أحكام أخذ العوض في الخلع

اعادة نشر بواسطة محاماة نت

تأليف
د. عبد العزيز بن سعود بن ضويحي الضويحي
أستاذ مساعد بجامعة الملك سعود

كلية التربية ـ قسم الثقافة الإسلامية

التمهيد: وفيه التعريف اللغوي, والاصطلاحي للخلع, والمقصود بأخذ العوض في الخلع, والحكمة من مشروعية الخلع.
المبحث الأول: دعوى نسخ أحكام الخلع ونسخ أخذ العوض فيه.

المبحث الثاني: حكم أخذ العوض بسبب كراهية الزوجة.

المبحث الثالث: حكم أخذ العوض بسبب عضل الزوج.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: حكم أخذ العوض بالعضل ظلماً.

المطلب الثاني: حكم أخذ العوض بالعضل بسبب إتيان الفاحشة.

المبحث الرابع: حكم أخذ العوض في الخلع حالة الوفاق بين الزوجين.

الخاتمــة: وفيها أهم نتائج البحث.

وسلكت في هذا البحث المنهج التالي:

1- عزو الآيات القرآنية إلى سورها في المتن نفسه.

2- تخريج الأحاديث وبيان ما ذكره أهل العلم في درجتها إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما.

3- تخريج الآثار الواردة في البحث.

4- لم أعرف بالأعلام تلافياً للإطالة.

5- أعرض أقوال الفقهاء في المسألة مع ذكر أهم ما وقفت عليه من أدلة, ثم أرجح ما يعضده الدليل.

6- توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب, والاعتماد على أمهات المصادر والمراجع.

هذا, والله أسأل التوفيق والسداد, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

التمهيــــــد: في تعريف الخلع وأخذ العوض فيه والحكمة من مشروعيته
أولاً : تعريف الخُلع في اللغة:
في الصحاح: (خَلَعَ ثوبه ونعله وقائده خَلْعاً. وخَلَعَ عليه خلعة, وخالع امرأته خُلْعاً بالضم)([1]).

قال ابن فارس: (الخاء واللام والعين أصل واحد مطرّد, وهو مُزايلة الشيء الذي كان يشتمل به أو عليه, تقول: خلعت الثوب أخلعه خُلْعاً, وخُلع الوالي يُخلع خلعاً.

وهذا لا يكاد يقال إلا في الدون ينزل من هو أعلى منه, وإلا فليس يقال: خلع الأمير واليه على بلد كذا, ألا ترى أنه إنما يقال: عزله. ويقال: طلق الرجُل امرأته, فإن كان ذلك من قبل المرأة يقال: خالعته وقد اختلعت؛ لأنها تفتدي نفسها منه بشيء تبذله له)([2]).

قال الأزهري: (وسمي ذلك الفراق خلعاً لأن الله ـ عز وجل ـ جعل النساء لباساً للرجال, والرجال لباساً لهن, فقال تعالى: + ” [البقرة: 187].

وهي ضجيعته وضجيعُه, فإذا افتدت المرأة بمال تعطيه لزوجها ليبينها منه فأجابها إلى ذلك فقد بانت منه, وخلع كل واحد منهما لباس صاحبه, والاسم من ذلك الخُلع, والمصدر الخلع)([3]).

ثانياً: تعريف الخُلع اصطلاحاً:
اختلف الفقهاء في تعريف الخلع لاختلافهم في شروط الخلع والأحكام المترتبة عليه على ما يلي:

1ـ الحنفية:
عرفه الزيلعي بأنه: (أخذ المال بإزاء ملك النكاح بلفظ الخلع)([4]).

وعرفه ابن الهمام بأنه: (إزالة ملك النكاح بلفظ الخلع)([5]).

وعرفه ابن نجيم بأنه: (إزالة ملك النكاح المتوقفة على قبولها بلفظ الخلع أو ما في معناه)([6]).

2ـ المالكية:
عرفه ابن شاس بأنه: (عبارة عن خلع العصمة بعوض من الزوجة أو من غيرها)([7]).

وعرفه الرصاع: (بأنه صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بعوض)([8]).

وعرفه محمد بن جزي الغرناطي بأنه: (بذل المرأة أو غيرها للرجل مالاً على أن يطلقها أو تسقط عنه حقّاً لها عليه)([9]).

الشافعية:
قال الرافعي: (وفسر الخلع في الشريعة بالفرقة على عوض يأخذه الزوج)([10]).

وقال محمد الشربيني: (هو في الشرع فرقة بين الزوجين بعوض مقصود راجع لجهة الزوج بلفظ طلاق أو خلع)([11]).

وعرفه ابن قاسم الغزي بأنه: (فرقة بعوض مقصود)([12]).

4ـ الحنابلة :
قال ابن قدامة: (معناه: فراق الزَّوج امرأته بعوض)([13]).

وعرفه الفتوحي بأنه: (فراق زوجته بعوض, بألفاظ مخصوصة)([14]).

وعرفه إبراهيم بن ضويان بأنه: (فراق الزوجة بعوض يأخذه الزوج منها, أو من غيرها بألفاظ مخصوصة)([15]).

عند التأمل في تعريفات الفقهاء السابقة للخلع نجد أن اختلاف عباراتهم يعود إلى ما يلي:

أ ـ بعض الفقهاء يرى أن الخلع يعد طلاقاً؛ لذلك نجد تعريفاتهم تتضمن عبارة «إزالة ملك النكاح», ومن يرى من الفقهاء أن الخلع فسخ لا يذكر الألفاظ التي تدل على إزالة ملك النكاح, إنما يذكر ألفاظاً تدل على الفسخ دون الطلاق.

(وتظهر فائدة هذا الخلاف في الخلع الواقع بينهما, بعد أن طلق الرجل طلقتين, فعند الجمهور طلقة الخلع ثالثة, فلا تحل لمخالعها إلا بعد زوج, وعند ابن عباس وأحمد بن حنبل وإسحاق ومن وافقهم لا تعد طلقة, ولهما أن يعقدا نكاحاً مستأنفاً)([16]).

ب ـ كثير من الفقهاء يشير إلى العوض في الخلع ويجعله شرطاً لصحته, ويرى بعضهم الآخر صحة الخلع بدون عوض.

جـ ـ بعض الفقهاء يرى أن الخلع لا يقع إلا بألفاظ مخصوصة, والصحيح أن الخلع يقع بالألفاظ الصريحة له, أو بما يدل على إرادة الخلع مثل ألفاظ الكناية.

يقول شيخ الإسلام: (فالفرق بين لفظ ولفظ في الخلع قول محدث لم يعرف عن أحد من السلف لا الصحابة, ولا التابعين ولا تابعيهم)([17]).

ولعل التعريف الراجح للخلع هو:
فراق الزوج زوجته بلفظ الخلع أو ما يدل عليه بعوض غالباً.

فقول: (فراق)؛ لأن الخلع أحد نوعي الفرقة.

وقول: (بلفظ الخلع أو ما يدل عليه)؛ لأن ألفاظ الخلع تنقسم إلى صريح كالمفاداة والخلع والفسخ, وكناية كالمبارأة والمباينة والمفارقة.

قال ابن قدامة: (وألفاظ الخلع تنقسم إلى صريح وكناية, فالصريح ثلاثة ألفاظ خالعتك لأنه ثبت له العرف, والمفاداة لأنه ورد به القرآن بقوله سبحانه: + ” [البقرة: 229], وفسخت نكاحك لأنه حقيقة فيه, فإذا أتى بأحد هذه الألفاظ وقع من غير نية, وما عدا هذه مثل بارأتك, وأبرأتك, وأبنتك فهو كناية)([18]).

قال ابن رشد: (واسم الخلع والفدية والصلح والمبارأة كلها تؤل إلى معنى واحد, وهو بذل المرأة العوض على طلاقها, إلا أن اسم الخلع يختص ببذلها له جميع ما أعطاها, والصلح ببعضه, والفدية بأكثره, والمبارأة بإسقاطها عنه حقا لها عليه)([19]).

قال أبو عمر بن عبد البر: (قال مالك رحمه الله: المختلعة هي التي اختلعت مع جميع ما لها, المفتدية هي التي افتدت ببعض ما لها, والمبارئة هي التي بارأت زوجها من قبل أن يدخل بها فقالت: قد أبرأتك مما كان يلزمك من صداقي ففارقني قال: وكل هذا سواء هي تطليقة بائنة.

قال أبو عمر: قد تدخل عند غيره من أهل العلم بعض هذه الألفاظ على بعض فيقال: مختلعة وإن دفعت بعض ما لها, وكذلك المفتدية ببعض ما لها وكل ما لها, وهذا توجيه اللغة)([20]).

وقال ابن القيم: (والصواب أن كل ما دخله المال فهو فدية بأي لفظ كان, والألفاظ لم ترد لذواتها ولا تعبدنا بها, وإنما هي وسائل إلى المعاني, فلا فرق قط بين أن تقول: اخلعني بألف أو فادني بألف, لا حقيقة ولا شرعاً ولا لغة ولا عرفاً)([21]).

والقول: (بعوض غالباً) إشارة إلى أن الخلع يقع بدون عوض, لكن الغالب أن يكون بعوض عند الفقهاء.

ثالثاً: أخذ العوض في الخلع:
المقصود من عوض الخلع: ما يأخذه الزوج من زوجته أو غيرها مقابل خلعه لها, وهذا العوض يجوز أن يكون مالاً معيناً, أو موصفاً, أو دينا للمرأة على الزوج تفتدي به نفسها, ويجوز أن يكون منفعة, وعند بعض الفقهاء يجوز أن يكون العوض بالمجهول, وبعض الفقهاء يرى عدم اشتراط العوض (بدل الخلع) لصحة عقد الخلع([22]).

رابعاً: الحكمة من مشروعية الخلع:
من رحمة الله سبحانه وتعالى وحكمته أن الشريعة أباحت للمرأة طلب الخلع إذا كانت كارهة لزوجها راغبة عنه. وذلك مقابلة لما بيد الرجل من الطلاق, فإذا لم يستطع الرجل العيش بسعادة مع زوجته, ولم يجد لذلك علاجاً, أوقع الطلاق, وكذلك المرأة إذا كانت كارهة لزوجها ولا تستطيع العيش معه, فإن الله سبحانه شرع لها الخلع لتفتدي نفسها من زوجها.

يقول سيد قطب: (وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس, ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها, ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها, وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه)([23]).

كذلك في الخلع رفع للضرر, ومن قواعد الشريعة الإسلامية أن الضرر يزال.

يقول ابن قدامة: (والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها ـ أي المرأة ـ بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه)([24]).

ومن حكمة الشريعة في شرعية الخلع التيسير على الزوجة عند امتناع الزوج من طلاقها مع إساءة العشرة، فشرع الخلع تيسيراً للزوجة ورفع للمشقة حين لم يجعل الشرع الطلاق بيدها.

قال الحافظ صلاح الدين العلائي: (شرعية الخلع والافتداء جعل تيسيراً على الزوجة عند امتناع الزوج من طلاقها؛ لإساءة عشرتها لما في ذلك من المشقة عليها، فخفف الشارع عنها ذلك بشرعية الخلع لها. وكذلك كل موضع شرع فيه للزوجة خيار الفسخ؛ إنما كان تيسيراً عليها، لما في صبرها على الحالة المقتضية لشرعية الخيار من المشقة حين لم يجعل الشرع الطلاق بيدها)([25]).

ومن حكمة الشريعة في الخلع أن أحكام الشرع وضعت وسائل لفسخ كل عقد تبين فساده أو عدم المصلحة الشرعية في إبقائه.

قال الطاهر بن عاشور: (قد جعلت الشريعة لكل آصرة وسيلة إلى انحلالها إذا تبين فساد تلك الآصرة أو تبين عدم استقامة بقائها, فانحلال آصرة النكاح بالطلاق من تلقاء الزوج وبطلاق الحاكم وبالفسخ, والمقصد الشرعي فيه ارتكاب أخف الضرر عند تعسر استقامة المعاشرة, وخوف ارتباك حالة الزوجين, وتسرب ذلك إلى ارتباك حالة العائلة)([26]).

المبحث الأول

——————————————————————————–

([1]) الصحاح 3/1205 مادة خلع.

([2]) معجم مقاييس اللغة 2/209 مادة خلع.

([3]) تهذيب اللغة 1/164 مادة خلع, وانظر لسان العرب 8/76 وتاج العروس 11/100 وتهذيب الأسماء واللغات 3/96.

([4]) تبين الحقائق 2/266 وانظر مجمع الأنهر 1/447.

([5]) فتح القدير 3/199.

([6]) البحر الرائق 4/77 وانظر حاشية ابن عابدين 3/461.

([7]) عقد الجواهر الثمينة 2/137.

([8]) شرح منح الجليل على مختصر خليل 2/182.

([9]) قوانين الأحكام الشرعية 257.

([10]) العزيز شرح الوجيز 8/394 وانظر روضة الطالبين 7/374.

([11]) مغني المحتاج 3/362 وانظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/147.

([12]) شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع 2/139.

([13]) الكافي 4/405 وانظر المطلع على أبواب المقنع 331.

([14]) منتهى الإرادات 2/131 وانظر معونة أولي النهى 7/419 وشرح منتهى الإرادات 5/335 والإقناع 3/441, وكشاف القناع 5/212.

([15]) منار السبيل 2/226.

([16]) التحرير والتنوير 2/410 وانظر أحكام القرآن لابن العربي 1/195.

([17]) مجموع الفتاوى 23/300.

([18]) المغني 10/275.

([19]) بداية المجتهد 2/54.

([20]) التمهيد 23/379 وانظر فتح الباري 9/403.

([21]) إعلام الموقعين 1/224.

([22]) الموسوعة الفقهية 19/254, وانظر المفصل في أحكام المرأة 8/171.

([23]) ظلال القرآن 1/248.

([24]) المغني 10/269.

([25]) المجموع المذهب في قواعد المذهب 1/115.

([26]) مقاصد الشريعة الإسلامية 165 بتصرف.
المبحث الأول
دعوى نسخ أحكام الخلع ونسخ أخذ العوض فيه

نقل العلماء عن بكر بن عبد الله المزني عدم مشروعية أخذ العوض في الخلع مطلقاً, وذهب إلى أن حكم العوض في الخلع منسوخ.
ففي تفسير ابن جرير الطبري (قال عقبة ابن أبي الصهباء: سألت بكراً عن المختلعة أيأخذ منها شيئاً؟ قال: لا, وقرأ + ” [النساء: 21].
وبسنده عن عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئاً. قلت: يقول الله تعالى ذكره في كتابه: + ” قال: هذه نُسخت, قلت: فإني حفظت. قال: حفظت سورة النساء, قول الله تعالى ذكره: + ” [النساء: 19]( ).
وقد أجاب العلماء على دعوى النسخ بما يلي:
1ـ أن دعوى النسخ لا تسمع إلا إذا عرفت الآية الناسخة متأخرة وتعذر الجمع.
قال ابن قدامة: (ودعوى النسخ لا تسمع حتى يثبت تعذر الجمع, وأن الآية الناسخة متأخرة, ولم يثبت شيء من ذلك)( ).
أما الجمع بين الآيتين فإن آية (وإن أردتم استبدال زوج) [النساء: 20].
تفيد منع الرجل من أن يأخذ من المرأة شيئاً مما آتاها إذا أراد استبدال زوج بزوج, ولم يكن نشوز من المرأة على الرجل, فإن كان الأمر كذلك فأخذه شيئاً من مالها حرام, وأما الآية التي في سورة البقرة فإنها إنما دلت على إباحة الله أخذ الفدية من الزوجة في حال الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله بنشوز المرأة, وطلبها فراق الرجل.
قال ابن جرير: (الآية التي في سورة النساء إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئاً مما آتاها, فإن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف ألا يقيما حدود الله, ولا نشوز من المرأة على الرجل, وأما الآية التي في سورة البقرة فإنها إنما دلت على إباحة الله ـ تعالى ذكره ـ له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله بنشوز المرأة وطلبها فراق الرجل)( ).
وقال الماوردي في رده على دعوى النسخ: (وهذا خطأ؛ لأن هذه الآية ـ آية سورة النساء ـ منعت من أخذ ما لم تطب به نفساً, ولم تمنع مما بذلته بطيب نفس واختيار كما قال تعالى: + “( ).
2ـ الإجماع منعقد على مشروعية الخلع.
قال ابن جرير في رده على دعوى النسخ: (إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها, وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره)( ).
وقال ابن عبد البر: (قول بكر هذا خلاف السنة الثابتة في قصة ثابت بن قيس وحبيبة بنت سهل, وخلاف جماعة العلماء والفقهاء بالحجاز والعراق والشام)( ).
3ـ أجاب الماوردي عن دعوى النسخ بما يلي:
(لما جاز أن يملك الزوج البضع بعوض, جاز أن يزيل ملكه عنه بعوض كالشراء والبيع, فيكون عقد النكاح كالشراء والخلع كالبيع)( ).

المبحث الثاني
حكم أخذ العوض بسبب كراهية الزوج

المرأة إذا كرهت زوجها لخَلقِه أو خُلُقه أو دينه أو كبره أو ضعفه, ونحو ذلك, وخشيت ألا تؤدي حق الله تعالى في طاعته, جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها.
وقد دل على ذلك الكتاب, والسنة, والإجماع, والقياس.
أ ـ أما الكتاب:
فقوله تعالى: + ” [البقرة: 229].
وجه الدلالة من الآية: أن المرأة إذا لم تقدر على معاشرة الزوج, وأبغضته, وخشيت عدم القيام بحقوقه, فلها أن تفتدي منه بما أعطاها.
قال ابن كثير: (إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها, ولا حرج عليها في بذلها له, ولا حرج عليه في قبول ذلك منها)( ).
ب ـ وأما السنة:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي × فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه خلقاً ولا ديناً, ولكني أكره الكفر في الإسلام( ). فقال رسول الله ×: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال رسول الله ×, اقبل الحديقة وطلقها تطليقة.
وفي رواية عن ابن عباس قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله × فقالت: يا رسول الله إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق ولكني لا أطيقه فقال رسول الله ×: فتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم( ).
وعن عائشة رضي الله عنها, أن حبيبة بنت سهل( ) كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر بعضها, فأتت رسول الله × بعد الصبح فاشتكته إليه, فدعا النبي × ثابتـاً فقـال: خـذ بعض مالهـا وفارقهـا, فقال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها, فقال النبي ×: خذهما وفارقها. ففعل( ).
جـ ـ أما الإجماع فقد حكاه أكثر الفقهاء.
قال ابن عبد البر: (وأجمع العلماء على إجازة الخلع بالصداق الذي أصدقها إذا لم يكن مضراً بها, وخافا ألا يقيما حدود الله)( ).
وقال الرافعي: (وأصل الخلع مجمع عليه, وقد اشتمل القرآن على ذكره قال الله تعالى: + ” [البقرة: 229]( ).
وقال ابن القيم: (ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس خالفت النص والإجماع)( ).
وقال الحافظ ابن حجر: (وأجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور)( ).
د ـ أما القياس فما ذكره ابن قدامة بقوله: (لأن حاجتها داعية إلى فرقته, ولا تصل إليها إلا ببذل العوض, فأبيح لها ذلك, كشراء المتاع)( ).
وقد ذهب بعض العلماء منهم طاوس إلى أن الذي يبيح للرجل أخذ الفدية أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعاً لكراهية كل واحد منها الآخر.
قال طاوس: (إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشر, والصحبة)( ).
قال الطبري: (الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت, وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به, وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله, فأما إذا كان التفريط منهما فليس هناك للخوف موضع إذ كان المخوف قد وجد)( ).
وما تقدم من حديث ثابت نص في المسألة, فإن الكراهة من زوجته دون ثابت رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث من الفوائد ـ حديث ثابت ـ أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية, ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعاً, وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها)( ).

المبحث الثالث
حكم أخذ العوض بسبب عضل الزوج زوجته
عضل الرجل لزوجته بالحبس أو التضييق والإضرار بها إما أن يكون ظلما أو بسبب إتيان المرأة الفاحشة.
المطلب الأول: حكم أخذ العوض بالعضل ظلماً:
العضل يأتي بمعنى الحبس والمنع, يقال: عضل المرأة عن الزواج وحبسها, وعضل الرجل أيمه يعضلها منعها الزواج ظلماً.
قال تعالى: + ” [البقرة: 232].
ويأتي بمعنى الإضرار, يقال: عضل الزوج امرأته، وهو أن يضارها ولا يحسن عشرتها ليضطرها بذلك إلى الافتداء منه بمهرها, كما في قوله تعالى: + ” [النساء: 19] سماه الله تعالى عضلاً لأنه يمنعها حقها من النفقة وحسن العشرة، كما أن الولي إذا منع المرأة من التزويج فقد منعها الحق الذي أبيح لها من النكاح( ).
وقد بحث الفقهاء العضل بمعنى منع المرأة من التزويج, وبمعنى الإضرار بالزوجة, والمعنى المراد في البحث هو إضرار الزوج امرأته ليضطرها إلى الافتداء.
وقد اتفق العلماء على تحريم عضل الرجل زوجته ظلماً بالتضييق عليها ومنعها من حقوقها.
قال الجصاص: (وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا كان النشوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد, وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئاً)( ).
وقال القرطبي: (وأجمعوا على تحظير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها)( ).
قال ابن قدامة: (فأما إن عضل زوجته، وضارها بالضرب والتضييق عليها، أو منعها حقوقها من النفقة والقسم ونحو ذلك لتفتدي نفسها منه، ففعلت فالخلع باطل، والعوض مردود, روى ذلك عن ابن عباس، وبه قال مالك والشافعي)( ).
وقد استدل الفقهاء على تحريم عضل الرجل زوجته ظلماً بما يلي:
1 ـ قولـه تعالى: + ” [النساء: 19].
ففي هذه الآية نهي صريح للزوج عن عضل الزوجة.
قال ابن جرير: (نهى الله ـ جل ثناؤه ـ زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره، ولفراقها محب, لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق)( ).
وقال الكاساني: (نهى الأزواج عن أخذ شيء مما أعطوهن, واستثنى حال نشوزهن, وحكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه, فيقتضي حرمة أخذ شيء مما أعطوهن عند عدم النشوز)( ).
2 ـ قولـه تعالى: + ” [النساء: 20، 21].
قال الشنقيطي في تفسير هذه الآية: (النهي عن الرجوع في شيء مما أعطى الأزواج زوجاتهم، ولو كان المعطى قنطاراً, وبين أن أخذه بهتان وإثم مبين، وبين أن السبب المبالغ من أخذ شيء منه هو أنه أفضى إليها بالجماع، وبين سبحانه في موضع آخر أن محل النهي عن ذلك إذا لم يكن عن طيب النفس من المرأة, وذلك في قولـه تعالى: + ” [النساء: 4] وأشار إلى ذلك بقولـه: + ” [النساء: 24])( ).
3 ـ ومما يستدل به حديث أبي حميد الساعدي، أن النبي × قال: «لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه» وذلك لشدة ما حرم رسول الله × من مال المسلم على المسلم ( ) .
وعضل الرجل المرأة والإضرار بها بغير حق وأخذ مالها كل ذلك بغير طيب نفس منها.
3 ـ ومما استدل به أنه عوض أكرهت عليه الزوجة بغير حق فلا يستحقه الزوج. قال ابن قدامة: (ولأنه عوض أكرهت على بذله بغير حق، فلم يحق كالثمن في المبيع والأجرة في الإجارة)( ).
وإذا عضل الرجل زوجته ظلما وأخذ العوض وتم الخلع فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك العوض والخلع على أقوال:
القول الأول: العوض مردود على المرأة والفسخ باطل:
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد.
قال ابن قدامة: (فأما إن عضل زوجته، وضارها بالضرب والتضييق عليها، أو منعها حقوقها، من النفقة والقسم ونحو ذلك لتفتدي نفسها منه ففعلت فالخلع باطل والعوض مردود)( ) .
وهذا قول من يرى أن الخلع فسخ إذا لم يَنوِ به الطلاق. فلا يقع الخلع وتبقى الزوجة ويرد إليها العوض.
قال ابن قدامة: (وإن قلنا: هو فسخ ولم ينو به الطلاق لم يقع شيء؛ لأن الخلع بغير عوض لا يقع على إحدى الروايتين)( ) .
واستدل الحنابلة على هذا القول بأن العوض أكرهت على بذله بغير حق فلم يستحقه الزوج فيرد عليها, وأما الخلع فلا يقع لأن الزوج رضي بالفسخ بالعوض, فإذا لم يحصل له العوض فلا يصح الفسخ( ) .
كذلك استدلوا بأدلة تحريم العضل ظلما السابقة, وإذا حرم عليه العضل حرم عليه أخذ العوض فلا يقع الخلع ويرد العوض.
القول الثاني: العوض يرد على المرأة ويقع الفسخ:
وهذا القول في مذهب الحنابلة, فالعوض يرد لأنها أكرهت على بذله, والفسخ يقع لأنه يصح الخلع بغير عوض.
قال ابن قدامة: (وقال مالك: إن أخذ منها شيئا على هذا الوجه رده ومعنى الخلع عليه ـ قال ابن قدامة ـ ويتخرج لنا مثل ذلك إذا قلنا يصح الخلع بغير عوض)( ) .
القول الثالث: العوض يرد على المرأة ويقع الخلع:
وهو قول الإمام مالك والشافعي ورواية عن الإمام أحمد.
قال الإمام مالك: (في المفتدية التي تفتدي من زوجها أنه إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها، وعلم أنه ظالم لها، مضى الطلاق، ورد عليها مالها)( ) .
وفي المهذب (وإن ضربها أو منعها حقها طمعا في أن تخالعه على شيء من مالها لم يجز لقولـه تعالى: + ” فإن طلقها في هذه الحالة على عوض لم يستحق العوض؛ لأنه عضل معاوضة أكرهت عليه بغير حق, فلم يستحق فيه العوض كالبيع, فإن كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجعها لأن الرجعة إنما تسقط بالعوض, وقد سقط العوض فتثبت الرجعة)( ).
وقال ابن قدامة: (وإذا لم يملك العوض. وقلنا الخلع طلاق، وقع الطلاق بغير عوض، فإن كان أقل من ثلاث، فله رجعتها، لأن الرجعة إنما سقطت بالعوض، فإذا سقط العوض، تثبت الرجعة)( ) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بأن العوض أكرهت عليه المرأة بغير حق, فلا يحل له أن يأخذ على ترك التعدي عوضاً.
كما استدلوا بأدلة تحريم العضل ظلماً, وإذا حرم عليه العضل حرم عليه أخذ العوض فيه.
واستدلوا على وقوع الخلع بأنه أوقعه باختياره وبدون إكراه، والمرأة إنما دفعت العوض لأجل الخلع فيرد عليها العوض ويقع الخلع.
قال أبو الوليد الباجي: (ما التزمه من طلاق الخلع يلزمه لأنه أوقعه باختياره ويرد ما أخذ منها من العوض, ولا يأخذ منها ما كانت التزمته له من نفقة ورضاع)( ).
القول الرابع: لا يرد العوض ويقع الخلع والزوج آثم عاص:
وهذا قول عند الحنفية, إلا أن العوض لا يرد على المرأة, ويقع الخلع, والزوج عاصٍ وآثم بهذا الفعل.
قال الكاساني: (نهى الأزواج عن أخذ شيء مما أعطوهن, واستثنى حال نشوزهن, وحكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه, فيقتضى حرمة أخذ شيء مما أعطوهن عند عدم النشوز منهن, وهذا في حكم الديانة, فإن أخذ جاز ذلك في الحكم ولزم)( ).
وقد استدل أصحاب هذا القول بأن المرأة دفعت العوض ورضيت به فلا يعاد لها ويقع الخلع؛ لأن الزوج رضي بذلك, والزوج والزوجة من أهل الإسقاط والمعاوضة فيجوز ذلك في الحكم والقضاء, ويأثم الزوج ديانة لأنه فعل مادلت النصوص على تحريمه.
قال الكاساني: (فإن أخذ ـ أي العوض ـ جاز ذلك الحكم ولزم حتى لا يملك استرداده؛ لأن الزوج أسقط ملكه عنها بعوض رضيت به, والزوج من أهل الإسقاط والمرأة من أهل المعاوضة والرضا فيجوز في الحكم والقضاء)( ).
القول الخامس: لا يرد العوض ويقع الخلع مع الكراهة:
وهذا قول عند الحنفية وهو أن الزوج لا يرد العوض ويقع الخلع مع الكراهة.
ففي مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: (وكره تحريما وقيل تنزيهاً له أي: للزوج أخذ شيء من المهر وإن قل لقوله تعالى: + ” أن نشز الزوج أي كرهها وباشر أنواع الأذى)( ) .
واستدل أصحاب هذا القول بأن النهي في قوله تعالى: + ” لمعنى في غيره وهو زيادة الإيحاش, فإن الرجل أوحشها بالاستبدال فلا يزيد في وحشتها بأخذ المال، والنهي لمعنى في غيره لا يعدم المشروعية كالبيع وقت النداء يوم الجمعة ويجوز مع الكراهة.
قال علي القاري: (ولنا أن النهي في الآية لمعنى في غيره وهو زيادة الإيحاش والنهي لمعنى في غيره لا يعدم المشروعية، كالبيع وقت النداء يوم الجمعة ويجوز مع الكراهة)( ) .
والقول الراجح هو قول الجمهور بأن العوض يرد على المرأة ويقع الخلع.
أما أن العوض يرد فهو مادلت عليه النصوص الصريحة مثل قوله سبحانه وتعالى: + ” ولأن المرأة أكرهت على بذل العوض بغير حق فلا يستحقه الزوج بذلك، والعضل ظلماً محرم على الزوج وكذلك العوض محرم عليه أيضا, ويقع الخلع لأن الزوج أوقعه باختياره, والمرأة دفعت لأجله العوض فيقع، ويرد عليها العوض المأخوذ ظلماً.
أما من قال: إن الخلع يقع ولا يرد العوض وهو آثم أو حكمه الكراهة, فنقول: إن ذلك القول مخالف لظاهر النصوص الشرعية من الكتاب والسنة.
قال القرطبي: (وحكى ابن المنذر عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله وخالعته فهو جائز ماض وهو آثم، لا يحل له ما صنع, ولا يجبر على رد ما أخذه. قال ابن المنذر: وهذا من قوله خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف الخبر الثابت عن النبي ×, وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم من ذلك)( ).
وقال ابن عبد البر: (قولهم: لا يجوز ويجوز في القضاء قول المحال والخطأ)( ).