دراسة وبحث قانوني هام عن إسهامات القضاء الإداري في القانون الإداري

مقدمة:

يعتبر القضاء إحدى السلط التي ترتكز عليها الدولة الديمقراطية، فهو الذي يحفظ وجودها وكيانها من الانهيار، ووجوده في كل مجتمع ضروري ضرورة القانون نفسه، فهو الأداة التي تحقق صفة الالتزام بالقانون فلا وجود للقانون بدون قضاء.
ويعتبر التخصص في كل علم وفن وصناعة، من أحسن عوامل النجاح فيها، اذ الطاقة البشرية محدودة وغير قادرة على تحصيل كل شيء.
و حسن سير العدالة، يقتضي تعدد القضاة مع تخصص كل منهم في نوع معين من المشاكل. وأصبح من المحتم تعدد المحاكم في الدولة، لأن وجود قاض واحد آو محكمة واحدة لا يكفي لحل جميع الخصومات، ولذلك نشأ القضاء الإداري كجهة مستقلة متخصصة في المنازعات الادارية.()
ان مصطلح القضاء الاداري يحيل إلى مراقبة القضاء لأعمال السلطات الإدارية، و التي بمقتضاها يكون لها سلطة البث فيما يدخل في اختصاصها من مسائل تكون الادارة بوصفها سلطة عامة طرفا فيها.

و تعد فرنسا مهد القانون الإداري، ومنها انتشر الى الدول الأخرى ويرجع الفضل في ظهور هذا القانون، الى عوامل تاريخية تأتي في مقدمتها الأفكار التي جاءت بها الثورة الفرنسية عام 1789 التي قامت على أساس الفصل بين السلطات، ومن مقتضياته منع المحاكم القضائية القائمة في ذلك الوقت، والتي كانت تسمى البرلمانات في الفصل في المنازعات الادارية للحفاظ على استقلال الادارة تجاه القضاء. فقد كانت تمارس سيطرة رجعية على الادارة، و تتدخل في شؤونها و تعارض وتعرقل كل حركة إصلاحية تريد القيام بها، مما حدى برجال الثورة الفرنسية الى اصدار قانون 16-24 اغسطس 1790 الذي نص على الغاء المحاكم القضائية (البرلمانات) وإنشاء ما يسمى بالإدارة القاضية او الوزير القاضي، كمرحلة اولى قبل انشاء مجلس الدولة الفرنسي، فكانت الادارة هي الخصم و الحكم في الوقت ذاته. و كان هذا الأمر مقبولا الى حد ما في ذلك الوقت بسبب ،السمعة السيئة لقضاء البرلمانات التعسفية. وفي 1797 تم انشاء مجلس الدولة الفرنسي، فوضعت بمقتضاه اللبنة الأولى للقضاء الإداري الفرنسي. وفي الوقت ذاته تم انشاء محاكم و مجالس الأقاليم التي كانت تصدر أحكاما لا تحتاج إلى مصادقة سلطة إدارية عليا. الا ان أحكامها تستأنف أمام مجلس الدولة الذي كان يعرضها على القنصل. و قد كان عمل مجلس الدولة يقتصر على فحص المنازعات الإدارية، فلم يكن يملك القضاء سلطة إصدار الأحكام لذا سمي بالقضاء المقيد أو المحجوز. واستمرت هذه المرحلة إلى سنة 1872 حيث أصبح القضاء مفوضا، بمقتضى قانون 24 مايو 1872 الذي منح مجلس الدولة الفرنسي اختصاص البث النهائي في المنازعات الإدارية، فأصبح خلال تاريخه الطويل قاضيا للمنازعات الإدارية بدون منازع، وساهم في إرساء مبادئ القانون الإداري وقواعده المتميزة عن قواعد القانون الخاص.

والى جانبه تم إنشاء المحاكم الاستئنافية بمقتضى قانون 31 دجنبر 1987 فأصبحت الدعوى الإدارية لأول مرة في فرنسا تنظر فيها ثلاث جهات قضائية إدارية: المحاكم الادارية، محاكم الاستئناف، ثم مجلس الدولة. و بما أن القضاء الاداري الفرنسي هو الملهم الرئيسي للمشرع الإداري المغربي، فان هذا الأخير قد سلك نفس النهج الفرنسي وان كان يبدو ظاهريا و شكلا مختلفا عن نموذج التجربة الفرنسية، الا انه لا يختلف عنها في العمق. فالقضاء المغربي قد تأثر الى حد بعيد بالظروف السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي عاشها المغرب. فقبل الحماية لم يكن المغرب يعرف قضاءا ادريا متميزا عن القضاء العادي، بل قواعد الشريعة الإسلامية هي التي كانت تطبق على جميع أنواع المنازعات كيفما كان نوعها،وبالتالي لم تكن هناك مراقبة قضائية على الاعمال و القرارات الادارية بالشكل المعروف حاليا،حيث كانت مؤسسة ديوان المظالم هي الوحيدة التي قد تنصف المواطن من تعسفات الادارة. اما في مرحلة الحماية فقد كان القضاء الاداري بالمغرب محدودا جدا وهذا طبيعي جدا، مادام هدف المستعمر هو بسط سيطرته وانتزاع حقوق المغاربة و الحد من حرياتهم. فأنشأت ما يسمى بالمحاكم الفرنسية فكانت تختص في تطبيق القوانين الصادرة عن الحماية بنفسها فلم يكن يعرف دعوى الإلغاء و إنما كان ينظر كقضاء عاد في دعاوى التعويض في اطار المسؤولية الإدارية. وبعد حصول المغرب على الاستقلال تم إنشاء المجلس الأعلى بمقتضى الظهير الشريف الصادر بتاريخ 27 شتنبر 1957 الذي جعل من بين اختصاصاته النظر في طلبات النقض ضد الأحكام والقرارات النهائية الصادرة عن المحاكم المغربية، وأيضا النظر في دعاوى الإلغاء ضد القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية بسبب الشطط في استعمال السلطة، وعهد للغرفة الإدارية بالبت في هذه الدعاوى. و بعد ذلك اصبح الاهتمام يتزايد شيئا فشيئا لبناء الدولة الحديثة و تكريس مبادئ الديمقراطية وإرساء المشروعية وسيادة القانون فتم اصدار قانون رقم 41-90 المحدث للمحاكم الإدارية. وبعدها انشاء المحاكم الاستئنافية بمقتضى قانون 03-80 وهو حدث شكل طفرة ايجابية و نقلة نوعية في تاريخ قضائنا الإداري حيث استطاعت طيلة هذه المدة تكريس عدة مبادئ هامة في مجال ارساء مبدأ المشروعية وخلق قواعد و ضوابط القانون الإداري فاعتبروه الابن الشرعي للقضاء الإداري ومن هنا تبدو لنا الأهمية البالغة التي يكتسيها موضوع بحثنا هذا وعليه فإننا سنعمل على تسليط الأضواء على مسألة ارتباط القضاء الإداري بالقانون الإداري و بعض مجالاته التي ساهم القضاء في ارساء قواعدها وأحكامها

المطلب الاول: الطابع القضائي للقانون الاداري:

يرى الفقه الاداري، ان القانون الاداري هو قانون قضائي، و ان القضاء هو المصدر الرئيسي و الرسمي لقواعد هذا القانون. كما يرسم هذا الفقه حدا فاصلا بين دور القاضي المدني والقاضي الاداري، وذلك على اساس ان القاضي الاداري لا تتوقف مهمته عند تطبيق القواعد المقننة وانما تمتد الى حد انشاء القواعد القانونية على نقيض الدور الموكول إلى القاضي المدني. ذلك ان دور المشرع يبقى دورا محدودا نظرا لكونه لم يهتم الا بمعالجة بعض الحالات الخاصة، دون التصدي لكل ما قد يحدث من نزاعات تكون الادارة طرفا فيها. اذ هو يكتفي بوضع قواعد عامة يبقى الاجتهاد القضائي سلطة تقديرية واسعة في تأويلها و تحديد مضمونها. و قد عبر عنه بوضوح الفقيه الفرنسي جورج فوديل بخصوص القانون الاداري بفرنسا عندما قال:” ان قيمة القانون الاداري تعود الى كونه قد تم و ضعه من طرف مجلس الدولة”. .

ان نفس الملاحظة يمكن طرحها بالنسبة للقانون الاداري المغربي، فباعتباره قد سار في نفس الاتجاه الذي تبناه القضاء الاداري الفرنسي، نجد بأن الاجتهاد القضائي بالمغرب قد لعب دورا أساسيا في بناء القانون الاداري. يتضح ذلك من خلال القرارات الصادرة عن الغرفة الادارية بالمجلس الاعلى مند انشائه في27 شتنبر1957 و ذلك مثل القرار المتعلق بقضية عبد الحميد الروندة، الصادر بتاريخ 18 يونيو 1960 ففي هذه القضية نجد أن المجلس الاعلى اعتبر أن القرار المتخذ من طرف الملك لا يمكن اعتباره بمثابة قرار اداري، و بالتالي لا يمكن الطعن فيه عن طريق دعوى الشطط في استعمال السلطة. ان اتخاذ هذا القرار من طرف الغرفة الادارية بالمجلس الأعلى لم يعتمد فيه القضاء الاداري على أي نص سابق، ذلك أنه اذا كان ظهير27 شتنبر 1957 المؤسس للمجلس الأعلى ينص في فصله الأول على امكانية الطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة في القرارات الصادرة عن السلطة الادارية، فهو لم يضع أي تحديد يمكن بمقتضاه تمييز نوعية القرارات التي تخضع لهذا الطعن، ومن تم كان للقاضي الاداري حرية التقييم معتمدا في ذلك على سلطته التقديرية، وما تمليه عليه ظروف النازلة، وكذا على المبادئ العامة للقانون وخصوصيات المجتمع بما تتضمنه من اعتبارات تاريخية وسياسية ودينية. وهو نفس الوضع الذي يمكن ملاحظته في ظل القانون رقم 41-90 المحدث للمحاكم الادارية و الصادر بتاريخ 11 يوليوز 1991

فرغم ان هذا القانون قد حدد في مادته 8 الحالات التي يتدخل فيها القضاء الاداري، الا أن هذا التحديد يبقى متسما بالعمومية. ويرجع السبب في ذلك الى غياب التشريع الذي ينبغي تطبيقه بشكل مفصل على كل الحالات النزاعية التي تظهر في مختلف هذه المجالات. مما يفتح الباب على مصراعيه امام القاضي الاداري الذي يتدخل بشدة لايجاد الحلول للقضايا التي تعرض عليه، و ذلك في اطار المبادئ العامة للقانون و مبادئ العدالة.
غير ان السؤال الهام الذي يطرح نفسه في هذا المجال- تدخل القضاء لاستنباط القواعد القانونية و ابتداع الاحكام و المبادئ- هو لماذا و بماذا يبرر الفقه الإداري الدور الإنشائي للقاضي الاداري؟

مبررات الدور الانشائي للقاضي الاداري، تتمثل في خصائص القانون الاداري وهي:

1- عدم تقنين هذا القانون، يعني ان المشرع لم يصدر مجموعة تشريعية تضم المبادئ والقواعد العامة والتفصيلية للقانون الإداري، وتجميعها في مجموعة واحدة يسهل الرجوع اليها.
2- حداثة القانون الاداري بالمقارنة مع القوانين الاخرى، كالقانون المدني والتجاري اللذين تمتد جذورهما التاريخية الى حقبة زمنية قديمة جدا.
3- القانون الاداري سريع التطور، نظرا لارتباطه بالحياة الادارية التي تتسم بالتغيير السريع وفقا لمتطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي و السياسي.
4- ان القانون الاداري يستهدف تحقيق التوازن بين المصلحة العامة وضرورة حماية حقوق وحوريات الافراد. وبقصد تحقيق هذه الغاية لا بد ان تكون لدى القاضي الاداري القدرة القانونية على ابتكار المبادئ القانونية لتحقيق هذا التوازن، اما اذا تم تقنين هذا القانون فان سلطة هذا القاضي ستكون مقيدة الى حد كبير يجعلها غير قادرة على تحقيق غاية القانون الاداري.
5- القانون الاداري من صنع القضاء فكان لابد من هذا الاخير ان ينهض بهذه المهمة من خلال وضع اسسه ونظرياته.
و هذا ما يفتح الباب على مصراعيه امام القاضي الاداري الذي يتدخل بشدة لايجاد الحلول للقضايا التي تعرض عليه.
وهكذا، فان القانون الاداري هو نتاج تراكم مستمر لمجموعة من العناصر التي ظهرت عبر مختلف اللحظات، التي ميزت تدخل الدولة بهدف تنظيم الحياة داخل الجماعة.

المطلب الثاني: إحداث المحاكم الإدارية:

إن مشروع إحداث المحاكم الإدارية بالمغرب لم يأتي هكذا، صدفة أي بمجرد ترف فكري أو قانوني ، لأنه ومن خلال تحليلنا لديناميت بنية الواقع السياسي ولاقتصادي المغربي ولظروف الدولية التي عرفها العالم في السنين الأخيرة يتبين لنا أن هذا القانون كان مرحلة تاريخية حتمية لابد للمغرب أن يمر منها في هذا بالذات[1] كما يعتبر التنظيم القضائي المغربي فقد عرف إحداثها مجموعة من المؤسسات والهياكل الإدارية كان لها الدور الكبير في حل مجموعة من المنازعات الإدارية المعروضة أمام القضاء قبل إحداث المحاكم الإدارية ولعلى أهم هذه المؤسسات المجلس الأعلى المحدث بظهير 27شتنبر 1957 كمحكمة نقض بالنسبة لأحكام المحاكم المغربية كمحكمة أول وآخر درجة بالنسبة لدعوى إلغاء القرار من أجل الشطط في إستعمال السلطة إلى جانبه نجد الغرفة الإدارية التي كانت تختص بالنظر في دعوى الإلغاء نظرا لعدم وجود جهاز قضائي مستقل يفصل في هذه المنازعات ، فدعوى الإلغاء شكلت أحسن أنواع الرقابة الإدارية على الإدارة وأوفاها ضمانا لحقوق المواطنين كما تعتبر علامة مميزة في ميدان القضاء الإداري ودليلا على مدى تمسك الدولة بالقانون بحيث إنها تقف في وجه القرارات الإدارية الغير شرعية ولاغرو في أن المحاكم الإدارية أصبحت تختص في كل القضايا الإدارية ماعدا التي خص بها هذا القانون المجلس الأعلى.
يثير نظام القضاء المزدوج القائم على وجود جهتين قضائيتين مشكلة تحديد اختصاص كل من القضاء الإداري والقضاء العادي تحديدا دقيقا ، كما يترتب في البحث على وسيلة لرفع تنازع الاختصاص الذي يمكن أن يقوم بين الجهتين[2].
الإدارة بدورها تعبر عن إرادتها بطريقتين ، مرة تظهر فيها الإدارة كصاحبة سلطة فتصدر الأوامر بما لها من سيادة وسلطان وبالتالي لايمكن إعطاء الاختصاص بهذه الأعمال للمحاكم الإدارية ، ومرة أخرى ، تتخلى الإدارة فيها عن امتيازاتها وسلطاتها فتتصرف كفرد عادي في إطار مبادئ وقواعد القانون الخاص[3].

لكن مع ظهور تيار المرفق العام وجهت مجموعة من الانتقادات الفقهية لمعيار السلطة العامة والذي أكده حكم بلا نكو[4] فأصبحت التفرقة بين المنازعات المرتبطة بتسيير مرفق عام وبين تلك التي لا تتعلق بتسيير المرفق العام ، وعلى هذا الأساس تخضع المنازعة في الحالة الأولى للقانون العام ولاختصاص القضاء الإداري ، في حين تطبق قواعد القانون الخاص على نشاط الإدارة الذي لايترتب مباشرة بمرفق عام ويختص القضاء العادي بالمنازعات التي تنشأ عن هذا النشاط.

إلا أن هذا المعيار لم يسلم نفسه من الانتقادات والمعارضات الموجهة لسلطة العامة ومعيار المرفق العام وهو ما يطلق عليه بالمعيار المختلط.
في يوم 8 مايو 1990 تم إعلان عن إنشاء المحاكم الإدارية في الخطاب الملكي والذي بموجبه انتقل المغرب من مرحلة القضاء الموحد إلى القضاء المزدوج ، وبعد صدور المرسوم بتاريخ 03 نونبر 1993 تم إنشاء المحاكم الإدارية والتي حددت في سبع محاكم مقسمة على سبع جهات اقتصادية.
وبناء على المادة 8 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية فإن هذه الأخيرة تختص بالنظر في :
• طلبات الإلغاء من أجل الشطط في إستعمال السلطة
• نزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية
• دعوى التعويض
إلى غير ذلك من المنازعات الأخرى.

وعلاوة مما سبق فإن إحداث المحاكم الإدارية من شأنه أن يجعل حدا لمشاكل التي يعرفها نظام وحدة القضاء سواء فيما تعلق بدعوى الإلغاء أو دعوى القضاء الشامل ، إضافة إلى هذا نجد أن إحداث هذه المحاكم شكل في حد داثه مكسب قانوني وقضائي لبلادنا ، كما أن هذا القانون ساهم في تغيير عقلية المواطن وسيؤدي إلى تغيير الممارسة الإدارية وإلى تقريب العدالة والإدارة من المواطنين مما قد يعمل على الحد من تجاوزات السلطات الإدارية.

لهذا فإن الاختصاص العام في القضاء الإداري الذي منح للمحاكم الإدارية من شأنه أن يسرع في البث في القضايا المعروضة عليه ، ويخفف الثقل عن الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى.

المطلب الأول: رقابة القاضي الإداري للسلطة التقديرية للإدارة

إن القضاء الإداري المغربي منذ إحداث الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى لا يذهب إلى حد مراقبة السلطة التقديرية للإدارة، لقد أعلنت تلك الغرفة في العديد من القرارات الصادرة عنها امتناعها عن مد رقابتها على جانب الملائمة في السلطة التقديرية الممنوحة للإدارة في كثير من المجالات. فمنذ قرار محمد الدانج لتاريخ 26 نونبر 1962 إلى غاية النصف الثاني من التسعينات ظل موقف المجلس الأعلى في هذا صارما وجازما بحيث يفيد هذا الموقف أنه متى ثبت الخطأ بصفة قانونية وتأكد السبب كان للإدارة كامل الحرية في اختيار العقوبة بمعنى آخر استقر القضاء الإداري المغربي على جعل مراقبة الملائمة بين الأفعال والعقوبة التأديبية خارجة عن اختصاصه ، غير أنه في القانون الإداري تبقى السلطة التأديبية للإدارة من أكثر الميادين حاجة إلى إحقاق الحق وإقرار الإنصاف، فلا يعقل أن تتم إقالة موظف ( غير مرغوب فيه) لمجرد ارتكابه مخالفة بسيطة ، لذلك سوف يعدل المجلس الأعلى على الأقل ضمنيا عن هذا الاتجاه ويطور أسلوب رقابته على السلطة التقديرية للإدارة في مجال التأديب في اتجاه الأخذ بتقنية الغلو في التقدير ، لكن هذا التطور لن يأتي من عدم وهنا نسجل الدور المهم للمحاكم الإدارية إذ يرجع لها الفضل في وضع الأساس الأول في هذا الاتجاه.

فبعد إشارتها لتقنية الغلو في التقدير في حكم ( بوليل محمد) بتاريخ 23 ماي 1995 عادت المحكمة الإدارية بالرباط في قضية أجدع رشيد (9 نونبر 1995) لتأكد على أن المحكمة وعلى افتراض أحقيتها في مراقبة الملائمة بين الأفعال والعقوبة المتخذة فإنها ترى بأن الأخطاء المرتكبة من طرف الطاعن تبرر العقوبة المتخذة في حقه ، وهو حكم سوف يؤكده المجلس الأعلى بقوله “إن الملائمة قائمة بين الأفعال المنسوبة للطاعن والعقوبة المتخذة في حقه” وقد كان قرار الغرفة الإدارية هذا بمثابة الضوء الأخضر للمحاكم الإدارية لكي تعمل بنظرية الغلو في التقدير وهو ما يبرزه توالي الأحكام في هذا الاتجاه ، وهكذا أصبح القاضي الإداري إضافة إلى الرقابة السابقة يختص أيضا في العلاقة بين جسامة الخطأ ودرجة العقوبة التأديبية ويحرص على ضرورة قيام نوع من الملائمة بينهما حيث أضحت هذه الملائمة عنصرا أساسيا من عناصر المشروعية ، ونتيجة لذلك عرفت الرقابة القضائية المتعلقة

بالنزاعات التأديبية توسعا هاما، هذا التوسع سيضع قيودا وضوابط جديدة للسلطة التقديرية للإدارة في هذا المجال، إجمالا يمكن القول أن القاضي الإداري المغربي قد ذهب بعيدا في مجال رقابته على السلطة التقديرية وخاصة في مجال تأديب الموظفين، وذلك من خلال استعماله لنظرية الغلو كما أنه خطا خطوة ايجابية في مجال إقرار رقابة قضائية في مجال نزع الملكية.
هذه الرقابة التي تقوم على التقييم وفحص مدى ملائمة القرار من حيث ملابسته الاجتماعية وكلفته المالية والاقتصادية.

المطلب الثاني: رقابة الملائمة في القضاء الإداري المغربي

بعد بسط رقابته على ماديات الوقائع وعلى صحتها قانونا وعلى التكييف القانوني للوقائع في القرارات الإدارية ابتكر مجلس الدولة الفرنسي نوعا آخر من الرقابة أكثر تطورا وضمانة لحقوق الأفراد والجماعات إزاء تعاظم السلطة التقديرية للإدارة وتوسعها في شتى المجالات والتي تترجمها القرارات الإدارية الصادرة عنها، وهذا الابتكار يتجلى في مراجعة الإدارة بخصوص تقديرها لمدى أهمية وخطورة الوقائع المدعاة في القرارات الإدارية، والإجراء المتخذ على أساسها للوقوف على مدى التناسب للتلاؤم بينهم، وبعبارة أخرى هل الإجراء المتخذ (عقوبة تأديبية، منع، إغلاق، هدم، عزل…) مناسب لخطورة الوقائع أو الأفعال أم لا؟
وفي هذا الخصوص سار الاجتهاد القضائي الإداري المغربي على نفس المنوال حيث أن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى لم تقف هي الأخرى عند حد المراقبة على ماديات الوقائع وعلى صحتها قانونا، وعلى التكيف القانوني للوقائع، بل تعدته إلى المراقبة على ظاهرة الملائمة أي تقدير أهمية وخطورة السبب ومدى تناسبه مع القرار المتخذ، والغرفة الإدارية في هذا لم تسلك نفس المسلك الذي يلكه القضاء الإداري الفرنسي بل أوجدت حلولا وسطى بين مراقبة الملائمة، وبين مراقبة المشروعية، هذه الحلول تتجلى في تقدير الظروف والملابسات التي صدر في ظلها القرار.

وفي هذا الخصوص نورد أمثلة في هذا الاتجاه الخاص بالغرفة الإدارية ففي قرار لها بتاريخ 23غشت1990 تحت عدد 305 في قضية بنعبد الله ضد رئيس المجلس الحضري لمدينة الحاجب أكدت على ما يلي ” حيث لئن كان للبلدية الحق في تغيير الوجيبة الشهرية التي تؤدى مقابل استغلال أرضها من طرف الطالب في نطاق المصلحة العامة وللزيادة في مداخيلها البلدية فإن الوجيبة الشهرية المشار إليها يجب أن تكون مناسبة لأهمية المحل، وبالتالي يجب أن تكون خاضعة لمقاييس موضوعية ناتجة عن أسعار مهيأة من طرف البلدية بصفة مسبقة”، وحيث أن هذه العناصر غير متوفرة في النازلة وأن الوجيبة المذكورة وقعت الزيادة فيها دون التقيد بأي مقياس موضوعي أو تعريفة أسعار مهيأة مسبقا من طرف البلدية الأمر الذي يجعل القرار المطعون فيه متسما بالشطط في استعمال السلطة.

وفي قرار لها بتاريخ 13 مارس1991 تحت عدد 77 ألغت القرار الصادر عن المدير العام للمكتب الوطني للماء الصالح للشرب والذي قضى بإعفاء الطاعن مولاي الحسن النصير من منصبه لكون المكتب المذكور لم يدلي بالحجج الكافية للأفعال المنسوبة إليه[1].
وفي قرار لها بتاريخ 26 يونيو 1977 تحت عدد 20 اعتبرت أن قرار فصل شرطي مصاب بمرض عقلي وإحالته على المعاش نظرا لعدم استطاعته حمل السلاح هو قرار مشوب بعدم الشرعية إذ أنه يمكن أن تسند له مهام إدارية أخرى مادامت له القدرة البدنية[2].
ملاحظ في هذا الاجتهاد كما في الاجتهاد المشار إليه سابقا المتعلق بالمجلس الحضري لمدينة الحاجب أن الغرفة الإدارية راقبت المشروعية عن طريق فحص الملائمة باعتبار أنه يستحيل فصلهما أو تجزئتهما في مثل هذه النوازل والواقع أن الغرفة عندما سلكت هذا المسلك فإنها في حقيقة الأمر قامت بفحص ظاهرة الملائمة وذلك بالقدر الذي يوصلها إلى استئصال عيب المشروعية