التكييف في القانون الدولي | Adaptation in international law

اعادة نشر بواسطة محاماة نت

المبحث الأول:مفهوم التكييف و أساسه التاريخي.
سنتناول في هذا المبحث تبيان التكييف في فروع القانون عامة و في القانون الدولي الخاص خاصة في مطلب أول، و نتعرض في المطلب الثاني إلى بعض القضايا التي طرحت على القضاء الفرنسي و التي أثارت مشكلة التكييف،و تعتبر كذلك الأساس أو الأصل التاريخي لظهور مختلف نظريات التكييف التي وضعها الفقه حيث سنستعين بها في المبحث الثاني لشرح هاته النظريات.
المطلب الأول: مفهوم التكييف.
نعرض في هذا المطلب للمقصود بالتكييف في فرع أول،و التمييز بين التكييف الأولي و الثانوي في الفرع الثاني.
الفرع الأول: المقصود بالتكييف.
إن تحديد الوصف القانوني الملائم للعلاقة القانونية مسألة مقررة قبل أن يطبق القاضي القانون المختص على الوقائع محل النزاع سواء في القانون الداخلي أو الدولي،مثلا فقاضي التحقيق يحدد ما إذا كان سلب مال الغير هو من قبيل السرقة أو النصب أو خيانة الأمانة،كذلك القاضي المدني يفصل أولاً فيما إذا كان اتفاق الأطراف موضوعه وعد البيع أو بيعاً متوقف على شرط،وهكذا يجب تحديد الطبيعة القانونية[1] لمحل النزاع قبل تطبيق القانون عليه،و يمارس القاضي هذه المهمة بتكييف الوقائع ضمن تفسير أحكام القانون،و بالتالي فالتكييف عملية أولية معروفة في القانون الداخلي و القانون الدولي،غير أن الهدف من التكييف في القانون الدولي هو شيء آخر،في القانون الداخلي يؤدي التكييف إلى تحديد النص القانوني الموضوعي الواجب التطبيق بينما في القانون الدولي الخاص،يؤدي إلى وضع المسألة محل النزاع ضمن طائفة من طوائف النظم القانونية المقررة في قانون القاضي تمهيداً لإسنادها إلى القانون المختص. و عند تحليل أي قاعدة من قواعد الإسناد نجد أنها تتكون من شقين الشق الأول خاص بالمسألة التي يمكن أن يثور بشأنها النزاع،و التي هي محل التنازع بين القوانين،و الشق الثاني يتعلق بتحديد القانون الواجب التطبيق عليها،فالقاعدة التي تقضي بأن الحالة و الأهلية أو مسألة الأحوال الشخصية عموماً تخضع لقانون الجنسية،توجب تحديد أولاً المسائل التي تدخل ضمن طائفة الأحوال الشخصية (الفكرة المسندة) و هي موضوع النزاع،و تتضمن ثانياً ضابط الإسناد أو أساس تحديد القانون الواجب التطبيق،و هو قانون الجنسية عندنا،و نفس الشيء بالنسبة للالتزامات غير التعاقدية أو التصرفات القانونية و شكلها،يجب على القاضي في العلاقات المشتملة على عنصر أجنبي أن يحدد طبيعة هذه المسألة بشأنها،و ذلك كي يتسنى له أن يسندها إلى أية قاعدة من قواعد التنازع،فإذا انتهى إلى أن النزاع يخص الأهلية أو كان منصباً على الأشكال المكملة لها،طبق ضابط الإسناد القاضي بخضوع الأهلية إلى قانون الجنسية عندنا،أما إذا كان النزاع منصباً حول الشكل الخارجي للتصرف فيسنده إلى القاعدة التي تحكم الشكل الخارجي و إذا رأى أن الشكل يتعلق بالإجراءات فيدخله ضمن أشكال المرافعات التي يسري عليها قانون القاضي،و نفس الشيء بالنسبة للوصية يجب تحديد ما إذا كان النزاع منصباً حول موضوعها أو يتعلق بشكلها،و معنى هذا البحث أنه لا يكفي بصفة مجردة أن يتحدد موضوع النزاع تحديداً عاماً بل يجب البحث عن الهدف منه. و قد اختلف الفقهاء فيما ينصب عليه التكييف في اتجاهين أولهما يغلب الجانب القانوني فيه فرأى البعض منهم أن التكييف يتعلق بالنظم القانونية و رأى فريق أنه يتعلق بالوقائع القانونية الموضوعية،و حسب هذه الآراء يمكن تعريف التكييف بأنه تحديد لطبيعة النظام القانوني أو تحديد لطبيعة العلاقة القانونية أو تحديد طبيعة القاعدة الموضوعية. أما الاتجاه الثاني فذهب إلى القول بأن التكييف يتعلق بالوقائع و بالتالي يعرفه بأنه هو إعطاء الواقعة الطابع القانوني الذي يدخلها في طائفة معينة من طوائف النظم القانونية التي خصها المشرع بقاعدة إسناد.

و يوجد بين الاتجاهين السابقين رأي توفيقي لا يتقيد بعنصر القانون وحده،أو بعنصر الواقع على انفراد و إنما يعتمد عليهما معاً،و هو يرى أن التكييف ينصب على موضوع النزاع،و عرفه بأنه تحديد طبيعة المسألة التي تتنازعها القوانين و إعطائها الوصف القانوني الملائم لوضعها في نطاق طائفة من النظم القانونية التي خصها المشرع بقاعدة إسناد معينة تمهيداً لإسنادها إلى قانون معين. و من التعريف السابق يتبين أن اصطلاح المسألة موضوع النزاع اصطلاح عام يشمل عناصر القانون و عناصر الواقع و أن الغرض من التكييف هو إدخال المسألة في طائفة من طوائف النظم القانونية المقررة في قانون القاضي،كما يتبن أن اصطلاح المسألة موضوع النزاع يعني تخصيص قاعدة إسناد مختلفة لكل طائفة من هذه المسائل عند وضع قواعد الإسناد.
و قد عرف التكييف منذ القديم،في القانون الكنسي،و في القانونين الفرنسيين القديم و الحديث،غير أن اسمه اقترن بأبحاث الفقيهين ،الألماني فرانتس كاهن (F.Kahn) سنة 1891 و الفرنسي فرانتس بارتان (f.Bartin) سنة 1897 اللذين شيدا منه نظرية واضحة المعالم و متكاملة البنيان.[2]
و الجدير بالذكر أن التكييف يأتي كمرحلة أولية ضرورية قبل الإسناد و أن اختلاف القوانين في تحديد الوصف القانوني للمسألة محل النزاع حتى توضع ضمن طائفة من طوائف الإسناد التي خصها المشرع بقاعدة قانونية هو الذي جعل منه قضية معقدة لأن كل نظام قانوني له تكييفاته الذاتية حسب المفاهيم و الأنظمة السائدة فيه،أي في قواعده الموضوعية،مما يؤدي إلى تنازع في النظم في التكييفات مثلا هل إجراء الزواج في الشكل المدني هو مسألة تخص الإثبات أم صحته،إن إعطاء أوصاف قانونية مختلفة لمسألة واحدة ينجر عنه وضع تلك المسألة ضمن طوائف إسناد مختلفة و النتيجة وجود تنازع في التكييف و اختلاف في تعيين ضابط الإسناد،و لو تسنى تجاوز هذه العقبة بتوحيد الأوصاف القانونية عالمياً لما دعت الحاجة لبحثه و لتوحدت طوائف النظم و ضاق مجال التنازع في أضيق الحدود.
الفرع الثاني:التمييز بين التكييف الأولي و الثانوي.
للتكييف نوعان تكييف أولي و تكييف ثانوي:
أولاً: التكييف الأولي.
التكييف الأولي يعني عملية فنية أولية سابقة على الإسناد و تفيد تحديد طبيعة العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي لغرض إعطائها الوصف القانوني لأحد الأفكار المسندة تمهيداً لإسنادها للقانون الواجب التطبيق فهو يعني توصيف العلاقات القانونية للكشف عن طبيعتها و من ثم اختيار قاعدة الإسناد الملائمة لها،و بهذا المعنى يعد التكييف البداية لإعمال قواعد الإسناد فإن تم التكيف بالشكل الصحيح فينسحب ذلك على الإسناد و أي خطأ في التكييف ينصرف إلى الإسناد و هذا يعني أن التوصيف الخاطئ للعلاقة يترتب عليه اختيار خاطئ للفكرة المسندة و من ثم قاعدة الإسناد و بعده يصبح تطبيق القاعدة مشوب بخطأ يخضع لرقابة المحاكم العليا لأن إعمال القواعد مسألة قانونية.
و تظهر الحاجة للتكييف سواء في ظل اختلاف قواعد الإسناد أم تشابهها ذلك لأن تشابه القواعد لا يعني وحدة توصيف العلاقة فالتكييف عملية سابقة على الإسناد فتشابه قواعد الإسناد في القانونين الفرنسي و الهولندي لم ينفي الحاجة للتكييف فرغم أن كل من القانونين متفقين على قاعدتين هما خضوع الشكل لقانون محل الإبرام،و خضوع الأهلية لقانون الجنسية إلا أن ذلك لم يقد القانونين إلى الاتفاق على وحدة الوصف القانوني للعلاقات (التكييف) و ذلك بمناسبة وصية حررها أحد الهولنديين قبل وفاته في فرنسا بالشكل العرفي لا بالشكل الرسمي كما سنرى ،و هذا يعطي انطباع على أن وحدة قواعد الإسناد لا تقضي على مسألة الاختلاف في التكييف.
ثانياً:التكييف الثانوي.
أما التكييف الثانوي فهو عملية فنية لاحقة على عملية الإسناد يجريها قاضي النزاع بموجب القانون المختص بحكم النزاع الغرض منها البحث عن القواعد الموضوعية في القانون الذي سيحكم النزاع و الملائمة للعلاقة مثال ذلك الطعن بأهلية فرنسي مقيم بالعراق أمام قاضي النزاع العراقي يقوم الأخير بتكييف الطعن بحسب القانون العراقي أما تحديد ما يعد من عوارض الأهلية كالعته و السفه تكون بموجب القانون الأخير أي أن القاضي العراقي سيضع الطعن في خانة قاعدة الإسناد الخاصة بالأهلية و بعدها يراجع القانون الفرنسي المشار إليه من قبل القاعدة لاختيار القاعدة الموضوعية المناسبة للتفاصيل الجزئية للعلاقة موضوع الطعن.[3]
لكن ما ينبغي ذكره كما سبق القول هو أن المشكل في القانون الدولي الخاص ليس هو مشكل التكييف في حد ذاته، و إنما هو مشكل التنازع في التكييف،ذلك أن المسألة القانونية المطروحة على القاضي لها علاقة بقوانين عدة دول،فينبغي قبل إجراء التكييف تحديد القانون الذي يجري وفقه هذا التكييف،و لو أن قوانين كل الدول تعطي للمسألة القانونية نفس التكييف ما كانت هناك صعوبة تذكر،لكن يحدث و أن قوانين الدول تعطي بالنسبة لكثير من المسائل تكييفات مختلفة،و من ثم تظهر الصعوبة التي تواجه القاضي الذي يقوم بعملية التكييف،و الأمثلة التالية و المأخوذة من القضاء الفرنسي توضح لنا ذلك.[4]
المطلب الثاني: الأساس التاريخي لمشكلة التكييف.
نعرض في هذا المطلب إلى بعض القضايا التقليدية المعروفة في القانون الدولي الخاص التي فصل فيها القضاء الفرنسي لاستجلاء الصعوبات التي تواجه القاضي في التكييف و موقفه من حلها،حيث سنستعين بها في شرح آراء الفقه لاحقاً.
الفرع الأول: قضية وصية الهولندي.
و تتلخص وقائعها في أن هولندياً مقيماً بفرنسا كان قد حرر فيها وصية بخط يده طبقاً لأحكام المادة 999 مدني فرنسي،التي تجيز للفرنسي و لو كان بالخارج أن يبرم وصية عرفية موقعاً عليها بخطه،و بمفهوم المخالفة يجيز القضاء و الفقه الفرنسيان للأجانب الموجودين بفرنسا إجراء وصاياهم في ذات الشكل أيضاً،و لما توفى الموصي طعن الورثة في صحة الوصية بالبطلان تأسيساً على المادة 992 من القانون المدني النيرلندي التي تمنع الهولنديين و لو كانوا في الخارج من إجراء وصاياهم في الشكل العرفي،و تعتبر إجراء الوصية في الشكل الرسمي مسألة مكملة للأهلية تتعلق بحماية الموصي، و لما عرض النزاع أمام محكمة “أورليان” وجدت نفسها أمام مشكلة متعلقة بالتكييف تدور حول تحديد طبيعة موضوع النزاع [5]هل هو خاص بالشكل الخارجي فتخضعه لقاعدة التنازع الخاصة بشكل التصرفات القانونية و هي إسناده لقانون محل إبرامه(القانون الفرنسي)،و من ثم تقضي بصحة الوصية،أو هو متعلق بالشكل المكمل للأهلية الذي يلحق بحكم الأهلية و حينئذٍ يسري عليه قانون جنسية الموصى (القانون الهولندي) طبقاً لقاعدة التنازع في القانون الفرنسي،مما يؤدي إلى الحكم ببطلان الوصية طبقاً للمادة 992 مدني هولندي،إذن الإشكال المطروح يتعلق بتحديد القانون الذي يخضع له التكييف،إذا طبقت المحكمة القانون الفرنسي باعتباره قانون القاضي فهو يعتبر المسألة متعلقة بالشكل الخارجي،و أن كتابة الوصية عملاً بالمادة 999 مدني فرنسي القصد منه هو مجرد تيسير إثباتها فقط،أما إذا أخذت بتكييف القانون الهولندي فسوف تنتهي إلى أن موضوع النزاع (الشكل المطلوب لتحرير الوصية) يتعلق بالشكل المكمل للأهلية،لأن حظر إجراء الوصايا في الشكل العرفي يقصد منه في القانون الهولندي حماية المواطنين حتى لا ينقادوا بسهولة تحت تأثير بعض الظروف العارضة للتبرع بأموالهم من غير تبصر،و لكن المحكمة انتهت في الأخير إلى ترجيح وجهة النظر الأولى و كيفت النزاع على ضوء أحكام القانون الفرنسي فقضت بصحة الوصية،و لو فرضنا أن النزاع عرض على قاضي بلد آخر يتفق قانونه مع أسس القانون الهولندي لقضى بغير ما انتهى إليه القاضي الفرنسي.
الفرع الثاني: قضية ميراث المالطي.
و قد فصلت فيها محكمة استئناف الجزائر بتاريخ 24 ديسمبر 1889 و تتلخص وقائعها في أن زواجاً تم بمالطا بين مالطيين الزوجين “بارتولو” (Bartholo) [6] طبقاً للقانون المالطي ثم هاجر الزوجان إلى الجزائر و أقاما فيها و تملك الزوج عقارات فيها،و بعد وفاته في الجزائر طالبت زوجته بحقها فيما تركه زوجها الذي خوله لها القانون المالطي،هذا الحق يعرف باسم نصيب الزوج الفقير أو البائس (La quatre du conjoint pauvre) و هو نظام معروف في القانون المالطي دون القانون الفرنسي الذي كان في ذلك الوقت لا يعطي للزوجة إلا الحق في قسمة الأموال المشتركة و حقها في استرداد أموالها الخاصة،فتردد القاضي المعروض عليه النزاع بين تطبيق القانون المالطي و القانون الفرنسي،إن المسألة تتعلق بتحديد الوصف القانوني الملائم للحق المطالب به،هل هذا الحق هو جزء من الميراث فيطبق عليه القانون الفرنسي طبقاً لقواعد الإسناد فيه (قانون موقع العقار) و من ثم لا تحصل الزوجة على الحق المطالب به،أو هو حق لها بسبب بقائها على قيد الحياة بعد وفاة الزوج و يعد منفعة[7] زوجية فضلاً عن الميراث،و مع ذلك يدخل هذا النصيب في النظام المالي للزوجين الذي يخضع للقانون المالطي باعتباره القانون الخاص بنظام أموال الزوجين،و قد كيفت المحكمة المسألة التي يثيرها ادعاء الزوجية بأنه يدخل في فكرة الميراث و ذلك حسب أحكام القانون الفرنسي،قانون القاضي الذي ينظر الدعوى،و لما كان القانون الواجب التطبيق على الميراث في العقارات هو قانون الموقع،أي القانون الفرنسي،فقد قضت المحكمة في النهاية برفض ادعاء الزوجة،باعتبار أن القانون الفرنسي لا يعترف بمثل هذا الحق (نصيب الزوج المحتاج) وقت صدور الحكم. [8]
الفرع الثالث: قضية أجدن .
و تتلخص وقائعها أن فرنسياً قاصراً ذهب إلى انجلترا و تزوج هناك من امرأة انجليزية دون حصوله على إذن من والديه عملاً بالمادة 148 مدني فرنسي،و عندما عاد إلى فرنسا طالب أمام القضاء الفرنسي بإبطال الزواج للسبب المذكور،فأبطله القضاء الفرنسي ثم تزوج ثانية،كما تزوجت زوجته السابقة الانجليزية من زوج انجليزي،و عندما علم هذا الأخير سبق زواجها طالب أمام المحاكم الانجليزية ببطلان الزواج الثاني منها لتعدد الأزواج فقضت محكمة الاستئناف الإنجليزية سنة 1908 ببطلانه و اعتبار زواج الانجليزية من الفرنسي صحيحاً،إذن ما هو السر في تضارب هاذين الحكمين؟إن السبب راجع إلى التكييف و اختلاف مفهومه في القانون الفرنسي عنه في القانون الانجليزي ففي القانون الفرنسي يعتبر رضا الأولياء من الأشكال المكملة للأهلية، و بالتالي يخضع لقانون الجنسية و هو القانون الفرنسي،بينما يعتبر في القانون الانجليزي من الأشكال الخارجية و يخضع لقاعدة لوكيس[9] و هو القانون الانجليزي ،و بالتالي عندما عرضت القضية أمام المحاكم الفرنسية كيفت النزاع بأنه يتعلق بالأهلية و طبقت عليه القانون الفرنسي،و لكن لو كيفته طبقاً للقانون الانجليزي و اعتبرت رضا الأولياء من الأشكال الخارجية و طبقت عليه قاعدة لوكيس لاعتبرت الزواج صحيحاً و العكس بالنسبة لموقف القضاء الانجليزي.
الفرع الرابع:قضية زواج اليوناني.
و تتمثل وقائعها في أن يونانياً اسمه كراسلانيس(Caraslanis) تزوج في فرنسا من فرنسية طبقاً للشكل المدني المعمول به في فرنسا،فطعن أولياؤه ببطلان هذا الزواج لأنه لم يتم حسب الشكل الديني الذي يتطلبه القانون اليوناني،قانون جنسية الزوج،و الذي يعتبر إشهار الزواج في الشكل الديني مسألة موضوعية و تدخل في نظام الأحوال الشخصية،و لكن محكمة النقض الفرنسية قضت باختصاص القانون الفرنسي في تحديد طبيعة المسألة المتنازع عليها، و اعتبرت إشهار الزواج في الشكل الديني مسألة شكلية لا موضوعية و تسري عليه قاعدة لوكيس و بالتالي قضت بصحة الزواج،[10]و قالت المحكمة حيث أن مسألة تحديد ما إذا كان إشهار الزواج يدخل في قواعد الشكل أو في القواعد الموضوعية يفصل فيها القضاة الفرنسيون طبقاً لمفاهيم القانون الفرنسي الذي يعتبر الطبيعة الدينية أو المدنية للزواج مسألة شكل،و بالتالي الزواج المدني الذي أبرمه الزوجان يعتبر صحيحاً وفقاً لقاعدة لوكيس.[11]
الظاهر من الأمثلة السابقة و غيرها اختلاف موقف القضاء بصدد التكييف الذي هو مسألة مهمة يتوقف عليها تحديد القانون الواجب التطبيق،و أن القضاء كيّف الوقائع دائماً طبقاً للقانون الوطني،فهل هذا الموقف سديد أو أن له مساوئه؟ هذا ما نتعرف عليه فيما سيأتي:[12]
المبحث الثاني:موقف الفقه و التشريع من التكييف.
نعرض في هذا المبحث إلى مختلف الآراء الفقهية المنظرة لمشكلة التكييف على ضوء القضايا التي سبق التعرض لها في المبحث الأول،ثم ننتقل إلى تبيان موقف مختلف التشريعات من التكييف لاسيما موقف المشرعين المصري و الجزائري على اعتبار أن قواعد الإسناد الجزائرية مستمدة من نظيرتها المصرية.[13]
المطلب الأول: موقف الفقه من التكييف.
اختلف الفقهاء في تعيين القانون الذي يخضع له التكييف،فرأى البعض أن التكييف يخضع للقانون الأجنبي المختص بحكم النزاع،و ذهب الرأي الراجح إلى إسناده لقانون القاضي،و اقترح البعض الآخر الجمع بين القانونيين،و رأى فريق رابع إخضاع التكييف للمبادئ العامة في القانون المقارن،و نشير بإيجاز إلى هذه الآراء فيما يلي:
الفرع الأول:إخضاع التكييف لقانون القاضي.
يعتبر التكييف أو تحديد الوصف القانوني للمسألة محل النزاع عملية أولية لازمة لمعرفة و اختيار قاعدة الإسناد، و بالتبعية لتحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع،و من الطبيعي أن يجري القاضي التكييفات اللازمة حسب المبادئ و الأحكام السائدة في قانونه،و هذا أمر بديهي،فعملية التكييف ذات طبيعة واحدة سواء تعلق الأمر بمنازعات وطنية بحتة أم بمنازعات منطوية على عنصر دولي أو أجنبي.
و أول من ناد[14] بهذه النظرية هو الفقيه الألماني “فرانتس كان” (Frantz Kahn)، و لكن يرجع الفضل في بلورتها و استخلاص عناصرها و إيضاح معالمها إلى الفقيه الفرنسي “بارتان” (Bartin)[15]
و يستند خضوع التكييف لقانون القاضي إلى عدة أسانيد،ساق بعضها الأستاذ “بارتان” و أضاف الفقه الحديث البعض الآخر.
السند الأول،عملي:و يقوم على الواقع القضائي،فقد كشف الأستاذ “بارتان” أن المحاكم الفرنسية قد درجت على إخضاع التكييف للقانون الفرنسي،باعتباره قانون القاضي،وحده دون غيره،و من بين القضايا التي استشهد بها هذا الفقيه، قضية ميراث المالطي،حيث كيفت المحكمة المسألة التي يثيرها ادعاء الزوجية بأنه يدخل في فكرة الميراث و ذلك حسب أحكام القانون الفرنسي،قانون القاضي الذي ينظر الدعوى،و لما كان القانون الواجب التطبيق على الميراث في العقارات هو قانون الموقع،أي القانون الفرنسي،فقد قضت المحكمة في النهاية برفض ادعاء الزوجة،باعتبار أن القانون الفرنسي لا يعترف بمثل هذا الحق (نصيب الزوج المحتاج) وقت صدور الحكم. [16]
السند الثاني،سياسي:و يقوم على فكرة سياسية أكثر منها قانونية،و هي فكرة السيادة،حيث يرى الأستاذ “بارتان”،أن تنازع القوانين ما هو في الحقيقة إلا تنازعاً بين سيادات الدول المختلفة التي على صلة بالعلاقة محل النزاع،فالأمر يتعلق هنا بتحديد نطاق سلطان و مجال انطباق تشريعات تلك الدول،أي تحديد مدى السيادة التشريعية لها،و لما كانت وظيفة قاعدة الإسناد لا تعدو أن تكون فضا للتنازع بين السيادات،و كان التكييف يعتبر مسألة أولية و لازمة لإعمال قاعدة الإسناد فهو يتصل أيضاً بفكرة السيادة،و لما كان التكييف يحدد نطاق تطبيق قاعدة الإسناد فيكون من غير المتصور أن يتنازل المشرع أو القاضي الوطني عن هذه المسألة المتعلقة بنطاق سيادة دولته التشريعية لقانون آخر غير قانونه.
السند الثالث،قانوني:و لم يرق السند السياسي في نظر غالب الشراح،فإخضاع التكييف لقانون القاضي يقوم على وظيفة التكييف كعملية فنية في علاقته بقاعدة الإسناد فهذه الأخيرة،لا تهدف إلى فض التنازع بين سيادات أو رسم النطاق المكاني لتطبيق القوانين في الدول المختلفة،و إنما وظيفتها اختيار أنسب القوانين لحكم العلاقة ذات الطابع الدولي.[17]و هذا لا يمكن إدراكه أو تحقيقه إلا بعد إجراء التكييف اللازم للمسألة المعروضة،فالتكييف ما هو إلا تفسير لقاعدة الإسناد ذاتها.
فالقاضي الذي يكيف شرط شهر الزواج في حفل ديني يحضره كاهن يقوم بطقوس معينة،لا يقصد في الواقع سوى تفسير قاعدة الإسناد التي تقرر اختصاص قانون محل إبرام الزواج بحكم مسائل الشكل،أو التي تقرر اختصاص القانون الشخصي بحكم المسائل الموضوعية في الزواج،و ذلك ليتوصل إلى معرفة ما إذا كان هذا الشرط يتعلق بالشكل أم بالموضوع،و هو إذ يفسرها لا يفسرها إلا حسب أحكام قانونه الذي تشكل قاعة الإسناد جزءاً منه.
و يقترب من هذه الحجة ما يراه الأستاذ موري من أن التكييف هو تفسير لقواعد الإسناد لا غير و على القاضي أن يفسر قواعد التنازع في قانونه طبقاً لهذا القانون أيضاً،مثلا ينبغي أن يتحدد شكل التصرف الخاضع لبلد الإبرام عملاً بقاعدة لوكيس حسبما هو مقرر في قانون القاضي،و قد أيد الفقيه باتيفول هذا الرأي معتبراً التكييف هو تفسير لقاعدة الإسناد و أخذ به غالبية الفقهاء في القانون المقارن.[18]
السند الرابع،منطقي: و مقتضاه أن “البيئة أو الجو القانوني” الذي يعمل فيه القاضي الذي يواجه حل مشكلة تنازع القوانين يقودانه إلى تطبيق قانونه على عملية التكييف،فقاعدة الإسناد ذاتها،كما مضت الإشارة،قاعدة وطنية داخلية، و تشكل جزءاً من قانون القاضي،و كل ما يلزم لإعمالها يلتمس بجانب ذلك القانون،كما أن القاضي نفسه،و إن كان يفصل في منازعة خاصة دولية،ليس قاضياً دولياً بل قاضي وطني يتأثر في تكوينه و عمله بمفاهيم و أحكام قانونه الوطني،كل هذا يؤدي بالضرورة إلى إجراء التكييف وفقاً للمبادئ و الأحكام السائدة في قانونه.
و لا يعكر صفو هذا “الجو الوطني” تدخل قانون أجنبي حيث أن التكييف هو عملية أولية سابقة على إعمال قاعدة[19] الإسناد و الكشف عن إمكانية تطبيق قانون أجنبي،فقبل تمام التكييف أو تحديد الوصف القانوني للمسألة المثارة لا يكون هناك قانون آخر ينازع قانون القاضي اختصاصه و لا يمكن التكهن بهذا القانون حيث أن القاضي لم يعرفه بعد.
و هناك حجة أخرى للفقيه أرمنجون الذي يرى أن التكييف يجب توحيده وطنياً،و يجب ألا يتغير بتغيير القانون المختص،فليس من المعقول أن يعتبر القاضي الوطني العلاقة مرة داخلة في الميراث و مرة أخرى مشارطات الزواج تبعاً لاختلاف القوانين في التكييف (راجع قضية المالطي)،إن العدالة تقضي أن يكون القانون الخاص بالتكييف قانوناً واحداً و هذا يتأتى بإعمال قانون القاضي وحده.[20]
و الحقيقة هي أن التكييف يجب أن يخضع لقانون القاضي لاعتبار هام،و هو أنه في حالة تنازع عدة قوانين ليس من ضمنها قانون القاضي،فيجب أن يحتكم إلى هذا القانون ما دام النزاع رفع أمام محاكمه إذا فرضنا أن نزاع زواج اليوناني طرح أمام القاضي الجزائري نجد أن المسألة تنازعها ثلاثة قوانين،قانون مكان إبرام الزواج و القانون الوطني للزوجين و قانون القاضي،هذا القانون الأخير ليس له صلة بالاختصاص الموضوعي،و مع ذلك يجب الفصل بين القانونين الأولين بين ما يعود من النزاع إلى الموضوع و ما هو خاص بالشكل،طبقاً لأحكام قانون القاضي باعتباره قانوناً محايداً،و إلا كان إعمال أحد القانونين و تفضيله على الآخر من قبيل المصادرة على المطلوب.
الاستثناءات الواردة على فكرة خضوع التكييف لقانون القاضي.
التكييف الأولي و التكييف الثانوي: يفرق “بارتن” بين التكييف الأولي و السابق و التكييف اللاحق أو الثانوي:
الأول: غرضه الاهتداء إلى قاعدة الإسناد التي تندرج تحتها المسألة القانونية المطروحة لمعرفة القانون المختص بحكمها، و الثاني: هو الذي يتطلبه القانون الذي عينته قاعدة الإسناد بعد الاهتداء إليها،فالتكييف الأولي هو الذي يخضع لقانون القاضي،أما الثاني فيخضع للقانون الذي أشارت بتطبيقه قاعدة الإسناد.
و عليه لو عرضت على القاضي علاقة اتفاقية معينة فإنه يقوم بتكييفها وفقاً لقانونه،فإذا اهتدى إلى أنها تدخل ضمن فئة الالتزامات التعاقدية أخضعها لقانون الإرادة،و هذا هو التكييف الأولي،و به قد عرف القانون المختص بحكمها،و ينتهي هنا دور قانون القاضي ليأتي دور القانون المختص ليكيف لنا هذه العلاقة التعاقدية فيما إذا كانت عقد بيع أو عقد هبة،و إذا كانت عقد بيع،هل هو بيع تجاري أم بيع مدني و هكذا…
و قد كان بارتن يعتبر في البداية التكييف الثانوي استثناء من التكييف وفقاً لقانون القاضي،غير أنه عدل عن ذلك في أبحاثه اللاحقة و اعتبره نتيجة منطقية للأساس الذي بنى عليه نظريته و هي فكرة السيادة،ذلك أنه لما كان يتوقف على التكييف الأولي معرفة القانون الأجنبي المختص،و الذي تطبيقه يعد انتقاصاً للسيادة التشريعية للدولة،فإنه لا يمكن أن يتم إلا وفقاً لقانون القاضي لأن هذا الأخير هو وحده الذي يملك بيان قدر هذا الانتقاص من السيادة و حدوده،و أما التكييف اللاحق فلما كان لا علاقة له بالاختصاص التشريعي و لا أثر له عليه،فخضوعه للقانون الأجنبي لا مساس فيه بالسيادة التشريعية للدولة.
و قد أقر الفقه الحديث رأي بارتن الذي يميز بين التكييف السابق و التكييف اللاحق،لكن على أساس مختلف،فالتكييف الأولي عند هذا الفقه ما هو إلا تفسير لقاعدة الإسناد في قانون القاضي،و لهذا فمن المنطقي ألا يخضع إلا لهذا القانون،أما التكييف اللاحق فهو تفسير للقانون الأجنبي فمن المنطقي ألا يتم إلا وفقاً لهذا القانون.
و يقول الأستاذان لورسان و بورال أن التكييفات الثانوية ليست تكييفات دولية،و إنما هي تكييفات داخلية،و عليه لا يمكن اعتبارها استثناءاً حقيقياً من قاعدة خضوع التكييف لقانون القاضي.
2-مدى خضوع المال للتكييف وفقاً لقانون القاضي: يرى بارتن أن تكييف المال هل هو عقار أم منقول لا يخضع لقانون القاضي و إنما لقانون موقعه،و قد عد ذلك استثناءاً من التكييف وفقاً لقانون القاضي،و يبرر ذلك بما يحتاج إليه اكتساب الحقوق العينية من طمأنينة،و ما تتطلبه المعاملات من استقرار.
و الواقع أنه إذا كانت قاعدة الإسناد في قانون القاضي تخضع المال سواء كان عقاراً أو منقولاً إلى قانون موقعه فإن هذا الاستثناء الذي أورده بارتن لا مبرر له لأنه لا تأثير له على القانون المختص[21] الذي تعينه قاعدة الإسناد في قانون القاضي فيبقى دائماً هو نفسه بدون تغيير،و عليه فإن التكييف الذي يتم وفقاً لقانون موقع المال لا يعدو أن يكون في هذا الفرض من التكييفات اللاحقة التي سبق الحديث عنها.
و لكن إذا كان القانون المختص بحكم المال يختلف بحسب وصف هذا الأخير هل هو عقار أم منقول،كما هو الحال مثلاً في القانون الفرنسي الذي يخضع الميراث في المنقول لقانون موطن المتوفي،و الميراث في العقار لقانون موقعه،فإن هذا الاستثناء له حينئذٍ تأثير على القانون الذي يحكم المال محل النزاع إذ يختلف باختلاف القانون الذي يتم وفقه التكييف، و لذلك يعد هذا الاستثناء استثناءاً حقيقياً.
و قد انتقد جانب كبير من الفقه هذا الاستثناء على أساس أن سلامة المعاملات لا تتطلب بالضرورة الخروج على مبدأ خضوع التكييف لقانون القاضي،كما أن هذا الاستثناء من شأنه إعطاء لقاعدة الإسناد في قانون القاضي تفسيراً غير الذي أراده المشرع واضعها،ذلك أنه إذا كان المشرع قد أخضع العقار مثلا لقانون موقعه فإن التكييف الذي يتم وفقاً لقانون موقعه قد يجعل القاضي يطبق قانون الموقع على ما لا يعد عقاراً وفقاً لقانونه،و أخيراً فإن الأخذ بهذا الاستثناء سيكون صعباً لما يكون المال كائناً في إقليم أكثر من دولة و يختلف تحديد طبيعته من قانون إلى آخر مما يؤدي إلى تعدد قواعد الإسناد و تضاربها بشأن نفس النزاع[22].
و لكن النصوص القانونية الخاصة بالتكييف في القانون المقارن،لا تورد هذا الاستثناء صراحة،و كذلك لا يتضح هذا الاستثناء في قاعدة الإسناد المتعلقة بالقانون الواجب التطبيق على المال،و يعارضه كثير من الفقهاء،و مع ذلك فقد أخذ بهذا الاستثناء قانون الإمارات العربية المتحدة صراحة،فنصت الفقرة الثانية من المادة18 من القانون رقم5 لسنة 1985 على أن قانون الدولة التي يوجد بها المال هو الذي يحدد ما إذا كان هذا المال عقاراً أو منقول.[23]
3- تكييف الفعل الضار : هل هو مشروع أو غير مشروع و إذا كان غير مشروع فهل هو جريمة مدنية أو جزائية يخضع لقانون المكان الذي وقع الفعل في إقليمه،لأن اختصاص هذا القانون من النظام العام و تقتضيه العدالة.
4-إذا تعلق محل النزاع بنظام قانوني غير معروف في قانون القاضي كنظام الوقف الإسلامي و نظام التراست في القانون الانجليزي ،و هما نظامان غير معروفين في القوانين اللاتينية،وجب أن يخضع التكييف للقانون الأجنبي الذي يعرف هذا النظام و إلا شوهت الطبيعة القانونية لمحل النزاع.
5-التكييف و قاعدة الإسناد الواردة في معاهدة: التكييف وفقاً لقانون القاضي ينبغي أن يتجنب لما تكون قاعدة الإسناد واردة في معاهدة دولية لأنه يؤدي إلى الاختلاف في تحديد نطاقها (أي نطاق قاعدة الإسناد) نتيجة الاختلاف في التكييف من دولة متعاهدة إلى أخرى،و في ذلك تعطيل لأحكام المعاهدة و تحلل من أحكامها،و إدراكا لهذه الخطورة فإن أغلبية المعاهدات المبرمة في الوقت الحاضر تحرص على إعطائها بنفسها التكييفات الأساسية اللازمة.[24]
غير أن جانباً من الفقه لا يؤيد بارتان في الاستثناءات الأربعة الأولى،و يرى أن تطبيق قانون القاضي شامل لكل المسائل و إلا ترتبت نتائج عملية سيئة أحياناً،مثلاً في القانون الفرنسي يكيف المحل التجاري و مكاتب التوثيق على أنها منقولات بينما الأسهم التي يصدرها بنك فرنسا تعد من العقارات و يجوز رهنها رهناً تأمينياً،كذلك الإيرادات المرتبة تعد منقولات في القانون الفرنسي الحديث في حين كانت في القانون الفرنسي القديم و لا تزال في بعض القوانين الأجنبية من العقارات،كما أن البعض الآخر من الفقهاء يأخذ على رأي بارتان أن التوسع في تفسير القاعدة العامة يؤدي إلى قبول الاستثناءات الأخرى أو رفض الاستثناءات التي أقرها، و هذا على خلاف النظرية الثانية التي نعرضها فيما يلي:
الفرع الثاني:إخضاع التكييف إلى القانون الذي يحكم النزاع.
في الوقت الذي ظهرت فيه النظرية السابقة،وجدت نظرية عكسية صاغها و شيدها الفقيه الفرنسي “فرانتس ديسبانييه” (Frantz Despagnet)،يرد بها على أفكار الفقيه “بارتان” صاحب نظرية إخضاع التكييف لقانون القاضي.[25]و أيده باكسيوني(Paccioni) في إيطاليا و ولف (Wolf)في ألمانيا.[26]
لفيرى الفقيه “ديسبانييه” أن التكييف لا يجب أن يتم وفقاً لأحكام و مبادئ قانون القاضي،و لكن وفقاً لأحكام و مفاهيم القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع الذي أشارت إليه قاعدة الإسناد،فإذا كان القانون الواجب التطبيق على الشروط الموضوعية لإبرام الزواج هو قانون جنسية كل من الزوجين فيجب الرجوع إلى ذلك القانون لتحديد الوصف القانوني لشرط إشهار الزواج في حفل ديني دون الالتجاء إلى قانون القاضي.
و تستند هذه النظرية إلى ما يلي:
الحجة الأولى:أنه من غير المفهوم أن تشير قاعدة الإسناد إلى اختصاص قانون معين،ثم لا يطبق القاضي ذلك القانون،فالإسناد هنا إسناد كلي يستتبع تطبيق[27]القانون المسند إليه على التكييف و كل ما يتصل بالعلاقة محل النزاع.
الحجة الثانية:أن إجراء التكييف وفقاً لقانون القاضي قد يؤدي إلى تطبيق القانون الأجنبي في غير الحالات التي رسمها مشرعه ليطبق فيها،أو قد يقود على العكس،إلى عدم تطبيقه في الحالات التي يجب أن يطبق فيها،فترك التكييف للقانون الواجب التطبيق فيه ضمان لصحة تطبيق القانون الأجنبي.
إذا أشارت قاعدة التنازع في قانون القاضي إلى تطبيق قانون معين على علاقة قانونية وجب تطبيق هذا القانون على الحدود التي ينظم بها تلك العلاقة و بالمعنى الذي يقصده منها لأن لكل قانون تكييفاته الخاصة به،و في حالة عدم الأخذ بوجهة نظره فسوف تشوه العلاقة موضوع النزاع و تخلع عليها طبيعة تخالف ما هو مقرر لها و تكون النتيجة هي إما تطبيق القانون الأجنبي على علاقة هو غير مختص بحكمها أصلاً و إما أن يعطل عن التطبيق حيث كان يجب أن يطبق،[28]ففي ميراث المالطي لو أجرى القاضي الفرنسي تكييف النصيب المطالب به على أساس أنه داخل في النظام المالي للزوجين لطبق القانون المالطي،أما أنه اعتبر المسألة جزء من الميراث طبقاً للقانون الفرنسي فترتب على ذلك تعطيل تطبيق القانون المالطي،و كذلك الشأن بالنسبة لوصية الهولندي لو كيف القاضي منع إجراء الوصية في الشكل العرفي بأنه يتعلق بالأهلية و حماية الموصي لطبق القانون الهولندي و لقضى ببطلانها،أما أنه اكتفى باعتبار كتابة الوصية شرطاً لإثباتها و لا تمس الموضوع و هذا طبقاً للقانون الفرنسي لذلك أجازها على أساس أن شكل التصرفات يخضع لقانون بلد إبرامه.
الحجة الثالثة:أن إخضاع التكييف للقانون المختص بحكم النزاع يتلافى النتائج غير العادلة التي يقود إليها إجراء التكييف حسب قانون القاضي،خصوصاً إذا كانت المسألة القانونية المعروضة يعترف بها و ينظمها القانون الأجنبي المختص في حين أن قانون القاضي يجهلها،ففي قضية ميراث المالطي،لو كيف القاضي الفرنسي (نصيب الزوج المحتاج) حسب أحكام القانون المالطي،لتوصل إلى تقريره للزوجة.
و رغم وجاهة أسانيد تلك النظرية،إلا أنها واهية الأساس:
حيث أن هذا الرأي انتقد لما ينطوي عليه من فساد و مصادرته على المطلوب، حيث أنه كيف يجرى التكييف حسب أحكام القانون المختص بحكم النزاع،في حين أن هذا القانون لم يعرف بعد،باعتبار أن التكييف عملية أولية لعمل قاعدة الإسناد و للكشف عن ذلك القانون،[29]فهو افترض مسبقاً اختصاص قانون معين لحكم النزاع مع أن اختصاصه قبل إجراء التكييف احتمالي فقط،ما دام تعيين القانون المختص يتوقف على نتيجة التكييف،و ما دام التكييف لم يحصل بعد لذلك يبقى تعيين القانون المختص غير مؤكد بعد،و من ثم فإن هذا الرأي فيه مصادرة على المطلوب و كذلك أن إعمال هذا الرأي يؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة ليس لها بداية،مثلا في وصية الهولندي فإن النزاع منصب حول مسألة مختلفة في طبيعتها،ما هي الحكمة من منع إجراء الوصية في الشكل العرفي،هل المسألة خاصة بالأهلية أو بالشكل؟ أي قانون يكيف هذا المنع هل هو قانون الأهلية أي قانون الجنسية أم قانون الشكل أي القانون المحلي،إذا فضلنا أحد القانونين أمكن التساؤل لماذا لم نأخذ بالقانون الآخر؟
و هنالك انتقاد آخر مستمد من طبيعة قواعد التنازع،فهذه القواعد هي قواعد وطنية بحتة و لا يتصور تنازل المشرع الوطني لفائدة القانون الأجنبي لتحديد مجال تطبيقها،فحينما ينص المشرع الوطني على أن الميراث يخضع لقانون جنسية المورث أو أن الشكل يحكمه قانون محل الإبرام،فهو يقصد بالميراث أو الشكل مفهومهما طبقاً للقانون الوطني و حسب التصور الذي يعطيه لهما،لا كما يحدده قانون جنسية المورث في الحالة الأولى أو قانون محل الإبرام في الحالة الثانية.
كما قدم الفقه انتقاداً آخر مؤداه أن إخضاع التكييف إلى القانون الأجنبي المختص فيه مضيعة للوقت إذا كان قانون القاضي يأخذ بالإحالة كأن يكيف القانون الأجنبي المختص المسألة بأنها من الأهلية و يسندها من جديد إلى قانون القاضي باعتباره قانون الموطن أو قانون الجنسية،و بالتالي لماذا هذا اللف و الدوران،و إذا كان قانون القاضي لا يأخذ بالإحالة فكيف يمكن التخلص من مأزق الإحالة.[30]
و يرى أيضاً بعض الفقهاء أن هذا الرأي له عيوبه و مساوئه حين تتوزع نقاط تركيز العلاقة القانونية بين عدة قوانين،مثلاً أن تركيز العقد خاضع لنقاط ارتكاز مادية متنوعة قد تكون موزعة بين عدة أقاليم الأمر الذي يتطلب تحديد نقاط التركيز الرئيسية،و في هذه الحالة ليس هناك أي قانون مختص مسبقاً مما يسمح بتدخل قانون القاضي لإعطاء التوجيهات عن طريق التكييف،و من ناحية أخرى،نرى أن هذه النظرية تعجز عن[31]تقديم الحل المناسب في الفرض الذي يوجد فيه نظام قانوني أو مسألة قانونية معينة لا يعرفها القانون المختص بحكم النزاع،في حين يعترف به و ينظمه قانون القاضي فإجراء التكييف وفقاً للقانون المختص سيقود حتماً إلى طريق مسدود لا مخرج منه إلا بالرجوع إلى قانون القاضي.
و قد حذت هذه الانتقادات البعض من الفقه إلى اختيار حل آخر.
الفرع الثالث:إجراء التكييف وفقاً للقانون المقارن.
ظلت النظريتان السابقتان تتنازعان الفقه إلى أن جاء الفقيه الألماني “أرنست رابل”(Rabel) و وضع نظريته في التكييف:
و تقضي هذه النظرية،بأن على القاضي عند إعماله لقاعدة الإسناد و عند تحديد التكييف القانوني للمسألة المثارة أن يتجه عالمياً،و أن يجري هذا الوصف وفقاً لمفاهيم عالمية،دون التقيد في ذلك بمفاهيم قانون معين بذاته كقانون القاضي أو القانون المختص بحكم النزاع،فقواعد الإسناد تهم العلاقات الدولية و تحديد الأوصاف القانونية التي تضمنها يجب توحيدها باعتماد الأفكار العالمية المجردة السائدة في القانون المقارن،فينبغي أن يكون الوصف القانوني الذي تتضمنه الفكرة المسندة هو الفكرة المجردة لذلك النظام القانوني المعمول به عالمياً بمقارنة قوانين الدول المختلفة و ليس هو النظام المقرر في هذا القانون أو ذلك،[32]و سبيل القاضي إلى ذلك هو الالتجاء إلى القانون المقارن،أي على القاضي أن يقوم بالدراسة و المقارنة بين قوانين الدول المختلفة و استخلاص أفكار و مفاهيم ذاتية خاصة مشتركة بين تلك القوانين يجري التكييف وفقاً لها.
و هناك عدة حجج تدعم أساس هذه النظرية:
الحجة الأولى:أن التكييف في قانون العلاقات الخاصة الدولية أو القانون الدولي الخاص ليس هو التكييف في[33]القانون الداخلي،و بالتالي يجب أن يتم التكييف حسب أفكار و مبادئ تتفق مع خصوصية هذا الفرع من فروع القانون الذي يتسم بالدولية،و يكون من غير الملائم أن تطبق الأحكام الداخلية الخاصة بالتكييف على رابطة من طبيعة مختلفة.
الحجة الثانية:أن قاعدة الإسناد وضعت لتواجه علاقات ذات طبيعة معينة و هي العلاقات الدولية.
و لما كان التكييف هو تفسير لقاعدة الإسناد فيكون من غير المستساغ أن يلجأ القاضي إلى مفاهيم وطنية لتحقيق غاية دولية و سد حاجة عالمية،و المفاهيم العالمية لا تتأتى إلا من خلال القانون المقارن.
الحجة الثالثة:أن إجراء التكييف وفقاً للقانون المقارن يؤدي إلى تلافي عيوب النظريتين السابقتين لاسيما في الفرض الذي يواجه فيه القاضي نظاماً أو مسألة قانونية يجهلها قانونه،أو القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع.
و هذه الحجج غير قاطعة و لا يمكن التسليم بها، فمن ناحية نجد أن هذه النظرية تصطدم بصعوبة عملية،خصوصاً مع عدم تقدم الدراسة المقارنة للقانون بفروعه المختلفة،و يكون من غير الملائم أن نثقل كاهل القاضي بمهمة شاقة يتولى خلالها دراسة كافة قوانين العالم،فهذا ضرب من المستحيل.
و من ناحية أخرى،يكون القاضي المختص مهيأ نفسياً [34]لإجراء التكييف وفقاً لقانونه و لا يمكن بحال أن نطلب من القاضي أن يتخلى نفسياً عن الميل إلى قانونه لصالح القوانين المختلفة المزعوم إجراء المقارنة بينها.
و إن كان هذا الرأي يهدف إلى تحقيق مثل عليا و إيجاد طريقة مشتركة للتكييف توحيداً للمفاهيم القانونية الأساسية التي تعد أسساً للعلاقات الدولية الخاصة،و من شأنه القضاء على مشكل تنازع التكييفات بتوحيد المفاهيم القانونية للفئات المسندة[35]،إلا أنه رأي بعيد المنال و التحقيق من الناحية العملية لما يتطلبه من تجرد و تضحية بالاعتبارات الوطنية،و هو الشيء الذي لا تتنازل عنه مختلف الأنظمة الوطنية في الوقت الراهن حيث أصبحت دراسة مسائل القانون الدولي الخاص هي دراسة وطنية أكثر منها دراسة عالمية.
الفرع الرابع:موقف الفقه الحديث.
و يتلخص في إعطاء دور للقانون الأجنبي في عملية التكييف وفقا لقانون القاضي و التوسع في مضمون الفئات المسندة.
حيث يأخذ الاتجاه الفقهي الحديث بقاعدة التكييف وفقا لقانون القاضي لكن دون إهمال للدور الذي يمكن أن يلعبه القانون الأجنبي في عملية التكييف،كما أنه قام بتوسيع مضمون الفئات المسندة لتكون متلائمة مع طبيعة المسائل القانونية ذات الطابع الدولي.
و هذا التطوير في نظرية “بارتن” يرجع إلى رغبة الفقه الحديث في تجنب الانتقادات الموجهة لها،منها على الخصوص:
-وقوفها حجرة عثرة أمام كل جهد لتوحيد القانون الدولي الخاص ذلك أنه حتى على فرض أن كل الدول قد تبنت نفس قواعد الإسناد فإنه نتيجةَ التكييف وفقا لقانون القاضي فإن نفس المسألة القانونية نجدها تُدرج في فئات مختلفة.
-قصورها عن الإحاطة بالفرض الذي يواجه فيه القاضي علاقة مجهولة عن قانونه كما واجه مثلا القضاء الفرنسي ما يسمى في القانون المالطي “نصيب الزوج المحتاج” فهو نظام غريب و مجهول في القانون الفرنسي.
أ-دور القانون الأجنبي في عملية التكييف.
لتكييف نظام قانون معين يقوم القاضي بتحليله للكشف عن ملامحه الأساسية ليهتدي إلى حقيقة طبيعته التي تسمح له بإدراجه في إحدى الفئات المسندة في قانونه.
و لا يمكن للقاضي أن يجري هذا التحليل إذا كان النظام القانوني الذي يقوم بتحليله أجنبياً إلا وفقاً للقانون الأجنبي الذي نص على هذا النظام،و كل تحليل له وفقا لقانونه (القاضي) من شأنه تشويهه.
و عليه فإن ما يسمى بنصيب الزوج المحتاج لا يمكن تحليله إلا وفقا للقانون المنصوص عليه فيه و هو القانون المالطي.
و بعد أن يقوم القاضي بتحليل النظام القانوني وفقا للقانون المنصوص عليه فيه يأتي دور الحكم أو القرار،و الذي يعني تصنيف هذا النظام في إحدى الفئات المسندة في قانونه أي قانون القاضي،فبذلك نرى أن عملية التكييف كما أوضح ذلك كل من “باتيفول” و “لاقارد” في مطلولهما تمر في مرحلتين:مرحلة التحليل و تتم وفقا للقانون الأجنبي الذي يعرف القاعدة محل التكييف،و مرحلة الحكم أو القرار و تتم وفقاً لقانون القاضي.
ففي مثال ميراث المالطي السابق الذكر فإن القاضي بعد أن يكون قد قام بتحليل ما تطلبه زوجة المتوفي من حق على عقارات هذا الأخير و المسمى بنصيب الزوج المحتاج وفقا للقانون المالطي،يقوم بتصنيفه وفقاً لقانونه في إحدى الفئات المسندة المنصوص عليها فيه،و لا يهم القاضي نوع الفئة التي يصنفها فيها القانون المالطي.
و يوضح لنا “باتيفول” و “لاقارد” ذلك بالمثال التالي فقبل التعديل الذي تم في ألمانيا (قانون 9 أوت 1969)،و في فرنسا (قانون 3 جانفي 1972) لما كان القانون الألماني يعتبر أن للولد الطبيعي الحق في المطالبة من الشخص الذي يزعم أنه انحدر منه دفع مبلغ من المال،فإنه على القاضي الذي يطرح أمامه هذا الطلب أن يبحث في القانون الألماني فيما إذا كان هذا الحق المخول للولد الطبيعي له صفة التعويض أو صفة النفقة المؤسسة على النسب،فإذا انتهى أن له صفة النسب ألحقه بفئة النسب في قانونه،و لا يهمه التصنيف الذي يعطيه له القانون الألماني،سواء أكان مطابقاً لقانونه أم لا.
و نشير إلى أن القضاء الألماني قد تبنى هذا الاتجاه بوضوح كامل،فقد جاء في حيثيات حكم للمحكمة العليا هناك أنه “إذا كان الأمر يتعلق بالتقادم المنصوص عليه في القانون الأجنبي و الذي يجهله القانون الألماني،فإن معناه و حقيقته ينبغي أن تتحدد بالنظر إلى هدفه و آثاره في القانون الأجنبي،لكي يتسنى بعد ذلك إدراجه في إحدى الفئات المسندة في القانون الدولي الخاص الألماني .[36]
ب-التوسع في مفهوم الفئات المسندة.
الغرض من التكييف هو تصنيف العلاقة القانونية الأجنبية في إحدى الفئات المسندة المنصوص عليها في القانون الداخلي،لكن قد يحدث و أن تكون العلاقة غير معروفة في قانون القاضي مما يجعل من الصعوبة إدراجها في إحدى الفئات المسندة المنصوص عليها فيه.
و لذلك يرى الفقه الحديث بأنه لا مناص من التوسع في مفهوم الفئات الداخلية لتشملها،ففرنسا مثلا تعترف فقط الزواج الأحادي.
فإذا ما طرح على القاضي نظام للزواج مخالف له يعترف مثلا بتعدد الزوجات،فعليه أن يتوسع في مفهوم الزواج عنده ليشمل هذا النظام الغريب عنه،و كذلك إذا ما طرحت عليه مسألة طلاق بالإرادة المنفردة المجهولة في نظامه فعليه أن يوسع من مفهوم الطلاق المعترف به في قانونه ليشملها،و هكذا…
و بذلك نرى أن الفقه الحديث قد أخرج نظرية “بارتن” من إطارها الضيق و جعلها بمفهومها الحديث تتجنب ما وجه إليها من نقد،فمن هنا جعل في إمكان القاضي قبل التكييف وفقا لقانونه القيام بتحليلها وفقا للقانون الذي نص عليها للكشف عن عناصرها الأساسية قصد معرفة طبيعتها التي تسمح له بإعطائها الوصف القانوني الصحيح،و من جهة أخرى قال بالتوسيع في الفئات المسندة الداخلية لتشمل أنظمة قانونية أجنبية غير معروفة،فأصبحت بذلك نظرية “بارتن” بمفهومها الحديث مستجيبة للاعتبارات الدولية،و متجنبة ما اتهمت به من المغالاة في الوطنية.[37]
المطلب الثاني:موقف التشريع من التكييف.
نعرض في هذا المطلب إلى موقف التشريعات المقارنة الغربية و العربية من التكييف،و أخيراً ماذهب إليه المشرع الجزائري بهذا الخصوص.
الفرع الأول: التكييف في التشريع المقارن.
من العرض السابق يمكن أن نؤكد بأن النظرية الأولى التي تخضع التكييف لقانون القاضي قد كتب لها البقاء،و الحل الذي تقرره هو السائد في الأنظمة القانونية المقارنة،و نذكر منها القانون الفرنسي،الإيطالي،الإنجليزي و الأمريكي…
و قررته صراحة المادة 12 فقرة 1 من الباب التمهيدي للقانون المدني الإسباني المضاف بالمرسوم الصادر في ماي 1984 ،و المادة 3 من مجموعة القانون الدولي الخاص المجري لعام 1979. [38]
و أنها مستقرة فقها و قضاءاً و تشريعاً تبنتها أغلب الدول الأوربية و الأنجلوسكسونية و نصت عليها أيضاً بعض المعاهدات الدولية في القانون الدولي الخاص مثل تقنين بوستامنت بين دول أمريكا اللاتينية،إلا أن بعض الدول مثل اليونان و ألمانيا أغفلت النص عليها،معتبرة التكييف من قبيل التفسير، و دول أخرى اشتراكية (سابقاً) مثل الإتحاد السوفياتي و بولونيا و تشيكوسلوفاكيا تجاهلتها أصلاً،و لعل ما دعاها لذلك هو إعطائها لخضوع التكييف لقانون القاضي مفهوماً سياسياً،فكانت تعتقد أن دول الاقتصاد الحر تعتبر هذه القاعدة وسيلة لمسخ و إنكار النظم الاشتراكية بقصد الانحراف بمضمونها،و لكن الفقه السوفييتي في مرحلة لاحقة أخذ بالتكييف و طبق عليه أحياناً قانون القاضي و مرات أخرى القانون المختص بالنزاع.
و نصت القوانين العربية على التكييف أيضاً و أخضعته لقانون القاضي،فجاء في المادة التاسعة من التقنين المدني الجزائري ما يلي: “إن القانون الجزائري هو المرجع في تكييف العلاقات المطلوب تحديد نوعها عند تنازع القوانين لمعرفة القانون الواجب التطبيق”.[39] و نص المشرع المصري في المادة10 من القانون المدني على أن “القانون المصري هو المرجع في تكييف العلاقات عندما يطلب تحديد نوع هذه العلاقات في قضية تتنازع فيها القوانين لمعرفة القانون الواجب التطبيق من بينها”.[40]
و إن كان هذا النص و النصوص العربية المقابلة له،قد أخضع التكييف مبدئياً لقانون القاضي،إلا أنه من الأجدر التأكيد على بعض المسائل بشأنه لاسيما في التشريع الجزائري،وهذا ما سنتناوله فيما يأتي:
الفرع الثاني: التكييف في التشريع الجزائري.
جاء في المادة 9 من القانون المدني الجزائري “يكون القانون الجزائري هو المرجع في تكييف العلاقات المطلوب تحديد نوعها عند تنازع القوانين لمعرفة القانون الواجب تطبيقه”.
يتضح من هذا النص أن المشرع الجزائري قد أخضع التكييف لقانون القاضي،فيكون بذلك قد تبنى رأي “بارتن” في التكييف.
و يلاحظ بأن هذه المادة قد اقتصرت التكييف وفقا لقانون القاضي على التكييف الذي غرضه “معرفة القانون الواجب تطبيقه”،فبذلك قد استبعدت التكييفات اللاحقة لأنها لا علاقة لها بالاختصاص التشريعي و تدخل في إطار تطبيق القانون الأجنبي المختص.
فبذلك يكون المشرع الجزائري قد أخذ بالتمييز الذي قال به “بارتن” بين التكييف السابق أو الأولي و التكييف اللاحق،فالأول دون الثاني هو الذي يخضع حسب “بارتن” لقانون القاضي.
و يلاحظ أيضاً بأن هذه المادة لم تتعرض إلى الاستثناء الذي أورده “بارتن” بشأن الأموال بإخضاع تكييفها لقانون موقعها . [41]و لكن بالرجوع للمادة المادة 17 معدلة[42] من القانون المدني و نصها ” يخضع تكييف المال سواء كان عقارا أو منقولا لقانون الدولة التي يوجد فيها. يسري على الحيازة و الملكية و الحقوق العينية الأخرى قانون موقع العقار، و يسري على المنقول المادي قانون الجهة التي يوجد فيها وقت تحقق السبب الذي ترتب عليه كسب الحيازة أو الملكية أو الحقوق العينية الأخرى أو فقدها”،فقد أدخلت استثناءاً على هذه القاعدة مقررة إخضاع تكييف المال كونه عقاراً أو منقولاً لا إلى قانون القاضي و إنما لقانون الدولة التي يوجد فيها،و تظهر أهمية التفرقة بين المنقول و العقار في القانون الجزائري في مجال العقود حيث تخضع كأصل عام لقانون الإرادة بينما تخضع العقارات لقانون موقعها.[43]
كذلك بالرجوع للمادة 21″و نصها لا تسري أحكام المواد السابقة إلا حيث لا يوجد نص على خلاف ذلك، في قانون خاص أو معاهدة دولية نافذة في الجزائر”و بما أن المادة 9 توجد ضمن المواد التي أشارت إليها المادة 21 يستخلص من أنه إذا نصت معاهدة دولية على القانون الذي يحكم التكييف في أحكامها، فعلى القاضي أن يجري التكييف وفقا لهذه الأحكام، أما إذا لم تنص المعاهدة على ذلك فهناك رأيان:
الرأي الأول: يقول بالتكييف وفقا لقانون القاضي لأن المعاهدة تدمج في النظام القانوني الداخلي للقاضي و بالتالي يكون التكييف وفقا لقانونه.
الرأي الثاني: يقول بالتكييف وفقا للإرادة المشتركة للأطراف المتعاقدة .
إن الاختلاف في التكييف يؤدي إلى تعطيل المعاهدة و التحلل منها، و تجدر الملاحظة أيضاً أن هناك من لا يعتبر المعاهدة استثناء أمثال الدكتور علي علي سليمان.[44]
و لا توجد في صياغة المادة 09 ما يمنع من التوسيع في مفهوم الفئات المسندة لتشمل الأنظمة القانونية الأجنبية غير المعروفة.
لكن ما يعيب هذا النص هو عدم تركه للقانون الأجنبي مجالاً لتحليل نظام قانوني أجنبي غريب عن القانون الجزائري للكشف عن ملامحه الأساسية للاهتداء إلى حقيقة طبيعته التي تسمح للقاضي بإدراجه في إحدى الفئات المسندة في قانونه،و من شأن هذا العيب أن يؤدي في كثير من الأحيان إلى تشويه الأنظمة القانونية الأجنبية و إعطائها طبيعة مخالفة لتلك التي أرادها المشرع(الأجنبي) الذي نص عليها في قانونه،و هذا ما دفع كما أوضحنا ذلك سابقاً بالفقه الحديث المؤيد لنظرية بارتن إلى القول بضرورة الاستعانة في التكييف بالقانون الأجنبي. [45]
من إعداد الصفحة: .
هوامش:
[1] :زروتي الطيب،القانون الدولي الخاص الجزائري،ج 1،بدون طبعة،مطبعة الكاهنة،الجزائر،2004،ص88 .
[2] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص89، 90.
[3] : عبد الرسول عبد الرضا الأسدي،أحكام التنازع الدولي للقوانين،ط1،منشورات الحلبي الحقوقية،بيروت،لبنان،2012،ص 43، 44، 45.
[4] :أعراب بلقاسم، القانون الدولي الخاص الجزائري،ج1،ط13،دار هومه،الجزائر،2013، 76.
[5] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص91.
[6] : بيار ماير،فانسان هوزيه ، القانون الدولي الخاص ،ط1،مجد المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع،بيروت،لبنان،2008،ص155.
[7] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص92.
[8] : حكم محكمة استئناف الجزائر في 24 ديسمبر 1889 منشور في مجلة كلينية 1891 صفحة 1171،أنظر أحمد عبد الكريم سلامة،التنازع الدولي للقوانين،بدون طبعة،دار النهضة العربية،القاهرة،جمهورية مصر العربية،بدون سنة نشر،ص170،171.
[9] : بيار ماير،فانسان هوزيه ،مرجع سابق،ص158.
[10] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 93.
[11] : بيار ماير،فانسان هوزيه ،مرجع سابق،ص166.
[12] : زروتي الطيب ،مرجع سابق، 94.
[13] :الأستاذ بن عصمان،محاضرات في مقياس القانون الدولي الخاص،السنة الثالثة قانون خاص،جامعة تلمسان،الجزائر،2014.
[14] : و ذلك في مقال كتبه سنة 1897 في مجلة (Clunet) تحت عنوان “مشكلة التكييفات”،أنظر أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص79.
[15] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 169 .
[16] : حكم محكمة استئناف الجزائر في 24 ديسمبر 1889 منشور في مجلة كلينية 1891 صفحة 1171،أنظر أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 170.
[17] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 171.
[18] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 96.
[19] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 172.
[20] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 96.
[21] :أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص83، 84.
[22] :أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص85.
[23] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 97.
[24] :أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص86.
[25] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 173.
[26] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 95.
[27] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 173.
[28] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص94 .
[29] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 174.
[30] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 95.
[31] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 174.
[32] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 99.
[33] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 175.
[34] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 176.
[35] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 99.
[36] : أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص ص90،92 .
[37] : أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص92، 93.
[38] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 177 .
[39] : زروتي الطيب ،مرجع سابق،ص 100.
[40] : أحمد عبد الكريم سلامة،مرجع سابق،ص 177.
[41] :أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص94.
[42] :معدلة بموجب قانون رقم:05-10 مؤرخ في 20 يونيو 2005.
[43] :الأستاذ بن عصمان،مرجع سابق.
[45] :أعراب بلقاسم،مرجع سابق،ص94.