بواسطة dorra ben mohammed
إن الأحكام المنظمة لإثبات البنوة في القانون التونسي لئن كان الهدف الأساسي منها هو إقامة الحقيقة البيولوجية من خلال اعتماد قرينة الفراش لإثبات النسب الشرعي ، والتحليل الجيني لإثبات بنوة الأطفال المهملين و مجهولي النسب ، إلا أن البحث عن هذه الحقيقة يبقى نسبيا ذلك أن المشرع أبقى للإرادة الشخصية دورا هاما لإثبات النسب و لإثبات البنوة الطبيعية من خلال وسيلتي الإقرار و شهادة الشهود ، بحيث لا تتأسس رابطة البنوة في هذه الصورة على الحقيقة البيولوجية بقدر ما تتأسس على حقيقة الإرادة الشخصية التي تحمل على النزاهة و الصدق . و لعل الإقرار يأتي هنا كأهم وسيلة تعتمد أساسا على الإرادة الشخصية التي تبرز بصفة جلية و مباشرة . و الإقرار لغة هو اعتراف بالحق و إذعان له ، أما في الاصطلاح القانوني فهو بأن يعترف الطرف المدعى عليه بالتصرف أو الواقعة، و ينعته الفقه بسيد الحجج و تعتبره المحاكم التونسية الأعلى منزلة في البناء الحصري لطرق الإثبات. و يعد الإقرار بالنسب أحد وسائل إثبات النسب الشرعي في م أ ش و يأتي في المرتبة الثانية بعد الفراش وورد بالفصول 68 و 70 و 73 و 74 م أ ش دون أن يفرده المشرع التونسي تحت عنوان خاص كما هو الشأن بالنسبة للمشرع المغربي. كما أورد المشرع التونسي الإقرار أيضا كوسيلة لإثبات بنوة الأطفال المهملين و مجهولي النسب بالفصل الأول من القانون عـ75ـدد لسنة 1998 . و الملاحظ أن المشرع التونسي قد جعل من الإقرار وسيلة لإثبات النسب الشرعي و لإثبات البنوة على حد السواء. وسواء تعلق الأمر بالإقرار بالنسب أو الإقرار بالبنوة الطبيعية في قانون 1998 فإن المشرع لم يعط تعريفا مضبوطا للإقرار لا في م أ ش و لا في القانون المتعلق بالأطفال المهملين و مجهولي النسب كما لم يضع شروطا يتقيد بها القاضي عند الحكم و لم يبين الآثار القانونية المترتبة عنه . فقد أهمل المشرع خصائص الإقرار و مميزاته الشيء الذي انجر عنه خلاف كبير بين المحاكم التونسية في فهم مقتضيات الإقرار و نتائجه القانونية بالنسبة لإثبات النسب بصفة عامة و لإثبات نسب ابن الزنا بصفة خاصة و لما يثيره اعتماد المشرع على الإقرار كوسيلة لإثبات البنوة في قانون 1998 من إشكاليات تتصل بمدى تطابقه مع الإقرار بالنسب في م أ ش و بالجدوى العملية من ذلك و لعل التساؤل عن النظام القانوني للإقرار في إثبات النسب يدعونا إلى بيان شروط الإقرار في فقرة أولى ثم تحديد آثاره في فقرة ثانية . الفقرة الأولى: شروط الإقرار بالنسب: إن إقرار الأب بأن الطفل ابنه سواء كان ذلك في م أ ش أو حسب القانون عـ75ـدد سنة 1998 لا يمضي و لا يرتب آثاره القانونية إلا إذا كان مستكملا لشروطه الموضوعية و الشكلية . أ – الشروط الموضوعية للإقرار : لقد أورد المشرع التونسي شروطا موضوعية لصحة الإقرار بالنسب بالفصلين 68 و 70 م أ ش . ورغم أن القانون عــ75ـدد لسنة 1998 لم يضع فيه المشرع شروطا لصحة الإقرار إلا أن ذلك لا يمنع من فرض شروطه العامة. و على هذا الأساس يمكن القول أن الإقرار بالنسب في م أ ش و الإقرار بالبنوة في قانون 1998 يخضعان لشروط عامة تنطبق على كليهما بقي أن الإقرار بالنسب يخضع لشرط خاص تفرضه طبيعة البنوة المراد إثباتها. و تتعلق الشروط العامة للإقرار بالمقر و بالمقر له و بشروط عدم ثبوت ما يخالف الإقرار . و سواء تعلق الأمر بالإقرار في م أ ش أو بالإقرار في قانون 1998 فإن الإقرار لا يمكن أن يصدر عن غير الأب وهو ما يستشف ضمنيا من أحكام الفصل الأول من هذا القانون و الفصل 68 م أ ش و تأسيسا على ذلك فإن إقرار الأم بأمومتها للطفل لا يترتب عنه ثبوت النسب تجاه الأب أو إسناد اللقب للطفل إلا إذا كان مقترنا بإقرار صريح من الأب . و من جهة أخرى فإن الإقرار بالبنوة بما هو تعبير عن الإرادة المنفردة للمقر يجب أن يصدر عنه شخصيا و لا يمكن أن يوكل غيره للقيام بذلك نظرا لتعلق الإقرار بشخص المقر نفسه كما يجب أن يصدر الإقرار عن الإرادة الحرة والواعية. و علاوة على ذلك يستوجب الإقرار جملة من الشروط المتعلقة بالمقر له إذ يشترط المشرع التونسي لصحة الإقرار أن يكون المقر له مجهول النسب عملا بأحكام الفصل 70 م أ ش كذلك الشأن بالنسبة للإقرار بالبنوة في القانون عـ75ـدد لسنة 1998 طالما و أن القانون المذكور يتعلق بالأطفال المهملين و مجهولي النسب . فالإقرار بالنسب لا يجب أن يتعلق بطفل معلوم النسب ، و في صورة وجود أكثر من إقرار بالنسب فان الحل المعتمد حسب هذا الاتجاه هو الأخذ بالإقرار الأول طالما ثبتت من خلاله علاقة النسب و لا عمل على الإقرار اللاحق إلا إذا تم نفي النسب الأول . و قد يطرح الإشكال أيضا في صورة وجود أكثر من إقرار ببنوة الطفل المجهول النسب في إطار دعوى إسناد لقب وهي الصورة التي تكون فيها والدته قد اتصلت جنسيا بأكثر من شخص و كل منهم يدعى أبوته لهذا الطفل. نعتقد أنه في هذه الحالة لا يمكن للمحكمة أن تحسم النزاع و تحدد الأب الحقيقي للطفل إلا بالالتجاء لتقنية التحليل الجيني ، على أن المسألة قد تتعقد أكثر إذا أقر شخص بالنسب و أسس دعواه على أحكام الفصل 68 م أ ش في حين أنه تم إسناد اللقب العائلي لشخص آخر على أساس القانون عـ75ـدد لسنة 98 ، فهل أن إسناد اللقب يجعل الطفل في هذه الحالة معلوم النسب؟ للإجابة عن هذا الإشكال يجب أولا توضيح مسألة أساسية و هي أن إثبات البنوة الطبيعية في قانون 28 أكتوبر 1998 تخول للطفل حقوقا تتقارب في مضمونها و الحقوق الثابتة للطفل الشرعي و خاصة فيما يتعلق بالحالة المدنية للطفل. فإذا قام شخص بدعوى في نسبة طفل إليه و يكون قد تم إسناد لقب عائلي لهذا الطفل، فانه يجوز معارضته بالحكم القاضي بإسناد اللقب طالما أن ثبوت النسب سيترتب عليه إدخال تحوير على الحالة المدنية للطفل الذي يمكن اعتباره معلوم البنوة و لا يمكن الإقرار له بالنسب إلا إذا تم نفي علاقة البنوة القائمة . على أنه و في جميع الأحوال لا يمكن التصريح بثبوت البنوة إذا ثبت ما يخالف الإقرار، فقد نص الفصل 70 م أ ش على أنه ” لا عمل على الإقرار إذا ثبت قطعيا ما يخالفه ” و تقتضي هذه القاعدة علاوة على وجوب أن يكون الطفل مجهول النسب، أن يكون أيضا من المقبول منطقيا أن يكون المقر له ابنا للمقر و هو ما يستوجب أن يكون فارق السن بينهما ملائما ، و تنطبق هذه القاعدة منطقيا على الإقرار بالبنوة الطبيعية. غير أن المشرع التونسي لم يحدد هذا الفارق في السن و يرى الأستاذ الساسي بن حليمة أنه يمكن اعتماد الفارق في السن المشترط بين المتبني و المتبنى في الفصل 10 من القانون عـ27ـدد لسنة 1958 المؤرخ في 04 مارس 1958 المتعلق بالولاية العمومية و الكفالة و التبني كمعيار و يشترط هذا الفصل ألا يقل الفارق في السن بينهما عن خمسة عشر عاما على الأقل. وعموما فإن هذه العلاقة لا تكون ممكنة إلا إذا لم توجد موانع مادية أو بيولوجية تخالف الإقرار ، كأن يثبت عدم إمكان التلاقي بين الأم و الأب المزعوم لبعد المسافة بينهما أو لوجود أحدهما في السجن مثلا أو أن يثبت أن المقر عاقر. و الجدير بالذكر أن إثبات عدم إمكان التلاقي بين الأم و الأب المزعوم أو أن هذا الأخير عاقر لا يحمل على المقر و إنما يحمل على من ينازع في صحة هذا الإقرار . ذلك أن الأصل في الأمور الصحة والمطابقة للقانون ما لم يثبت خلافه. و مهما يكن من أمر فإن الشروط التشريعية للإقرار لا تكاد تختلف بين الإقرار بالنسب الوارد بم أ ش و الإقرار بالبنوة في قانون 1998 و إنما يكمن الاختلاف الجو هري بينهما في الشروط التي وضعها فقه القضاء و التي لا يمكن أن تتعلق إلا بالإقرار بالنسب. فلقد أدرج المشرع التونسي الإقرار كوسيلة لإثبات النسب في م أ ش دون تحديد صريح لطبيعة بنوة الطفل المقر له بالنسب الشيء الذي انجر عنه خلاف كبير بين فقهاء القانون في تونس و بين المحاكم التونسية في فهم مقتضيات هذا الإقرار و ترتيب نتائجه القانونية بالنسبة لإثبات النسب بصفة عامة و لإثبات نسب ابن الزنا بصفة خاصة . فذهب الأستاذ الساسي بن حليمة في الإجابة عن الإشكال المطروح وهو هل يشترط لصحة الإقرار بالنسب اقترانه بقيام علاقة الزواج ؟ إن الفصل 68 م أ ش يقتضي أن النسب يثبت بالإقرار بمعزل عن لزوم إثبات العلاقة الزوجية و هذه النزعة تتجسم من خلال ما ذهب إليه المشرع من وضع صور ثلاث لإثبات النسب و يأتي الإقرار كإحدى هذه الصور و لذلك فإنه فلا مناص من اعتبار أن تلك الوسيلة هي مستقلة مبدئيا عن الفراش و كافية في حد ذاتها لإثبات النسب فيمكن أن يكون النسب في هذه الصورة غير ناتج عن زواج شرعي و في هذه الصورة فإن الطفل الطبيعي سيتقمص ملامح الابن الشرعي و يتستر ورائها بفضل إقرار والده له بالبنوة و يستخلص من ذلك أن الإقرار بالنسب في القانون التونسي يتطابق مع الاعتراف بالابن الطبيعي في القانون الفرنسي مما يجعل الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الأبناء الطبيعيين يدخلون منه أفواجا زمرة الأبناء الشرعيين . وقد تبنت بعض المحاكم التونسية هذا الاتجاه من ذلك الحكم الابتدائي الصادر عن المحكمة الابتدائية بقفصه جاء فيه أنه: ” إذا اتصل رجل متزوج بامرأة و ثبتت إدانتهما جزائيا من أجل ارتكاب جريمة الزنا وأن الاتصال الجنسي الواقع بينهما أنتج ابنا وقام الرجل بطلب إلحاق ذلك الطفل بنسبه و قررت المحكمة التحرير على الطرفين فاعترف المدعي أن الابن من صلبه و أكدت الأم ذلك طالبة بدورها إلحاق نسب والده فإن الإقرار المعتمد يعتبر أحد وسائل الإثبات الأساسية المعتمدة في مادة النسب إذا ما توفرت شروط اعتماده عملا بأحكام الفصل 68 م أ ش,و الإقرار المعتمد جاء صريحا وواضحا بما أنه تم أمام القاضي المقرر ويعتبر إقرار حكميا حسب الفصل 428 م إ ع ” و قد ذهبت محكمة التعقيب في بعض قراراتها إلى القول بهذا الاتجاه من ذلك القرار عـ2000ـدد المؤرخ في 05 ديسمبر 1963 و الذي جاء فيه: ” أن الزواج ليس ضروريا لإثبات النسب.” غير أن الاتجاه الغالب على فقه القضاء و جانب هام من شراح القانون في تونس هو الاتجاه القائل بأن الإقرار و لئن ورد على إطلاقه بالفصل 68 م أ ش إلا أنه لا يسمح بإثبات نسب ابن الزنا باعتبار أن ذلك ممنوع شرعا و اعتبر الأستاذ حسين الفطناسي أن المشرع التونسي قد أهمل التعرض لابن الزنا في باب النسب عن قصد نتيجة عدم اعترافه به بدليل أنه لا يسمح بإلحاقه بنسب أبيه و هذا يفهم من الفصل 70 م أ ش الذي نص على أن الولد لا يثبت نسبه إلا إذا ولد لتمام ستة أشهر فأكثر من حين عقد الزواج سواء كان زواجا صحيحا أو فاسدا فلو كان المشرع يقر بنسب ابن الزنا لما احتاج لتحديد أدنى مدة للحمل في هذا الفصل كما أن تنصيص الفصل 152 م أ ش على أن ابن الزنا يرث أمه و قرابتها و ترثه أمه وقرابتها دليل على أن المشرع لو كان في نيته إثبات نسبه لما حرمه من إرث والده، و ما دام قد حرمه من الإرث فمن باب أولى أن يحرمه من النسب، إذ الأول متفرع عن الثاني. وتأسيسا على ذلك فإن الإقرار بالنسب في م أ ش يجب أن يكون محله بنوة شرعية و التي لا تكون إلا في حدود قرينة الفراش سواء كان الفراش صحيحا أو باطلا و ضرورة أن يتعلق الإقرار بعلاقة شرعية هو ما يقتضيه مصطلح النسب ذاته لان النسب شرعا و تشريعا هو رابطة البنوة الناشئة عن علاقة شرعية, و بتعزز هذا الموقف بأحكام الفصل 439 م إ ع الذي نص على أنه لا عمل على الإقرار إذا كان مآله تعمير ذمة أو إثبات أمر مما هو مخالف للقانون و الأخلاق الحميدة أو التخلص من حكم من أحكام القانون. و قد تبلور هذا الاتجاه في فقه القضاء التونسي في معظم القرارات و الأحكام الصادرة في مادة النسب و التي ترفض بصورة عامة الحكم بثبوت النسب كلما انعدمت العلاقة الشرعية بين المقر ووالدة الطفل أو لأنه اتضح أن والده اعترف صراحة بأنه ولد له من زنا . بينما لا يبدو أن الفصل 68 م أ ش يوجب على المقر أن يوضح نوع العلاقة الرابطة بينه وبين والدة الطفل أو أنه يشترط إثبات الفراش حتى يصح الإقرار، إلا أن هذا الفصل و لئن لم يشترط صراحة أن يكون الإقرار مبنيا على وجود رابطة شرعية بين المقر ووالدة الطفل سواء كان زواجا شرعيا أو فاسدا فإنه لا يخرج عن كونه إقرار بعلاقة شرعية بين المقر و المقر له إذ يعتبر هذا الإقرار حسبما استقر عليه قضاء محكمة التعقيب التونسية في العديد من قراراتها غير جائز لأنه يهدف إلى إثبات أمر مخالف للنظام العام و الأخلاق الحميدة على معنى الفصل 439 م إ ع واعتبر الأستاذ الساسي بن حليمة أن محكمة التعقيب غير محقة في اعتبار أن العلاقة بين ذكر و أنثى بلغا سن الرشد مخالفة للنظام العام و الأخلاق الحميدة حال أنه لا يوجد أي نص قانوني يعاقب عليها إلا أن هذا الرأي لا يبدو سليما من ناحيتين على الأقل فمن جهة أولى ليست جميع هاته العلاقات غير مجرمة ذلك أن القانون التونسي يعاقب على جريمة الزنا و جرائم المواقعة دون رضا المجني عليها أو إذا كان سنها دون العشرين سنة كاملة ، ومن جهة أخرى فإن عدم و جود أي نص قانوني يعاقب على هذه الجريمة لا يعني أنها غير مخالفة للنظام العام والأخلاق الحميدة ضرورة أن مفهوم الأخلاق أوسع نطاقا من مفهوم القانون فضلا على أن العلاقات الجنسية الحرة الواقعة خارج إطار الزواج لا جدال أنها مخالفة لأحكام الشريعة الاسلامية و التي تعتبر المصدر المادي لم أ ش . و لعل الاتجاه المتشدد في فقه القضاء التونسي و المضيق في نطاق الإقرار بجعله غير كاف في حد ذاته لإثبات النسب ما دام المقر لم يكن على علاقة زواج شرعي مع والدة المقر له فضلا عن وجوب عدم تضمن الإقرار ما يخالف النظام العام و الأخلاق الحميدة و هو الذي دفع بالمشرع إلى إقحام الإقرار كوسيلة لإثبات البنوة في القانون عـ75ـدد لسنة 1998 .و نظرا للإطار العام لهذا القانون و الذي جاء منظما لوضعية الأطفال المهملين و مجهولي النسب و مكرسا لبعض الحقوق لهم تجاه الأب البيولوجي فانه يمكن القول أن الإقرار في هذا القانون إنما هو إقرار ببنوة طفل طبيعي مما يجعله كافيا لوحده لثبوت البنوة بين المقر و الطفل المقر له دون حاجة لإثبات الفراش الذي أقصاه المشرع تماما من وسائل الإثبات المعتمدة و دون حاجة أيضا لاستبعاد العلاقة الخنائية. و على خلاف ما ذهب إليه الأستاذ حافظ بوعصيدة من عدم وجود فرق بين الإقرار بالنسب و الإقرار بالبنوة في القانون عـ75ـدد سنة 1998 فإننا نرى أن الفرق واضح و جوهري بينهما، فالإقرار في م أ ش يتعلق بإثبات نسب الطفل الشرعي في حين إن الإقرار بالبنوة في قانون 1998 إنما يتعلق بالطفل المهمل أو مجهول النسب أي بعبارة أخرى بالطفل الغير الشرعي و بالتالي فإن العلاقة الشرعية مفقودة من أساسها. لكن هل يمكن مجابهة الإقرار في إطار دعوى إسناد اللقب بأحكام الفصل 439 م إ ع الذي اقتضى أنه:”لا يعتمد الإقرار في الصور الآتية… إذا كان مآله تعمير ذمة أو إثبات أمر مما هو مخالف للقوانين أو الأخلاق الحميدة أو إثبات أمر لا يبيح القانون القيام به.” ؟ طبعا لا يجوز الاعتداد بأحكام هذا الفصل لأن القول بخلاف ذلك يفرغ قانون 1998 من محتواه و يجعله عديم الجدوى ذلك أم مقصد المشرع هو إيجاد حلول لوضعية طفل هو بالضرورة نتيجة علاقة غير شرعية بالتالي فإن تحميل الأب البيولوجي بالتزاماته القانونية تجاه ابنه ثمرة علاقة خنائية أمر يقتضيه القانون ذاته فضلا على أن الإقرار في هذه الصورة سوف لن يتعلق أساسا بإثبات العلاقة الخنائية و إنما بإثبات علاقة البنوة الطبيعية التي أصبح المشرع يعترف بها و يرتب عليها الآثار القانونية فالفصل 439 م إ ع لن يشكل عائقا أمام إثبات البنوة في قانون 28 أكتوبر 1998 طالما أن هذا القانون يبيح و يخول إثبات البنوة الطبيعية، ثم إن قانون 1998 هو نص خاص يسبق في التطبيق ما ورد بالفصل 439 م إ ع. ب– شكل الإقرار : على خلاف المشرع الفرنسي الذي يشترط أن يأخذ الإقرار بالبنوة شكل الحجة الرسمية فإن المشرع التونسي بالفصل 68 م أ ش و بالفصل الأول من قانون 28 أكتوبر 1998 لم يبين شكل الإقرار و هو ما يؤكد أن إرادة المشرع تتجه إلى اعتماد الإقرار كما ورد بالفصل 428 م إ ع الذي جاء فيه أن الإقرار قد يكون حكمي أو غير حكمي وهو الحل الذي قبلته محكمة التعقيب التونسية بخصوص الإقرار بالنسب و محكمة الاستئناف بالمنستير في خصوص الإقرار بالبنوة . و قد عرف المشرع التونسي الإقرار الحكمي بأنه الاعتراف لدى الحاكم من خصم أو من وكيله المأذون بخصوص ذلك و يطلق حكم الإقرار الحكمي حتى على ما يصدر لدى الحاكم الذي لا نظر له في الدعوى أو في أثناء مرافعة أخرى. فبالنسبة للإقرار المثبت للنسب الشرعي فإن تصريحات المتهم الواقع تلقيها أثناء الدعوة الجزائية قد تبرز العلاقة الخنائية بين والدة الطفل والأب المزعوم و بالتالي فإن المحكمة المدنية المتعهدة بدعوى إثبات النسب سترفض في معظم الأحوال اعتماد هذا الإقرار لتعارضه مع ما استقر عليه فقه القضاء التونسي من أن الإقرار المثبت للعلاقة الخنائية لا يصلح سببا لإثبات نسب الطفل ثمرة هذه العلاقة . أما بالنسبة للإقرار بالبنوة الطبيعية في إطار التتبع الجزائي و إدانة الأب المزعوم من أجل إحدى جرائم المواقعة فيمكن اعتماده من طرف المحكمة المدنية المتعهدة بغض النظر عن طبيعة العلاقة بين الأم و الأب المزعوم. ذلك أنه على خلاف دعوى إثبات النسب فإن بنوة الطفل في دعوى إسناد اللقب هي بنوة غير شرعية بالأساس و عليه فإن هذا الإقرار يمكن اعتماده لإثبات العلاقة البيولوجية دون العلاقة القانونية . و الجدير بالذكر أن محكمة الاستئناف بالمنستير و سبقتها في ذلك المحكمة الابتدائية بصفاقس اعتبرت أن الامتناع الغير المبرر للأب المزعوم للخضوع إلى التحليل الجيني الذي طلبت إجراءه المستأنفة، بمثابة السكوت و اعتبرته بناءا على ذلك إقرارا حكميا. إلا أن هذا الحل و لئن كان من شأنه إدخال النجاعة المطلوبة على أحكام هذا القانون حتى لا يبقى حبرا على ورق كما عبرت عن ذلك محكمة الاستئناف بالمنستير إلا أنه غير مستساغ من الناحية القانونية إذ أن رفض الإذعان للحكم التحضيري القاضي بإجراء التحليل الجيني لا يمكن اعتباره سكوتا ، ذلك أن الأب المزعوم لم يصر على سكوته بل أنه أجاب على الدعوى بنفيه أن يكون أبا للطفل و لكن من الممكن اعتبار ذلك الرفض قرينة على البنوة. و عموما اتخذ فقه القضاء التونسي مفهوما واسعا للإقرار بالنسب سواء كان حكميا أو غير حكمي ، و الإقرار الغير حكمي عرفه المشرع التونسي كما يلي :” الإقرار الغير الحكمي هو الذي لم يصدر لدى الحاكم وقد يحصل من كل فعل مناف لما يدعيه الخصم .” وقد قبل فقه القضاء التونسي الإقرار الغير الحكمي لإثبات النسب و اعتبرت محكمة التعقيب أن الإقرار الغير الحكمي يمكن استنتاجه من كل تصرف أو فعل يمكن نسبته للمقر. و الإقرار الغير الحكمي سواء تعلق بإثبات النسب أو بإثبات البنوة الطبيعية يمكن أن يكون صريحا أو ضمنيا وهو ما أكدته محكمة التعقيب في أحد قراراتها الذي جاء فيه أن :” الفصل 68 م أ ش اقتضى أن النسب يثبت بإقرار الأب و المقصود من ذلك الإقرار الحكمي أو غير الحكمي و أضافت أن الإقرار الغير حكمي قد يكون صريحا أو ضمنيا.بحيث يمكن للمحكمة أن تستخلص وجود الإقرار من كتب بخط اليد أو من حجة رسمية تنتسب بصفة قاطعة لأب المزعوم كأن يكون عقد هبة أو عقد وصية ذكر فيه صفة الموصى له أو الموهوب له كما اعتبر فقه القضاء التونسي أن تصريح الأب لدى ضابط الحالة المدنية يمكن أن يستنتج منه إقرارا غير حكمي بالنسب.” و تجدر الإشارة إلى أن بعض المحاكم قد تبنت مفهوما واسعا للإقرار الغير حكمي المثبت للنسب بأن اعتبرت أن تصرفات الأب وسلوكه تجاه الأم و مولودها يمكن أن يؤخذ منه إقرار ضمنيا بالنسب ،كدفع معاليم الولادة و تحمل مصاريف الدراسة والإنفاق على الطفل و غيره ، غير أن محكمة التعقيب ذهبت إلى القول بخلاف ذلك في أحد قراراتها الذي جاء فيه :” أن الفصل 69 م أ ش حصر الحجج التي يسوغ إلى القاضي الاستناد إليها لإثبات النسب و تفريعا على ذلك يكون قابلا للنقض الحكم الذي إنبنى على مجرد قرائن.” فهذه الوقائع لا تعد حسب محكمة التعقيب إقرارا غير حكمي بالنسب. و مهما يكن من أمر فإن الإقرار متى وقع صحيحا و مستوفيا لشروطه فإنه يرتب آثاره القانونية. الفقرة الثانية : آثار الإقرار و خصائصه : يترتب عن الإقرار بالنسب في م أ ش ثبوت رابطة النسب الشرعي بين الأب المقر و الابن المقر له بالنسب وهو ما يؤدي إلى اعتبار الولد المعترف به شرعيا من جميع النواحي و يترتب عن ذلك التزامات و حقوق متبادلة بين الابن و أبيه . أما بالنسبة لإقرار بالبنوة في قانون 1998 فإنه يترتب عنه إسناد اللقب العائلي للطفل و تخويله بالحقوق الممنوحة له بموجب هذا القانون على أنه سواء تعلق الأمر بالإقرار في م أ ش أو بالإقرار في قانون 1998 فإن للإقرار مفعول رجعي كما لا يمكن الرجوع فيه. أ– المفعول الرجعي للإقرار : إن الابن الذي يثبت نسبه من شخص بالإقرار يعتبر ابنا حقيقيا للمقر فتجب له جميع حقوق الطفل الشرعي كذلك الشأن بالنسبة للإقرار بالبنوة في قانون 1998 فيعتبر الابن المقر له ابنا حقيقيا للمقر و تثبت له جميع الحقوق المقررة بهذا القانون و في كلا الحالتين لا يعد الإقرار إنشاء لعلاقة الطفل بالمقر و إنما تصريح لهذه العلاقة بحيث تعتبر رابطة البنوة قائمة بينهما من تاريخ الحمل بالطفل لا من تاريخ الإقرار بالبنوة أي أنه للإقرار مفعول رجعي . و لا يخفى ما للمفعول الرجعي من فوائد عملية بالنسبة للمقر له فيما يتعلق ببداية تمتعه بحقوقه تجاه المقر خاصة بالنسبة للطفل الشرعي الذي يعتبر مستحقا للميراث من تاريخ الحمل. و قد كرس المشرع التونسي المفعول الرجعي للإقرار في قانون 1998 بصفة صريحة بصفة تجعله ينطبق على جميع الحالات السابقة له في الزمان حسبما يؤخذ من صريح الفصل السادس منه و الذي جعل من الإقرار باللقب يرتب آثاره بداية من تاريخ الحمل بالطفل و الغرض من ذلك محاولة المشرع تسوية وضعية الأطفال الطبيعيين و تعويضهم عن انعدام وجود تنظيم تشريعي لوضعيتهم قبل هذا القانون . غير أن الفصل السادس من هذا القانون أورد استثناء هاما للمفعول الرجعي ذلك أنه استبعد من نطاق مفعوله الرجعي الجانب المادي من حقوق الطفل الناشئة عن ثبوت بنوته تجاه الأب بحيث أن الإقرار بالبنوة لا يترتب عنه مطالبة الأب بمبالغ النفقة السابقة عن القيام بدعوى إسناد اللقب و ذلك تفاديا لما يمكن أن ينجر عن ذلك من بقاء للمدين بالنفقة مهددا بدفع مبالغ هامة قد لا يتمكن من الوفاء بها وهو ما يشكل حافزا للأب على الإقرار بالبنوة دون خشية المطالبة بالنفقة بصفة رجعية مما يدعونا للتساؤل عن مدى جدوى المفعول الرجعي لهذا الإقرار. و عموما فإن الحقوق المخولة للطفل بموجب الإقرار قد لا تكتسي أهمية تذكر إذا كان الإقرار قابلا للرجوع فيه. ب- عدم إمكانية الرجوع في الإقرار : لم يتناول المشرع التونسي مسألة الرجوع في الإقرار بم أ ش إلا من جهة الميراث فقد جاء بالفصل 74 م أ ش أنه :” إذا استلحق الرجل ولدا ثم أنكره فإن مات المستلحق قبل الولد ورثه الولد بالإقرار الأول وإن مات الولد قبل الأب لم يرثه الأب ووقف المال فإن مات هذا المستلحق صار هذا المال لورثته .” فرغم أن رابطة النسب ترتب آثارا قانونية تتجاوز مجرد الحق في الميراث لتشمل الحقوق المتعلقة بالحالة المدنية و النفقة و الحضانة و غير ذلك فإن المشرع قد اقتصر على التعرض إلى مسألة الميراث فحسب، معطيا في ذلك افتراضين لحالة استحقاق الولد ثم إنكاره فيما بعد من طرف المستلحق . فالافتراض الأول يتعلق بوفاة المستلحق قبل الابن ففي هذه الحالة فإن الابن يرثه بالإقرار الأول أما الافتراض الثاني فيتعلق بصورة وفاة الولد قبل المستلحق فلا يرثه الأب في هذه الحالة ووقف المال فإن مات المستلحق صار المال لورثته . فمن خلال أحكام هذا الفصل يمكن القول أن المشرع التونسي و لئن أجاز للأب الرجوع في إقراره بالنسب إلا أنه حمله تبعة ذلك فيتحمل وحده الآثار المترتبة عن نكوله دون الابن الذي تبقى حقوقه محفوظة و بالتالي فإنه لا يبدو أن للأب أية مصلحة عملية من الرجوع في الإقرار إلا إذا أمكن اعتبارها مصلحة معنوية إذا كان مقتنعا بعدم أبوته للطفل . فالرجوع في الإقرار إذن غير معتبر في القانون التونسي إذ لو كان معتبرا لما ورث الولد عند موت الأب الراجع في استلحاقه له فلا تأثير للرجوع في الإقرار على الحقوق التي اكتسبها المقر له بالنسب بموجب الإقرار و كأن المشرع يفترض هنا أن الإقرار يتطابق مع الحقيقة التي لا يمكن أن تكون محل تغيير أو تبديل من طرف الإرادة المنفردة للمقر . و قد أقر المشرع التونسي هذه الآثار المترتبة عن الرجوع في الإقرار بالفصل 74 م أ ش كجزاء للمقر على نكوله بحيث يتحمل وحده تبعة ذلك وهو ما يعكس رغبة المشرع في ضمان وضعية مستقرة للطفل المقر له بالنسب حتى لا يكون عرضة لأهواء و نزوات المستلحق وقد أكدت محكمة التعقيب التونسية في مناسبات عديدة أن ” الإقرار بالنسب غير قابل للرجوع فيه سواء كان حكمي أو غير حكمي .” أما بالنسبة للإقرار بالبنوة في قانون 1998 و لئن أهمل المشرع التونسي التعرض إلى إمكانية الرجوع في هذا الإقرار من عدمه لا صراحة و لا ضمنيا فإن الأرجح أن البنوة الثابتة بالإقرار لا يجوز الرجوع فيها بموجب الإرادة المنفردة للمقر. ويتأسس هذا الرأي على اعتبارين فمن جهة يعتبر الإقرار صحيحا قانونا وهو إقرار نهائي لا رجوع فيه تطبيقا لمقتضيات الفصل 458 م إ ع و من جهة أخرى فإن إرادة المشرع في هذا القانون كانت متجهة نحو إثبات البنوة و تمكين الطفل من الحقوق المترتبة عن ذلك أكثر من استبعادها مما يتجه القول أنه لا يمكن إعدام آثار هذه البنوة الثابتة بموجب الإقرار بمجرد قيام المقر بالرجوع في إقراره . و لئن كان الإقرار بالبنوة غير قابل للرجوع فيه إلا أنه بإمكان كل ذي مصلحة أن يقوم بدعوى في إبطاله إذا ثبت قطعا ما يخالف تطبيقا لأحكام الفصل 70 م أ ش كأن يتضح أن الولد المقر له معروف النسب أو أن شروط الإقرار كما سلف بيانها لم تتوفر . فقرينة الصحة و المطابقة للواقع و القانون التي ربطها المشرع بالإقرار بالبنوة ليست قرينة مطلقة و إنما هي قرينة بسيطة يجوز معارضتها بإثبات ما يخالفها أو إقامة الحجة على أن الإقرار لم يستكمل شروطه و أركانه القانونية طالما أن الإقرار بالبنوة لا يعدو أن يكون إلا تصرفا قانونيا منشئا للالتزامات و على هذا الأساس يجوز للأب القيام بإبطال الإقرار إذا أثبت أن إقراره ببنوة الطفل كان نتيجة طرق احتيالية قامت بها الأم بما أقنعه بأبوته للطفل أو كان نتيجة غلط أو إكراه . و عموما فإن الإقرار بالنسب و الإقرار بالبنوة في قانون 1998 لا يكادان يختلفان اختلافات كبيرة من حيث خصائصهما و شروطهما القانونية العامة وإنما يمكن الاختلاف الجوهري بينهما في طبيعة العلاقة التي كانت رابطة بين الأب ووالدة الطفل و قد يستدعي الأمر تدخل المحكمة المتعهدة بدعوى ثبوت النسب و ذلك من طبيعة علاقة المقر بوالدة الطفل المقر له بالنسب و ذلك لتحديد القانون المنطبق بحسب ما إذا كان الفصل 68 م أ ش أو الفصل الأول من قانون 28 أكتوبر 1998 إذا تعلق الأمر بإقرار بالعلاقة الخنائية أو تبين من أوراق الملف أن الطفل من سفاح فللمحكمة أن تحور الدعوى لتصبح في إسناد لقب عائلي و ليس في ثبوت نسب وهو حل قانوني سليم ينسجم مع وضعية الأطفال الغير شرعيين وهو الحل الذي سعت إليه بعض المحاكم رغم ما في ذلك من خروج عن نصوص م أ ش من جهة و عن أحكام الشريعة الإسلامية من جهة أخرى . فقانون 1998 وفر الإطار القانوني الذي يخول إثبات بنوة الأطفال الغير شرعيين و عمل على التوسع في الوسائل المثبتة لهذه البنوة بأن أبقى للإرادة الشخصية و أهمها الإقرار دورا هاما في إثباتها.