ارتكــاب الجرائـم باستعمـال خصائــص الوظيـف

الاستاذ سفيــان الاندلسي

إن حضارة اليوم تستمد أبرز ركائزها ومقومات نهضتها من خصائص القاعدة القانونية وأساسا إلزاميتها والتي توسّع مجالها ليطال علاوة على الأفراد الدولة هيكلا وموظفين، إذ اقر المشرّع لهذا الصنف الأخير أسلوبــا في التحذير والزجر أكثر صرامة مما هو عليه الأمر بالنسبة للأشخاص العاديين وذلك اعتبارا للمكانة التي يحتلّهــا وللدور المناط بعهدته ، فهو أداة مرافق الدولة في تسيير شؤونها .

وإذا كان المجتمع لا يطلب من الأفـراد سوى احترام القانون فإنه يطلب من موظفي الدولة عموما وإلى جانب ذلك سلوكـا وأخلاقيـات وواجبـات خاصة اعتبارا للمكانة التي يحتلّـونهـا والسلطة والنفوذ الممنوحين لهم بمقتضى وظيفهم ، فالموظف العمومي “باسم القانون وباسم الدولة يمكن أن يفرض شتى أنواع القرارات على مواطنيها”[1]

ونظــرا لذلك ولما تضفيه الوظيفة العامة على الموظف العام ومن في حكمه من سلطة ونفوذ فقد كان من الطبيعي وفي مقابل الحماية التي يحظى بها أن يعنى القانون الجزائي بفرض واجبات خاصة عليه ويقرر له عقوبات أشد مما يقرّرها لأفراد الناس .

إلا أنه ولئن اتفقت جلّ التشريعات الجنائية على محاسبة الموظفين العموميين ومن في حكمهم على أخطائهم الجزائية فإنها اختلفت في أسلوب معالجة تلك الانتهاكات[2] .

فقــد يعتبر بعض المشرّعين أن تلك الأفعال لا تعدو أن تكون أخطاء تأديبية لا يفرضها سوى النظام الداخلي للوظيفة العمومية باعتبار وأن ذلك مسألة تخصّ انضباط الموظف وبالتالي لا تتجاوز إطار الوظيف مما يكون معه من غير المقبول أن تمثل تلك الأفعال أو الأخطاء موضوعا لنصّ جزائي.

بينمـــا يرى البعض الآخر أنه لا يجوز أن يكتفي بالنسبة لهذه الأخطاء بمحاسبة الموظف العمومي تأديبيا لأن تلك الأفعال تشكل جرائم بعيدة الأثر من حيث أن أذاها لا يقتصر على المصالح المحدودة داخل إطار الوظيف وإنما يمسّ النظام العام ككل ، وبالتالي فإنها حريّة بأن تكون موضوع نصّ جزائي سابق الوضع واضح الأركان والشروط محددا للعقاب المستوجب للموظف العمومي ومن في حكمه إذا ارتكبها.

فقــد يعتبر المشرع انحرافا يقترفه الموظف ومن في حكمه هو مجرد مخالفة تأديبية يكتفي فيها بمحاسبة تأديبية في حين أن نظاما آخر يعتبر نفس ذلك الانحراف جريمة من جرائم القانون الجنائي لمساسها بأوضاع خاصة تعتبر ذات أهمية حيوية للدولة والمجتمع ويرجع الفقه ذلك الاختلاف إلى تنوّع الأنظمة القانونية وتأثر سياستها التشريعية بأوضاع اقتصادية واجتماعية[3] ذلك أن الوظيفة العمومية في عديد البلدان عنصر هام من عناصر “التنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي والوحـدة القوميـة”[4] وهو ما حدا بعديد المشرّعين إلى إكسائها بحماية جزائية متفاوتة الصرامة .

وقــد تــمّ إقرار هذا المبدأ ضمن المادة الرابعة والعشرون من إعلان الحقوق الصادر سنة 1793 بأنه ” لا ضمان للمجتمع ما لم توضع حدود دقيقة للوظائف العامة وما لم تؤكّد مسؤولية الموظفين ” .

وقــد كرّس المشرّع التونسي هذا التوجه فكان أن خصّص حيزا من نصوص المجلة الجنائية لتجريم أخطاء الموظف العمومي وشبهه، والمتأمّل في أحكام هذه المجلة يستخلص أن

الموظف العمومي وشبهه يرتكب الجرائم طبق ثلاث صور:

1- إما أن يرتكب الجرائم كإنسان عادي بعيد عن وظيفه وفي هذه الصورة تنطبق عليه فصول الأحكام العامة من حيث التجريم والعقاب طبقا للجريمة المرتكبة.

2- إمّــا أن يرتكب إحـدى الجرائـم التي خصّـه بها المشرّع اعتبارا لصفته كجميع جرائم الباب الثالث من المجلة الجنائية المتعلـق بالجرائـم الواقعة من الموظفين العموميين أو المشتبهين بهـم حال مباشرة الوظيف أو بمناسبـة مباشرته ، كالارتشاء (فصل 83 وما بعده من م ج ) والامتناع من العدالة (الفصل 108 م ج ) أو كنشر ما فيه مضرة للدولة (فصل 109)…

3- إمّــا أن يرتكب الجرائم التي يرتكبها الإنسان العادي ولكن في هذه الصورة يستعمل في ارتكابها خصائص ووسائل وظيفه بما يجعل صفته كموظف عمومي أو شبهه تكون قائمة عند ارتكاب الفعل الإجرامي، وتخضع هذه الجرائم لأحكام الفصل 114 م ج وهي تتعلق بجميع الجرائم التي لم ينص المشرع على تجريمها أو تشديد عقوبتها اعتبارا لصفة الجاني كموظف عمومي أو شبهه بنصّ خاص.

وفـي هذا الإطار الأخير يتنزّل موضوع هذه الرسالة فهي تتعلق بارتكاب الجرائم باستعمال خصائص الوظيف.

وانطلاقــا من التعريف الفقهي العام للجريمة بكونها كل فعل أو امتناع عن الفعل المحظور الذي يقرّر القانون لمرتكبه أو للممتنع عنه عقوبة يمكن القول أن الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف هي مبدئيا كل فعل أو امتناع عن الفعل الذي يرتكبه أو يمتنع عن ارتكابه كل موظف عمومي أو شبهه باستعمال خصائص الوظيف ، أو هي انتهاك الموظف العمومي أو شبهه لحرمة القانون الجنائي باستعمال خصاص الوظيف .

ومهمــا يكن من أمر فإن المشرّع الجنائي من خلال تجريم هذا النوع من الأفعال المحظورة أراد التصدّي لكل انحراف بسلطة الوظيف وخصائصه.

وتصديـا لمثل هذه الجرائم كرس المشرع التونسي عديد الفصول الجزائية لحماية الوظيف وذلك عبر تحديد الجرائم الخاصة بالموظفين العموميين ومن في حكمهم وزجرها بعقاب مشدّد اعتبارا لتلك الصفة ، ودعم هذه الحماية من خلال تشديد العقاب بالنسبة لبقية الجرائم الأخرى التي قد ترتكب باستعمال خصائص الوظيف.

وفــي هذا الإطار تتنزل الإشكالية القانونية لهذا الموضوع والمتعلقة بتحديد النظام القانوني للجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف.

لدراسـة هذه الإشكاليـة سنتعـرّض في (جزء أول) شـروط قيـام الجريمة المرتكبة باستعمـال خصائص الوظيـف ، وفي (جزء ثاني) إلى آثـار تلك الشـروط على نظام زجر الجريمة.

I – الجـــزء الأول : شــروط قيـام الجريمــة

II – الجــزء الثـانـي : نظـام زجـر الجريمـة

الجـــــزء الأول

تتميـز الجريمة المرتكبـة باستعمـال خصائص الوظيـف بضرورة توفـّـر شروط خاصة تساهم في قيامهـا وتتمثـل في شرط صفة الجـانـي (فصل أول) وشرط استعمـال خصائص الوظيـف (فصل ثاني).

الفصــل الأول شــرط صفــة الجــانـي

تتميز الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف بضرورة توفر صفة معينة في الجاني يتجه تعريفها (فرع أول) ثم بيان أهمية اقترانها بارتكاب الجريمة (فرع ثاني).

الفــــــــــرع الأول تعريــــــف الجـــــــــــانــــي
اقتضى المشـرّع الجنائـي لقيام الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف ضرورة توفر صفة الموظف العمومي أو شبه في مرتكبها إذ نصّ الفصل 114 م . ج على « أن الموظف العمومي أو شبهه الذي في خارج الصور المذكورة بهذا القانون يستعمل لارتكاب جريمة خصائص وظيفته أو الوسائل التابعة لها يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها لتلك الجريمة بزيادة الثلث».

ودراسـة هذه الصفـة تقتضي أولا تعريـف الموظـف العمـومـي (فقـرة أولى) وشبه الموظف العمومي (فقرة ثانية ).

الفقــرة أولى : الموظـــف العمـــومي
خلافـا لبعض التشاريع الجنائية المقارنة تولّى المشرع التونسي ومنذ إصـدار المجلة الجنائية سنة 1959 ضبط تعريف قانوني للموظف العمومي أو شبهه ضمن الفصل 82[5] من هذه المجلة والذي بموجب التنقيح الأخير لسنة 1998[6] أصبح ينصّ على أنه « يعتبر موظفا عموميا تنطبق عليه أحكام هذا القانون كل شخص تعهد إليه صلاحيات السلطـة العموميـة أو يعمل لدى مصلحـة من مصالح الدولـة أو جماعة محلية أو ديوان أو مؤسسـة عمومية أو منشأة عمومية أو غيرها من الذوات التي تساهم في تسيير مرفق عمومي » .

ويشبّه بالموظف العمومي كل من له صفة المأمور العمومي ومن انتخب لنيابة مصلحة عمومية أو من تنوبه العدالة للقيام بمأمورية قضائية”.

إذا فبمقتضى التنقيـح الجديـد للفصل 82 نلاحظ أن المشرع الجنائي قام بسحب صفة الموظف العمومي على كل من تعهد إليه ” صلاحيـات السلطـة العمومية ” وتعني هذه العبارة كل الأشخاص الذين يمارسون وظيفة سلطة بقطع النظر عن طبيعة ذلك الشخص – Le statut de la personne- كأن يكون نظاما خاصا – Privé- (كعضو مختص بشؤون الطفولة في تركيبة محكمة الأطفال من غير القضاة، مثلا عضو في تركيبة الدائرة التجارية من غير القضاة أو نظاما عاما – Public- مثل كل من له صلاحيات السلطة العمومية بحكم وظيفه الرسمي.

وهو ما يتضح معه ومن خلال عبارة كل شخص تعهد إليه صلاحيات السلطة العمومية ” أن الأمر يتجاوز حدود أعوان الوظيفة العمومية الخاضعين جلّهم إلى النظام الأساسي العام المحدد بالقانون عدد 122 لسنة 1983 المؤرخ في 12/12/1983[7] ليشمل أصناف أخرى من أعوان الوظيفة العمومية والخاضعين لأنظمة أساسية عامة متميزة[8] .

كما سحب المشرّع أيضا صفة الموظف العمومي على كل شخص يعمل لدى مصلحة من مصالح الدولة أو جماعة محلية أو ديوان أو مؤسسة عمومية (سواء كانت ذات طابع إداري أو صناعي أو تجاري) كأعوان المؤسسات ذات الصبغة الصناعية والتجارية والشركات القومية والشركات التي تساهم الدولة أو الجماعة المحلية في رأس مالها أو منشأة عمومية ، كما سحب المشرّع أيضا صفة الموظف العمومي على كل شخص يعمل لدى ذات من الذوات التي تساهم في تسيير مرفق عمومي وحسب صياغة الفصل فإن المشرّع لم يفرق بين ما إذا كان الأمر يتعلق بذات عمومية أو خاصة إذ يكفي أن يعمل الشخص لدى هذه الذوات التي ليس لها أي قدر من السلطة العمومية سواء بصفة دائمة أو مؤقتة لتسحب عليه صفة الموظف العمومي اعتبار لمساهمة تلك الذات التي يعمل بها في تسيير مرفق عمومي.[9]

إذا يتضح مما سبق بيانه أن المشرّع الجنائي تبنّى مفهوما موسّعا للموظف العمومي يستوعب المفهوم الإداري بل ويتجاوزه، فالموظف العمومي يعرّف في القانون الجنائي اعتمادا على مهامه في حين يعرّف في القانون الإداري على أساس طبيعة العلاقة الرابطة بين العون العمومي والشخصية العمومية التي توظفه وهو ما استقر عليه الفقه الإداري باعتباره يعرّف الموظف العمومي بكونه الشخص الذي يساهم في عمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام الأخرى.

فالموظف العمومي يعرّف بكونه عون الوظيفة العمومية الخاضع للقانون العام من حيث تعيينه وترقيته وعزله إذ نصّ الفصل 27 من القانون عدد 112 لسنة 1983 المؤرخ في 12/12/1983 والمتعلق بضبط النظام الأساسي لأعوان الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية على نفس التعريف الوارد بالفصل 16 من القانون عدد 12 لسنة 68 المؤرخ في 3 جوان 1968 « يعتبر موظفا رسميا من وقع تعيينه في خدمة دائمة وتمّ ترسيمه في رتبة دائمة منصوص عليها بإطارات الإدارة التي يرجع إليها بالنظر» فالقانون الإداري يعتمد لتعريف الموظف العمومي على طبيعة العلاقة الرابطة بين العون العمومي والشخصية العمومية التي توظفه .

في حين وكما سبق الإشارة إليه أعلاه فإن التعريف الجنائي للموظف العمومي جاء أعم وأشمل من نظيره الإداري باعتبار وأن القانون الجنائي يعتمد لتعريف الموظف العمومي على مهمة والوظيفة التي يؤديها[10] وهو ما استقر فقه قضاء محكمة التعقيب على تكريسه “الموظف العمومي هو كل شخص عهدت إليه الدولة بجزء من سلطتها التنفيذية” .

فبالرجوع إلى جل القرارات التعقيبية نجدها تكتفي بالتذكير بنص الفصل 82 “حيث يعتبر موظفا في نظر الفصل 82 م ج من القانون الجنائي كل شخص استولى بأي تسمية كانت ولو مؤقتة على خطة أو نيابة إجراؤها مرتبط بمصلحة عامة بحيث يكون مشاركا في خدمة الدولة”.[11]

وفي قـرار آخر اعتبرت محكمة التعقيب توفّر صفة الموظف عند ضابط صف كلف بإدارة مصلحة الجيش وقد ردت المحكمة على ما تمسّك به لسان الدفاع من كون صفة الجندية لا تكسب صاحبها صفة موظف عمومي ، إذ جاء في إحـدى حيثياتها « كل من باشر خطة إجراؤها مرتبط بمصلحة عامة سواء كانت مدنية أو عسكرية …يعتبر موظفا عموميـا وينطبق عليه الفصل 82 من م. ج كما ورد بنفس القرار « حيث أن الطاعن كلّف بإدارة مصلحة بريد الجيـش بثكنـة من ثكناته وهي خطة إجراؤها مرتبط بمصلحة عمومية إذ أنها لفائدة الجنود وبهذه الصفة يعد مشاركا في خدمة الدولة وملتحقا بإحدى المؤسسات الخاضعة لمراقبة الدولة زيادة عن صفته كضابط صف ».

كما جاء بنفس القرار « وحيث أن التفرقة بين الموظف المدني والموظف العسكري في هذا الباب لا تقوم على سند قانوني وسياق الفصل 82 من القانون الجنائي في تعريف الموظف العمومي سياق عام بتعبيره الشامل المطلق وان كانت عبارات القانون مطلقة جرت على إطلاقها حسب أحكام الفصل 533 من م ا ع » .[12]

لكن هل يعتبر الجندي الذي دعي لأداء واجب الخدمة العسكرية لمدة عام، موظفا عموميا أثناء تلك الفترة ؟

إن ” الجندي” أصبح في أيامنا هذه في وضعية قانونية وترتيبية من قواعد القانون العام باعتباره يخضع كأي رتبة من رتب الجيش إلى قواعد القانون الأساسي العام للعسكريين المؤرخ في 31/5/1967[13] ” ذلك أن الفصل 4 من نفس هذا القانون تعرّض إلى رتبة الجندي في اسفل سلم رتب الجيش وهو ما يجعله وأثناء فترة قضاء آداء واجبه متمتعا بصفة الموظف العمومي طبق أحكام الفصل 82 من م ج وهو ما أقرّته المحكمة العسكرية الدائمة بتونس في قضية أحيل فيها على أنظارها حافظ امن وجندي من اجل السرقة باستعمال خصائص الوظيف طبق الفصلين 264 و 114 من م ج (1).

فالمفهوم الجنـائي للموظف العمومي يستوعـب عدة أصناف من الموظفيـن وأعوان الدولة انطلاقا من موظفي الدولة (وزراء، نواب…) وصولا إلى استيعـاب عديد المهن الحرة وهو يوسّع مجال تطبيق الفصل 82 م ج .

هذا وتجدر الإشارة إلى أن عديد القوانين المقارنة الأخرى رفضت تكريس تعريف جنائي للموظف العمومي من ذلك مثلا القانون الفرنسي وقد برر الفقه ذلك بسبب انه لا يمكن أن يوجد تعريف موحد للموظف العمومي[14] وان مهمة تحديد المفاهيم هي من عمل الفقه والقضـاء بتوسع في تحديد مفهوم الموظف العمـومي كلما اقتضت الضـرورة ذلك باعتبار أن هذه العبـارة وردت مطلقة في القانون إذ تقول محكمة التعقيب الفرنسية “حيث أن عبارة الموظف العمومي التي استعملها القانون يجب أن تفهم في أوسع مدلولها”[15] .

الفقرة ثانية : شبه الموظف العمومي
بالنسبة لشبـه الموظف العمومي نصّ الفصل 82 جديد من م .ج ضمن الفقـرة الثانية على أنه « يشبه بالموظف العمـومي كل من له صفة المأمور العمومي ومن انتخب لنيابة مصلحة عمومية أو من تنوّبه العدالة للقيام بمأمورية قضائية ».

يتضح أن تعريف شبه الموظف العمومي أضحى أكثر اتساعا وشمولا فالمشرّع الجنائي أضاف صفة المأمور العمومي ليصبح كل من له هذه الصفة شبه موظف عمومي أي أن هذه العبارة اتخذها المشرع معيارا لتحديد شبه الموظف العمومي، وهذا المصطلح يجد جذوره ضمن م ا ع بالفصول (442 – 445 و 450 )، فهذه الصفة تنسحب على كل من منح إياها بنصّ خاص ، كعدول الإشهاد[16] وعدول التنفيذ[17] أو الذين يكتسبون هذه الصفة بحكم طبيعة العمل الذي يمارسونه[18].

إضافة إلى ذلك فقد عمد المشرّع إلى حذف التحديد الحصري لمن تنوبهم العدالة بصفة عرفاء أو محكمين أو مترجمين وترك المجال مفتوحا لكل من تنوّبه العدالة للقيام بمأمورية قضائية كالمترجم والخبير[19] وأمين الفلسة والمصفّي والمؤتمن العدلي والمتصرف القضائي[20] فكل من تنتدبه المحكمة للقيام بمأمورية قضائية مثلا لإجراء اختبـار فني في مجال البناء أو الفلاحة أو محاسب أو طبيب أو محام تسخّره المحكمة للدفاع عن متهم أو في نطاق إعانة عدلية للتقـاضي، فهـو بتلك الصفـة شبه موظف عمومي باعتباره كلّف بمأمورية قضائية والمشرع استعمل عبـارة – العدالة – وهي عبارة شاسعة فقـد تعني المحكمـة أو رئيس المحكمـة أو لجنة الإعانة العدلية ، وهذا الاختيـار من المشرّع لتلك العبـارة مقصود حتى لا يقتصر التعيين للقيام بمأمورية قضائية حكرا على المحكمة .

وفي هذه الصورة فإن كل من تعيّنه العدالة للقيام بمأمورية قضائية يكتسب صفة شبه الموظف العمومي ويدخل في نطاق الفصل 82 وتحت طائلة أحكام المجلة الجنائية فيما يتعلق بجرائم الموظف العمومي وشبهه.

كما استعاض المشرع عن ” الأشخاص الذين ينتخبهم الناس ” ب” من ” انتخب لنيابة مصلحة عمومية ” وهذا التحديد هو معيار آخر لتعريف شبه الموظف العمومي وهو ينطبق على كل من يباشر وظيفة عمومية هدفها المصلحة العامة كأعضاء المجالس البلدية ومجالس الولاية والمجالس القروية، وكذلك أعضاء مجلس النواب مع العلم أنه ليس بالضروري أن يكون شبه الموظف العمومي في هذا المجال منتخبا بالاقتراع وأنه يكفي أن يكون مختارا لتسيير مصلحة عمومية .

إذا فمن خلال تنقيح الفصل 82 من م. ج يتضح أن المشرّع عمد إلى توسيع تعريف الموظف العمومي وشبهه بما يتماشى والوضعيات الواقعية المعروضة على المحاكم تفاديا لعدم الاستقرار حول تعريف موحد.

إن إحراز الجاني لصفة الموظف العمومي أو شبهه في حد ذاتها لا يكفي لقيام الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف بل يجب أن تكون تلك الصفة متوفرة عند ارتكاب الجريمة .

الفـــرع الثــانــي اقتران الصفة بارتكاب الجريمة

إن اقتران الصفة بارتكاب الجريمة يعني ضرورة توفر الصفة عند ارتكاب الجريمة (فقرة أولى) باعتبار أن اختلالها قد يؤثر على قيام الجريمة (فقرة ثانية).

الفقــرة أولى : ضرورة توفّــر الصفة عند ارتكاب الجريمة
من الشروط الأساسية التي ضبطها المشرع لنكون بصدد جريمة مرتكبة باستعمال خصائص الوظيف هي أن تتوفر في الجاني صفة الموظف العمومي أو شبهه إلا أن ذلك قد لا يكفي لقيام هذا النوع من الجرائم في حقه بل لا بدّ أن تكون تلك الصفة متوفرة عند ارتكاب الجريمة أي يجب أن يستند عليها الجاني لاقتراف جريمته.

فانتفاء تلك الصفة يؤدي حتما إلى استبعاد تطبيق أحكام الفصل 114 م . ج ، إذ ولئن لم ينصّ المشرّع صراحة على ضرورة توفر هذه الصفة عند إتيان الفعل الإجرامي فان مجرد تنصيصه على أن« الموظف العمومي أو شبهه…يستعمل لارتكاب جريمة خصائص وظيفة…يعاقب » وهو ما يستنتج منه أن تلك الصفة يجب أن تكون قائمة ومتوفرة عند ارتكاب الجريمة ، لان انتفائها يحول الجريمة من جريمة مرتكبة باستعمال خصائص الوظيف إلى جريمة عادية مرتكبة من شخص عادي أو جريمة استعمل فيها الجاني صفة غير حقيقية ليستعمله أو صفة زالت عنه.

إذا فشرط صفة الجاني هو شرط جوهري لتوفر هذا النوع من الجرائم، إذ أن مناط التجريم والتشديد ضمن الفصل 114 هو استعمال الجاني لصفته الحقيقية والتي يجب أن تكون متوفرة، لا صفة وهمية أو منعدمة .

فإن ثبت مثلا أن عون الشرطة المتهم بجريمة التحيّل باستعمال خصائص الوظيف أنه عند ارتكابه لتلك الجريمة لم ينضمّ بعد لسلك الأمن فإنه لا يمكن مؤاخذته من أجل التحيّل باستعمال خصائص الوظيف بل من أجل التحيّل المجرّد فقط.

فانعدام تلك الصفة يجعل الفصل 114 م ج غير منطبق إذ لا يمكن أن ينطبق هذا النص إذا استعمل الجاني خصائص الوظيف دون أن تكون له (صفة الوظيف) صفة الموظف العمومي أو شبهه، والقول بغير ذلك فيه سوء تطبيق أو فهم للنص.

إن توفّر صفة الجاني عند ارتكاب الجريمة أمر جوهري على أساسه تقرّر المحكمة ثبوت الإدانة طبق نص التحريم الأصلي والفصل 114 م .ج ، وهي مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة التعقيب والتي ما فتئت تجري رقابتها على توفّر تلك الصفة لدى الجاني عند ارتكابه للجريمة، إذ تقول هذه المحكمة في أحد قراراتها « حيث فضلا عن التعريف الوارد بالفصل 82 من القانون الجنائي للموظف العمومي…وأوراق الملف ناطقة بانتماء المحكوم عليه ساعة ارتكابه للجريمة للإدارة العمومية … وبالتالي فان صفته كموظف لا جدال فيها وان المطعن كان غير جدي واتجه رفضه [21]»

لكن هل أن هذا الفصل ينطبق على الموظف العمومي أو شبهه الذي شاب قرار تعيينه عيب مبطل ؟.

الفقــرة الثانية : اختـلال الصفـة عنـد ارتكـاب الجريمـة
« هل أن بطلان قرار تعيين الموظف العمومي أو شبهه ينفي عنه تلك الصفة وبالتالي يجوز له أن يتمسك بانعدامها وعدم توفّرها عند ارتكاب الجريمة، فلا يخضع بذلك لأحكام الفصل 114 من م .ج ؟

بالنظر إلى مختلف القوانين الأساسية والخاصة فإن عدم توفّـر الشروط القانونية (السن، الجنسية، السيرة والسلوك ، المؤهلات البدنية، إجراءات التعيين والسلطة المؤهلة قانونا لذلك وأداء اليمين بالنسبة لبعض المهن ) أو اختلالها يؤثر على صفة الموظف العمومي أو شبهه ، فتعتبر كأنها لم تكن.

إذ اتجه الرأي إلى اعتبار أنه إذا شاب قرار التعيين عيب (عدم توفر أحد الشروط المشار إليها أعلاه) فلا مجال لمعاملة ذلك الشخص على أساس أنه موظف لأنه بالنظر إلى تلك القوانين فاقد لصفة الموظف أو شبهه .

إن ما يعاب على هذا الرأي هو تقيّـده بالمنظومة الإدارية لمفهوم الموظف العمومي والحال أن القانون الجنائي بات بما لا يدع مجالا للشك مستقلا عن بقية القوانين الأخرى، ولكل هذه الأسباب وغيرها تمّ تكريس نظرية الموظف الفعلي .

إن تكريس نظرية الموظف الفعلي يجب أن يكون موسّعا تلاؤما مع المفهوم الموسّع للموظف العمومي الذي كرّسه المشرع الجنائي التونسي ضمن الفصل 82 من م. ج حتى لا يفلت من العقاب كل من استغلّ صفته لارتكاب جريمة حتى ون كان اكتساب تلك الصفة معيبا بخلل في الإجراءات أو لبطلان قررا التعيين ..

إلى جانب شرط صفة الجاني من كونه موظفا عموميا أو شبه اشترط المشرع ولتطبيق أحكام الفصل 114 أن يتم استعمال خصائص الوظيف في ارتكاب الجريمة .

الفصـــل الثــانــي : شــرط استعمـال خصائــص الوظيـف

قد يلجأ الجاني (موظف عمومي أو شبهه) إلى ارتكاب الجريمة استنادا إلى خصائص وظيفة وهو ما من شانه أن يوفر في جانبه جريمة مرتكبة باستعمال خصائص الوظيف باعتبار الدور الهام لتلك الخصائص في تحقيق الفعل الإجرامي ودراسة التوظيف الإجرامي تلك الخصائص في الجريمة (فرع ثاني) تقتضي قبل ذلك تحديد مدلولها (فرع أول ).

الفـــــــــرع الأول مدلــول خصــــــائـص الوظيــــــف
نصّ المشرع ضمن الفصل 114 من م. ج على أن « الموظف العمومي أو شبهه الذي … يستعمل لارتكاب جريمة خصائص الوظيفة أو الوسائل التابعة لها … »

فهذه الخصائص شرط أساسي لتطبيق الفصل 114 م. ج وأوّل ملاحظة يمكن استنتاجها من أحكام الفصل 114 هو أن هذه الخصائص يجب أن تكون من متعلقات وظيفة الجاني ، ذلك أن أحكام الفصل 114 لا تنطبق إذا استعمل الموظف العمومي أو شبهه خصائص وظيفة أخرى لا ينتمي إليها قطعا ،

كان يستعمل موظف بالصندوق القومي للضمان الاجتماعي خصائص وظيفة عون أمن ، ففي هذه الصورة سنكون بصدد انتحال صفة أو تلبّس بلقب أو بزي موظف عمومي، ولا تنطبق أحكام الفصل 114 م ج على هذه الصورة باعتبار أن المشرّع نصّ صراحة على شرط استعمال الجاني خصائص وظيفته هي فعلا من خصائص الوظيف وهي المظهر المادي لخصائص الوظيف فقه القضاء التونسي مستقر على وصف هذه الجرائم بكونها جرائم مرتبكة باستعمال خصائص الوظيف للدلالة في نفس الوقت على الخصائص والوسائل : كالتحليل باستعمال خصائص الوظيف أو السرقة باستعمال خصائص الوظيف .

بالرجوع إلى فقه قضاء محكمة التعقيب [22] وعمل القضاء الجزائي بمختلف درجاته نلاحظ انه لا يفرق بين الخصائص والوسائل بل ويستعمل عبارة – خصائص الوظيف – للدلالة على الخصائص والوسائل في نفس الوقت ،باعتبار أن وسائل الوظيف هي فعلا من خصائص الوظيف وهي المظهر المادي لخصائص الوظيف وفقه القضاء التونسي مستقر على وصف هذه الجرائم بكونها جرائم مرتكبة باستعمال خصائص الوظيف للدلالة في نفس الوقت على خصائص الوسائل : التحيل باستعمال خصائص الوظيف أو السرقة باستعمال خصائص الوظيف .

وعموما فإن خصائص الوظيف هي مميزات الوظيف ويمكن تعريفها بكونها : جملة العناصر والوسائل المادية والمعنوية التي تختلف باختلاف وتنوّع الاختصاصات والأنشطة والصلاحيات التي يتمتع بها الهيكل أو الجهاز الإداري أو الذات العموميـة التي ينتمي إليها الموظـف العمومي أو شبهه والتي يكتسبها هذا الأخير كلها أو جزء منهـا لأداء، والتي من خلالها أو بواسطتها يمارس الموظف العمومي أو شبهه العمل أو المأمورية المعهودة إليه انجازها.

وما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أن خصائص الوظيف يمكن أن تنقسم إلى نوعين أولا خصائص تتصل بالاختصاص العام للوظيفة التي ينتمي إليها الموظف العمومي أو شبهه ، كسلك القضاء وسلك قوات الأمن الداخلي… وهو ما يمكن التعبير عنه بالخصائص العامة والنوع الثاني يتصل بالاختصاص الخاص المسند للموظف العمومي أو شبهه في نطاق المهمة المحددة له فاختصاص حاكم التحقيق بعمل التحقيق… وهو ما يمكن تسميته بالخصائص الخاصة .

والمهم هو أن تكون تلك الخصائص متصلة بالنشاط العام الذي ينتمي إليه الموظف العمومي أو شبهه أي لا يشترط أن تكون تلك الخصائص متصلة بمهامه الوظيفية المباشرة بل يكفي أن تكون تلك الخصائص التي استند إليها متصلة بالاختصاص العام للنشاط الذي ينتمي إليه .

فكاتب المحكمة العقارية الذي يتصل ببعض الفلاحين ويوهمهم بأنه رئيس المحكمة تلك المحكمة ويعرض عليهم خدماته قصد تمكينهم من تسجيل الأراضي الفلاحية الدولية التي بحوزتهم بالمنطقة لفائدتهم بصفة نهائية

مقابل تنازل كل واحد منهم على جزء من أرضه ويتسلم فعلا بذلك العنوان وبالحجة العادلة ما يثبت ذلك التنازل يكون مرتكبا لجريمة التحيل باستعمال خصائص الوظيف طبق الفصل 291 ة 114 من م. ج .

وقد كون هذا المثال فعلا وقائع قضية نظرت فيها محكمة التعقيب

وتأسيسا على ما تقدم يمكن دراسة مدلول خصائص الوظيف من خلال تقسيم هذه الخصائص إلى قسمين خصائص ذات طبيعة مادية (فقرة ثانية ) وخصائص ذات طبيعة معنوية (فقرة أولى ).

الفقرة الأولى: خصائـص ذات طبيعـــة معنويــــة
من أهــمّ هذه الخصائــص نذكر الصفــة والسلطـة :

الصفـــة :
تبرز الصفة كأهم عنصر معنوي من العناصر المكونة لخصائص الوظيف والتي يكتسبها الشخص من خلال انتمائه الوظيفي بالعمل لدى إحدى الهياكل أو الذوات التي ضبطها الفصل 82 من م .ج ، ومن أهم آثار هذه الصفة أنها تمنح حائزها صلاحيات واختصاصات وامتيازات تجعله في نظر العامة ممثل للجهة التي ينتمي إليها ويعمل باسمها بل تجعل تلك الجهة مجسدة في ذاته.

وأساس اعتبار الصفة كأول عنصر من عناصر خصائص الوظيف هو أن الجاني في مثل هذه الجرائم يلجأ إلى تلك الصفة كأول وسيلة يعتمدها في ارتكاب جريمته باعتبارها خاصية حقيقية تعكس وظيفته والجهة التي ينتمي إليها وظيفيا ومن شأنها أن تسهّل إحراز ثقة الضحية و تخفي الصبغة الإجرامية لفعل الجاني (موظف عمومي أو شبهه).

السلطـــة :
هي العنصر الثاني الهام من العناصر المعنوية المكوّنة لخصائص الوظيف وقد تعرّض المشرّع الجنائي إلى هذا اللفظ ضمن القسم الخامس من الباب الثالث تحت عنوان ” في تجاوز حدّ السلطة…” وهي تعني عموما القدرة والنفوذ والضغط أو الإكراه والقوة الملزمة .

ويبرز عنصر السلطة كجزء من خصائص الوظيف خاصة لدى أعوان السلطة العامة ، فعون الشرطة يمثل السلطة التي ينتمي إليها ويعمل باسمها وهو بذلك يتمتع بجزء من سلطتها باعتباره ” من الموظفين الذين أسند إليهم القانون أو الحكومة قسطا من سلطتها لحفظ النظام العام “[23]

فبمجرد أن يعرّف عون الأمن بصفته لأي شخص من عامة الناس يدرك هذا الأخير أنه يتعامل مع صاحب السلطة وتتأكد تلك السلطة من خلال المظهر الخارجي لذلك العون ومن وسائل وظيفته.

الفقــرة الثانيــة: خصائص ذات طبيعـــة ماديــة
تتعـدّد هذه الخصائص وتختلف باختلاف الاختصاص الوظيفي والأجهزة الإدارية والسلط العمومية التابعة للدولة والذوات التي تساهم في تسيير المرفق العمومي .

وهذه الخصائص هي عموما جملة وسائل وأدوات الوظيف التي بواسطتها يتمّ إنجاز العمل سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة باعتبارها تكون في بعض الأحيان وسائل لتسهيل إنجازه .

ومن بين أهم هذه الوسائل نذكر الزي الرسمي والبطاقة المهنية والوثائق الإدارية .

الفـرع ثـانـي التـوظيـف الإجـرامـي لخصائص الوظيف

تقتضي دراسة التوظيف الإجرامي لخصائص الوظيف أولا تحديد أسلوب توظيفها في الجريمة (فقرة أولى ) ثم بيان مجال ذلك التوظيف (فقرة ثانية).

الفقـــرة الأولى : أسلــوب التوظيــف
يمكن دراسة أسلوب الجاني (موظف عمومي أو شبهه) في استعمال خصائص وظيفة لارتكاب الجرائم طبق الحالات الواقعية التي تعرّض لها عمل المحاكم والتي لا تكاد تخرج عن ثلاث صور أو أساليب :

– إما أن يعتمد الجاني صفته فقط لارتكاب جريمته وإما أن يعتمد وسائل وظيفه .

– إما أن يجمـع بين الصفـة (أو الخصائص المعنويـة ) وبيـن الوسائـل (الخصائص المادية) لتحقيق الفعل الإجرامي .

ويكون كل أسلوب من هذه الأساليب إذا ما اقترن بعناصر الجريمة كافيا ليوفّر في جانب الجاني جميع أركان الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف .

* استعمــال الصفــة :

يلجأ الجاني في هذه الصورة إلى استعمال صفته لارتكاب جريمته ويتمّ ذلك عبر سوء استغلالها لتحقيق الفعل الإجرامي ، إذ يعمد إلى إبرازها إذا لم يكن المجني عليه عالما بها (كأن تكون له معرفة بتلك الصفة بحكم الجوار أو الصداقة …) ويتمّ ذلك عبر التصريح بها والإعلان عنها لضحيته من كونه مثلا عون أمن أو موظف بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتكون هذه الصفة منطلق الفعل الإجرامي ، لذلك فإن اقتران هذه الصفة ببقية العنـاصر القانونيـة للجريمة يوفّر في جانب مرتكبها أركان الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف.

هذا وتجـدر الإشارة هنا إلى أن اقتران صفة الجـاني الحقيقية بالأكاذيب كافية في حدّ ذاتها لاعتبارها طريقة احتيالية ” إذ قـد يصدر من الجاني مجرّد كـذب ومع ذلك يرقى إلى مصاف الطرق الاحتيالية بالنظر إلى صفة الجاني”[24]

* استعمـال وسائـل الوظيـف :

يمكن أن يلجأ الجاني ( موظف عمومي أو شبهه) إلى اعتماد وسائل وظيفته لارتكاب جريمته دون غيرها من الخصائص أو الوسائل، ويتمّ ذلك عبر سوء توظيف هذه الوسائل لغاية تحقيق الفعل الإجرامي .

* الجمع بين خصائص الوظيف ووسائله :

في هذه الصورة يعمد الجاني إلى ارتكاب جريمته باستعمال خصائص الوظيف ووسائله وذلك عبر الجمع بينها جميعا عند تحقيق الفعل الإجرامي فيعمد إلى إبرازها لضحيته أو الغير عموما، وهذا ما من شأنه أن يضفي على مسرح الجريمة صبغة شرعية فيسهل للجاني ارتكاب جريمته دون إظهار عناصرها الإجرامية .

فمثلا قد يدلي الجاني بصفته كموظف عمومي أو شبهه ويستظهر ببطاقته المهنية لتأكيد صحة تلك الصفة أو يعمد إلى إحضار بعض الوثائق التابعة لوظيفته وذلك بهدف جعل المجني عليه يعتقد في شرعية الفعل الذي يقوم به الجاني وبأنه من علائق وظيفته وأنه منح السلطة والنفوذ القانون لإنجاز ذلك العمل.

الفقــرة الثانيـــة : مجــال التوظيــف الإجرامي
يعمد الجاني (موظف عمومي او شبهه) في هذا النوع من الجرائم إلى استعمال خصائص وظيفته لارتكابها نظرا لنجاعة تلك الخصائص في تحقيق الفعل الإجرامي باعتبارها قادرة في حد ذاتها على إخفاء عناصر الجريمة بل وجعل الفعل الإجرامي يبدو صحيحا شرعيا باعتبار أن تلك الخصائص تحمل المجني عليه على الاعتقاد في سلطة الجاني واختصاصه بذلك الفعل.

أي أن الخطأ الجزائي حسب عنوان الكتاب الثاني لكي يعتبر خطأ موظف عمومي أو شبهه لا بدّ أن يتم حال مباشرة الوظيف أو بمناسبته، وهو ما يصبح معه تكييف الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف يتأسس على العنصر الزمني ، أي وقوع ارتكاب تلك الجريمة حال مباشرة الوظيف أو بمناسبة مباشرته ، وهو ما تصبح معه كل جريمة مرتكبة باستعمال خصائص الوظيف خارج أوقات الدوام الرسمي جريمة عادية خاصة وان الجاني خارج ذلك الإطار يصبح إنسان عادي وبالتالي حتى وان استعمل خصائص ووسائل وظيفه في ارتكاب الجريمة فإنها لا تعتبر من الأخطاء الجزائية للموظف العمومي أو شبهه.

فحسب هذا التفسير فإن عون الشرطة الذي يرتكب جريمة باستعمال خصائص الوظيف خارج إطار الوظيف كأن يعمد في يوم الراحة الأسبوعية إلى ارتداء زيّه الرسمي وبالطريق العام يستوقف شخصا ويتظاهر بالتحري معه ثم يستولي منه على كيس أو غير ذك من الأشياء ، يعتبر كإنسان عادي وتعتبر جريمته سرقة ارتكبها إنسان عادي خاصة وأن ذلك العون كما تقول محكمة التعقيب ” يعتبر مكان عمله المكلف بحفظ الأمن فيه لا يعتبر في حالة مباشرته لوظيفه سواء أكان لابسا الزي الرسمي أم لا لأنه لا يستطيع قانونا أن يقوم هناك بأي عمل مما هو مكلف به في منطقة عمله وبمجرد لبسه الزي الرسمي لا يقتضي خلاف ذلك ولا يضفي عليه وصفا خاصا يميزه عن بقية مواطني ذلك المكان “.

إلا أنه ورغم ذلك فإن هذا التفسير المتقدم لا يتطابق مع خصوصية أحكام الفصل 114 من م ج لعدة أسباب لعل أهمها هو أن المشرّع أعلن ضمن نفس النص عن مجال تطبيقه، فهو يتعلق بكل الجرائم التي يرتكبها الموظف العمومي أو شبهه خارج الصور المذكورة بذلك القانون ، وهذه العبارة تجعله يمتد إلى جميع الجرائم التي قد يرتكبها الموظف العمومي أو شبهه باستثناء الجرائم التي نصّ المشرّع صراحة على اعتبار صفة الجاني ركن من أركانها أو سبب لتسديد عقابها كما تجعل النصّ يمتد إلى الجرائم المرتكبة خارج إطار الوظيف .

وهو ما يجعل أحكام الفصل 114 أحكاما عامة تنطبق على الجرائم المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف داخل إطار الوظيف وخارجه بحيث يبقى الجاني بالنسبة لهذه الجرائم وأحكام الفصل 114 من م .ج محافظا على صفته حتى خارج إطار الوظيف ، وبالتالي كلما ارتكبت جريمة باستعمال خصائص الوظيف مهما كان الإطار الزماني والمكاني لارتكابها وكأنها مرتكبة حال مباشرة الوظيف أو بمناسبة مباشرته فتبقى صفة الجاني قائمة وخصائص ووسائل وظيفة فاعلة ، وهو ما يصبح معه الفصل 114 من م. ج منطبقا سواء تمّ ارتكاب الجريمة حال مباشرة الوظيف أو بمناسبته وخارج إطار الوظيف .

إذا فمجال تطبيق الفصل 114 م. ج ليس مرتبطا بإطار الوظيف فقط بل أن أحكام هذا الفصل تمتد إلى جميع الجرائم التي يرتكبها الموظف العمومي وشبهه سواء ارتكبت أثناء مباشرة الوظيف أو بمناسبة مباشرته أو خارج إطار الوظيف، والمهم بالنسبة لهذه الجرائم أن يثبت استعمال الجاني لخصائص وظيفته في ارتكابها هذا ما يتطابق مع فلسفة المشرّع من وراء أحكام الفصل 114 من م. ج .

الجــــزء الثــانـــي
تتميز الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف، وإلى جانب خصوصية العناصر المؤثرة في قيامها بخصوصية على مستوى نظام زجرها اعتبارا للأثر المباشر لطبيعة تلك العناصر كظروف تشديد.

ويمكن دراسـة خصوصية نظـام زجـر هـذه الجرائـم من خلال خصوصـة العقوبـة المستوجبة ( فصل أول ) ومدى تأثيرها على الطبيعة القانونية للجريمة (فصل ثاني).

الفصــل الأول خصوصيـة العقوبـة المستوجبـة

حـدّد المشرع التونسي ضمن الفصل 114 من المجلة الجنائية العقوبة المستوجبة للجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف، حرصا منه على التصدي لمثل هذه الجرائم وأسلوب ارتكابها فقد ضبط لها عقوبة مشددة (فرع أول ) يطبقها القاضي كلما اقترف ارتكاب الجريمة باستعمال الجاني لخصائص وظيفه، وهو ما يثير أهمية المسألة بالنسبة لسلطة القاضي في تقدير العقوبة( الفرع الثاني ).

الفــــــــــرع الأول تشديـــــد العقــــــاب
شـدّد المشرع الجنائي من عقوبة الجريمة المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف واعتمد في ذلك أسلوبا خاصا مغايرا لأساليب التشديد المعهودة في المجلة الجنائية، ودراسة تشديد العقاب بالنسبة للجرائم موضوع بحثنـا هذا تقتضي تحديـد أسلـوب التشديــد ( فقرة أولى ) ثم بيـان كيفيـة تطبيقه على العقوبـة ( فقرة ثاني )

الفقــرة الأولى : تحديــد أسلـوب التشديـد
يعتمد المشرع عدة أساليب لتشديد العقوبة المقررة للجريمة، فقد ينصّ ضمن نفس نص التجريم والعقاب على مضاعفة العقوبة إذا توفّـر أحد شروط التشديد المحددة حصرا[25] وقد ينص على تشديد العقوبة ضمن نص مستقل يحـدد مقدارها المشدد[26] .

أما بالنسبة لتشديد العقاب في الجرائم المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف، فقد اعتمد المشرع أسلوبا مغايرا يتمثل في الترفيع الجزئي في مقدار العقوبة الأصلية بزيادة الثلث، إذ حـدّد المشرع ضمن الفصل 114 من م ج مقدار التشديد، دون ضبط العقوبة المشددة، فترك بذلك للقاضي مسؤولية تطبيق ذلك المقدار كلما توفرت أسباب التشديد التي حدّدها نفس النص، إذ نصّ الفصل 114 من م ج على أن الجاني في مثل هذه الجرائم :”……يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها لتلك الجريمة بزيادة الثلث”.

فأسلوب تشديد من خلال هذا الفصل يتم عبر زيادة ثلث العقوبة الأصلية لمقدارها المحدد .

هذا وتجـدر الإشـارة إلى أن بعض القوانين المقارنة كرست هذا الأسلوب في التشديد من ذلك مثلا القانون الجنائـي الفرنسي القديم الذي كان ينص ضمن الفصل 459[27] على تشديد العقاب بالنسبة لحرس الغابات وضباط الشرطة عند ارتكابهم لإحـدى الجنح المنصوص عليهـا بالباب المتعلـق بالجرائم التي تنال من حق الملكية (بالفصول 379 و462 – 1 من المجلة الجنائية الفرنسية) وذلك بزيادة الثلث لأقصى عقوبة السجن[28].

وقد كـرّس القانـون الجنـائي الايطالـي نفس نسبة الترفيع الجزئي أي بزيادة الثلث، وذلك لتشديد عقوبة بعض الجرائم[29].

وربما تكون أحكام الفصل 114 م ج بخصوص نسبة الترفيع في العقوبة مستلهمة من هذه القوانين إلا أن خصوصية النص الجنائي التونسي تتمثل في كونه نص عام ينطبق على عدد هام من الجرائم إضافة إلى أن نسبة الترفيع في مقدار العقوبة الأصلية يجب أن تكون بزيادة الثلث ولا يمكن للقاضي النزول تحت تلك النسبة بل يجب أن يطبقها كما هي على مقدار العقوبة الأصلية.

الفقرة الثانية : تطبيق أسلوب التشديد
إن تطبيق أسلوب التشديد الذي كرسه الفصل 114 أي الترفيع الجزئي في مقدار العقوبة الأصلية يقتضي من القاضي ضرورة ضبط تلك العقوبة ثم ترفيع مقدارها بزيادة الثلث، فالمشرّع لم يحدّد العقوبة الأصلية التي على ضوئها سيتمّ التشديد بل اكتفى بالإحالة على نصّ التجريم وهو ما يستنتج من عبارات الفصل 114 ذاتها ” يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها لتلك الجريمة بزيادة الثلث “.

والعقوبة الأصلية هي العقوبة المحددة بنصّ التجريم عادة ، إذ قد ينصّ المشرّع ضمن نفس النص على التجريم والعقاب، وقد يكتفي في بعض الحالات بتجريم الأفعال ثم يحيل بالنسبة لعقوبتها على نص آخر، فيعبّر عن هذه الحالة بـ” ويعاقب بنفس العقوبات المذكورة …”[30] وهو ما يقتضي الرجوع إلى تلك النصوص لضبط العقوبة المستوجبة والتي على ضوءها سيقع تطبيق الترفيع الجزئي، على أنه يجب التنبيه في هذا الإطار على ضرورة التفريق بين العقوبة المحددة للجريمة المجردة من كل ظرف مشدد والعقوبة المقررة للجريمة الموصوفة.

فإذا ارتكب الجاني ( موظف عمومي أو شبهه ) جريمة مجردة باستعمال خصائص وظيفه فإن العقوبة الأصلية التي سيقع على ضوئها توظيف الثلث هي عقوبة الجريمة المجردة طبعا.

أما إذا ارتكب ذلك الجاني جريمة موصوفة باستعمال خصائص وظيفه فإن العقوبة الأصلية التي سيقع على ضوئها الترفيع في العقوبة المقررة للجريمة الموصوفة ولا يمكن بأي حال الرجوع إلى عقوبة الجريمة المجردة واعتبارها العقوبة الأصلية التي حددها المشرع للجريمة.

إذا فالترفيع الجزئي في العقوبة الأصلية ينجر عنه إما زيادة في مدة العقوبة إذا تعلق الأمر بعقوبة سالبة للحرية أي بالسجن لمدة معينة، أو الزيادة في مقدارها إذا تعلق الأمر بعقوبة مالية أي الخطية مع بقاء تلك العقوبة في نفس درجتها الأصلية أي تبقى عقوبة جنحة أو عقوبة جناية، وقد ينجرّ عن زيادة الثلث تغيّر في طبيعة العقوبة فتتحول من عقوبة مخالفة إلى عقوبة جنحة ومن عقوبة جنة إلى عقوبة جناية[31].

وقد استقـرّ فقـه القضاء على هذا الاتجـاه إذ تقول محكمـة التعقيـب في احد قراراتها ” وحيث أن العقوبة المنصوص عليهـا لجريمة التحيّـل هي خمسـة أعوام سجنا طبق الفصل 291 في القـانون الجنائي وبإضافـة الثلث الـوارد بالفصل 114 المذكـور يصير العقـاب المستوجب لها عقابا جنائيا أقصاه ستة أعوام وثمانية أشهر “[32] .

الفـــــــرع الثــــــانـــــي سلطة القاضي في تقدير العقوبة

لئن كان القـاضي عند ثبوت ارتكاب الجانـي الجريمة باستعمال خصائص وظيفه بتشديد العقوبة الأصلية المقررة قانونا والترفيع في مقدارها تطبيقـا لأحكام الفصل 114 من م ح فإن ذلك لا يحول دون سلطته في تقريـر التخفيف عند النطـق بالعقاب إذا ثبت لديه ما يحمل على التخفيف ( المبحث الأول ) وقد يقـرّر القاضي وفي نطاق سلطته التقديرية توقيع العقوبات التكميلية إذا اتضح له من معطيات القضية ما يحمل على توقيعها ( المبحث الثاني).

الفقــرة الأولى : سلطــة تقريـــر التخفيــف
قد تتوفّـر في الجريمة ظروف تشديـد العقاب تتعلق بصفـة الجاني ( موظف عمومي أو شبهه ) واستعماله لخصائص وظيفـه، وبعد ضبطها وتقديـر العقاب المستوجب على ضوئهـا، قد تكون العقوبة التي ينطق بها القاضي لا تعكس العقوبة المستوجب طبق أحكام الفصل 114 م ج ونصّ التجريم الأصلي، ومع ذلك تكون تلك العقـوبة مطابقة للقـانون لأن القـاضي في هذه الحالة عمد إلى تطبيق ظروف التخفيف، وهو ما تتضح معه سلطة القاضي في تقدير العقوبة المستوجبة عند النطق بها وهي سلطة مكّنه منها المشرّع من خلال أحكام الفصل 53 من م ج والذي يندرج ضمن القسم الرابع من الباب الرابع تحت عنوان في تطبيق العقوبات[33] .

إذ نصّ هذا الفصل ضمن فقرته الأولى :” إذا اقتضت أحوال الفعل الواقع لأجله التتبع ظهور ما يحمل على تخفيف العقاب وكان القانون غير مانع من ذلك فللمجلس مع بيان تلك الأحوال بحكمه أن يحيط العقاب

إلى ما دون أدنـاه القانـوني بالنزول به إلى درجة وحتى درجتين في سلم العقوبـات الأصلية الواردة بالفصل 5 وذلك مع مراعاة الاستثناءات الآتي ضبطها.”

فقد خـوّل هذا الفصل للقاضي تخفيف العقـاب إلى حدّ النزول به إلى ما دون أدناه القانوني كي يشترط أن تكون ظروف الجريمة وملابساتها فيها ما يحمل على ذلك التخفيف وأن يكون القانون ” غير مانع من ذلك ” عندها يجوز للقاضي إعمال التخفيف والنزول بالعقوبة المستوجبة درجة أو درجتين في سلم العقاب الأصلي لكن يجب أن يتضمن حكم المحكمة أسباب التخفيف.

إن ما يميّز تشريعنـا الجنائـي وأنه من خلال الفصل 53 كرّس سلطة تقديرية واسعة للقاضي في مجال تطبيق العقوبة وهذا القـول يتأكّـد خاصة من خلال الفقرة الرابعة من الفصل المذكور التي نصت على أنه ” إذا كان العقاب المستوجب السجن مدة عشرة أعوام فما فوق فالحطّ من مدّته لا يكون بأقل من عامين وهذا يعني أنه بإمكان القاضي الجزائي تسليط عقوبة تقـدّر بعامين سجنا على الموظف العمومي أو شبهه الذي ارتكب سرقة موصوفة (محل مسكون باستعمال الخلع ) باستعمال خصائص الوظيف، أما إذا كانت الجريمة المرتكبة سرقة مجردة فإن إعمال ظروف التخفيف من شأنه أن يؤدي إلى تسليط عقاب لا يتجاوز ستة اشهر عملا بالفقرة السادسة من الفصل 53م ج.

إلا أن هذا النزول بالعقاب مشروط ببيان أسباب التخفيف وهو ما أكّـده فقه قضاء محكمة التعقيب ، إذ تقول محكمة التعقيب “حيث لا تثريب على محكمة الموضوع من اعتماد ظروف التخفيف متى بينت ما حملها على هذه الرأفة دون إفراط منها طبق الفصل 53 جنائي “[34]

كما أكّدت أيضا أن ” لمحكمة الموضوع النزول بالعقاب درجة أو درجتين بشرط بيان ظروف التخفيف التي حملتها على ذلك وإلا كان حكمها قاصر التسبب”[35]

إلى جانب سلطة إعمال ظروف التخفيف عند تقدير العفوية المستوجبة يتمتع القاضي أيضا بسلطة تسليط العقوبات التكميلية .

الفقــرة الثـانيـة : تسليـط العقوبـات التكميليـة
أجاز المشرع التونسي ضمن الفصل 115 من م ج ” للمحكمة أن تقضي في كل الصور الواردة بهذا الباب باعتماد العقوبات التكميلية أو إحداها المنصوص عليها بالفصل الخامس من المجلة الجنائية”[36]

من خلال هذا النصّ يتضح أن المشرع خول للقاضي الجزائي وبعد إعمال ظروف التشديد بالتفريع الجزئي في مقدار العقوبة الأصلية طبق الفصل 114، إمكانية تسليط العقوبات التكميلية أو أحدها، والمنصوص عليها بالفصل 5 س م ج.

فللقـاضي طبق أحكـام الفصل 115 م ج سلطة تقديرية مطلقة في إيقاع العقوبات التكميلية أو عدم إيقاعها وسلطة تحديد آجال تلك العقوبات عند اعتمادها ، إذ لم يقيّد المشرع القاضي بآجال محددة بل ترك للقاضي سلطة تقدير تلك الآجال وحدودها واكتفى المشرع بالإشارة على القاضي بإمكانية تطبيق أحكام الفصل 5 من م ح وتجدر الإشارة إلى أن جميع الجرائم المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف يجوز للقاضي عند نظرها أن يسلط على مرتكبيها العقوبات التكميلية باعتبار أن الفصل 114 ورد ضمن أحكام الباب الثالث وهو يتناول من حيث مجال تطبيقه عدة جرائم بما يجعل هذه الأخيرة داخلة في نطاق أحكام الباب الثالث من م ج إذا اقترن ارتكابها بشروط الفصل 114 من م ح .

والعقوبة التكميلية كما تدلّ على ذلك تسميتها هي عقوبة مكمّلة تنظاف للعقوبة الأصلية سعيا لضمان ردع الجاني ومعاقبته بعقوبة تتناسب والجرم المقترف.

فالجاني في الجرائم المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف هو متهم غير عادي فهو إما موظفا عموميا أو شبهه وأسلوب ارتكابه للجريمة ، كذلك أسلوب خطير باعتباره استعمل خصائص وظيفة كوسيلة لتحقيق غاية إجرامية ، لذلك خول المشرع للقاضي بعد تسليط العقوبة المشدد إمكانية تسليط العقوبات التكميلية برأينا فان العقوبات التكميلية المناسبة لهذا الصنف من الجناة هي جميع العقوبات المتعلقة بالحرمان من مباشرة الحقوق والامتيازات التي حددتها الفقرة (7) كالوظائف العمومية … والفقرة (8) من الفصل الخامس باعتبار أن الجاني عند ارتكابه لهذه الجرائم يصبح غير أهل للتمتع بهذه الحقوق والامتيازات على الأقل لمدة معينة .

هذا وتجدر الإشارة إلى أن مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية التونسية حددت بعض العقوبات التكميلية بالفصل 63 وما بعده كالتجريد العسكري والحرمان من الرتب والحق في ارتداء الزي والإقصاء عن الجيش وجميع الوظائف والخدمات العامة والحرمان من مباشرة بعض الحرف مثل محام أو طبيب أو بيطار وفقدان الرتبة.

الفصـــــل الثــــانــــي تأثيـر التشديـد على طبيعـة الجريمـة

إن الأثر المباشر لخصائص الوظيف كظرف مشدد للعقوبة المحددة بنص التجريم الأصلي يتمثل في تغيير وصف الجريمة(فرع أول) وما لهذا التغيير من آثار هامة (فرع ثاني).

الفـــــــــرع الأول تغييـــــر وصــــف الجريمــــة
تؤثـر ظروف التشديد التي ضبطها المشرع ضمن الفصل 114 م ج على العقوبة المقررة بنص التجريم الأصلي فشدد مقدارها بنقلها إلى درجة أكثر خطورة وهو ما ينتج عنه تغير في وصف الجريمة ودراسة هذا التغيير تقتضي التعرض ضمن الفقرة الأولى إلى أساس تغير وصف الجريمة ثم إلى مدى سلطة القاضي في تغيير ذلك الوصف (فقرة ثانية ).

الفقـــرة الأولى: أســاس تغييــر وصف الجريمــة

تنقسم الجرائم من حيث خطورتها وأهميتها إلى جنايات وجنح ومخالفات وقد تبنى المشرع التونسي هذا التقسيم ضمن الفصل 122 من م ا ج الذي نص على أنه “توصف بالجنايات على معنى هذا القانون الجرائم التي تستوجب عقابا بالقتل أو بالسجن لمدة تتجاوز 5 أعوام” ، وتوصف بالجنح الجرائم التي “تستوجب عقابا بالسجن تتجاوز مدته خمسة عشر يوما ولا تفوق الخمسة أعوام أو بالخطية التي تتجاوز الستين دينار”

” وتوصف بمخالفات الجرائم المستوجبة لعقاب لا يتجاوز خمسة عشر يوما سجنا أو ستين دينار خطية ” ، فهذا التقسيم لا لبس فيه ولا تعقيد إذ يكفي لمعرفة طبيعة أي جريمة أن ينظر إلى العقاب المقرر لها كي يمكن حشرها ضمن الجنايات أو الجنح أو المخالفات والمقصود بالعقوبة المقررة هي العقوبة المحددة قانونا من قبل المشرّع لا العقوبة التي ينطق بها القاضي.

إلا أن هذا التقسيم الثلاثي للجرائم ليس تقسيما مستقرا بالنظر إلى آثار ظروف التشديد التي إذا اقترنت بالجريمة تغير من وصفها باعتبار أن أثرها ينعكس آليا على العقوبة المقررة فينقلها إلى درجة أكثر خطورة ، فيتغير تبعا لذلك وصف الجريمة الأصلية فتتحول من مخالفة إلى جنحة ومن جنحة إلى جناية باعتبار وان العقوبة المشددة هي عقوبة جناية أو عقوبة جنحة تم ضبطها مسبقا بنص التجريم والعقاب، أو بصفة مستقلة كأن يحدد المشرع شروط تشديد العقاب ومقداره ضمن نص خاص ، فان اقترنت الجريمة بهذه الظروف وكان تأثيرها عميقا أدّى إلى جعل العقوبة المستوجبة عقوبة جنحة أو عقوبة جناية فان وصف الجريمة يتغير تبعا لذلك.

وباعتبار وان نوع الجريمة يتحدد على ضوء مقدار العقوبة المقررة لها فان ظروف التشديد تأثر على نوع الجريمة وتنقّـلها من قسم إلى آخر طبق التقسيم الثلاثي للجرائم الذي حـدد المشرع ضمن الفصل 122 من م ا ح من ذلك مثلا ظروف التشديد في جريمة السرقة والتي تعرض لها المشرع بصورة واضحة ضمن الفصول 260 و 261 و 262 من م ج ، من المستقر عليه فقها وقضاء أن هذه الظروف تغير وصف الجريمة وتنقلها من جنحة إلى جناية.

إذا ولئن اقر فقه القضاء بصورة واضحة كما سبق بيانه تأثير ظروف التشديد التي حددها الفصل 114 ن م ج على درجة العقوبة وعلى وصف الجريمة إلا أن اختلاف الآراء بخصوص هذا الفصل لا زال قائمة[37] وربما يكون تدخل المشرع في هذا المجال أمر حتمي لحسم هذا الاختلاف ولتكريس اتجاه فقه القضاء بصورة ثابتة كأن يتبنى مثلا الحل الذي كرسه المشرع الجنائي المغربي ضمن الفصل 113 والذي نص على انه “يتغير نوع الجريمة إذا نصّ القانون على عقوبة متعلقة بنوع آخر من أنواع الجرائم بسبب تشديد”

الفقــرة الثانيـة : مدى سلطة القاضي في تغيير وصف الجريمة

إن تأثير ظروف التشديد بصفة عامة والظروف التي حددها الفصل 114 م ج بصفة خاصة على درجة العقوبة ووصفت الجريمة أمر ثابت طبق ما استقر عليه فقه القضاء، بحيث أن هذه الظروف تشدد العقوبة فتنقلها إلى درجة أكثر خطورة من الدرجة التي تكون عليها في صورة غياب تلك الظروف، وهو ما من شأنه أن يغير وصف الجريمة ويكون القاضي مبدئيا ملزما بذلك الوصف الجديد الذي تضفيه عناصر التشديد على الجريمة إلا أن ذلك لا يعني غياب كل سلطة تقديرية للقاضي في تكيف الجريمة ومدى توفر أركانها وعناصرها المشددة وتقدير الأدلة باعتبار وان القضاء الجزائي يقوم “على أساس حرية القاضي في تقدير الأدلة المعروفة عليه لقيام الجريمة وتوافر أركانها”.[38]

ومتى انتهى القاضي إلى إثبات توفّـر أركان الجريمة وتوفّـر ما يحمل على تشديدها كثبوت أركان جريمة السرقة في جانب الجاني وثبوت استعمال هذا الأخير لخصائص وظيفه في ارتكبها فان القاضي يكون في هذه الصورة “مقيدا بالأوضاع التي وقعت فيها هذه الجريمة متى توصل هو نفسه إلى إثباتها [39]” فمتى انتهى القاضي إلى إبراز ظروف التشديد التي ضبطها المشرع ضمن الفصل 114 م ج فانه يكون ملزما بتغير الوصف القانوني للجريمة إذا كان تأثير تلك الظروف على الجريمة يغير وصفها.

والتجنيـح وإذ كرّستـه بعض القوانين المقارنة فانه في القانون التونسي مازال بين اخذ ورد خاصة وأن هذا القانون لم يشر إلى التجنيح إلا بمناسبة صدور مجلة حماية الطفل ضمن فصلها 69 الذي نص على أنه : ” يمكن تجنيح كل الجنايات ما عـدا جرائم القتل…” وهذه تقريبا الصورة الوحيدة للتجنيح القانوني ، إلا أنه جرى عمل النيابة العمومية ومحاكم التحقيق ودائرة الاتهام أحيانا على قلب وصف الجريمة من جناية إلى جنحة وإحالة مرتكبها على المحكمة الجناحية لمحاكمته لديها عوض المحكمة الجنائية صاحبة الاختصاص الحقيقي الذي لا تتجاوز في عقابه الحد الجناحي.

ومهمـا يكن من أمر فإن أسبـاب التجنيح التي يعتمـدها القاضي كثـيرة وتختلف باختلاف ظروف وملابسات كل قضيـة خاصة وأن التجنيح في تونس هو عمـل قضـائي صرف جرى به العمل في التطبيـق القضائـي ولا يستنـد في الواقـع إلا لمنشور السيـد الوكيل العـام للجمهورية عدد 1957 المؤرخ في غرة جويلية 1960 .

وتجدر الإشارة إلى أن محكمة التعقيب التونسية مازالت ترفض إلى حد الآن التجنيح وترى فيه خرقا واضحا للقانون من ذلك ما جاء في احد قراراتها “تعدد المتهمين وعزمهم على السرقة بواسطة تهديد المتضرر وتعنيفه تكتسي صبغة السرقة الموصوفة وهي جناحية على معنى الفصل 261 من المجلة الجنائية واعتبار الفعلة سرقة مجردة والمحاكمة طبق الفصل 264 من المجلة الجنائية فيه خرق للقانون يوجب نقض الحكم”.[40]

ومن ذلك أيضا ما جاء بأحد قراراتها ” وحيث أن العقوبة المنصوص عليها لجريمة التحيّـل هي خمسة أعوام سجنا طبق الفصل 291 من القانون الجنائي وبإضافة الثلث الوارد به الفصل 114 المذكور يصير العقاب المستوجب لها عقابا جنائيا أقصاه ستة أعوام وثمانية أشهر .

وحيث يترتب على ذلك أن السيـد حاكـم التحقيـق قد جانب الصواب لما اعتبر الأفعـال المنسوبة للمتهميـن تتكـوّن منها جنحـة مهملا صفة الوظيف بالنسبة … والعقـاب المستوجب من أجلها وتعيّن لذلك إبطال قراره [41]“.

إلا أنه ورغم هذا الموقف الرافض لأعمال التجنيح من محكمة التعقيب فإن القاضي الجزائي التونسي ما زال يأخذ به ويكرّسه حسب الحالات الواقعية المعروضة عليه باعتباره لا يؤثر مبدئيا على ما لمختلف السلطة القضائية من اختصاص ونفوذ إذ أن الوصف الذي تختاره النيابة العمومية لا يقيّـد التحقيق ولا المحكمة فهما يحتفظان بما خوّل لهما القانون من حق في تقدير وصف الجريمة .

الفـرع ثـانـي آثار تغيير الوصف القانوني للجريمة

يترتب عن تأثير ظروف التشديد على الطبيعة القانونية للجريمة تغيير في وصفها القانوني وهو ما ينعكس بدوره على نظام تعهدها (فقرة أولى) وآجال التقادم الجنائي المرتبطة بنوعها (فقرة ثانية).

الفقـــرة الأولى : تحـــويــــــر نظــــام التعهّــــــد
ينعكس تغييـر الوصف القانـوني للجريمة على نظـام التعهّـد فيؤثـر على إجراءات التتبع (أ) وقواعد الاختصاص (ب).

إجــراءات التتـبّــع :
إن من خصائص النيابة العمومية أنها سلطة تتبع الجرائم فمنذ تعهّدها بالجريمة سواء أكان ذلك عن طريق الشكايات المباشرة أو الإعلامات من سائر السلط والموظفين العموميين أو المحاضر المحررة من أعوان الضابطة العدلية تصبح النيابة صاحبة الدعوى العمومية فتثيرها وتمارسها وتتولى تنفيذ الأحكام .

وتعتبر النيابة العمومية أول جهاز قضائي يتولى مهمة التكييف القانوني للوقائع والأفعال المحالة على القضاء الجزائي كجرائم، فتتولى النيابة العمومية مهمة هذا التكيف فان تبين لها أن الفعلة تكون جريمة فإنها وبعد تحديد أركانها القانونية وضبط نوعها ونص التجريم والعقاب المنطبق تحيل القضية إلى المحكمة المختصة وهنا يبرز دور ظروف التشديد ومدى تأثيرها على قرار النيابة العمومية ، إذ أن توفر تلك الظروف يقتضي منها بحثها وإثباتها وتحديد العقوبة المستوجبة للجريمة المقترنة بتلك الظروف والتي على ضوئها ستحدّد قرارها النهائي إما بالإحالة على محكمة الناحية أو المجلس الجناحي أو قاضي التحقيق.

فإن تبيّـن للنيابة العمومية أن تلك الظروف غيّـرت من وصف الجريمة بنقلها من جنحة إلى جناية فإنها تتخذ قرارها بفتح بحث تحقيقي وتحيل القضية إلى قاضي التحقيق صاحب النظر، وإن ثبت لها أن توفّـر ظروف التشديد يغيّـر العقوبة دون تغيير وصفها كأن يشـدّد من عقوبة الجنحة دون تغيير نوعها، كأن تكون عقوبة الجريمة مجـرّدة من ظروف تشديد محددة بثلاثة أعـوام سجنا.

فاقتران تلك الجريمة بظروف الفصل 114 تتحوّل معـه العقوبة إلى أربع سنوات بعد زيادة الثلث المستوجب وبالتالـي تبقى هذه الجريمة من صنف الجنح وهي من اختصاص المجلس الجناحي.

وهذا وتجدر الإشارة إلى أن ثبوت توفّـر ظروف التشديد عامة وظروف التشديد التي ضبطها الفصل 114 خاصة ، واقترانها بالجريمة يؤثّـر على مختلف الإجراءات منذ إثارة الدعوى العمومية إلى حدّ مرحلة تسليط العقاب وتنفيذه.

قـواعـــد الاختصــاص :
لقد قسم مشرنا المحاكم الجزائية والإجراءات المتّبعة لديها حسب أهمية الجرائم وخطورتها التي تبدو واضحة جليا في درجة العقاب المعدّ لها ، فكانت المحاكم الجنائية والمحاكم الجناحية ومحاكم المخالفات تختص كل واحدة منها بالنظر في نوع من أنواع الجرائم الثلاث فالفائدة الأساسية الكبرى للتقسيم الثلاثي للجرائم التي جاء بها الفصل 122 من م ا ج إنما هي توفير أساس ثابت للاختصاص.

إذ تختص المحاكم الجنائية بالنظـر في الجرائـم من صنف الجنايات (فصل 221 جديد من م ا ج ) ،

وتختص المحاكم الجناحية بالنظر في الجرائم من صنف الجنح المعاقب عنها بمدة تتجاوز السنة سجنا أو بالخطية أكثر من ألف دينار (فصل 124 جديد م ا ج ) ، وتختص محاكم النواحي بالنظر في المخالفات والجنح التي لا تتجاوز عقوبتها العام سجنا أو الخطية التي لا تتجاوز ألف دينار (123 م ا ج ).

إذا فدرجة العقاب المقرّر للجريمة تحدّد الاختصاص وبالتالي فإن أي ترفيع للعقاب بسبب ظروف التشديد التي قرّرها المشرع بصفة حصريّة ضمن المجلة الجنائية باستثناء العود يترتب عنه تحوير في قواعد الاختصاص الحكمي، إذ نصّ المشرّع ضمن الفصل 125 من م ا ج ” تشديد العقاب في جميع صور العود لا يترتب عنه تغيير في مرجع النظر” وقد ورد هذا الفصل ضمن الباب الأول من الكتاب الثاني المتعلق بمحاكم القضاء تحت عنوان في مرجع النظر، وهو ما نستنتج منه وبقراءة عكسية لهذا الفصل أن تشديد العقاب يترتّب عنه تغيير في مرجع النظر الحكمي باستثناء جميع صور العود التي نصّ المشرّع صراحة على أنها لا تؤثّـر على مرجع النظر .

وتأسيسا على ذلك تكون لظروف التشديد التي حدّدها الفصل 114 من م ا ج تأثير على قواعد الاختصاص ، وذلك إذا نتج عن اقترانها بجريمة ترفيع في العقوبة الأصلية المقرّرة لها بنقلها إلى درجة أكثر خطورة أي بتحويلها إلى عقوبـة نوع آخر من أنواع الجرائم ، كتحويل العقوبة الأصلية من عقوبة جنحة إلى عقوبة جناية ، ففي هذه الحالة يتغير مرجع النظر الحكمي بصورة آلية فتصبح المحكمة الجنائية صاحبة الاختصاص بالنظر .

ونظرا لأهمية تأثير ظروف التشديد على قواعد الاختصاص كان لزاما على المحكمة عند التعهد بالقضية التثبت من مسألة الاختصاص الحكمي وصحّة تعهّدها وإثارته ولو من تلقاء نفسها في أي طور من أطوار التقاضي باعتبار وان الاختصاص الحكمي إجراء أساسي من النظام العام يترتب على خرقه بطلان الإجراءات والأحكام أيضا.

الفقــرة الثانيــة : تغيّـــــر آجــــــال التقــــادم الجنائي
إن تغيير وصف الجريمـة بسبب تأثيـر ظروف التشديـد ينتج عنه حتما تغيّر في آجال التقادم الجنائي، هذه الآجـال التي تعتبـر سببا من أسبـاب انقـراض الدعـوى العمومية (أ) وسقوط العقاب بمرور الزمن (ب).

أ- انقـراض الدعــوى العموميــة :

نصّ المشـرّع التونسي ضمن الفصل الخامس من م إ ج أن الدعوى العمومية تسقط ” فيما عدا الصور الخاصة التي نصّ عليـا القـانون بمرور عشرة أعوام كاملـة إذا كانت ناتجة عن جناية وبمرور ثلاثة أعوام كاملة إذا كانت ناتجـة عن جنحة وبمـرور عام كامل إذا كانت ناتجة عن مخالفة وذلك ابتداء من يوم وقوع الجريمة ” .

ويتضح من خلال هذا الفصل أن المشرّع ربط بين خطورة الجريمة وأجل سقوط الدعوى العمومية المترتبة عنها والنتيجة الحتمية لتأثير ظروف التشديد على وصف الجريمة بنقلها من جنحة إلى جناية، أي من نوع إلى نوع آخر أكثر خطورة.

إن آجال انقراض الدعوى العمومية تنتقل من آجال قصيرة إلى أخرى أطول تبعا لوصف الجريمة.

فأجـل انقراض الدعـوى العموميـة بالنسبة لجريمة التحيّل باعتبارها جنحة هو ثلاثة أعوام كاملة، فإذا اقترنت جريمة التحيّل بظروف تشديد الفصل 114 فإن عقوبتها المستوجبة تصبح تطبيقا للترفيع الجزئي المحدّد بزيادة الثلث ينتج عنه تحويـل جنحـة التحيّل إلى جناية التحيّل ، وهـو ما يتغيّر معه أجل سقـوط الدعـوى العموميـة فيصبح ذلك الأجل عشرة أعوام بعد أن كان ثلاثة أعوام وهذا التحول في أجل السقوط أمر آلي مرتبط بنوع الجريمة ، على أن أجل سريان مـدة السقوط يبتدئ “من يوم وقوع الجريمة ” طبقا لأحكام الفصل 5 من م إ ج أي يوم اكتمال عناصرها.[42]

فإذا ارتكب الجاني (موظف عمومي أو شبهه) جريمة السرقة المجردة باستعمال خصائص الوظيف في تاريخ 5/10/1995 واكتشفت جريمته في يوم 6/10/1995 وألقي عليه القبض بتاريخ 15/11/1998 فلا يمكن له أن يتمسك بانقراض الدعوى العمومية بمرور الزمن على أساس أن التي ارتكبها هي جنحة وأن الدعوى العمومية في هذا النوع من الجرائم تسقط بمضي 3 سنوات من يوم ارتكابها.

ويخضع هذا الأجل إلى رقـابة مختلف أجهـزة القضاء الجزائـي من نيابـة عمومية وتحقيق ومحاكم بمختلف درجاتها ، فالقاضي الجزائي عند تعهّـده بالقضية يتجه أول اهتمامه إلى تاريخ ارتكاب الجريمة ليحدّد ما إذا كانت الدعـوى العموميـة لا تزال قائمة أم مضى عليها الأمد المسقط للتتبع.

وتتمّ هذه الرقابة التي يجريها القاضي في خصوص أجل انقراض الدعوى بالنظر في ذات الوقت إلى تاريخ ارتكاب الجريمة ووصفها أي نوعها هل هي مخالفة أم جنحة أم جناية وتاريخ تعهّده بتلك الجريمة وتقول محكمـة التعقيـب في هذا الإطار ” حيث خلافـا لما جاء بالمستنـدات فإن المعقّب لم يوجّه تهمة التحيّـل أو المشاركة في التحيّل المجرّد حتى تسقط الدعـوى العموميـة في حقّـه بمضي 3 سنوات وإنمـا وقع استنطاقه على أساس اتهامه بالمشاركـة في التحيّل باستعمال خصائص الوظيف على معنى الفصول 32 و 291 و 114 من م ج .

وحيث أن هذه الفعلة تعتبر من قبيل الجنايات بالنظر إلى العقاب المستوجب فيها ، وحيث أن الدعوى العمومية تسقط بمرور 10 أعوام كاملة إذا كانت ناتجة عن جناية ولم تمض هذه المدّة بعد واضحي بذلك المطعن عديم السند ومتعيّن الرد “[43]

فحيثيات هذا القرار تبرز أهمية تأثير ظروف التشديد على أجل انقراض الدعوى العمومية بمرور الزمن باعتبار انه إذا نتج عن هذه الظروف تغيّـر في درجة العقوبة وبالتالي في وصف الجريمة فان أجل انقراض الدعوى العمومية يتغير تبعا للوصف الجديد للجريمة ، وهو ما يقتضي من القاضي الجزائي الحرص دائما على تفحص هذا الأجل بالمقارنة مع نوع الجريمة وعناصر تشديد عقابها .

هذا وتجدر الإشارة إلى أن أجل انقراض الدعوى العمومية بمرور الزمن يقطعه إلى عمل تحقيق أو تتبّع، ويترتب عن انقطاع المدة ضياع الوقت الذي مضى منها فلا يحتسب هذا الوقت من مدّة التقادم بل تبتدئ مدة جديدة من تاريخ الإجراء القاطع إذا لم يصدر عقبه حكم، فإن الدعـوى الواقع قطعها لا تبتدئ مدة سقوطها إلا من تاريخ آخر عمل ولو في حقّ من لم يشمله عمل التحقيق أو التتبع ” طبق أحكام الفصل 6 من م إ ج إضافة إلى ذلك فإن أجل انقراض الدعوى العمومية بمرور الزمن يعلّقـه كل مانع قانوني (كعته المتهم) أو مادي (كتعليق عمل المحاكم بسبب ثورة أو حرب) يحول دون ممارسة الدعوى العمومية ما عدا الموانع الناتجة عن إرادة المتهم.

ب- سقـــوط العقـــاب :

نصّ المشرّع التونسي ضمن الفصل 349 م .إ.ج على ” أن العقوبات المحكوم بها في الجنايات تسقط بمضيّ عشرين سنة كاملة وتسقط العقوبات المحكوم بها في الجنح بمضي خمسة أعوام كاملة، أما العقوبات المحكوم بها في مادة المخالفات فهي تسقط بعد مضي عامين كاملين” ،إذا فالذي يسقط “هنا بالتقادم هو حق تنفيذ العقوبة لاحق المحاكمة”[44].

ونلاحظ إذا من خلال أحكام الفصل 349 م إ ج أن المشرّع ربط مرة أخرى بين خطورة الجريمة ونوعها وبين سقوط العقاب المحكوم به فيها، فإذا تغيّر وصف الجريمة فان سقوط العقاب المحكوم به فيها ، سيتغير حتما طبقا لوصفها الجديد وبالتالي فان تأثير ظروف التشديد على نوع الجريمة تمتد آثاره لسقوط عقوبة تلك الجريمة.

فإذا انتقل وصف الجريمة من جنحة إلى جناية فإن المدة المقرّرة لسقوط عقوبة الجنحة تتحول تبعا لذلك إلى المدة المقرّرة لسقوط عقوبة الجناية، وبالتالي فإذا ارتكب الجاني (موظف عمومي أو شبهه) جريمة التحيل باستعمال خصائص الوظيف مثلا فإن هذه الجريمة تتحول من جنحة إلى جناية طبقا للعقوبة المستوجبة التي حددها لها المشرع ضمن الفصلين 291 و 114 م ج ، وبالتالي فإن تغير وصف الجريمة من جنحة التحيّل إلى جناية التحيّل باستعمال خصائص الوظيف يؤثر على الأجل المحدد لسقوط العقاب فيحولها من مدة سقوط عقوبة الجنحة إلى مدة سقوط عقوبة الجناية أي من 5 سنوات إلى 20 سنة .

هذا وتبتدئ آجال سقوط العقاب من تاريخ صيرورة العقاب المحكوم به باتا ومن تاريخ الإعلام بالحكم الغيابي إذا لم يعلم المحكوم عليه أو يتبين من أعمال التنفيذ أن المحكوم عليه على علم بذلك الحكم طبق ما نص عليه الفصل 349 م ا ج. ومثلما هو الشأن بالنسبة لانقراض الدعوى العمومية بمرور الزمن فإن مدة سقوط العقاب يعلقها كل مانع قانوني أو مادي يحول دون تنفيذ العقاب ، ماعدا الموانع المترتبة عن إرادة الجاني طبق الفصل 350 م إ ج ، على أن تلك المدة (مدة السقوط) تقطع بإلقاء القبض على المتهم المحكوم عليه في صورة العقاب السالب للحرية أو إذا قامت السلطة المختصة في صورة الحكم بالخطية بأي عمل من أعمال التنفيذ كالحجز مثلا .

هذا وتجدر الإشارة إلى أن سقوط العقاب بمرور الزمن لا يترتب عنه محو ذلك العقاب من بطاقة السوابق العدلية باعتبار وأن من أمكنه الإفلات من العقاب لا يمكنه أن يكون أحسن حالا من الذي قضى العقوبة، إلا أن القانون أجاز لكل من سقط العقاب المحكوم به هذه بمرور الزمن أن يستردّ حقوقه عبر لجنة العفو، على أن ذلك لن يتمّ له إلا بعد مضي 3 أعوام بالنسبة للحكم القاضي بالخطية.

أما بالنسبة للعقاب بالسجن من أجل جنحة فيكون حق الاسترداد جائزا بعد مضي 5 أعوام على سقوط العقاب بمرور الزمن، أما بالنسبة للعقاب من أجل جناية فإن حق استرداد الحقوق لا يكون قائما إلا بعد مضي 10 أعوام على سقوط العقاب بمرور الزمن .[45]

إذا فتأثير ظروف التشديد على وصف الجريمة يغير حتما آجال سقوط العقاب المقرر لها بمرور الزمن، فتتبع هذه الآجال وصف الجريمة وتتغير بتغير نوعها وهو ما يؤكد مرة أخرى أهمية ظروف التشديد وخطورة تأثيرها على الوصف القانوني للجريمة .

إن صفة الموظف العمومي أو شبهه واستعمال هذا الأخير لخصائص وظيفه في ارتكاب الجريمة يوقع المتضرر والغير عموما في الاعتقاد في صحة أعمال الجاني وهو ما يمكن هذا الأخير من تحقيق فعله الإجرامي بكل سهولة .

إلا أن الدور الايجابي لتلك العناصر لا يعني أنها أركان قانونية بالمعنى التقليدي ، إذ أن غيابها أو عدم ثبوت توفرها في جانب المتهم لا يؤدي إلى انتفاء الجريمة ، بل تظل الجريمة المجردة منها قائمة ، وهو ما يفيد أن تلك العناصر هي عناصر تبعية إذا توفرت في الجريمة فإنها تشـدّد من عقوبتهـا المقرّرة بنصّ التجريم الأصلي .

وأهمية هذه العناصر أو الشروط المميزة تبرز بالأساس من خلال مدى تأثيرها على العقاب المحدد للجريمة وبالتالي على نظام زجرها.

لقد بيّنــا أن مقدار التشديد المحدد بالفصل 114 من م ج يؤثر على درجة العقوبة فينقلها من عقوبة مخالفة إلى عقوبة جنحة ومن عقوبة جنحة إلى عقوبة جناية، وهو ما يترتب عنه حتما تغيير لوصف الجريمة وتبعا لذلك تغيير الإجراءات وقواعد الاختصاص ولآجال التقادم الجنائي تبعا لنوع الجريمة .

وقد استقر فقه القضاء التونسي على تكريس هذا الاتجاه إلا أنه ورغم ذلك فإن رأيا مقابلا يعتبر أن ظروف التشديد التي ضبطها الفصل 114 م ج، ولئن كانت تغيّر من درجة العقاب فهي لا تمتد إلى وصف الجريمة باعتبار وأن القاضي هو المكلف بتطبيقها .

وقد حاولنا في هذا الإطار الرد على هذا الرأي، واقترحنا أن يتدخل المشرّع بنص يحسم ذلك الاختلاف ويكرس ما استقر عليه فقه القضاء من حل، إذا وحسب التمشّي الذي اعتمـدناه فإن توفّـر صفة الموظف العمومي أو شبهه واستعمال هذا الأخير لخصائص وظيفه لارتكاب الجرائم يؤدي حسب مقدار العقوبة الأصلية المقررة للجريمة المجردة من تلك الظروف إلى تغيير درجة العقوبة ثم وصف الجريمة وتبعا لذلك إلى تحوير الإجراءات وقواعد الاختصاص وآجال التقادم الجنائي، فيتغير النظام القانوني للجريمة الأصلية ، ويصبح الأمر وكأننا بصدد جريمة مستقلة عن الجريمة الأصلية من حيث عناصرها وعقوبتها ووصفها وإجراءات وقواعـد تعهّــدها.

ومن هنا تتجلى خطورة ظروف التشديد وآثارها والتي مع غياب نظرية عامة تحكمها في قانوننا الجنائي قد ينجر عنها اختلافات في الرأي وفي التطبيق .

إن فلسفة المشرّع من خلال الفصل 114 هي حماية الوظيفة العمومية من تجاوزات موظفيها ومن في حكمهم عبر سوء استغلال خصائصها ووسائلها في ارتكاب الجرائم لكن وحسب رأينا قد يكون من المتجه تبنى نص جنائي عام لحماية الوظيف بصفة عامة، إذ أن ارتكاب الجرائم باستعمال خصائص الوظيف لا يقتصر على مجال الوظيفة العمومية فحسب بل أن ذلك يمتد إلى الوظائف الخاصة بما يحيل على ضرورة التسوية في الحماية للمجالين وكذلك التسوية في العقاب بالنسبة لموظفي هذا المجال أو ذاك.

ومـا تركيزنا على نوعين من الجرائم المرتكب باستعمال خصائص الوظيف إلا لغاية التوضيح باعتبار أن مجال تطبيق أحكام الفصل 114 من م ج أوسع من ذلك بكثير ولكن نظرا للمسائل المختلفة التي تعرضنا إليها كان لزاما علينا توخي التوضيح اكثر ما يمكن، إلا أن هذا لا يعني أننا توصّلنا إلى الإحاطة بمختلف خصوصيات النظام القانوني للجرائم المرتكبة باستعمال خصائص الوظيف من كل جوانبه .

إن هذا الموضوع يثير عديد المسائل الهامة والتي في الحقيقة اكبر من أن تستغرقها رسالة معينة أو بحث خاصة وأنه لم يسبق أن وقعت دراسته بصورة ضافية لذلك فقد حاولنا الإحاطة بأهم المسائل المطروحة ونرجو أن نكون قد وفّـقنـا في ذلك .