أنيط بها رقابة الجانب القانوني من الحكم. و هكذا إلتزم المشرع الفرنسي بقاعدة خروج موضوع الدعوى عن ولاية محكمة التعقيب دون أدنى أي تردد و ذلك منذ ظهور نظام التعقيب لديها([85]).

و الظاهر من متابعة تلك الخصوص أن النظام الفرنسي قد تميز عن نظيره البلجيكي في أمرين أولهما أن قاعدة حرمان محكمة التعقيب من النظر في الموضوع ظلت قاعدة قانونية عادية أجمعت التشريعات المتعاقبة على إقرارها و التنصيص عليها دون أن تصل إلى مرتبة القواعد الدستورية على نحو ما هو مقرر في النظام البلجيكي.

و الأمر الثاني أن التشريعات الفرنسية أقرت ذلك المبدأ و خلصت إليه في أسلوب سلبي إذ قصرت اختصاص المحكمة على رقابة الجانب القانوني مما يعني بالتبعية خروج مسائل الموضوع عن نطاق رقابتها في الوقت الذي تضمن الدستور البلجيكي نصا يقضي بصورة صريحة و إيجابية خروج الموضوع من رقابة محكمة التعقيب على نحو ما سبق بيانه .

أما في التشاريع العربية و خصوصا التشريع المصري فقد حرص المشرع فيها على تحديد ولاية أو اختصاص محكمة النقض أو التعقيب في نطاق رقابة الجانب القانوني للحكم مما يفيد خروج مسائل الموضوع عن نطاق هذه الرقابة إذ نصت المادة 40 من قانون 57 لسنة 1959 الخاص بحالات و إجراءات الطعن بالنقض على أنه يجوز الطعن بالتعقيب في الحالات الآتية:

1 ـ إذا كان الحكم المطعون فيه مبنيا على مخالفة القانون أو على خطأ في تطبيقه أو في تأويله.

2ـ إذا وقع في الحكم بطلان
3 ـ إذا وقع في الإجراءات بطلان أثر في الحكم…

و هكذا تبنى المشرع المصري موقف المشرع الفرنسي دون البلجيكي ذلك انه اخرج جانب الموضوع من رقابة التعقيب بمقتضى نصوص تشريعية عادية و بطريقة سلبية أي دون أن يشير إلى ذلك صراحة.

إن الأخذ بنظام الطعن بالتعقيب استهدف العمل على توحيد أحكام القضاء في فهم القانون و تطبيقه فمن ناحية فقد خرج الجانب الواقعي من رقابة محكمة التعقيب و من ناحية أخرى فإن محكمة التعقيب ليست إحدى درجات التقاضي و دورها في رعاية الصالح الخاص للخصوم يعد أمرا ثانويا أما وظيفتها الأساسية فهي جمع كلمة القضاء و توحيدها و توجيهها إلى وجهتها القانونية الصحيحة ([86]).

الفقرة الثانية : تطبيقات خروج الموضوع عن رقابة التعقيب : لقد عرف التطبيق العملي صورا عديدة تؤكد خروج الموضوع عن رقابة التعقيب منها استبعاد رقابة التعقيب عن تقدير العقوبة و خروج تأجيل تنفيذ العقوبة عن هذه الرقابة .

1 ـ عدم خضوع تقدير العقوبة لرقابة التعقيب :

يترتب على الأخذ بمبدأ الشرعية في الجرائم و العقوبات إلتزام المشرع ببيان الجزاء المناسب لكل جريمة سواء كان عقوبة أصلية أو تكميلية و لكن ذلك لا يعني تحديده لهذا القدر على وجه الدقة ذلك أن مثل هذا التحديد يتطلب الوقوف على العديد من الظروف و الملابسات التي تصاحب الواقع كما يتوقف على المتهم نفسه وماضيه و حياته و هو ما يخرج عن دور المشرع الذي يقف عند تقرير العقاب في نطاق معين تاركا للقاضي اختيار القدر الكافي منه، فالمشرع يحدد عقوبة كل جريمة بما يتلاءم مع خطورتها على أمن المجتمع و كيانه تاركا للقاضي إيجاد التوازن بين هذا التحديد المجرد و مختلف الظروف و الملابسات التي تحصل في التطبيق و هو ما يعرف بالسلطة التقديرية للقاضي في تحديد العقوبة لكن قلة من الفقه في بعض الدول العربية اعتبروا انه لا يجوز اعتبار تقدير العقوبة من مسائل الموضوع التي يستقل بها القاضي بغير رقابة عليه من محكمة التعقيب لأن هذه المسألة تحكمها ضوابط المنطق القضائي و من ثم تعد مسألة قانونية مما يخضعها لرقابة محكمة التعقيب ([87])

واتجه غالبية الفقه المصري إلى أن إختيار الجزاء المناسب للواقعة المطروحة هو مسألة موضوعية تخرج عن رقابة محكمة التعقيب حيث يتمتع قاضي الدعوى في شأنها بسلطة مطلقة فهو وحده الذي يقرر الجمع بين العقوبات الأصلية التي أوردها القانون أو اختيار أي منها و هو صاحب السلطة في التجزئة بين حدّي العقوبة و هو نفس ما اتجهت فيه محكمة التعقيب التونسية في قضاءها حين قررت أن قضاة الأصل يتمتعون بسلطة تقديرية مطلقة في تقدير العقوبة المحكوم بها و لا سلطان و لا رقابة عليهم في ذلك من لدن محكمة التعقيب بشرط أن يكون معللا قانونا و واقعا ([88]) .

و الواقع أن المشرع لم يورد أي ضابط لتقدير الجزاء المناسب بل تركها للإعتبارات الواقعية البحتة و من ثمة فلا يتصور أن تكون مسألة من مسائل القانون بل هي تدخل في نطاق الموضوع فمهما كان تقدير محكمة الموضوع للعقوبة التي رأت تسليطها فلا معقب عليها في هذا الصدد بشرط أن يكون حكمها و تقديرها معللا وفقا لما ورد بالفصل 168 إ.ج ، و إذا كان تقدير العقوبة كذلك فإن القاعدة ليست مطلقة بتاتا بل يرد عليها بعض الإستثناءات يتمثل الإستثناء الأول فيما قد يشوب الحكم من مخالفة القانون عند تقدير العقوبة كأن تقضي المحكمة بعقوبة تزيد عن الحق المقرر أو تقل عنه و هو ما أكدته محكمة التعقيب حين أقرت أن “إحالة المتهم طبق أحكام الفصل 206 م.ج و القضاء بالتخفيف و ذلك بالنزول بالعقاب إلى ما دون أدناه القانوني الوارد بالفصل 53 قانون جنائي فيه خرق للقانون “([89]) أما الاستثناء الثاني يتمثل في رقابة التعقيب على تقدير العقوبة في حدود رقابتها على تعليل الأحكام بوجه عام كذلك قد تغفل المحكمة عن الأخذ بعذر قانوني مخفف أو مشدد مما يجعل تقدير العقوبة معيبا و يجيز لمحكمة التعقيب فرض رقابتها عليها تطبيقا للفصل 43 من المجلة الجنائية مثلا.

2 ـ خروج تقدير تأجيل تنفيذ العقوبة عن رقابة التعقيب:

يتمتع القاضي بسلطة واسعة بشأن تأجيل تنفيذ العقوبة فله أن يقضي بتأجيل التنفيذ أيا كانت الجريمة المرتكبة طالما كانت مما يجوز تأجيل تنفيذ العقوبة الواقعة في شأنها ما لم ينص المشرع على عدم جواز منح ظروف التخفيف الواردة بالفصل 53 م.ج. بما فيها تأجيل التنفيذ([90]).

و لم تثر مسألة تأجيل تنفيذ العقوبة أي خلاف في شأن اعتبارها من مسائل الموضوع فقد استقر القضاء على أنها مما يدخل في سلطة قاضي الأصل دون رقابة عليه في ذلك من محكمة التعقيب لكن هذه السلطة خاضعة إلى التعليل هي الأخرى وفقا للفصل 53 م.ج في فقرته 12 التي جاء فيها ” إذا صدر الحكم في جنحة أو إذا صدر الحكم بالسجن في جريمة فإن المحاكم العدلية و مجالس الإستئناف يمكن لها في جميع الصور التي لا يتعرض فيها القانون أن تأمر بالحكم نفسه مع تعليل قضائها بتأجيل تنفيذ العقوبة إن لم يصدر الحكم سابقا على المتهم بالسجن في جريمة أو جنحة و مع ذلك فإن التأجيل لا يمكن منحه في النوازل الجنائية إلا إذا كان أدنى العقوبة المحكوم بها مع تطبيق ظروف التخفيف لا يتجاوز عامين سجنا”.

فالقاضي يجب عليه أن يبين بالحكم الدواعي و الظروف الملتصقة بملف القضية التي جعلته يقرر تأجيل تنفيذ العقوبة على المحكوم عليه فإن كان حرا في تقرير مآل اجتهاده فإن ذلك مشروط بيانه الأسباب و الدوافع التي جعلته يصل إلى ما أقره من خلال اجتهاده.

و من جهة ثانية فإنه مجبر على إحترام شرط نقاوة سوابق المتهم العدلية لمنح التأجيل، فالتأجيل لا يمنح إلا لما لم يسبق الحكم عليه بعقوبة بدنية و يكون قد قضى العقاب. و معرفة السوابق لا تتحقق بمجرد السؤال للمتهم و إنما بالإطلاع على صحيفة سوابقه العدلية حسب ما ورد بالفصل 71 م.ا.ج. حين نص على أنه ” يحال ذو الشبهة على مصلحة القيس بقصد تحقيق هويته و البحث عن سوابقه”.

فعرض المتهم على القيس أمر ضروري يخدم مصلحته حتى ينتفع بتأجيل تنفيذ العقوبة، وفقه قضاء محكمة التعقيب مستقر على تأكيد ذلك فهي كثيرا ما تنقض القرارات الإستثنافية القاضية بالتأجيل و الحال أن بطاقة السوابق العدلية للمتهم غير مضافة ([91]) .

المبحث الثاني : أساس تصدي محكمة التعقيب للجانب الواقعي للحكم :

حتى يتسنى لنا معرفة أساس مناقشة محكمة التعقيب للجانب الواقعي للحكم لا بد أن نتعرض إلى معيار التصدي و سنده ثم إلى نطاق التصدي .

الفرع الأول : معيار التصدي للموضوع وسنده :

تحديد نطاق التصدي لجانب الواقع في الحكم له أهميته ذلك أن إتساع نطاق هذا التصدي يخرج محكمة التعقيب عن دورها الحقيقي كجهة أنيط بها رقابة القانون يجعل منها درجة ثالثة تفصل في الدعوى وتنظر في الخصومة من جديد وهو ما لا يتفق والهدف من نظام التعقيب بل ويتعارض و صريح أحكام النصوص التشريعية التي حصرت نظرها في الرقابة على مساءل القانون دون الواقع .تطبيقا لأحكام الفصل 258 م.ا.ج.

ومن ناحية أخرى فإنه بالرغم من حصر المشرع وظيفة محكمة التعقيب في رقابة الجانب القانوني في الحكم دون جانبه الواقعي فإن هذه الأخيرة جرت في التطبيق على مناقشة الجانب الموضوعي وهو ما يثير التساؤل عن أساس هذه المناقشة . لذا كان من الضروري البحث عن معيار لتحديد نطاق المناقشة للموضوع ثم الأساس القانوني لهذه المناقشة .

الفقرة الأولى : معيار تصدي محكمة التعقيب للموضوع :

يمكن حصر هذا المعيار في ثلاثة .

أولا : أن تكون ثمة مسألة واقعية ذات علاقة بالجانب القانوني فلا بد أن تكون مسألة موضوع التصدي مما يدخل في جانب الواقع إذ لو اندرجت في جانب القانون لما ثار النقاش في شأن مشروعية رقابة التعقيب عليها ولا يكفي أن تكون المسألة مما يدخل في موضوع الدعوى بل لا بد أن تكون ذات علاقة بجانب القانون في الحكم المطعون عليه وتحقق هذه العلاقة كلما تطلب تطبيق القانون التصدي لهذه الواقعة ([92]) ولا يقصد بالقانون هذا القواعد القانونية الموضوعية و إنما يمتد مفهوم القانون ليشمل كل قاعدة قانونية سواء كانت موضوعية أو إجرائية.

ثانيا : أن يكون تقدير محكمة الموضوع لمسالة الواقع قد أصابه الشطط فلا يكفي لأعمال رقابة التعقيب على مسألة أن يكون ثمة رابطة بينهما وبين جانب القانون بل لا بد وأن يكون تقدير المحكمة في شأنها قد أصابه شطط وهو العنصر الجوهري الذي يجيز لمحكمة التعقيب التصدي لمسالة الموضوع التي تدخل في محل السلطة المطلقة لقاضي الموضوع .

فمجرد التقدير السيئ لا يخضع جانب الموضوع لرقابة التعقيب .

بل لابد أن يكون فيه شطط ذلك أن هذه الرقابة هي استثناء للأصل العام وهو ما يقتضي أن تكون له مبرراته و ضرورياته([93]) وسوء التقدير يتحقق في صور ثلاث . أولها إذا إستندت المحكمة في قضائها على أدلة وهمية لا وجود لها في الأوراق وهو ما يعبر عليه بالخطأ في الإسناد أو أن تكون قد عرفت الواقعة أو الأدلة التي تكونت منها عقيدتها ـ وثاني هذه الصور هي عدم إستقرار الواقعة في وجدان المحكمة على نحو صحيح إذ جاء في قرار لمحكمة التعقيب انه “ولئن كان للقاضي الجزائي مطلق الحرية في تقدير الوقائع و استخلاص الأدلة منها و الأخذ بما يطمئن إليه وجدانه فإن الفصل 168 إ. ج أوجب عليه أن يعلل حكمه من الناحيتين الفعلية والقانونية تعليلا موفيا بالغرض المراد منه تبرير الأخذ ببعض الأدلة دون سواها بأسلوب منطقي مركز يؤدي حتما النتيجة التي انتهى إليها بالحكم” ([94])

كما ورد بقرار أخر لها أن ” المحكمة كفيلة بتكوين ما يجعل وجدانها يجنح إلى التجريم بدل التبرئة وهو أمر موضوعي موكول لمحض اجتهادها المطلق دون رقابة عليها في ذلك من قبل محكمة التعقيب طالما عللت وجهة نظرها كما يجب فعليا و قانونيا بما له أصل ثابت في الأوراق “([95]) أما الصورة الثالثة من صور الشطط فتتمثل في إقامة قضاء الحكم على أدلة وبراهين مستمدة من أوراق أو إجراءات غير مشروعة ذلك انه و إن كان قاضي الموضوع صاحب السلطة المطلقة في إقامة قضائه و تكوين إقتناعه من أي ورقة في الدعوى إلا أنه مقيد بأن تكون عقيدته قد تكونت من أدلة قانونية صحيحة و سليمة و يجيزها القانون .

ثالثا : ألا تكون رقابة المسالة الواقعية مما يتطلب الفصل فيها إجراء تحقيق موضوعي . فإلى جانب العنصرين السابقين يجب أن تكون عناصر الفصل في هذه الواقعة متوفرة في الحكم أو أي من أوراق الدعوى , أما إذا استحال الفصل في شأنها من خلال الثابت بملف الدعوى فإن رقابة محكمة التعقيب تفرض نقض القرار الإستئنافي المطعون فيه و تحيل القضية لمحكمة الإستئناف من جديد لمزيد التثبت.

الفقرة الثانية : أساس تصدي محكمة التعقيب لجانب الموضوع :

لئن كان أساس خروج رقابة محكمة التعقيب على الجانب الموضوعي لتعليل الأحكام الجزائية هو حرية القاضي المطلقة في تكوين عقيدته و السلطة التي تمتع بها في تقدير أدلة الدعوى و مدى كفايتها لإثبات الواقعة و نسبتها إلى المتهم فإن أساس التصدي لجانب الموضوع هو إنكار مبدأ السلطة المطلقة لقاضي الموضوع إذ لا شك أن تصدي التعقيب لرقابة الموضوع لم يؤثر على طبيعتها كجهاز قضائي يعمل على حماية الشرعية فلم يجعل منها محكمة موضوع تطرح عليها الخصومة من جديد ذلك أنها حتى في مناقشتها للموضوع لا تصدر حكما في مساءل الخصومة التي سبق لقاضي الدعوى الفصل فيها بل تقف عند تقدير بعض وقائع الحكم المطعون فيه.

و إذا كان تصدي محكمة التعقيب لجانب معين من الواقع لم يغير طبيعتها كمحكمة قانون فإنه يطرح التساؤل عن مشروعية هذا التصدي و قد أثارت هذه المسألة إهتمام الدارسين و الباحثين في تونس و فرنسا و مصر إذ ينصب الرأي السائد في فرنسا إلى أن وظيفة محكمة التعقيب الأساسية هي رقابة الجانب القانوني لتوحيد أحكام القضاء إلا أن ذلك ليس مهمتها الوحيدة بل عليها أن ترفع كل خطأ أو ظلم يقع من محاكم الموضوع و في هذا الإطار يرى بعضهم أن قضاة التعقيب هو بشر أولا و قضاة ثانيا و هم بذلك لا يستطيعون مقاومة الضغط النفسي المترتب على شعورهم بما انطوى عليه الحكم المطعون عليه من ظلم و مجافاة للعدالة و الصواب و هم في هذا الصدد يباشرون وظيفة تأديبية على أحكام محاكم الموضوع يمكن من خلالها مقاومة هذه الأخيرة من تعسف أو خطأ و يؤخذ على هذا الرأي انه خلق لمحكمة التعقيب وظيفة جديدة بدون سند تشريعي فضلا على انه يجعل تحقيق العدالة و القضاء على الظلم هدفا أعلى يتيح الخروج على قواعد القانون.

كما يرى اتجاه آخر من الفقه الفرنسي أن رقابة التعقيب تهدف إلى تمكين الخصوم من استيفاء حقوقهم طبقا للقانون فالطعن بالتعقيب هو الوسيلة الأخيرة لبلوغ هذه الغاية و من هنا كان على المحكمة أن تمكن الأطراف من تحقيق هذه الغاية حتى لو اضطرت إلى التصدي لجانب الموضوع ([96]) .

أما الإتجاه الثالث في هذا الصدد فيعتبر أنه لا يجوز أن تتمتع الأحكام الجنائية المخالفة لمقتضى العقل و المنطق بأي حصانة و أن العدالة تأبى مؤاخذة المتهم استنادا إلى دليل فاسد أو استنتاج غير منطقي و أنه يمكن أن يقف القانون حجر عثرة دون رقابة محكمة التعقيب على التقديرات الخاطئة و النظام القانوني يهدف إلى إعلاء الحق و إدراك الحقائق الواقعية خاصة في المسائل الجزائية سواء وجد نص أو لم يوجد.

أما على مستوى تشريعنا فإن أسس رقابة محكمة التعقيب على جانب الموضوع في الحكم المطعون فيه هو الفصل 168 إ.ج نفسه ذلك أن المحكمة ملزمة ببيان الجانب الواقعي و الجانب القانوني للحكم و لمحكمة التعقيب مراقبة ذلك بناء على الفصل 258 في حالات عدم الإختصاص أو الإفراط في السلطة أو خرق القانون أو الخطأ تطبيقه. و مهما يكن من أمر فإنه بالرجوع إلى مختلف القرارات الصادرة عن محكمة التعقيب يجوز القول أن أسباب الطعن المتعلقة بتعليل الأحكام تتمحور أساسا حول نقطتين أساسيتين :

1 ـ : الغياب أو النقص في المستندات:

يعتبر الغياب التام للمستندات من الحالات النادرة بالنسبة للأحكام موضوع الطعن أمام محكمة التعقيب أما النقص أو الضعف في التعليل فهي على خلاف الأولى سائدة و متكررة و المقصود بغياب التعليل هو غياب أي مستند من المستندات كما وقع تعريفها بالفصل 168 إ.ج و المفروضة على قاضي الموضوع و قد جرى العمل على اعتبار النقص في التعليل بمثابة غياب فقد اعتبرت محكمة التعقيب أن ” الحكم ضعيف التعليل إلى درجة فقدانه ” ([97])

فإذا خلا الحكم الجزائي من أي تعليل فهو أمر يمكن محكمة التعقيب من إصدار قرار في نقض ذلك الحكم الصادر عن إحدى محاكم الأصل و ذلك بغض النظر عما إذا كان النقض مع الإحالة أو بدونها و بالرغم من قلة الأحكام التي يغيب فيها التعليل تماما فإننا نجد ضمن قرارات محكمة التعقيب يبيح انعدام التعليل و لو في مسائل محدودة فمحكمة التعقيب أكدت على حرية قضاة الأصل فيغض الطرف على بعض النقائص اقتناعا منها بصحة النتيجة وفصلا للنزاع غير أن ذلك لا يعد مبدأ و إنما هو جريان عمل لا يقلل من وجوب تعليل الأحكام تعليلا كاملا و مستساغا و مقنعا.

و في صورة غياب التعليل يمكن نقض هذا الحكم من طرف محكمة التعقيب و هو تأكيد منها على أن حرية القاضي الجزائي في تقدير وسائل الإثبات حسب وجدانه الخاص لا تعفي بتاتا هذا الأخير من واجب تعليل قراراته واقعيا و قانونيا و إلا تعرض حكمه للنقض لغياب التعليل على أن القضاء الفرنسي و خصوصا محكمة التعقيب لا تحترم دائما هذه القاعدة حيث تكتفي في العديد من الحالات بعبارات عامة لإخفاء غياب التعليل ([98]) لكن ما هو المقصود بالنقص أو الضعف في التعليل؟

بالعودة إلى القرارات الصادرة عن محكمة التعقيب و القاضية بالنقض لضعف أو نقص في التعليل لا يوجد معيار قانوني موحد تقدر به المحكمة الأحكام الجزائية و إنما تستعمل لتقدير النقص في التعليل و التحليل بالرجوع إلى المستندات المقدمة في نص الحكم مع مقارنتها بوقائع و ظروف القضية فتقدير النقض أو الضعف في التعليل يختلف من ملف إلى آخر و الأمثلة على ذلك عديدة إذ اعتبرت محكمة في إحدى قراراتها انه يكون قابلا للنقض لضعف التعليل ، الحكم الذي رفض تحرير شهادة شهود ولم يوضح أسماءهم المطلب الرامي لذلك التحرير ([99])

و تأسيسا على ذلك يمكن رفض وسيلة من وسائل الإثبات المعمول بها في المادة الجزائية خاصة إذا كان هذا الرفض مبنيا على خرق لإحدى القواعد الشكلية و هو تعليله لهذا الرفض و بالتالي للحكم في حد ذاته كذلك فعلت محكمة التعقيب الفرنسية ([100]) على أن تقدير وسائل الإثبات الخاضع لسلطة قضاة الأصل لا يمكن نقضه من طرف محكمة التعقيب إذا كان معللا بما فيه الكفاية ([101]) أما إذا كان التعليل مختصرا لدرجة مخلة ففيه خرق لأحكام الفصل 168 إ.ج يوجب نقض ([102]) و الأمثلة على ذلك عديدة ضمن قرارات محكمة التعقيب ([103]) ([104]).

و على الرغم من ذلك فإن غياب التعليل أو النقض ليس بسببين وحيدين لنقض الأحكام الجزائية و لتصدي محكمة التعقيب للموضوع و إما يكون كذلك مستوجبا لنقض الحكم الصادر بالإعتماد على أسانيد متناقضة أو متضاربة و هو موضوع النقطة الثانية.

2 ـ : التضارب بين المستندات و نتيجة الحكم :

كما سبق بيانه على القاضي الجزائي أن يعلل الأحكام و القرارات الصادرة عنه لكي لا يعرضها للنقض و معلوم أن تعليل الأحكام لا يكفي وحده لتجنب نقض محكمة التعقيب بل يجب أن تكون المستندات المقدمة من طرف القاضي متلائمة مع نتيجة حكمه إذ على فرض أن المتهم كان قد اعترف لدى باحث البداية و أمام هيئة المحكمة بما نسب إليه من أفعال مع ثبوت ذلك بشهادة الشهود مع ذلك يصدر القاضي حكمه ببراءة المتهم ففي هذه الحالة يكون هذا الحكم عرضة للنقض من طرف محكمة التعقيب لتضارب المستندات المعتمد عليها مع النتيجة التي توصل إليها وقد أكدت محكمة التعقيب في العديد من المناسبات على هذا الرأي بقولها أنه ” يكون قابلا للنقض الحكم المبني على أسانيد متناقضة لا توصل للنتيجة التي انتهى إليها ([105])

كذلك عندما أكدت على أن القضاء بالإدانة دون إبراز الأركان الأساسية للجريمة يجعل القرار المطعون فيه غير سليم المبنى و قاصر التسبيب([106]) و كذلك حين أكدت انه يجب أن يكون الحكم معللا تعليلا واضحا دون أن يشوبه قصور أو تناقض أو خرق للقانون ([107]) فالتعارض أو التباين بين تحليل عناصر الإثبات و النتيجة التي توصل إليها القاضي هو سببا من أسباب نقض الأحكام الجزائية و بالتالي طريقة من الطرق التي من شأنها أن تحد من السلطة التقديرية المفرطة التي يتمتع بها القاضي الجزائي بمناسبة تقديره لمختلف وسائل الإثبات.

و لمزيد التأكيد على أن التضارب في التعليل يمثل سببا من أسباب نقض الأحكام الجزائية هو ما ورد على محكمة التعقيب التي تعتبر أن عدم تماسك أجزاء الحكم أو تناقضها مع تعليله يمثل سببا من أسباب النقض هذا مع العلم أن التناقض في قضية الحال يتمثل في أن الحكم الصادر عن محكمة الأصل يبرز بصفة واضحة خطأ كل من المتهم و الضحية لكنه لا يرتب النتيجة المتولدة عن ذلك و بالتالي حكم على المتهم بالإدانة دون النظر في مسؤولية الحادث الذي حصل نتيجة خطأ مشترك بين الطرفين أي بين سائق السيارة الذي تجاوز السرعة القانونية و بين سائق الدراجة الذي لم يتوقف أمام علامة الوقوف الإجباري ([108]).

الفرع الثاني : نطاق تصدي محكمة التعقيب لجانب الواقع في الحكم:

منذ أن عرفت فرنسا و بلادنا نظام التعقيب حرص المشرع في كل منهما على إيراد النصوص التي تحصر دور محكمة التعقيب في رقابة جانب القانون دون الواقع بحيث يبقى موضوع الدعوى داخلا في سلطة قضاة الأصل دون رقابة من محكمة القانون .

و بالرغم من موقف المشرعين إلا أن الفقه أنكر فكرة السلطان المطلق لقاضي الموضوع على واقع الدعوى و أشار إلى تصدي محكمة التعقيب أحيانا لجانب الموضوع في الدعوى و من ناحية أخرى فقد تصدت محكمة التعقيب الفرنسية و تابعتها المحكمة التونسية و المصرية و غيرها إلى كثير من جوانب الموضوع في الدعوى حيث لم يعد لمحكمة الموضوع سلطان مطلق في المسائل الموضوعية ([109]) .

و لكن إذا كان الفقه و القضاء قد استقر على إنكار فكرة السلطة المطلقة النهائية لمحكمة الموضوع على جانب الواقع فإن ذلك لا يعني خضوعها في هذا المجال لرقابة محكمة التعقيب على نحو مطلق و بغير حدود فالمقرر فقها و قضاءا أن مناقشة محكمة التعقيب للموضوع محدود في نطاق معين و هو الرقابة على كفاية الأسباب الواقعية التي انبنى عليها الحكم و على اقتناع القاضي.

الفقرة الأولى : الرقابة على كفاية الأسباب :

يقصد بعدم كفاية الأسباب كونها لا تكفي للتأكد من وقوف المحكمة على واقعة الدعوى و أدلتها و مدى التزام المحكمة بحكم القانون في شأنها. و ترتبط الرقابة على كفاية الأسباب الواقعية بنطاق المنازعة الصادر في شأنها الحكم المطعون عليه لذا جرت محكمة التعقيب على فرض رقابتها على الأسباب المتعلقة بعناصر الواقعة الأساسية للجريمة و خصوصا استعراض اوجه الدفاع و كذلك الأسباب المتعلقة بالأدلة.

ففي خصوص الأسباب المتعلقة بثبوت عناصر الجريمة و توفرها في الواقعة المنسوبة إلى المتهم راقبت محكمة التعقيب مدى استظهار الحكم المطعون عليه لهذه العناصر و أوجبت أن يكون بينها كاشفا عن توفر أركان الجريمة ([110]) كما راقب بيان الركن المادي للجريمة حين اعتبرت أن إدانة المهم بواقعة سرقة دون بيان الواقعة و لا مكان الجريمة من ثمة فإن التعليل يتسم بالقصور لإغفاله بيان الأركان الهامة في الجريمة كما تراقب المحكمة الرابطة السببية في الواقعة المطروحة عليها بين الخطأ و الضرر و كذلك رقابة الركن المادي للجريمة كما أن المحكمة ملزمة بعرض اوجه الدفاع و الرد عليها و إلا كان حكمها قابلا للنقض من طرف محكمة التعقيب لضعف التعليل .

الفقرة الثانية : الرقابة على إقتناع محكمة الموضوع :

المقرر و أن القاضي حرّ في تكوين عقيدته في الدعوى من أي دليل يجده في أوراقها طالما أن المشرع لم يفرض عليه دليلا بذاته فالعبرة في الإثبات الجنائي باقتناع القاضي واطمئنانه و ما يرتاح إليه وجدانه و هو ما نصت عليه الفصول 150 و 152 م.إ.ج و أكدته محكمة التعقيب في العديد من قراراتها بقولها مثلا ” أن تقدير الخطأ إلى المتهم يعود لإجتهاد قاضي الموضوع مما استخلصه من ظروف الواقعة و كافة العناصر المطروحة لديه و التي كانت محل نقاش بين أطراف القضية ([111]) .

و الإقتناع يقوم على عنصرين : المنهج أي كيفية الإقتناع و المضمون و يقصد به النتيجة التي خلص إليها القاضي و القاعدة أن القاضي ليست له سلطة مطلقة في هذا المنهج فهو ليس حرا في اختياره على الدوام، أما عن المضمون أي الحكم بثبوت الواقعة أو عدم ثبوتها فهذه مسألة موضوع تدخل في سلطته التقديرية.

و تراقب محكمة التعقيب كفاية الأسباب الواقعية إذ على محكمة الموضوع بيان مضمون الأدلة التي استندت إليها و إلا كان حكمها عرضة للنقض و هو ما دأبت عليه محكمة التعقيب حين أكدت على أن ” تقدير الأدلة راجع لمحض اجتهاد قضاة الموضوع بشرط التعليل القانوني الصحيح الذي لا يشوبه ضعف . و القضاء بإدانة المتهم بناءا على تصريحات المتضرر و دون ترجيح بين تلك التصريحات و أدلة البراءة و عدم مناقشة نتيجة الإختبار المجرى يورث الحكم المطعون فيه ضعفا في التعليل يقضي حتما إلى النقض ([112]) ([113]).

و الأصل أن القاضي حر في تكوين عقيدته في الدعوى، فقط أطلق له المشرع حرية الإقتناع بما يراه ،

إلا أن هذه الحرية لا تعني السلطة المطلقة غير المحدودة بل هي مقيدة بضوابط فالإقتناع لا بد أن يكون له سنده في أوراق الدعوى و تحقيقها و أن تكون ثمة مقدمات تؤدي إليه فضلا عن إلتزام القاضي في شأنه بالأصول و الضوابط المنطقية و هو ما يشكل أساسا لرقابة محكمة التعقيب و هذه الرقابة تنصب على صحة الإقتناع إذ لم تقف محكمة التعقيب عند التصدي للموضوع من خلال رقابتها لكفاية الأسباب الواقعية بل سعت إلى توسيع نطاق هذا التصدي بأن بسطت رقابتها على جانب الواقع في صورة بالغة التوسع فراقبت المصادر التي استند إليها إقتناع المحكمة كما فرضت رقابتها على منطقية هذا الإقتناع فبالنسبة لرقابها على مصادر الإقتناع فالأصل أن تقدير الوقائع و إثباتها يدخل في السلطة التقديرية لقاضي الموضوع إلا أن ذلك مقيد بأن يستمد من أصول ثابتة في الأوراق و أن تكون هذه الأصول صحيحة و مشروعة و هو ما أكدته محكمة التعقيب في قرارا لها لما اعتبرت أن أوراق القضية ذاتها تعد مصدر المستندات و التعليل المعتمد في الأحكام و القرارات الجزائية ([114]) .

و في خصوص تحقق الإقتناع من أصول ثابتة في الأوراق نشير إلى أن الدليل الباطل لأي سبب أو المستمد من إجراء غير مشروع يعد معدما ولا يصلح لأن يكون مصدرا لتكوين إقتناع المحكمة و يكون بالتالي الإقتناع المستند إليه غير قائم على أصول ثابتة في الملف.

و إذا ما كانت محكمة التعقيب قد راقبت وجود مصادر الاقتناع و تحقق الأسس التي قام عليها فإن رقابتها قد امتدت أيضا إلى منطقية هذا الاقتناع و مدى كونه وليد مقدمات تكفي لاعتمادها إذ تراقب صلاحية الدليل من الناحية الموضوعية.

و في الأخير نذكر انه لا جدال في أن عمل محكمة التعقيب على التصدي لموضوع الدعوى و رقابتها في حدود معينه أمر مطلوب إذ أن الرقابة على كفاية الدليل أمر منطقي و مسألة جوهرية لأنه إذا كان القاضي ملتزم بتكوين عقيدته من أوراق الدعوى و مفرداتها فإن كفاية الدليل تعد مسألة أساسية يجب على محكمة التعقيب التحقق منها ،

كما أن التزام القاضي بإقامة حكمه بالإدانة على التثبت و التيقن يوجب على محكمة التعقيب رقابة الإستنتاج و الاستخلاص من كفايته و سلامة كل منهما.هذا إضافة إلى الرقابة على بيان واقعة الدعوى و موضوع الدليل هو السبيل للتأكد من سلامة الحكم و شعور القاضي بخضوعه لرقابة التعقيب في هذه المسائل سوف يدفعه إلى التثبت في واقعة الدعوى و تقدير أدلتها لما يتفق و الحقيقة و هي أمور تحقق العدالة المنشودة من كل التشاريع.

لكن السؤال الذي بقي مطروحا هو هل أن في تصدي محكمة التعقيب للموضوع يعد تناقضا مع مبدأ حرية القاضي في تكوين عقيدته ؟

الواقع ليس ثمة تناقضا بينهما بل هما فكرتان متعاونتان واجتماعهما يضمن رفعة مستوى الأحكام و جعلها اقرب إلى تحقيق العدالة فمن الناحية النظرية يترتب على تصدي محكمة التعقيب للموضوع ضمان وجود أسباب تكفي لعدالة الحكم و هو ما يرفع من قيمته و فضلا عما تقدم فإن ذلك التصدي خير وسيلة لتطبيق قاعدة حرية القاضي في تكوين عقيدته على نحو قانوني سليم إذ يجد قاضي الموضوع نفسه مضطرا إلى تكوين إقتناعه من أدلة موجودة في الأوراق و تصلح لأن تؤدي إلى هذا الإقتناع.

أما من الناحية التطبيقية فقد حققت رقابة التعقيب على الموضوع أعلى درجات العدالة و أدت إلى تطبيق قاعدة حرية القاضي في تكوين عقيدته على نحو سليم و صحيح فقد أبطلت محكمة التعقيب كثيرا من الأحكام التي أقامت قضائها على أدلة وهمية أو أخرى باطلة بحيث يمكن القول أن هذه الرقابة قد حافظت على تطبيق فكرة حرية القاضي في تكوين عقيدته في صورتها القانونية السليمة مما أدى في الحقيقة و الواقع إلى رفع مستوى الأحكام و جعلها أقرب إلى العدالة و الواقع أن استقرار أحكام التعقيب على مناقشة الموضوع يؤكد أن توجهها هذا كان دعما لقاعدة حرية القاضي في تكوين عقيدته بصورتها القانونية الصحيحة دون أن تكون حربا عليهم ([115]) .

الخــــاتمـــــــة

إن التعليل يعد أداة فعالة في إبراز عدالة الأحكام و صحتها الأمر الذي يجعلها محل ثقة الأفراد و على الأخص الذين فصلت في منازعاتهم سواء كانت مدنية أو جزائية و هو الأداة التي تفرض على القاضي الحرص و الفطنة و من هنا كان التعليل مسألة جوهرية يفرضها القانون على القاضي ليضمن بها حياده و فصله في الدعوى وفقا لما يرتاح إليه وجدانه.

كما أن التعليل يكشف عن الدوافع و المبررات التي دفعت القاضي إلى إصدار حكمه على نحو معين و بالتالي يدفع عنه أي شك أو ريبة مما قد يثور في نفس الخصوم ممن أضر الحكم بمصالحهم.

هذا و يقف التعليل حجر عثرة أمام أي انحراف من القاضي أو إفراط في سلطته إذ من خلاله يلتزم القاضي ببيان المبررات و الدوافع التي قادته إلى النتيجة التي خلص إليها في قضاءه و بذلك يمثل التعليل ضمانة للقاضاء و للعدل عموما و هو ما يوفر سلامة الأحكام واستقرارها و اطمئنان الأفراد إليها.

كما يقوم التعليل بأداء وظيفة هامة تتعلق بالصالح العام و تتمثل في فتح السبيل للرقابة على الأحكام القضائية و هذه الرقابة تكون مبدئيا لدى محكمة الإستئناف إلا أن رقابة محكمة التعقيب يكون لها مفعول أهم باعتبارها تحرص أيضا على توحيد القضاء ، فالمعروف أن هذه المحكمة هي جهاز قضائي ينحصر دوره في الرقابة على الشرعية فهي تختص كمبدأ عام بالتحقق من مدى مطابقة الحكم و الإجراءات لأحكام القانون الموضوعي و الشكلي دون أن تتناول بالبحث الجانب الموضوعي من الحكم.

و لا يتصور أن تقوم هذه الرقابة إلا إذا كان ثمة تعليل للحكم فهو الأداة الأولى لكي تعمل محكمة التعقيب رقابتها على الحكم الصادر في الدعوى، و هذا مما لا يتسنى إلا إذا أتقن القاضي فنون و قواعد التعليل فلا يتيه وسط إدعاءات الخصوم و لا يتردد أمام الحجة و الحجة المضادة ولا ينساق إلى بحث عقيم لا يوصل إلى لب الحق، فالتعليل ليس فقط ذكر الأسباب الواقعة و القانونية. فذلك لا يعدو أن يكون مظهر خارجيا له.

إذ التعليل في جوهره فن قانوني و صناعة قضائية و القواعد التي تنظم هذا التعليل إنما هي نبراس يستنير به القاضي في عتبة الشك و الشبهة حتى إذا ما تراءى له نور الحقيقة صدع به .

و هي أيضا قواعد تعصمه من السقوط في المتاهات و الحلول المغلوطة التي يجره إليها الأطراف جرّا، فالتعليل بهذا المعنى ليس إلا عصار مجهود فكري يختمر في ذهن القاضي، وما الحل الذي يصل إليه إلا نتيجة تزاوج بين القانون و الواقع و المنطق.